تمهيد
كتبة العرب وجغرافية سورية
المقدسي وجغرافية سورية في القرن العاشر للميلاد
بلاد سورية في القرن الثاني عشر وفقا لرواية ابن جبير
تمهيد
كتبة العرب وجغرافية سورية
المقدسي وجغرافية سورية في القرن العاشر للميلاد
بلاد سورية في القرن الثاني عشر وفقا لرواية ابن جبير
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
تأليف
هنري لامنس
تنبيه
كان حضرة الأب هنري لامنس باشر في المشرق في سنتيه العاشرة والحادية عشرة دروسا جغرافية عن أقطار الشام، كانت نيته أن يتابعها مدة فيجعلها كتابا مستقلا يلحقه بكتابه «تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار»، فوضع في ذلك عدة مقالات، ثم دعته الأشغال إلى سكنى مصر فرومية العظمى، ولم يعد في إمكانه أن يواصلها. فهذه الدروس مع كونها غير تامة هي غاية في الفائدة لمعرفة أحوال سورية وبعض ما كتبه العرب في وصفها في القرون الوسطى، وذلك ما حدا بالمطبعة الكاثوليكية إلى أن تنشرها على حدة، وأملنا أن الظروف تسمح لكاتبها أن يعود يوما إلى تتمتها، والله على كل شيء قدير.
تمهيد
تجولنا في أنحاء لبنان
1
مع قرائنا الكرام، فسرحوا معنا الأبصار فيما يحتويه هذا الجبل من الآثار، فوجدوا في هذا النظر فائدة ولذة، ومذ ذاك الحين ألحوا علينا بأن نوسع نطاق أبحاثنا، فنشمل بدروسنا كل أنحاء الشام، فها نحن نلبي ملتمسهم، ونباشر كتابة فصول متتابعة في هذا الشأن، نطلق عليها اسما جامعا، فندعوها: «المذاكرات الجغرافية في الأقطار السورية».
وقبل أن نقدم على العمل ندون هنا خلاصة مشروعنا؛ ليكون القراء على بينة مما قصدناه. نفتح اليوم سياق مذاكرات شتى، نتابعها على صفحات «المشرق» بسرعة كافية، مع مراعاة الظروف والأحوال، ويكون ابتداء كلامنا في أبحاث عمومية عن موقع سورية الجغرافي، وما نالته هذه البلاد في سالف الزمان لفضل مركزها من المنافع والمرافق، وما ينتظرها أيضا بسببه في المستقبل من النجاح، ثم ننتقل إلى وصف صورتها وتخطيطها، ثم نذكر جبالها ومياهها مع البحر الذي يماس سواحلها، ثم نصف مواردها من معادن ونبات وحيوان، وإذا انتهينا من هذا النظر العمومي ننتقل إن شاء الله إلى أوصاف كل جهة بحدتها، ونعرف خواص حواضرها وتاريخ أبنيتها القديمة، وآثارها الجليلة، وكل ذلك على التقريب يوافق الفصول التي خصصناها بلبنان وأحواله.
فمن هذا الرسم الوجيز ترى سعة المواد التي تشملها أبحاثنا؛ إذ لا تتناول فقط الأحوال الحاضرة، بل تمتد أيضا إلى ما سلف عهده. وأملنا أن القارئ يصحبنا في هذه الرحلة الطويلة دون أن يأخذه الملل، ولا ريب أنه يستدرك هذا الخطر إن صرف نظره إلى ما يقال، ليس إلى من يقول؛ لأن الموضوع ذو بال، كثير الشعب، متعدد المناظر، يعاين فيه المطالع - مع طوله - مشاهد فتانة تتناوب وتتوالى، فيقر إليها بصره ولا يحس بسأم، وزد على ذلك أن الذي نصفه ليس بأمر غريب عن القراء، لكنه أمر قريب تحن إليه أضلاعهم، وتمسه مشاعرهم، أعني سورية مسقط رأسهم ووطنهم العزيز، فكل ما ينوط به يهمهم شأنه ويجدر بهم الالتفات إليه. وهذا الذي حدانا إلى مباشرة العمل، كي نزيد قراءنا اعتبارا لبلادهم، إذا ما عرفوا كل ما أودعه الخالق من المحاسن والكنوز، فمن الله نطلب أن يمد إلينا يد المساعدة؛ لنقوم بهذا المشروع قياما أهلا بسمو شأنه، فنحقق أماني القراء فينا.
وها نحن نصدر مقالاتنا بفصل إعدادي، نبحث فيه عن موقع سورية جغرافيا؛ لنستدل به على تاريخها القديم؛ ولهذا الفصل مقدمة غاية في الاعتبار، تعود إلى أصل العترة البشرية كلها؛ أعني كون سورية مهد الجنس البشري.
سورية ومهد الجنس البشري
قال إتيان لامي
2
ما تعريبه: «إن في العالم بلادا تتصافح فيها أقطار أوروبة وآسية وأفريقية، وتعيش بالألفة على السواحل نفسها، هي بلاد برية وبحرية معا، هي سوق جامعة لمرافق مائة مدينة ومرفأ، تتبادل فيه القارات الثلاث محصولاتها المتنوعة، هناك تتصلب وتتوارد الطرق التجارية التي فتحها العالم القديم، هي أقدم موطن يعاين فيه الإنسان آثار أقدامه، فيها نشأت أخص الديانات الشائعة. وخلاصة القول: لست تجد حيثما نظرت بلدا أصغر من هذا في مساحته قد اختلطت فيه وتزاحمت أمم أكثر، وديانات أعظم ، وآثار أخطر.»
نعم القول، يسرنا أن ننقله عن كاتب بليغ، فنحلي به مطلع هذه الدروس التي أفردناها لسورية وآثارها.
ولا مراء أن سورية - قبل كل بلاد القدم - بلاد الزمن السابق للتاريخ، فليت شعري، أليس لها علاقة مع أول منازل البشر؟ إن الإنسان منذ ألوف من السنين قد طبع في ذهنه ذكر فردوس أرضي ظهر فيه جنسه، فأين هي يا ترى هذه؛ جنة عدن؟ أفي العراق؟ أفي سهول ما بين النهرين؟ أفي غوطة دمشق وبقعتها الفيحاء كما ارتأى القديس أغناطيوس - منشئ الرهبانية اليسوعية - في كتاب رياضاته الروحية؟ هذه الآراء وغيرها قد كتبت فيها التآليف الواسعة، بل تجف المحابر قبل أن يستقصى فيها البحث أو يكشف سرها بالتمام. أما كون الفردوس في تخوم سورية، فهذا أحد الآراء الثمانين التي قال بها الكتبة،
3
يؤيده كون الفرات يجري في بعض جهات هذه البلاد.
في النصف الأول من القرن السابق نزل عند لحف لبنان شاعر كان أصاب الشهرة في قومه يدعى «لامرتين»، فأعجبه طيب هواء البلاد، فاتخذ بيروت له موطنا، وكان يخرج منها إلى أنحاء الشام ليزورها ويدرس آثارها، ففي بعض مسيره رقي أكمة الأشرفية فوق كنيسة مار متري، فأجال نظره مليا في المشاهد التي كانت تحدق به، فأخذت بمجامع قلبه، وكادت تسحر لبه، فكان يرى البحر حول بيروت من جهاتها الثلاث، كأنه المنطقة المزركشة بالأرجوان والذهب، وكان ينظر على شماله لبنان الناطح بقرونه السحاب، وبين هذا الجبل وموقف الشاعر كانت تنبسط السهول السندسية الغنية بمزارعها، منها غابات الزيتون عند شويفات، وغابة الصنوبر، وكان يجد في أرمال بيروت صورة ملطفة لمفاوز بلاد الصحراء. نعم، إن في العالم محاسن أجمل وأبدع، ولكن أيوجد في العالم أمكنة عديدة، جمع فيها الله كل هذه المناظر المتباينة والرؤى الفاتنة في دائرة ضيقة كهذه؟ ذلك ما شغل فكر الشاعر زمنا طويلا، فبقي غائصا في تأملاته، إلى أن عاد إلى نفسه فهتف: «حقيقة إن الله قد وضع في هذا المكان أكثر مما يمكنه الإنسان أن يتصوره، فإني كنت أتوق إلى مرأى فردوس عدن، فها هو ذا بعينه.»
4
لا أريد أن أحكم في هذا القول، أهو عين صواب، أو هو بالحري وصف تخيلي لشاعر متفنن؟ وليست غايتي أن أنسب له حل هذا المشكل العويص، ولكن يمكننا أن نعتبر هذا البحث من وجه آخر، فنحصره في حدود معلومة، ولا يخفى علي بأنه يلذ القراء أن يستقروا أخبار الشعوب جيلا بعد جيل ليعرفوا مهد الجنس البشري، ويتبينوا موقع الفردوس الأرضي، لكن هذا البحث يخرج عن حيز الممكنات، وإنما نستطيع أن نقتصر في البحث عما ورد في تاريخ السلالتين العظيمتين من السلالات البشرية، اللتين لعبتا في العالم أشرف الأدوار، نريد الأمم السامية والهندوأوروبية، فنقول:
إن المذهب الشائع بين العلماء في موطن بني سام الأصلي أنهم ظهروا في شبه الجزيرة التي موقعها بين خليج العجم والبحر الهندي والبحر المتوسط، أعني في مربع عظيم تشغل سورية جهته الغربية، لا نجهل أن غيرهم من المستشرقين يجعلون أصل الساميين في أفريقية، ويزعمون أنهم تخطوا منها إلى آسية. فرأيهم هذا يستدعي بحثا، لا يسعنا الآن الخوض في غمره. وما لا شبهة فيه أن مهد الساميين التاريخي - حيث يظهرون في نور التاريخ، فنتبع أعمالهم وأخبارهم دون ريب، ونميز خواصهم التي تفرزهم عن غيرهم من الأمم في القرون التالية - قد كان موقعه في المربع الكبير الذي ذكرناه آنفا، سواء كان هذا المقام محلهم الأصلي أم لا، ومنه انتشروا في بقية أنحاء آسية المتقدمة، ثم إلى كل أنحاء المعمور. ومن أراد أن يتجاوز هذه الحدود التاريخية، سار في مجاهل على غير هدى، وتعرض للضلال والعثرة، ولعل تقدم العلوم يأتينا يوما بوسائل جديدة لتلطيف هذه الظلمات الكثيفة.
5
أما السلالة الهندوأوروبية التي تهمنا من وجوه متعددة، فإن رأي العلماء في أصلها كرأيهم في الساميين، فإنهم لا يتفقون في تعيين مهدهم الأول، وإن كانوا يجعلونه في آسية، ليس بعيدا من البلاد التي سبق القول فيها بأن الساميين إخوة الآريين سكنوها في طورهم التاريخي.
ولبيان ذلك نكتفي بما يأتي، وهو أن العلماء مهما تقدموا في الدروس التاريخية المتعلقة بنشأة الجنس البشري، زاد أيضا توجه أبصارهم إلى ذلك القسم من آسية المتقدمة الذي سورية تعد كمركز له، فيجعلون فيه مهد الإنسانية. والحق يقال: إنك إن تصفحت تاريخ الشعوب أربعة آلاف سنة قبل المسيح، وجدت البلاد الغربية متسكعة في ظلمة الهمجية، بينما نرى الجهات الواقعة في شرقي البحر المتوسط مزدهرة بنور التمدن - أعني وادي النيل والأصقاع الآسيوية المجاورة له من سواحل الشام، وضفاف الفرات ودجلة - فيكون منشأ التمدن جنوبي غربي آسية، ومنه انتشر جيلا بعد جيل إلى بقية البلاد حتى عم الأمم المتنورة.
