وتناقشنا بعض الوقت مناقشة دلتني على أن الفتى جد مهذب، وأنه حقا خجول، حسن التربية، جم الأدب. ولعله من الظريف أن أقول إنه بعد فترة قصيرة انكمش صدره العريض وتقلص قوامه الممشوق، وحل به اضطراب غريب. فأومأ لي الصديق (ت. م) قائلا: «اتفرج صاحبنا فاق من الثلاثة نبيت وبقت حالته عبر!».
وقد سألت «بديعا» أهو حقا صاحب زجل «الفايظجية» الذي سبق أن جاءني به المسيو جورج، من يومين، فتردد في الإجابة، وتغلب عليه الخجل والكسوف، وراوغ كي يغير مجرى الحديث، ولكنني أقفلت في وجهه كل أبواب التخلص حتى اعترف.
قلت له إنني أريد منك زجلا جديدا تلقيه طائفة من الأعجام وفدت لزيارة كشكش بك عمدة كفر البلاص، فمتى تتم هذا الزجل؟ فلم يتوان في التأكيد لي بأن في استطاعته الفراغ منه في صباح اليوم التالي. وقد كان عند وعده، إذ جاءني في نفس الموعد يحمل الزجل المطلوب ومطلعه!
هاي هاي أعجام إخوانا ... كفر البلاص قدامنا.
ياللا مافيش استنى
أعجبت بالزجل وبخفة الروح التي تمشت في ثناياه، فلم يغادر بديع المسرح قبل التوقيع على عقد اتفاق بالعمل معي بمرتب شهري قدره ستة عشر جنيها مصريا.
ولعل القارئ يذكر ما قلته من أن المال الاحتياطي بلغ في خزينتي في نهاية الشهر الأول من تمثيل رواية «حمار وحلاوة» أربعمائة جنيه. والآن أقول بأن هذا المبلغ تضاعف دون زيادة أو نقصان عند ختام الشهر الثاني، أي أني وجدت بين يدي إذ ذاك ثمانمائة جنيه مصري ... جنيه ينطح جنيه!
عدت بذاكرتي في هذه الحالة إلى حالة البؤس والشقاء، وجبت في عالم الخيال لحظات أفكر في السعادة وأسبح في بحار الآمال قائلا: «أتكون السعادة يا ترى في الحياة أو العظمة أو المال ...؟».
وحين دارت برأسي هذه الأفكار ذكرت حادثا وقع لي حين كنت أعمل في شركة السكر بنجع حمادي. ذلك أنه وصل إلى المدينة في أحد الأيام فيلسوف فرنسي كان قد نزل عن ثروته للأعمال الخيرية مكتفيا بالكفاف، وجعل همه في إلقاء محاضرات شبه صوفية.
وذهبت مع الذاهبين لسماع محاضرة هذا الفيلسوف، لا حبا في السماع ولا رغبة في العلم، بل لمآرب أخرى! ولئن تسألني عن هذه المآرب ... الأخرى، فلا تنتظر مني جوابا شافيا، وكفاني أن أصرح لك بأن هذه المحاضرات كان يقصد إلى سماعها أناس كثيرون من الجنسين اللطيف والخشن ....
صفحة غير معروفة