ووضع الخواجة «جياكومو» يده في محفظته، فخرجت تحمل ثلاثمائة جنيه (جنيه ينطح جنيه) ويسلمها لعلي يوسف قائلا هذا نصيبي كشريك في هذه الرحلة. وبعد أن تأكد أبو يوسف أنه يحمل هذا القدر من المال (ضحك في عبه) على رأي إخواننا المبسوطين! وعاد إلينا وقد تهلل وجهه بشرا، فأعطانا مما أعطاه الله، وأبلغنا أنه سيسبقنا إلى تونس على أن نلحق به بعد إتمام بعض الإجراءات الخاصة بالتأشير على جوازات السفر وما إلى ذلك. فودعناه أحسن وداع، وانتظرنا بصبر نافد موعد الرحيل يا حبايب! وترك الخواجة «جياكومو» أعماله التجارية بالإسكندرية، وجاء للقيام معنا إلى تونس، انتظارا لجمع الأموال الطائلة التي ستدرها الرحلة عليه وعلينا، وعلى الناس أجمعين!
وسبقتنا السيدة بديعة مصابني إلى فرنسا لأعمال سينمائية خاصة، بعد أن اتفقنا على اللقاء في معهد مرسيليا. وبعد أيام قمت أنا على باخرة فرنسية وقصدت مرسيليا توا.
أما أفراد الفرقة ومعهم الخواجة «جياكومو»، والزميل العزيز الأستاذ بديع خيري فقد اختار لهم علي يوسف قبل سفره من باب الوفر والاقتصاد باخرة (على قد الحال)، تسير إلى الإسكندرية لبورسعيد لبيروت لأثينا ... إلى ... إلى أن تصل مرسيليا بعد عمر طويل! ... هذا إذا وصلت في سنتها.
الباخرة التائهة
وقامت هذه الباخرة قبل باخرتي بأيام، وكان المفروض أن تصل بعدي بيومين، فلما وصلت انتظرت يوما ويومين وأسبوعا وأسبوعين ولكن اشتد قلقي إذ لم تصل الباخرة ولم يصلنا عنها أي خبر!
سألنا في إدارة الشركة التي تتبعها الباخرة وفي جميع إدارات شركات الملاحة الكبرى والصغرى كمان، ولكن للأسف كنا نسمع جوابا واحدا، معناه بالعربي الذي يفهمه المعلم «دؤدؤ» وأفهمه أنا وأنت ... أن العلم عند الله!
طبعا العلم عند الله يا بني آدم أنت وهو، لكن احنا كمان عاوزين يكون عندنا علم ... نعمل إيه؟ لست أحاول شرح حالتي النفسية وما انتابني من آلام طيلة هذه الأيام.
فقد فقدت الأمل في لقاء أعزائي وأصدقائي الذين شاركوني في حلو الحياة ومرها، فلعنت علي يوسف، ولعنت الساعة التي أشار فيها بهذه الباخرة المقصوفة الرقبة! ولقيت بديعة مصابني، فحملت معي نصيبا من البحث.
وأخيرا وبعد أن كاد اليأس يقطع خيوط الأمل الدقيقة، عرفنا أن إصابة بالطاعون ظهرت في أحد ركاب الباخرة بأثينا، فأخرجوا الركاب جميعا وحجزوهم في «كردون». وكان هذا سبب التأخير. وبعد انتهاء أيام الحجر الصحي استأنف الركاب سفرهم إلى مرسيليا، وبينهم زملاؤنا الأعزاء الذين فرحنا بلقائهم فرحا لا يوصف.
وهنا أرى أن أسرد قليلا مما قصوه علينا في محنتهم هذه. فقد ذكروا أن الأطباء كانوا يجرون الكشف علينا يوميا، وكانوا يأمرونهم بخلع كل ما عليهم من ملابس. أما في مواعيد تناول وجبات الطعام ... فقد كانوا يلقون إليهم المأكل من بين قضبان حديدية، بحيث لا تلمس أيديهم يد أحد من نزلاء «الكارنتينا» أو «الكردون» الذي كان محاطا من جميع نواحيه بالأسلاك الشائكة وخلفها هذه القضبان الحديدية.
صفحة غير معروفة