6
وبعبارة أخرى يصح القول بأن سورية كانت في مركز دائرة كبيرة من البلاد التي ألفت العالم القديم؛ حيث كانت نشأة التمدن الأول في المسكونة، وإن عجزنا عن بيان وقوع الفردوس فيها فكفاها فخرا أنها كانت مهد تاريخ البشر.
ومن ثم نقول أيضا عن سورية إنها من الأقطار التي استوطنتها المستعمرات البشرية الأولى، إن لم تكن أول أرض وطئها الإنسان بقدمه، وما لا ريب فيه أن سورية قد تفردت مع بلاد بابل والقطر المصري بكونها حفظت أقدم ما وجد من الآثار المنبئة بوجود الإنسان، الناطقة بأعماله الأولى، وهو لعمري مجد أثيل أحرزته لها في ميدان لم يجارها فيه إلا القليل.
موقع سورية الجغرافي
لسورية - فضلا عن كونها من مواطن البشرية الأولى - فضل آخر، وهو موقعها العجيب في وسط المعمور، فإنها قائمة في حدود الشرق كالحارس يصونها، وهي مع ذلك قسم صالح من حوض البحر المتوسط الذي يوصلها بأقطار الغرب، تراها منفصلة عن آسية المتقدمة بجبال طورس الشامخة، وبصحاري جزيرة العرب، يصلها بأفريقية برزخ دقيق «برزخ سويس»، واقعة على سواحل البحر المتوسط، الذي كان يعد إلى أواسط القرن السادس عشر كبحر المسكونة كلها، فأسرع سكان الشام وسلكوا هذه الطريق اللاحبة، ودخلوا ذلك الباب الواسع المفتوح في وجه نشاطهم، وتقاطروا إلى الجزائر النازحة والبلاد السحيقة الواقعة في الغرب، فطبعوا فيها صورة تمدنهم وآثار حياتهم، فكأنه تبارك وتعالى لم يجعل سورية على جوار البحر المتوسط - الذي أضحى منذ 3000 سنة من أخص سبل التمدن - إلا ليجعل أهلها في مقدمة رواد المدنية ونقلة الألفة، فقاموا بهذه المهمة أحسن قيام مدة نيف وألف سنة.
قد قلد الله كل شعب دعوة يفيد بها الهيئة الاجتماعية، أما خاصة الفينيقيين وأهل سورية فإن دعوتهم إنما كانت نشر التمدن. نعم، إن التمدن بلغ في بابل وآشور مبلغا أعظم منه في أنحاء الشام، كما أن عقول الآشوريين لم تكن أقل توقدا من جيرانهم. لكن فعلهم في نشر الترقي المدني كان دون فعل الفينيقيين، فماذا أنقصهم لذلك؟ إنهم لم يعطوا هبة نالها السوريون فامتازوا بها في كل أجيالهم؛ نريد الإقدام على نشر المشروعات؛ لأن الآشوريين لم يجدوا بقربهم بابا بحريا يخرجون منه إلى بقية أنحاء العالم، وينشطهم على العمل، ويشدد أزرهم للتوسط في المعاملات بين الشعوب المتباينة، وكل ذلك قد أصابه السوريون لوجود موطنهم بين بلاد متوغلة في التمدن، وبلاد جديدة كانت منتظرة نعمة هذه المدنية. وكان السوريون دون جيرانهم البابليين والمصريين قدرة وثروة، فسدوا ما ينقصهم من هذا الوجه بما أتاحهم الله من حسن الموقع والمنافع الجغرافية.
ولما نالت سورية هذا المقام في الوضع الطبيعي، صارت في كل الأزمنة هي الوصلة بين الشرق والغرب، تنوط بهما جميعا، دون أن تختص بأحدهما، فإن اعتبرت سكانها ولغتها ورسومها فهي شرقية، وإن لحظت جيرتها من بحر غربي ومعاملاتها المتوالية مع الأمم الساكنة في حوض البحر المتوسط، وأخلاق أهلها المتنوعة العامة، وميلهم الطبيعي إلى التهاجر ومخالطة الشعوب ومعاطاة الأشغال، فهي أشبه بالغرب.
ولذلك تراها إذا تصفحت تاريخها القديم كمعبر ومجتمع كانت تتصافح فيهما كل الأمم القديمة، فتتلاقى فيهما كأنها في بلادها جميعا، وكأن الله سبحانه وتعالى قد قضى أن يكون هذا الالتقاء سلميا جامعا للقلوب، وربما تبلبل نظام الخالق بسوء نيات الشعوب، فصارت سورية ساحة للقتال، جرت فيها الدماء سيولا بدلا من أن تصير سوقا لتجارة الأرض، ومرسحا للألفة والتحاب، فكم من أمة طمعت في اقتناء سورية وبذلت دونها كل غال ونفيس، خصوصا في أيام الآشوريين وفي عهد الفراعنة، فكانت منافعها الجغرافية تتحول لها إلى ويلات وشرور، وقد قامت بعد هذه الدول دول أخرى، تختلف اسما وجسما، لكنها لم تختلف فعلا. وكما قدم إلى سورية رعمسيس الثاني ونبو كدنصر، كذلك جاءها الإسكندر وكثيرون غيره، ترى كتاباتهم وأسماؤهم مرقومة في متحف طبيعي عجيب تحت القبة الزرقاء؛ أعني به مضيق نهر الكلب.
7
فلما رأى ملوك بابل وآشور ما خص الله به بلاد سورية من خصب التربة، ومن حسن الموقع للمعاملات التجارية، أحبوا أن يجعلوا البحر المتوسط تحت سيطرتهم؛ لتسهيل المواصلات بين بلاد الشام ووادي دجلة والفرات، وتلك لعمري كانت مسألة حيوية؛ إذ بها تنفتح الطرق التجارية فتنقل إلى جهات الغرب مرافق الهند وثروتها.
8
فما كان من أمرهم لتحقيق غايتهم إلا أن يتعقبوا آثار القوافل الكنعانية التي سبقتهم إلى الاستيلاء على الشام، وكان يحدوهم أيضا إلى سيرهم إلى الأمام رغبتهم في مبارزة فراعنة مصر، وهم لم يعرفوا دولة أخرى تقوى على أن تحولهم دون إنجاز مقاصدهم، فتنزع من أيديهم السلطة على آسية.
9
وكان لهم سبب آخر ينهض هممهم ويدفعهم إلى جهة البحر المتوسط؛ أعني حاجتهم الماسة إلى الخشب، وكانوا في ذلك والمصريين سواء، فلم يرضوا أن ينتفع الفراعنة وحدهم من غابات سورية الفاخرة، لا سيما أرزها الذي كانوا يتخذونه لزخرفة مبانيهم وقصورهم حيث وجدت آثارها في أيامنا.
10
وهنا لا يجوز لنا أن نضرب الصفح عن أمر لم يكن في الحسبان، وهو تأثير غابات لبنان في أحوال أهلها وتدبير شئونهم، فإن هذه الأحراج هي التي أكسبت الفينيقيين نقابة البحر؛ لأن منها كانوا يستمدون الأخشاب اللازمة لتجهيز السفن، فصاروا بذلك في مقدمة الملاحين، يتولون التجارة البحرية مع البلاد البعيدة، لكن هذه المنافع أيضا قد حركت مطامع الشعوب المحيطة بهم للاستيلاء على بلادهم، فترى كيف الأهواء البشرية تتعرض لأحكامه تعالى، فتبلبل النظام الذي سنه لكل بلاد، وقد سبق أن سورية في رسم الخالق وضعت لتكون بلدا وسطا، يجمع في التحاب والألفة الشعوب المتنائية.
واعلم أن أقطار الشام لم تشعر فقط بثقل وطأة الأمم الشرقية، لكنها نالت أيضا من موقعها نعما عزتها عن هذه المساوئ، وخولتها منافع مشكورة ومننا سابغة، فإن وقوعها بجوار بلاد اليونان كان سببا لترقيها في الصنائع والفنون، ولتقدمها في ضروب العلوم، وكذلك استفادت من الرومان حسن سياستهم وتدبيرهم وصيانتهم للسلام، كما تعلمت من أمم القرون الوسطى أن تدافع عن المبادئ الدينية؛ إذ رأت ما للدين من القوة في طلب آثاره القديمة وصيانة معابده، التي لأجلها اهتزت شواعر ألوف من البشر فبرحوا المواطن حبا بها.
11
ليس التاريخ إلا صدى لاصطدام الأهواء البشرية، ولما ينجم عن التحامها من النكبات ومن الحروب ومن الخرائب، وعلى خلاف ذلك السلام والخير والفضيلة، فإنها لا يسمع لها جلبة، وبناء على هذا قد قال القائل: «طوبى للأمم التي ليس لها تاريخ.» وهذا لا يصح في سورية كما رأينا، وكان الأولى بها وبأهلها أن تبقى في عزلتها، دون أن تستلفت إليها نظر العالم، لكن الشعوب كما الأفراد لا يمكنها أن تؤثر لها خطة تجري عليها باختيارها، وتنسج على منوالها حياتها العمومية؛ لأن الشعوب في التفكير والله في التدبير. •••
اعلم أن الثروة والجمال موهبتان خطرتان، وأول غوائلهما أنهما يثيران الحسد على أصحابهما، قلنا إن الله سبحانه وتعالى إذ منح لسورية موقعا أثيرا جعلها كطريق عام يجمع بين ثلاث قارات العالم القديم، وذلك أن سورية محصورة بين البحر والبادية، ففيها وحدها طريق سهل يمكن سلوكه بين آسية وأفريقية، وقد أدرك الفينيقيون ذلك فجعلوها سوقا واسعة لتجارة الخافقين، ومعبرا متواصلا لقوافل الأمم، وأضحى مع ذلك أهل السواحل السورية رؤساء البحر، وفاقوا كل القدماء في خوض غمراته مدة قرون متعددة، فمخروا عبابه قبل اليونان بزمن طويل. ولما أراد البابليون وبنو إسرائيل أن ينشئوا لهم ملاحة ويعمروا السفن، لم يستطيعوا إتمام مرغوبهم إلا بأن يلتجئوا إلى الفينيقيين،
12
وسليمان الملك راسل في ذلك حيرام صاحب صور كما ذكر الكتاب الكريم؛ لأن الفينيقيين كانوا أوقفوا نفوسهم ليكونوا سعاة وعمالا بين الشعوب الساكنة على سواحل البحر المتوسط، ففتحوا في كل مرفأ مكتبا تجاريا لمعاملاتهم، وسبقت صور وصيداء غيرهما من المدن في الاستعمار؛ فإن أول مستعمرة يذكر التاريخ إنشاءها ينسبها لتينك المدينتين، وإليهما يعود الفضل في توسيع المعاملات التجارية وتعميمها بين الدول. فإن المتاجرات كانت قبل ذلك محصورة بين الشعوب المتجاورة، فتستبدل الواحدة ما يزيد على احتياجها مما ينقصها من محصولات جارتها؛ والتجارة على هذه الصورة ترتقي إلى أول العالم. أما الفينيقيون فإنهم أنشئوا التجارة الكبرى - أعني التجارة البحرية - فنالوا من الفخر ما لم يحصل عليه شعب آخر إلى القرن السادس عشر؛ إذ دخل فن الملاحة في طور جديد باكتشاف قارة أميركة.
13
وما يزيد فضلهم أنهم أول من نهج تلك المسالك، وكان المصريون من قبلهم كما البابليون والصينيون منزوين في أصقاعهم يتنعمون بهبات الطبيعة دون أن يفكروا في نشرها بين غيرهم.
وفي هذا لعمري عبرة للمعتبرين، لا سيما إذا قابلوا بين صغر بلاد فينيقية وسعة مستعمرات أهلها وبعدها السحيق. وليس في ذلك ما تنكر صحته أو يرد برهانه؛ لأن التاريخ قد بين مذ ذاك العهد أن الدول التي ضاقت مساحة أملاكها إذا ما كانت مجاورة للبحر في إحدى جهاتها، كانت أسرع إلى الاستعمار وأحكم فيه من الدول الكبيرة ذات التخوم الفسيحة؛ لأن هذه الدول لا يمكنها أن تستعمر في الخارج قبل أن تقوم باستعمارها الداخلي، فتحسن أملاكها وتستثمر أراضيها، وكل ذلك يقتضي زمنا مديدا، بل أجيالا طويلة، ويستفرغ قوى الأمة، ولو سهت عن ذلك وقدمت الاستعمارات الخارجية عرضت نفسها إلى التهلكة كما حدث آخرا لروسية، التي تملك في أوروبة على أنحاء متسعة وأقطار فسيحة بينها السهول القفرة، التي لم تحسن زراعتها، فأرادت أن تزيد في أملاكها الآسيوية إلى حدود الشرق الأقصى، فكان من أمرها ما كان، وأصابها من الويلات ما هو فوق نكبات حربها مع اليابان، ولنا بينة على صدق هذا القول في تاريخ البرتغال والبندقية وجنوة وهولندة، وفي أيامنا هذه في تاريخ بلجكة، فرأينا ما نالته هذه الدول الصغيرة من الفوز والتقدم في استعماراتها.
ومثل البندقية حري بالاعتبار؛ لأنها جددت بعد ألفي سنة أعمال الفينيقيين، فنالت في طرف البحر المتوسط الغربي ما ناله الفينيقيون في الطرف الشرقي، وكلا البلدين في موقع متشابه، وأهلهما مولعون على سواء بالعيشة البحرية، وإنما بينهما فرق واحد؛ وهو أن الحركة الاستعمارية للبنادقة ابتدأت من الغرب، فبلغت الأقطار الواقعة في شرقي البحر المتوسط.
14
وقد سبق السوريون وأدركوا ما لموقع بلادهم من المحاسن، وعرفوا أنهم يصيبون الهدف إذا ما عانوا الأسفار البحرية، وتكلفوا أعمال التجارة، فإن توسطهم بين الدول القديمة - أعني بابل ومصر - كان كافيا لأن يكسبهم الثروة الواسعة، فينقلون إلى أهلهم السلع المتعددة ويبتاعون منهم محصولات بلادهم المتوفرة، فيربحون على الوجهين الأرباح الطائلة؛ إذ يبيعون بالأسعار الغالية ويشترون بالأثمان المتهاودة، وفي ذلك سر غناهم العظيم، وكما أنه كان أقوى مهماز لتنشيط أعمالهم.
واليوم إن ترويت في أحوال الأمم التجارية، وجدت أن أسباب ترقيها تنوط بأحد هذه الأمور الثلاثة؛ أعني وضعها الجغرافي كاتساع سواحلها، ثم تركيب طبقاتها بتوفر مناجم فحمها الحجري، ثم أحوالها الاقتصادية الدائرة على حرية التبادل والمعاهدات التجارية المبنية على أصول قريبة وقوانين سهلة.
15
فمن هذه الأمور الثلاثة لا يسعنا الجواب على آخرها ونحن نجهل شروط التجارة بين الفينيقيين وبين غيرهم من الأمم. أما الأمر الثاني - أعني الفحم - فإنهم لم يكونوا إليه في حاجة لما أصابوا في جبالهم من ثروة الغابات التي تسد حاجاتهم في تعمير السفن، وهم لا يعرفون إذ ذاك تسيير السفن بقوة البخار، فيبقى علينا أن نبحث عن الأمر الأول، فنبين الأسباب الجغرافية التي أكسبتهم احتكار التجارة البحرية.
إن نظرت إلى لبنان رأيت سلسلته تمتد موازية للبحر، لكنها من مسافة إلى أخرى تلقي في البحر رءوسا تنتصب فوقه وتشرف عليه، أخصها الرأس الأبيض بين عكا وصور، ثم رأس نهر الكلب، ولا سيما رأس الشقعة الناطح بطرفه الهائل بين بترون وطرابلس، وليس بين هذه الرءوس الضخمة مكان إلا لأودية حرجة عميقة، أو لسهول متوسطة في سعتها، أو لشقق مستطيلة من الرمل والصلصال تخترقها الصخور على صور شتى، منها داخل في البحر، ومنها راكب بعضها على بعض، ومنها المسنن، ومنها المروس والمدرج؛ فاقتضى على الأهلين الذين قطنوا في هذه الأرض الحرجة بين البحر والجبل أن يوجهوا بنظرهم إلى مياه العرمرم، لينالوا منها ما يسد رمقهم، إما بالصيد، وإما بالمتاجرة بين مدينة وأخرى، فهكذا كانت صيداء مقاما للصيد، كما يدل عليه اسمها قبل أن تضحي مركزا بحريا عظيما.
وهذه الملحوظات عن غرائب الساحل السوري كادت اليوم تبرح عن الخواطر، بعد أن امتدت على سيف البحر طرق العربات، بل مدت الأسلاك الحديدية لقواطر البخار، فيسير المسافر على الطريق السوية الممهدة دائرا حول رءوس الساحل، وقاطعا لركام الصخور دون أن يحجزه حاجز، اللهم إلا رأس الشقعة الذي لم يتمكن المهندسون من قطعه حتى الآن، ولكن هيهات أن تجد مثل هذه الطريق السهلة في المسالك القديمة، فإنك لو نهجتها لعلمت ما يتكلفه السائر في سيره من المشقة لينتقل من واد إلى آخر، وما يحول دون مرامه من توريبات السكة، ومن المراقي الصعبة قبل أن يبلغ مكانا قريبا لو أمكنه قطعه على طريق مستقيم، فلا بدع أن الأهلين منذ نشأت التجارة فكروا في تقصير هذه الطرق بالسلوك بحرا، وربما كانت الطريق البحرية هي وحدها الممكنة.
وإن قيل إن السواحل السورية مكشوفة ليس فيها ملاجئ للسفن في وقت الأنواء، فضلا عن أن عدة مرافئ كحيفا وطرابلس ولا سيما يافا، لا يمكن الرسو قربها أياما طويلة في فصل الشتاء، فكيف كان الفينيقيون يبحرون؟ نجيب على ذلك أن الملاحة القديمة كانت تخالف ملاحتنا اليوم، فإن البحريين ما كانوا يقلعون مراكبهم إلا في فصل الهدو وصفاء الجو، فكانوا إذ ذاك يفضلون الوقوف عند الرءوس أو عند الجزر البحرية، فلا يشعرون بهبوب النسيم حتى يسرعوا إلى السير على الساحل من مدينة إلى مدينة، ومن رأس إلى رأس، وكانت السفن الفينيقية كبيرة مسطحة لا تغوص كثيرا في المياه، حتى إنها كانت تستطيع أن تصعد النيل إلى الأقصر،
16
فكان الملاحون يواصلون سيرهم من أرواد إلى طرابلس فبيروت فصيداء فصور، راسين عند رءوسها كما في طرابلس وبيروت، أو عند الجزر المجاورة لها كما في أرواد وصيداء وصور، ومستقين من العيون التي ترى في كل هذه الأمكنة جارية فيها ومخصبة لها. أما في فصل الشتاء، فترى مراكبنا اليوم إذا أحست بقرب النوء أقلعت إلى الغمر؛ لئلا تغوص بالرمل أو تلقي بها العاصفة على الصخور، وكان الفينيقيون في فصل الشتاء في مأمن من ذلك، يجرون إلى البر سفنهم إلى أن تهدأ الريح وتزول العاصفة.
أما إذا اعتبرت سواحل سورية من حيث وضعها الجغرافي، فإنك تجد فيها مسهلات متعددة للملاحة القديمة، فإن مراحل السفن من مكان إلى آخر كانت قصيرة، وإذا أرست في محل صادفت فيه عيونا دارة لا تنقطع، وكذلك كان سيرها عاجلا تجاري الساحل في خطه المستقيم دون أن تتريث بالخلجان المتسعة والمرافئ الباطنة، وذلك فضلا عما يهب في السواحل السورية من الرياح الثابتة الهبوب المعتدلته، فكل هذه الصفات لم تسمح للقدماء بأن يتركوا شواطئهم سدى كالدقعاء المقفرة، تأوي إليها الضواري والكواسر، وتسبح في مياهها النينان دون أن يستخدموها لمنافعهم إما للصيد وإما للمتاجرة.
هذا ولا ننكر أن الساحل السوري مع صلاحيته للملاحة لم يخل من بعض المخاطر كما رأينا، وذلك لانكشافه وتعرضه للرياح الشمالية العاصفة؛ ولكثرة ما يتخلله من الرءوس والصخور البارزة لا ملجأ فيه للملاح مع ما يلقاه في سيره إلى الجنوب من المقاومة من قبل المجاري المضادة،
17
فإن كل ذلك يستدعي نظرا صائبا وحذاقة بالغة في خوض البحر، فكان ينال في هذا الجهاد اليومي خبرة ليوسع نطاق أسفاره البحرية التي كانت تساعده عليها الغابات اللبنانية؛ إذ يجد في أخشابها - ولا سيما أرزها - ما يقوى به على مثل هذه الرحل البعيدة.
ومما تجدي السواحل السورية من النفع لأصحابها، فضلا عن الملاحة التجارية، مجاورتها للجبال القائمة في وجه سكانها، كأنها تدعو أهلها إلى قطع مشارفها ليلقوا ما وراءها ما يقوم بمعاشهم في السهول الواسعة الخصبة، التي تسدها تلك الجبال عنهم. ألا ترى أن الساحل الفينيقي قليل الاتساع لا يستطيع أصحابه أن يستغلوا ريع الأرض مما لا غنى عنه من القمح والزيت؟ وقد ذكر الكتاب المقدس (سفر الملوك الثالث : ف5) أن غاية ما طلبه حيرام الصوري من سليمان الملك - بدلا من خدماته - مقدار من الزيت والحنطة، فهذه الحاجة في ساكن الساحل يضاف إليها عدم وجوده لجزائر ينتفع من غلاتها، وبعده عن قبرس الحافلة بسكانها، كل ذلك صرف بنظر السوري إلى جبله؛ ليفتح له معبرا يجتاز به إلى البقاع التي من ورائه، فنقر في الصخور تلك المراقي الصعبة التي يقطعها المكاري مع بغاله بسرعة عجيبة وقدم ثابتة، وبسيره هذا لا يلبث أن يعتاد ما هو أوسع عملا وأجدى نفعا، فيتحول إلى قائد قوافل، ولا يزال يجد ويكد نافذا في وسط أوديته، متولجا بين سيولها الجارفة، ثم راقيا إلى أعالي جبله حتى يبلغ عطفه الآخر، فيدخل في تلك السهول الداخلية الفسيحة التي تعد كأهراء حنطة لا تنفد مستغلاتها، وكان من هناك يضرب في الأرض راحلا إلى أنحاء العراق، فيستجلب منها محصولاتها التي كان مواطنوه ينقلونها بحرا إلى الجزائر المجهولة الواقعة في بحر الظلمات.
إنه لناموس من نواميس الهيئة الاجتماعية أن الدول التي تنحصر أملاكها في حدود حرجة، إذا كانت ثروتها واسعة ونقودها متوفرة، أن تطلب لضغطها منفذا بتوسيع تجارتها، والسعي وراء الاستعمارات، فقد أدرك أجدادنا السوريون والفينيقيون هذه الحقيقة؛ إذ ليس أمر جديد تحت الشمس، فاستشفوا ما وراء البلاد التي اعتبروها كحدودهم الشرقية بلادا غيرها لاحت لهم في أعماق الأفق؛ نريد شبه الجزيرتين الهنديتين وما يطيف بهما من الجزائر، فاستوقفت تلك الأقطار أنظارهم بما تتضمنه من المرافق العديدة، والثروة النباتية الواسعة، وأصناف الزهور الناصعة الألوان التي تفوق ما يرى من ذلك في غيرها من الأنحاء، فلم تثبط همتهم المسافات الطويلة والعوائق المتعددة، فكانوا ينقلون من حدودها ما يستحبه تمدن ذلك الزمان لحاجاته أو لذاته من أفاويه وعطور وزيوت طيارة، وأقمشة زاهية، وضروب القطنيات الهندية الرقيقة، والأنسجة المشرقة الألوان، وأصناف الحرائر البهية التي يبذل الباعة الدينار في حقها بيد سخية، وكذلك كانوا يستجلبون من الهند المعادن الثمينة كسبائك الذهب، وصفائح الفضة، واللؤلؤ والعقيق والياقوت وقطع الماس، التي تزدان بها تيجان الملوك وأكلة الأميرات ، وكان الناس لاعتبارهم لتلك البلاد يروون عنها العجائب والغرائب، فيعدون أرضها تبرا، وهواءها مسكا، وثمارها شفاء وقوة، وطيرها شبيها بالإنسان في نباهته وحسنه.
فتجارة الهند في تلك القرون البعيدة كانت تحسب كثروة البلاد وغنى الشعوب، كما حسبها بعد ذلك أهل القرون الوسطى، وكانت تلك التجارة تروج أو تكسد على مقتضى أمور الزمان، وصروف الحدثان ينقلها من مظانها الكلدان والعرب، تأتي بها قوافلهم على طريق آسية الوسطى إلى أطراف بحر العجم أو البحر الأحمر، وكان الفينيقيون يرحلون إلى جهات بابل وإلى أنحاء اليمن، فينقلون تلك المحصولات إلى المرافئ السورية فيصرفونها إلى الغرب. •••
وكان من نواميس العالم القديم أنهم إذا أرادوا المتاجرة مع الأقطار النازحة يفضلون في ذلك الطرق البرية رغما عن طولها على خوض البحار، وإن كانت طريقها أقرب وأقصر، وذلك على خلاف ما ترى في تجارتنا اليوم، وهي تؤثر الطريق البحرية على سواها فتسير المراكب إلى أقصى ما تستطيع؛ لأنهم يجدون في تفضيل البحر سرعة، فضلا عن كونها أقل كلفا، لكن هذا النظام حديث ابتدأ منذ انتشرت الملاحة الشراعية الكبرى، ولا سيما منذ اكتشاف القوة البخارية، وكانوا قديما لا يركبون البحر إلا لمواصلة الطريق البرية؛ لأن الملاحين القدماء كانوا إذا أقلعوا قاصدين بلدا معلوما لا يعرفون ما سينالهم في طريقهم من الإعاقات، وخصوصا ما سيلقون من الرياح الموافقة أو المعاكسة، فيعرفون ساعة خروجهم ولا يعلمون يوم وصولهم؛ ولذلك كان القدماء لا يتجشمون أهوال البحر إلا عند الضرورة الماسة،
18
وكان الفينيقيون يرون في ذلك رأي غيرهم من الشعوب مع كونهم أدخلوا البحر في تاريخ العالم. وبينما نشاهد اليوم التجارة مترتبة على الملاحة، منوطة بها في المعاملات، كانت على عكس ذلك في الزمن القديم، برية محضا، فلا نرى أنه خطر على بال أحد أن يصرف القناطير المقنطرة لفتح قناة كقناة سويس أو قناة بناما، فإن نظرت مثلا إلى الحميريين، وكان لا يفصلهم عن مصر إلا بحر صغير، ترى أنهم كانوا يفضلون على هذا السفر القصير في بحر القلزم طريقا بعيدة، كانت القوافل تتبعها فتسير على سيف البحر إلى وادي موسى، ثم إلى غزة، وهي الطريق التي كان يسلكها العرب إلى زمن أبي سفيان، وإلى أوائل تاريخ الهجرة، ولعلهم لم يختاروا البحر للأخطار التي كانت تتهددهم في البحر الأحمر، والسفر فيه صعب لكثرة صخوره، وتعدد مجاريه وشواطئه الرملية، فضلا عما كان في سواحله من القرصان أو اللصوص، الذين يهجمون على الغرقى فينهبونهم أو يستعبدونهم.
19
من أراد أن يدرك ما أكسب سورية سابقا حسن موقعها من المنافع الاقتصادية - حيث كانت الطريق الواصلة بين الشعوب - يجب عليه أن يجرد فكره عما استفدناه اليوم من الأحوال الحاضرة، وترقي المواصلات البحرية التي أضحت في عهدنا الطريق اللاحبة التي تضم الأمم العاملة إلى بعضها، كما صرح بذلك آخرا جلالة الملك ليوبلد الثاني ملك بلجكة.
إن أقرب الطريق وآمنها لتجارة الهند قبل اكتشاف رأس الرجاء الصالح، إنما كانت الطريق البرية على مسير وادي الفرات، أما في وقت الحروب، فكثيرا ما كانت تنسد هذه الطريق المثلى بين البحر المتوسط وخليج العجم في وجه القفول التجارية، فتستبدلها بطرق أخرى كثيرة العقبات ذات أخطار جمة، وهي طريق بحر القلزم أو جزيرة العرب، لكن هذا البحر لم يتجاسر أحد أن يتجشم أخطاره قبل أن يتوفق هيبالوس إلى اكتشاف الرياح المنظمة، التي تعرف ب «المواسم»،
20
وذلك في القرن الأول للمسيح، ومذ ذاك الحين فقط جرت بحرا معاملات بين الهند وسواحل اليمن ومرافئ بحر القلزم مباشرة، أما الطريق البرية التي كانت تقطع صحاري العرب، فهي التي أكسبت أهل الجزيرة غنى وازدهارا، لا سيما السابئين والنبط والحميريين والقريشيين.
والفضل كل الفضل للفينيقيين؛ إذ سبقوا فأدركوا ما للطريق البرية من عظم الشأن، فإن ثروة الهند ومرافق الشرق الأقصى ما كانت لتجد سبيلا أوفق تجري فيه لتبلغ إلى مركز العالم المتمدن، وأدركوا فوق ذلك أنه أجدى إليهم ربحا لو استلموا تلك المحصولات الجليلة في محطاتها البعيدة؛ ليخففوا بذلك عناء القوافل، ويقتصروا بعض المراحل من طرقها الطويلة؛ رغبة في ضبط البضائع والتصرف فيها قبل غيرهم. ومما فطر عليه آل فينيقية ارتياحهم إلى الدلالة، فإنهم كانوا نعم السماسرة، يتوسطون بين الباعة والمشترين ولا يريدون بينهم وبين الباعة وسيطا، فتتضاعف بذلك أرباحهم؛ إذ يشترون رخيصا ويبيعون غاليا، فعليهم المعول في كل المعاملات التجارية لا يزاحمهم فيها أحد، ولا يقف المراقب على حقيقة متاجراتهم، وبذلك أضحوا أرباب التجارة يدركون كنه أسرارها، ولا يفوتهم شيء من وجوهها.
وهذه المتاجرات عينها حدت بالفينيقيين إلى تجهيز القوافل البرية وقيادتها، فنالوا بذلك قصبة السبق على من سواهم؛ لأن الطرائق التجارية في سالف الأزمان كانت مباينة لطرائقها اليوم،
21
فكانوا إذا أرادوا تصريف بضائعهم انتقلوا مع القوافل إلى حيث يرومون بيعها، فيدرسون كل بلد ويتعلمون لغته ويختلطون بأهله ويفقهون عجره وبجره؛ وكل ذلك لتتيسر لهم المتاجرة وتزيد أرباحهم، وذلك على خلاف ما نرى اليوم بعد اكتشاف السكك الحديدية والبواخر، فإن البضائع تصل إلى طالبيها دون أن يحتاج البائع إلى أن يرافقها.
وكان تدبير القوافل الفينيقية يقتضي دراية عظيمة وحذقا بليغا في المعاملات، ومما كان يترتب على رئيسها أن يحسن نظامها، ويؤلف قلوب أصحابها ويجمع قواهم لنجاح المشروع، كما أنه كان يسعى في طريقه بأن يكسب ثقة الأهلين، ويتقرب من أمرائهم وينتهز الفرص اللائقة لمبايعتهم، ويتعرف ما يروج عندهم من الأسواق. وخلاصة القول، كان يتخذ كل المعلومات اللازمة التي تزيد ثروته وتوفر أرباحه، وهكذا قد وصف لنا كتبة العرب تجار القريشيين في القرن السابع للميلاد،
22
وفي مقدمتهم أبو سفيان الشهير، قال ابن الأثير في أسد الغابة في تعريف الصحابة (5: 216): «كان «أبو سفيان» تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء التي تسمى العقاب، وإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعتها بيد الرئيس.»
والإفادات السابق وصفها التي نالها الفينيقيون في رحلهم وأسفارهم البرية والبحرية، توسلوا بها لترقية تجارتهم وصناعتهم وتوسيع نطاقهما، فإنهم بصائب نظرهم وتهافتهم على الأعمال واحتكارهم للتجارة البرية والبحرية، بلغوا في آخر الطور اليوناني الروماني مبلغا راقيا، فكأني بهم جعلوا في زمانهم الطرق الجائزة في سورية الشمالية ، وفي سورية الوسطى، وفي بادية الشام نفسها بمثابة ترعة سويس في عهدنا، وكانت بورسعيدهم تدمر، إلا أن تدمر كانت وقتئذ ملكة الصحراء تميس في مبانيها الفاخرة ومحاسنها الساحرة، ليست كبورسعيدنا التي هي عبارة عن مدينة مستحدثة، لا يرى فيها غير حوانيت الباعة، ومكاتب الحسبة، ومقامات المتاجرين، بل كانت تدمر مزدانة بالهياكل، تأخذ بالأبصار أروقتها البديعة، وتماثيلها المحكمة الصنع، مما يخلب القلب ولا تجد له أثرا في بورسعيد.
فدعنا بعد هذا نمتع النظر بحسن وضع سورية وبموقعها الجغرافي الفريد، ونحن نجدها في مفرق الطرق التجارية التي كان يسلكها العالم القديم، فإنها كانت قريبة من البرزخ الذي يصل آسية بأفريقية بين وادي النيل ووادي الفرات، وهناك كانت أعظم أمم تلك الأعصار وأرقاها في التمدن، وسورية في وسطها تبعد مسافة يوم عن تخوم مصر، وتكاد تتصل بمملكة آشور عند مجرى الفرات الغربي؛ حيث يلتوي فيقترب من البحر، فإن هذا النهر متاخم لسورية عند موقع قرقميش القديمة في المقام المعد لقطع سكة بغداد؛ حيث لا يبعد عن البحر المتوسط في خط مستقيم أكثر من 150 إلى 160 كيلومترا. فما أسهل ما كان على الفينيقيين أن يتبطنوا وادي الفرات، فيتبعوا بطائحه إلى أن يبلغوا خليج العجم المتصل بها. وكانت ضفاف الفرات في تلك القرون حافلة بالسكان متوفرة المدن، التي لا تزال آثارها ظاهرة إلى يومنا، وقد شهد على عمران تلك الجهات أحد جغرافيي اللاتين، يدعى بمبونيوس ميلا
12 ؛ حيث وصف غنى الأمم التي تقطن شمالي سورية، وقد نسب ثروتها «إلى خصب مراكزها وكثرة أنهارها، التي تجري فيها السفن فتسهل بها المبادلات التجارية.»
فترى من ثم أن سورية كانت بموقعها العجيب أهلا بأن تصبح مركزا لعلائق العالم القديم، أو قل بالحري إن الله جعلها رائدا للتمدن ووصلة بين الأمم العادية؛ أي المصريين، والكلدان، والأمم الوسطى من يونان ورومان، أجداد عالمنا المستجد. ولو رقينا في سلم الأعصار إلى أوائل القرون المتوسطة، وجدنا أهل سورية يتأثرون أعقاب آبائهم، فيتوسطون بين الغرب وأواسط آسية، فهم الذين أدخلوا التمدن اليوناني في مدرستي نصيبين وجنديسابور، كما أنهم جلبوا إلى الغرب مرافق تلك البلاد.
السوريون حملة التمدن القديم
فمن كل ما سبق لا يبقى للقارئ ريب في أن أهل سورية بتفرغهم للمبايعات وبتنقلهم في أنحاء البر والبحر كانوا الرباط الوثيق بين سواحل البحر المتوسط والبلاد النازحة عنه، ومزجوا مزج الماء بالراح الشرق العتيق بالغرب المترعرع، نعم، إنهم كانوا قبل كل شيء يعملون لأغراضهم ومصالحهم الخصوصية، إلا أن عملهم هذا كان يفيد الشعوب أيضا، فيعمم ما لكل منها من المحاصيل ويخرجها من عزلتها، فينتفع كل شعب كما أصابه الآخر، سواء كان في الماديات أو في الأمور العقلية والأدبية والدينية، وفي هذا لعمري جل الفائدة، لا سيما في تلك الأزمنة التي كانت الشعوب لا تعرف بعضها إلا في ساحات القتال، فالفينيقيون نقلوا إلى الغرب تمدن واديي النيل والفرات، وعرفوا أهل تلك البلاد بمحصولات مصر وما بين النهريين وأعمالهما الصناعية بعد أن أخرجوها على هيئة جديدة توافق أحوال الغربيين وتناسب حاجاتهم، ولعلهم أثاروا في قلوب تلك الشعوب الجديدة رغبة في الترقي والنجاح، ومهدوا الطريق للفنون والآداب بين اليونان الذين ما كانوا ليبلغوا ذروة الكمال في الفنون الجميلة لولا توسط الفينيقيين، فإنه من المقرر أن التمدن اليوناني لم ينشأ بغتة على غير استعداد وبدون تمهيد، وإنما بني على أساس سابق تقدمه، نريد تمدن أمم الشرق، وفضل الفينيقيين أنهم كانوا حملة لذلك الترقي القديم إلى اليونان، فأغنوا الغرب بمحصولات الشرق وبمصنوعات الشام. فانتبهت قرائح الغربيين إلى مجاراتهم ومزاحمتهم في العمل بعد أن أعملوا النظر في نحت التماثيل والدمى، وفي حفر الحجارة الكريمة وفي صياغة الجواهر، كما استلمها الفينيقيون من أهل مصر وبابل فزادوها تحسينا، فهذه المصنوعات الفينيقية كانت للغربيين كلقاح لأذهانهم وشحذ لأفكارهم، أدى بهم بعد قليل إلى تلك العجائب الصناعية التي تفرد بها اليونان بعد زمن، وإن قيل إن الفينيقيين لم يطلبوا في ذلك غير الربح والمكسب فنجيب أن فائدتهم الخاصة لا تنفي الخدم التي أدوها لغيرهم، والخدمة خدمة ولو طلب منها منفعة
23
ولعل الكتبة لم ينسبوها قبلا للفينيقيين ؛ لزعمهم أن الفينيقيين كانوا تجارا لا يهتمون بالفنون كمألوف عادة التجار؛ ولجهلهم تأثير الصناعة الشرقية بالصناعة اليونانية.
وقد أراد الله أن يعظم هذه الدعوة الشريفة التي خولها للفينيقيين ليكونوا وسطاء ونقلة للمواد التجارية وللأمثلة الصناعية، بأن جعلهم سماسرة الأفكار كما جعلهم سماسرة الأموال؛ ليعدوا الشعوب الجديدة لقبول الآداب والعلوم، ومهما قلنا في إطرائهم فإننا لن نبالغ؛ وذلك ليس فقط لأنهم بلغوا بقوافلهم إلى البلاد النازحة فوصلوا بين أطراف الأقطار وأقاصي الأصقاع، لكن أيضا لأنهم زودوا الشعوب بآلة عجيبة كانت أعظم عامل للتمدن، نريد صناعة الكتابة وحروف الهجاء.
والحق يقال: إن اختراع الأبجدية قد أجدى للبشر نفعا، قد خلف وراءه الاختراعات التي تتباهى بها أعصارنا؛ كفن الطباعة، واكتشاف فوائد البخار والكهرباء؛ لأن بهذه الصناعة الكتابية انفتحت للمعارف البشرية أبواب واسعة؛ إذ بها نستطيع تدوين كل لغات العالم حتى قبل فهمها، بها جرى تقلب عظيم في أحوال الشعوب، لكنه تقلب هادئ سلمي غايته التحاب وتقريب الأمم من بعضها.
يقول الفلاسفة إن العادة طبيعة ثانية. يريدون أن الإنسان لا يتأثر مما اعتاد نظره وائتلفه بالتكرار، فإن العجائب الطبيعية التي نراها كل يوم تسقط من أعيننا، فكذا قل عن اختراع الأبجدية، قال الأب ديلاتر اليسوعي: «ليت شعري، أيوجد شيء أعجب من اختراع الإنسان لعشرين إلى ثلاثين علامة، يتمكن بها على أن يترجم عن كل معاني قلبه وعواطف نفسه؟!» وهذه الطريقة العجيبة في سذاجتها يعود الفضل في اختراعها - وإن شئت قل: في نشرها - إلى الفينيقيين؛ فإنهم أبطلوا تلك الطرائق السابقة التي شاعت قبلهم بتوفير الصور الكتابية، وتمثيل مقاطع الألفاظ، ورسم أصوات الكلام التي كان يتيه فيها علماء مصر وبابل، فنابت بحروف الهجاء عن تلك المئات والألوف من العلامات حروف قليلة تؤدي كل تهجيات اللسان في لغات معظم الشعوب القديمة والحديثة.
وهنا أيضا قد لعبت الجغرافية دورا مهما، قال لونرمان في تاريخ الشرق القديم (ج1 ص448): «كان ينبغي للشعب المدعو لتنظيم الكتابة البشرية وتكميلها ونشرها، أن يكون شعبا تجاريا عاملا، لا يستغنى عن مسك الدفاتر وضبط الحسابات التجارية ، ويكون مع هذا متاخما لمصر موسوما بسمة التمدن المنتشر على ضفاف النيل.»
ولا نعرف في العالم القديم أمة غير الأمة الفينيقية كانت تقوم بهذه الشروط؛ إذ كانوا بموقع بلادهم أحق من سواهم بأن يكونوا قوما وسطا، متأهبين لنقل محصولات التجارة إلى الأقطار البعيدة والسواحل النائية، وهم مع ذلك مواصلون للأعمال مع مصر جارتهم.
وقد نقل الفينيقيون إلى البلاد السحيقة ليس فقط حروف الهجاء لتسهيل المعاملات، بل كل مصنوعات بابل ومصر مع أعمال صناعتهم الوطنية، وأضافوا إلى ذلك ما نقلوه من الأدوات المفيدة ومن الحيوانات الداجنة ومن أحرار البقول، وقد وجد الأثريون في أقطار غربية شتى ما كان أتى به إليها الفينيقيون من المعادن وضروب الخشب والصمغ والأنسجة والخزفيات، وغير ذلك من المصنوعات التي أعدت للتمدن القبائل الغربية المستوطنة للغابات، وقد جرى السوريون على هذه الطريقة في نقل اختراعات الشرق ومحصولات التمدن نحو ألف سنة، حتى أثر مثلهم في قلوب أولئك السكان فأخذوا ينهجون منهجهم ويتعقبون مدارجهم، قال بمبونيوس ميلا - السابق ذكره: (ك1، ف2): «إن الفينيقيين قوم جهابذة حذاق، يحسنون آداب الحرب ويستفيدون من منافع السلم، هم الذين وضعوا حروف الهجاء فاستخدموها لأعمال شتى، واخترعوا فنونا عديدة، وهم أيضا الذين سبقوا إلى خوض البحار، وتقدموا الشعوب في الحروب البحرية.»
جاء في كتاب حديث للعلامة فكتور بيرار دعاه «الفينيقيون والأوديساة»
V. Bérard:
Les phéniciens et l’Odyssée : «إن جغرافية منظومة أوميروس الأوديساة مبنية غالبا على المعلومات التي استفادها ذلك الشاعر المفلق من الفينيقيين.»
ثم استشهد لتأييد قوله بالجغرافي سترابون؛ حيث قال: «إن الفينيقيين أرشدوه إلى معرفة وصف البلدان»
οί γάρ Φοίνιχες έδήλουν τοũτο ، وكتاب المسيو بيرار مشحون بالتفاصيل والأدلة المثبتة لسيطرة الفينيقيين على البحار (اطلب المشرق 9: 234).
ولما أراد سناحريب ملك آشور أن يجهز لدولته أسطولا بحريا في الخليج العجمي، لم يجد من يقوم بعمله غير الفينيقيين، قال في إحدى كتاباته: «قد أقمت في نينوى رجالا من الحثيين (وكان الحثيون من سكان سورية)، أسرهم قوسي، فعمروا لي مراكب كبيرة على مثال بلادهم، فجهزتها بالملاحين الصوريين والصيدويين الذين قبضتهم يدي.»
وقد حفظ أهل فينيقية السيادة على البحار حتى في عهد اليونان بعد فتوحات الإسكندر الذي جرى على مثال سناحريب في تجهيز المراكب، وقلما تجد في تواريخ اليونان كاتبا يذكر سفينة لا يكون ربانها سوريا أو فينيقيا.
السوريون دعاة الدين
هذا ولأهل الشام فخر آخر غير المفاخر السابقة؛ فإنهم ليس فقط توسطوا بين الدول القديمة المتمدنة والأمم التي منها اشتقت الشعوب المستحدثة، لكنهم أيضا نالوا امتيازا آخر، فدعاهم الله لتربية العالم الأدبية والدينية، فصاروا متوسطين بين الله والإنسان، ومن هذا القبيل كانوا هم السابقين، لم يأخذوا الأمر من سواهم، نعم، إن التمدن البابلي والمصري كان بلغ في الصنائع والفنون مبلغا عظيما، والفينيقيون استفادوا من ذلك وأفادوا غيرهم، لكن الفراعنة وملوك آشور كانوا من حيث الآداب والأخلاق بعيدين عن الكمال، لا يعرفون من العدل والرحمة غير اسمها، فيستسلمون للجور، ويعتبرون أنفسهم بمثابة آلهة، يتصرفون برعاياهم كيف شاءوا، لا يبالون بما ينتظرهم لدى الديان من المسئولية عن أعمالهم، وإن كان من بعدهم قد غلب على الشعوب التالية روح الدماثة، وأضحى التمدن الجديد مبنيا على العدل والمحبة، فالفضل في ذلك إلى المستشرعين الصالحين، وإلى الرسل القديسين، وإلى الأنبياء الأبرار الذي نشئوا في سورية فلسطين، وبالأخص إلى ذاك الذي كان أكبر من المشترعين، وأشرف من الأنبياء، المسيح ابن الله، فإن لاهوت الخالق وصفاته العجيبة لم تظهر في مكان من الأرض ظهورها في سورية فلسطين، فلاح نور التوحيد فيها، ومنها امتد إلى بقية الشعوب، فأدخلها في طور جديد من الترقي والفلاح؛ ولذلك ترى عيون الإنسانية متجهة منذ ألفي سنة إلى تلك البلاد مهد الأديان الموحدة؛ حيث جرت أحداث التوراة الخطيرة، وتجلى الحق سبحانه لعباده فغيرت أنواره هيئة المجتمع الإنساني.
فقد أصاب من دعا سورية فلسطين أرضا مقدسة، كيف لا وفيها حدثت أعجب العجائب، وبها تنوط ذكرى أشرف الأعمال وأعظم الرجال؟ بحيث يصح القول عنها إنه ليس فيها شبر إلا وقد صلى فيها نبي، ولو اعتبرت أخبار الإنجيل الطاهر وحدها وجدت أربعة أخماسها قد جرت في الجليل، وليست بلاد الجليل إلا قسما من سورية متصلا بفينيقية الجنوبية، وطالما دخل الجليل في حيزها وتبعها في حكمها ونظامها، ولو بحثت عن مواطن الرسل الحواريين لوقفت عليها في سواد عكا وصور، وكان لهاتين المدينتين مراكز تجارية في كل ساحل فلسطين، وكما أن العهد القديم في سفر الملوك الرابع (17: 19) قد اتسع في أعمال إيليا النبي في تخوم صور، كذلك يروي العهد الجديد آثار ابن الله في سواحل فينيقية بين أهلها الكنعانيين، وزد على ذلك أن الكنائس المسيحية الأولى قد نشأت في أواسط سورية وشمالها، وأن اسم النصارى شاع أولا في أنطاكية، وقد صارت تلك الكنائس كمثال حذا حذوه من أتى بعدها، وعليه يستحق السوريون هنا أيضا - وبنوع أحرى - أن يدعوا سماسرة الآداب ودعاة الدين، فتقدموا على اليونان والرومان الذين مشوا على آثارهم في دعوة العالم إلى المسيح.
24
قال منتلمبرت الخطيب الشهير في كتابه عن نساك الغرب
Moines d’Occident, I, 142 : «إن الدين كما عزة السلاح كما فخر الآداب، كل ذلك قد جرى على سنة مقررة راهنة وناموس ثابت، فانتقل من الشرق إلى الغرب، بدأ التمدن وبدت القوة من الشرق على مثال النور، وكما أن النور لا يزال يزداد بهاء وحسنا على قدر ما يتقرب من الغرب، كذلك التمدن والعز زادا في الغرب بعد أن ظهرا في الشرق.»
فترى ما لسورية من النصيب العظيم في ترقي الشعوب، فإنها هي السابقة، والفضل كما قيل للمتقدم، فيجوز لكل رجل أن يعتبر سورية كوطنه الثاني؛ لأن منها نال حياته الأدبية إن لم ينل حياته الزمنية؛ ولهذا السبب لم تزل أوروبا توجه بألحاظها إلى البلاد التي منها أخذت مصدر حياتها العقلية والأدبية، وكان قدماء النصارى إذا صلوا جعلوا الشرق قبلتهم فيوجهون بأبصارهم إلى الأراضي المقدسة، وإلى الجلجلة وقبر المسيح.
وكان ضوء السحر يذكرهم بأسرار دينهم، وكانوا يطلبون أن تدار رءوسهم إلى الشرق في قبورهم؛ لترتاح عظامهم الهامدة بتوجيهها إلى منبع إيمانهم، هذا فضلا عن ألوف الألوف الذين لم يرغبوا في حياتهم إلا شيئا واحدا: زيارة تلك الأماكن المقدسة التي شرفها ابن الله بحياته وموته، فيتجشمون لذلك أعظم الأخطار ، ويقاسون أصناف الأتعاب بجل أمانيهم وقصوى بغيتهم، قال أحد هؤلاء الزوار في القرن الخامس عشر إبرهارد اللحياني
Eberhard Le Barbu
كنت بلاد فرتمبرغ: «إن ثلاثة أشياء لا يجوز الترغيب فيها ولا الرد عنها؛ وهي الزواج، والحرب، وزيارة الأراضي المقدسة؛ فإنها كلها ربما ابتدأت ابتداء حسنا، فتنتهي على غير المرغوب.» وفي قوله هذا إشارة إلى الصعوبات التي كان يلقاها زوار ذلك الزمان، على أن هذه الأنصاب والمخاطر لم تقو على ضبط جماهير الزوار الذين لم يزالوا منذ عهد قسطنطين الكبير يتواردون بلا انقطاع إلى الأراضي المقدسة، كما تشهد على ذلك أخبار رحلهم المتعددة، التي دونوها في أسفار شاعت في كل جهات المعمور وبين كل طبقات الناس. •••
وقبل ختامنا لهذا الفصل الذي كتبناه في موقع سورية وجعلناه كتوطئة لأبحاثنا في جغرافية الشام، ينبغي لنا أن نضيف إليه بعض ملحوظات عمومية.
من خواص الشام، كما سبق القول، أن لها حدودا ظاهرة وتخوما مقررة، وفي ذلك فائدة كبيرة؛ لأن تخوم البلاد بمثابة حدود الأملاك وحواجزها التي تصونها من كل تعد ومخاصمة. وفي الواقع ترى جهات الشام مفروزة عما سواها، فلا تستطيع أن تخلط بينها وبين البلاد المجاورة لها، كآسية الصغرى مثلا؛ لأن بين الشام والأناضول طودا شاهقا يفوق بارتفاعه جبال البيراناي الذي يفصل فرنسا عن إسبانيا، وهو أعظم مهابة منه، كذلك من جهة الشمال الشرقي نهر وهو الفرات، معدل عرضه 500 متر، يفصل الشام عن بلاد ما بين النهرين، أما الفاصل بين الشام ومصر وأنحاء العرب فبحر بلا ماء؛ أي البوادي القفرة الواسعة التي يسهل دونها قطع البحار، وقد بينا قبلا أن البحار صارت اليوم من أسباب الوصال، وهيهات أن يصدق ذلك في الصحاري والقفار.
وخلاصة الكلام أن بلاد الشام مجموع منفرد قائم بذاته، لا يمتزج بتخومه غيره، ليست كإنكلترة معتزلة عما سواها مفتوحة الثغور لمن يطلبها، لكن هذه العزلة لم تعرض بلاد الشام للفتور والخبل كما جرى لبلاد الصين وراء حائطها الكبير، بل قاسمت البلاد المتمدنة في حركتها، وناهيك بالحركة بركة وخصبا وترقيا، وقد أثبتنا فيما سبق أن الشام رأت من تقلبات الدول وفتوحاتها ما قل لبلد آخر أن يختبر مثله، فإن الأمم القديمة تجاوزت تلك التخوم، وخرقت تلك الحواجز، وعدت الشام كطعمة تتنازعها مطامع «ذباب مصر ونحل آشور» كما قال أشعيا النبي (7: 18). وكانت هذه الأمم تعتبر فتح الشام وفلسطين كأعظم فوز تفوز به؛ لأنها كانت تجد في هذه البلاد معبرا أكيدا لتصريف تجارة الهند في موانئ بحر الشام، وبابا واسعا لفتح أفريقية وآسية المتقدمة. وهذا الحكم قد خطر منذ نحو 5000 سنة على بال سرغون - أحد ملوك بابل - فأثبته في بعض مآثره.
وقد سبق لنا القول في سبب انتقال الحركة التجارية العمومية في عهدنا، فعلة ذلك أن القطب الذي عليه كان مدار الحركة التجارية لم يعد في مكانه مارا في وسط بلاد الشام، بل تحول عن ممره فصار يمتد في طريقين أخريين، إما في شرقي الشام وإما في غربيها، وليس هذا الخلل الوحيد الذي تدلنا عليه القوانين الجغرافية، فإننا نرى خللا آخر يضعف هذه البلاد تشير إليه الجغرافية أيضا. •••
تشبه سورية في هيئتها الطبيعية مربعا كبيرا يقيس طوله ثماني مرات عرضه؛ لأن طوله من جبل طورس إلى جبل سينا لا يقل عن 1100 كيلومتر، بخلاف عرضه الذي لا يتجاوز معدله 150 كيلومترا، وكل يعلم أن مثل هذا التباين في الأقيسة يضر بالموازنة، ويمنع الارتباط والوحدة بين جهات البلاد؛ لأن الجسم السياسي إذا امتدت أطرافه فبعدت عن مركز الحكم خف فعله فيها، ومن ثم ترى الأنحاء تطلب التفرد، فتضعف القوة العمومية، وهذا مما يظهر اليوم في بعض البلاد رغما عن الروابط العظيمة التي تستعين بها الدول في عهدنا لضم أطرافها وتوحيد عناصرها، كاحتكار القوة وتعميم التعليم والجندية الإلزامية، وغير ذلك مما تفردت به الدول الحالية، مثال ذلك ما تجده في إيطالية، فإن الحكومة الواحدة تحكم على بلاد مختلفة طبائع وأغراضا، كبلاد بيامنتي في الشمال وبلاد صقلية في الجنوب، وحتى الآن لم تقو الحكومة على مزج هذه العناصر المتباينة وتوحيدها.
ويضاف إلى هذا الخلل في تركيب سورية الجغرافية خلل آخر ليس بأقل ضررا منه بوحدة إدارتها؛ نريد سلاسل جبالها التي تخترق البلاد فتمنع اختلاط طوائفها وتوحيد عناصرها، كما ترى في سويسرة وجهات الأناضول؛ حيث ارتفعت أيضا الجبال الشاهقة، فأضرت بامتزاج أقسامها، والتاريخ يعلمنا أن الدول الكبرى كانت تجعل مراكزها في السهول، أما سهول سورية فتراها بعيدة عن مركز حركتها، معتزلة في طرفها الشمالي الشرقي، وتلك الجهة أشبه ببادية مقفرة، وهي منزوية معتزلة، فلا تستطيع أن تنشأ فيها مدينة عامرة تحيي الأطراف بنفوذها.
وما هو أخطر من ذلك أن هذه الجبال السورية - التي يبلغ معدل علوها 2000 متر - تقوم في وسط البلاد كحاجز متواصل يفرد كل طائفة في مكانها ويؤثر في حياتها، فاصلا كل قسم عن أخيه، بحيث لا يمكنه أن ينال منه فائدة لترقيه وتمدنه، لا سيما أن هذه السلسلة تمتد من الشمال إلى الجنوب، وهي وجهة أقل نسبة لامتزاج الشعوب من وجهة الغرب إلى الشرق؛ لأن السكان إذا انتقلوا تابعين لدرجات العرض أمكنهم أن يعتادوا تغيير الأحوال الجوية بخلاف الذين يتبعون درجات الطول، فإنهم يبلون بمقاساة المظاهر الجوية التي لم يعتادوها.
وزد عليه أن جبال الشام تنفصل في سورية الوسطى إلى سلسلتين متوازيتين، لا تكاد الثانية تختلف في علوها عن الأولى، وهذه السلسلة الجديدة تدعى بالجبل الشرقي، تمتد شعبها على نواحي دمشق وبادية تدمر وحوران وما وراء الأردن، والجبلان أشبه بحائطين هائلين بينهما البقاع والغور كواد غريب، يبلغ منهبطه عند طرفه الجنوبي - أي بحر لوط - عمقا لا يقل عن 400 متر تحت سطح البحر المتوسط.
والحق يقال: إن الطبيعة أحسنت إلى سورية في شيء؛ إذ حصنتها بسور من الجبال، لكنها أفرطت في توفير هذه الجبال في قلب البلاد، فإن السائر الذي يتوغل من سواحل الشام إلى الجهات الداخلية، يلقى في مسيره خمسة أنحاء جغرافية تختلف أحوالها كل الاختلاف في حرارتها وهوائها ونباتها مع قلة أسباب المواصلات بينها؛ لأن السلسلة الكبيرة التي تمتد طولا في وسط سورية لا تنقطع انقطاعا محسوسا إلا عند علو طرابلس؛ حيث توصل جبل النصيرية بأول منعطف لبنان آكام قليلة الارتفاع.
ولو قطعت سورية تبعا لخط الهاجرة؛ أي من الشمال إلى الجنوب لوجدت فرقا كهذا، فإن الطبيعة قد قسمت سورية إلى خمس أو ست كور مختلفة السعة، تعزلها عن بعضها الأنهار أو الجبال بحيث تستطيع كل كورة أن تكون منفردة عن أختها،
25
وكذلك في الشمال البلاد المرتفعة الواقعة بين الفرات ومصب العاصي، وفي الوسط بلاد البقاع بين سلسلتي لبنان غير المتساويتين، ثم دمشق وغوطتها من جهة وفينيقية من جهة أخرى. وأخيرا في الجنوب مجموع بلاد متباينة، كأنها طبقات درجية ترتفع فوق بعضها على جانبي وادي الأردن شمالا ويمينا.
وممن لحظوا هذه الاختلافات الغريبة التي خصت بها أنحاء الشام، جغرافي عربي من مشاهير كتبة القرن العاشر، نريد شمس الدين أبا عبد الله محمد بن أحمد المعروف بالمقدسي، وكان أصله من الشام، فإنه دون في كتابه الموسوم «بأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ملحوظا جغرافيا يدل على توقد ذهنه ودقة فكره، قال في وصف إقليم الشام (في الصفحة186): «ووضع هذا الإقليم ظريف؛ هو أربعة صفوف: الأول يلي بحر الروم وهو السهل، رمال متعقدة ممتزجة، يقع فيه من البلدان الرملة وجميع مدن السواحل، والصف الثاني الجبل مشجر ذو قرى وعيون ومزارع يقع فيه من البلدان بيت جبريل وإيليا،
26
ونابلس واللجون وكابل وقدس والبقاع وأنطاكية، والصف الثالث الأغوار ذات قرى وأنهار ونخيل ومزارع ونيل، يقع فيه من البلدان ويلة وتبوك وصفن وأريحا وبيسان وطبرية وبانياس، والصف الرابع سيف البادية، وهي جبال عالية باردة معتدلة مع البادية ذات قرى وعيون وأشجار، يقع فيها من البلدان مآب وعمان وأذرعات ودمشق وحمص وتدمر وحلب، وتقع الجبال الفاصلة مثل جبل زيتا وصديقا
27
ولبنان واللكام وسرة الأرض المقدسة في الجبال المطلة على الساحل.»
وكل هذه الفروق في الوضع الطبيعي قد عللت بتتابع الأيام أطوارا تاريخية مختلفة، وكثيرا ما عاش أهل تلك الأنحاء يجهل بعضهم بعضا، فالجبليون يتحصنون في مشارفهم الطبيعية كما في قلاع حريزة، وكذلك أهل المنعطف الشرقي كانوا مبتعدين عن سكان السواحل، وهؤلاء لا يفكرون إلا في سفنهم وبحريتهم ، لا يكترثون لمن توطن السهول الداخلية، وقد أدت بالفينيقيين عزلتهم وحبهم للتفرد أن كل فئة كانت تقصر نظرها إلى قطعة من الأرض ورثتها من أجدادها، فتكتفي إما برأس ساحلي وإما بخليج أو جزيرة، كما ترى في أرواد وجبيل وصيداء وصور، لكل منها استقلالها النوعي؛ ولهذا السبب نرى السوريين منذ أقدم الأجيال «منقسمين إلى عدة طوائف متخاصمة، تسعى كل واحدة منها حتى أصغرها في حفظ منافعها الخاصة، ولا تزال تدافع بالحرب العوان عن قطعة من الأرض، أو بعض فدادين من المزارع أو بعض الأحراج الجبلية، فترى القتال قائما على ساق بين هذه المقاطعات، فيستولى عليها الخراب والدمار، كأن عدوا مغوارا دخل فيها وأعمل فيها السيف والنار.»
28
وإن اعتبرت تاريخ سورية وجدت هذا الإقليم متقسما إلى إيالات منفردة تسكنها العشائر المنفصلة، ففي سورية تعددت رؤساء القبائل وشيوخ الطوائف ورؤساء الربع، فيجد محب المسكوكات والمكاتبات مادة واسعة لدرس آثارهم، لكن المؤرخ يتيه في بيداء أقسامهم السياسية.
وكانت نتيجة هذه الانقسامات الشعبية والتفرقات في الأغراض والأملاك أن البعض وجدوا فيها ما يوافق مطامعهم ويعظم أشخاصهم، لكنها أضعفت القوى وقسمت الكلمة، وهذا ما نراه في تاريخ سورية في أقدم الآثار، تشهد عليه مراسلات تل العمارنة التي ترتقي إلى المائة الخامسة عشرة قبل المسيح (اطلب تسريح الأبصار، ج1، ص71-79)، فيؤخذ من هذه المكاتبات أن دولا عديدة كانت تتزاحم مذ ذاك في سورية، منها في السهول، ومنها في الجبال، بل كانت كل مدينة عبارة عن دولة يتحصن فيها أهلها، ويردون غارات الدولة المجاورة، ولو شاء المسافر لقطع في اليوم الواحد تخوم عدة أملاك مستقلة, هذا ما ورثه تاريخ الشام بكثرة التقاسيم الجغرافية والحواجز الطبيعية.
كتبة العرب وجغرافية سورية
ذكرنا في مقالتنا السابقة بطيب الثناء أحد جغرافيي الإسلام «شمس الدين المقدسي»، وليس هو الكاتب الوحيد من العرب الذي ضمن تأليفه الفوائد المتعددة في وصف سورية، وفي نيتنا أن نعود مرارا إلى ذكر هؤلاء الكتبة في أثناء مقالاتنا الآتية عن هذه البلاد، وعليه أردنا أن نفرد لهم فصلا كاملا ليكون القراء على بصيرة من شهاداتهم، ويقدروا كتاباتهم قدرها. ***
الجغرافيون العرب الأقدمون
كان أول فتح سورية على يد القائد الكبير خالد بن الوليد، الذي دخل دمشق بعد أواسط السنة 635 للميلاد، ثم أتم فتح بقية بلاد الشام في السنين التالية، فلما انتشرت العلوم بين العرب في القرن التاسع أخذ كتبتهم في ذكر الشام ووصف محاسنها، وواصلوا هذه المصنفات إلى أواخر القرن الخامس عشر، فمنهم من اتسع في وصفه، ومنهم من اقتصر على بعض الفوائد، فلو جمعت كل هذه المآثر المدونة في زمن لا يقل عن ستة قرون لانذهل الأدباء من وفرتها، والحق يقال: إن كتبة العرب في الأبحاث الجغرافية - كما في غيرها من الفنون - قد خلفوا لنا من الآثار ما لا يجاريهم في كثرته غيرهم من الشعوب. فيتحتم علينا أن نبين شأن هذه التآليف، ونعرف قدرها وما يمكن العلماء أن يستخلصوا من فوائدها. •••
لو تتبعنا تاريخ العرب في الأزمنة العريقة في القدم، لوجدناهم مزدانين بخلال فريدة للضرب في البوادي وللسياحة في البلدان، تصفح سفر التكوين لموسى كليم الله، فإنه قد ذكر غير مرة عرب البادية في أيام الآباء بعد الطوفان منذ إبراهيم الخليل إلى يوسف الحسن، وغاية ما يستنتج من أوصافه أن العرب كانوا في ذلك الوقت ما عهدهم التاريخ في الأجيال التابعة، فإنهم يظهرون لنا كقوم رحل يقودون القوافل ويتجشمون الأسفار للمتاجرة، وقد جعل الله في يدهم زمام حيوان صبور يزيد نفعه على منافع الخيل المطهمة، نريد الإبل المعروفة بسفن البر، وهذا الوصف لا يختلف ذرة عن أحوال العرب في كرور الدهور حتى القرن السابع بعد الميلاد؛ حيث ترى قريشا تتولى قيادة الأقفال وتمتار المير، وتنقل السلع إلى أسواق العراق والشام واليمن والحبشة ومصر.
وليس بين التاجر الرحالة والجغرافي المخطط للبلدان مدى واسع؛ فإن المسفار يحتاج كالجغرافي إلى التنقيب عن أحوال الأمم والأمكنة التي يتردد إليها، فيتبصر في مرافقها ويدرس طباعها، ويبحث عن ثروة تربتها وغلاتها وطرقها وطوارئ هوائها من حر وقر، وكل ذلك يباشره الرحالة لمنفعته الخاصة، كما يتولاه الجغرافي لنفع العلوم، ومن هنا تعرف أن درس الجغرافية من أنجع الوسائل، وأكفلها بالربح في التجارة الواسعة.
ومما زاد العرب نشاطا في درس البلدان وأعانهم على الرصود الجغرافية التي خصت بمراقبتها طباعهم، ما أتاحهم الله من الفتوحات العظيمة في القرنين السابع والثامن؛ فإن سلطتهم بلغت ما وراء البلاد التي اتصلت إليها يد الإسكندر ذي القرنين، فلا غرو أنهم حاولوا معرفة الأقطار التي جعلها الله في حوزتهم، فأسرعوا إلى تقويمها وتحديد ثغورها، واستطلاع خواصها، وقد ساعدهم على ذلك ما وقفوا عليه من المصنفات الجغرافية السابقة لعهدهم من أوضاع الهنود والفرس واليونان والرومان، مما نقل الكثير منه إلى العربية، وكان العرب من أجدر الناس بأن يبنوا لعلم الجغرافية صرحا شاهقا منيفا بما توفر لديهم من الوسائل الضامنة لبلوغ هذه الغاية الشريفة، وذلك بأن يضيفوا معلوماتهم إلى معلومات أسلافهم، وسوف نذكر سبب قصورهم عن هذه البغية الجلى، وإن نال البعض منهم من ذوي المدارك العالية أسهما رابحة من المجد، فكادوا يفوزون بقصبة السبق في هذا الميدان الجليل.
ومما يجب الإقرار به فضل كتبة العرب في وصف البلدان وتعريف خواصها، وذلك مدخل العلوم الجغرافية ومقدمتها يكفي للقيام به أن يكون الكاتب باصرا مترويا، يحسن مراقبة المرئيات دون أن يحتاج إلى شيء من الآلات الرصدية، أو من العلوم الإعدادية.
فمن ذلك أنهم أحكموا معرفة أواسط آسية، فأصلحوا أمورا عديدة مما رواه قبلهم اليونان والرومان رامين كلامهم على عواهنه، مثال ذلك: ما أفادنا الرومان عن الصين حدسا وسمعا. أما العرب فإنهم تفقدوا مملكة ابن السماء، بل بلغوا بلاد كورية، ولعلهم أدركوا حدود اليابان. وقس على ذلك قارة أفريقية، فإن الرومان جعلوا الصحراء حدودها، فلم يعرفوا ما وراء تلك المفاوز المجهولة. أما العرب فإنهم تجاوزوا تلك الحدود، وطافوا في مجاهل أفريقية إلى قلب تلك البلاد، وهم أول من أبحر إلى جزيرة مدغسكار فعرفوا موقعها.
أما الجغرافية العلمية فإن معلومات العرب فيها محصورة ضيقة النطاق، فإن معرفتهم مثلا لأعراض البلاد قد تعقبوا فيها آثار القدماء، فأصابوا أو أخطئوا كلما أصاب أو أخطأ أسلافهم، أما خوارطهم ورسومهم لهيئة البلدان فإنها غريبة الأشكال بعيدة عن مظان الحق،
1
وقد أثبت منها المشرق مثالا ملونا، فراجعه (المشرق 3: 1128)، وها نحن ندون هنا مثالا آخر ننقله ببعض ألوانه، عن كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» للشريف الإدريسي، كما يرى في أحد مخطوطات مكتبة باريس العمومية، ولعله أحكم وأتقن ما وضعه العرب من الخرائط، فإن البحر فيها مرسوم باللون الأزرق ومجاري الأنهار بالأخضر،
2
وأغرب ما في هذا الأثر أن صاحبه سعى بتصوير سلسلة الجبال بتخطيطات مقطعة
3
كما يشير إليها الجغرافيون المحدثون بعد أن حسنوا هذه الطريقة وزادوها دقة.
خريطة للشريف الإدريسي.
هذا وإن في رواياتهم وأوصافهم نفسها مبالغات هي من الغرابة بمكان، ينبغي على العاقل ألا يقبلها إلا بعد الروية والانتقاد، وهذه النقيصة تعم زمانهم حيث كانت العلوم الطبيعية في مهدها.
ومما يؤخذ على كثيرين منهم آفة النقل والسرقة، فإنهم يروون ما سبق إليه غيرهم بحرفه دون الإشارة إلى التآليف التي نقلوا عنها، وربما خدع القارئ بكثرة الشواهد في بعض الأمور، ولو تروى لوجد أنها كلها راجعة إلى مصدر واحد، وأن الخلف نسخوا عن السلف دون فرق يذكر في اللفظ والمعنى، ودونك ما كتبه في هذا الصدد شمس الدين المقدسي، وغايته أن يبين بقوله فضل تأليفه على تآليف من تقدمه، وكلامه مع طوله جدير بالاعتبار، يوقفنا على طريقة بعض كتبة العرب في مصنفاتهم إلى زمن المؤلف في القرن العاشر، قال: «اعلم أني أسست هذا الكتاب على قواعد محكمة، وأسندته بدعائم قوية، وتحريت جهدي الصواب، واستعنت بفهم أولي الألباب، فما وقع عليه اتفاقهم أثبته، وما اختلفوا فيه نبذته، وما لم يكن لي بد من الوصول إليه والوقوف عليه قصدته، وما لم يقر في قلبي ولم يقبله عقلي أسندته إلى الذي ذكره، أو قلت: زعموا، ووشحته بفصول وجدتها في خزائن الملوك.
وكل من سبقنا إلى هذا العلم لم يسلك الطريق التي قصدتها ولا طلب الفوائد التي أردتها، أما أبو عبد الله الجيهاني، فإنه كان وزير أمير خراسان، وكان صاحب فلسفة ونجوم وهيئة، فجمع الغرباء وسألهم عن الممالك ودخلها، وكيف المسالك إليها، وارتفاع الخنس منها وقيام الظل فيها؛ ليتوصل بذلك إلى فتوح البلدان، ويعرف دخلها، ويستقيم له علم النجوم ودوران الفلك. ألا ترى كيف جعل العالم سبعة أقاليم؟ وجعل لكل إقليم كوكبا، مرة يذكر النجوم والهندسة، وكرة يورد ما ليس للعوام فيه فائدة، وتارة ينعت أصنام الهند، وطورا يصف عجائب الهند، وحينا يفصل الخراج والرد، ورأيته ذكر منازل مجهولة، ومراحل مهجورة، ولم يفصل الكور، ولا رتب الأجناد، ولا وصف المدن، ولا استوعب ذكرها، بل ذكر الطرق شرقا وغربا وشمالا وجنوبا مع شرح ما فيها من السهول والجبال والأودية والتلال والمشاجر والأنهار، وبذاك طال كتابه وغفل عن أكثر طرق الأجناد، ووصف المدائن الجياد. وأما أبو زيد البلخي فإنه قصد بكتابه «الأمثلة وصورة الأرض» بعدما قسمها على عشرين جزءا، ثم شرح كل مثال واختصر، ولم يذكر الأسباب المفيدة، ولا أوضح الأمور النافعة في التفصيل والترتيب، وترك كثيرا من أمهات المدن فلم يذكرها، وما دون البلدان، ولا وطأ الأعمال، ألا ترى أن صاحب خراسان استدعاه إلى حضرته ليستعين به؟ فلما بلغ جيحون كتب إليه: «إن كنت استدعيتني لما بلغك من صائب رأيي، فإن رأيي يمنعني من عبور هذا النهر»، فلما قرأ كتابه أمره بالخروج إلى بلخ. وأما ابن الفقيه الهمذاني فإنه سلك طريقة أخرى، ولم يذكر إلا المدائن العظمى ولم يرتب الكور والأجناد، وأدخل في كتابه ما لا يليق به من العلوم؛ مرة يزهد في الدنيا، وتارة يرغب فيها، ودفعة يبكي، وحينا يضحك ويلهي. وأما الجاحظ وابن خرداذبة، فإن كتابيهما مختصران جدا، لا يحصل منهما كثير فائدة.»
ثم عاد المؤلف بعد هذا بأسطر إلى تبرئة نفسه من جناية السرقة، فقال (ص6): «لا نذكر شيئا قد سطروه، ولا نشرح أمرا قد أوردوه إلا عند الضرورة، لئلا نبخس حقوقهم لا نسرق من تصانيفهم.»
ومع هذا ترى المقدسي نفسه بعد قوله عن ابن خرداذبة إنه: «مختصر جدا لا يحصل منه كثير فائدة» ينقل عنه كل أقيسة مراحله وتفاصيل أخرى عديدة، دون أن يذكر اسمه، وهو يفعل بابن الفقيه فعله بابن خرداذبة، فيأخذ عنه نصوصا كثيرة، ولا يذكر اسمه أكثر من ثلاث مرات، مع أنه يلومه لإدراجه أشياء عديدة في كتابه لا طائل تحتها.
ومما نأخذه على جغرافيي العرب أنهم لم يكتفوا بوصف بلاد مخصوصة، بل وسعوا نطاق عملهم إلى جغرافية الأرض كلها بأقاليمها، وقد جروا في ذلك جري المؤرخين الذين أرادوا تدوين أخبار العالم كله والممالك جمعاء، فكانت نتيجة هذا العمل أنهم لم يعطوا البلاد حقها من الوصف، وكذا يقال عن بلاد الشام التي لا تشغل في تآليفهم إلا مكانا ضيقا، ولو قصروا النظر إليها وحدها لأدوا حقوقها واستوفوا معانيها، ولعلهم فعلوا ذلك لعلمهم بندرة الكتب؛ لتكون تآليفهم جامعة لشتات التاريخ ولوصف البلدان، ونحن مع إقرارنا بهذه المنفعة نتأسف على قلة من تعمقوا في تعريف بلادنا، ألا ترى مثلا أبا الفداء وموطنه بلاد الشام، لو اجتزأ بوصف بلاده بدلا من وصف كل البلاد لكان كتابه «تقويم البلدان» أجزل نفعا وأكمل وصفا، يحتوي من التفاصيل ما لا يرى في غيره كما فعل الهمداني في «صفة جزيرة العرب».
وقد بقي علينا أن نورد هنا أخص المطبوعات الجغرافية؛ لأننا في المقالات التالية سوف نشير إليها مرات عديدة، فها نحن نذكرها مع بيان خواصها وفضل أصحابها. وقد اكتسب المستشرقون شكر العلماء؛ إذ وجهوا الأنظار إلى أخص النصوص التاريخية والجغرافية فنشروها، وقربوا بنشرها منافعها، وأدنوا مواردها بحيث أمكن المنتقد أن يتبين ما تتضمنه من الفوائد والفرائد.
وكان الشرق حقيقا بأن يؤازر المستشرقين بالعمل، لكن أهل الشرق قد شغلوا عن ذلك بما صرفهم في نشر التآليف الجغرافية القديمة، اللهم إلا القليل منها، وهذه المطبوعات نفسها خالية من النظر الانتقادي، لا ترى فيها شيئا مما يدل على البحث والتنقيب، كالروايات المختلفة والمقابلة مع النصوص المتشابهة والفهارس الواسعة، ولا نستثني من هذا النقد طبعة صبح الأعشى للقلقشندي التي أبرزتها آخرا المطبعة الخديوية، وإن كانت تفضل غيرها من الطبعات الشرقية في هذا الباب، لكن همة المستشرقين قد سدت هذا الخلل فيما نشروه في ألمانية وفرنسة من النصوص الجغرافية.
وبين البلاد التي أصابت السهم الأفوز في نشر التآليف الجغرافية بلاد هولندة، فإن هناك طبع ذلك المجموع الفريد في ثمانية مجلدات، المعروف بمجموع جغرافيي العرب
Bibliotheca geographorum arabicorum ، وقد قام بهذا العمل رجل همام من كبار المستشرقين، أحرز له بذلك مجدا أثيلا، ألا وهو العلامة دي غوي
de Goeje
أحد أساتذة كلية ليدن، وقد أودع هذا المجموع أجل المصنفات، كالمسالك والممالك «للإصطخري» و«لابن حوقل»، والمسالك والممالك «لابن خرداذبة»، ومختصر كتاب البلدان «لابن الفقيه الهمذاني»، وكتاب الأعلاق النفيسة «لابن رستة»، والتنبيه والإشراف «للمسعودي»، وكتاب البلدان «لابن الواضح اليعقوبي»، ومما سعى بطبعه «داود مولر» - من أساتذة فيينة - كتاب صفة جزيرة العرب، ولكل هذه التآليف حواش وتذييلات معتبرة وفهارس واسعة، فضلا عن جداول لغوية للألفاظ الغريبة، والمفردات العويصة التي تفرد بها بعض الكتبة دون البعض، وفي هذه الجداول من الفوائد ما لا ينكر، ومن شأنها أن تساعد على تأليف معجم مطول للغة العربية يكون مبنيا على النصوص القديمة، لا يكتفي فيه صاحبه بنقل القواميس السابقة.
ومن أفضل ما عني المسيو دي غوي بنشره كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» للإمام شمس الدين المقدسي، فإن في هذا الكتاب من المحاسن ما لا تراه في غيره، لا سيما في أحوال الشام على عهده، أي في القرن العاشر، ولذلك قد أحببنا أن نكتب فيه فصلا منفردا.
المقدسي وجغرافية سورية في القرن
العاشر للميلاد
المقدسي من أفضل كتبة الجغرافية بين قدماء العرب، فنتخذه كمثال يوقفنا على ما بلغه أولئك الأئمة من الكمال في هذا الفن، وأخص ما نطلبه منه المعلومات التي أثبتها في كتابه عن سورية وطنه كما عرفها في زمانه، أعني في القرن العاشر للمسيح، وهذا ما حدا بنا إلى إرصاد مقالة خاصة للنظر في تأليفه. ***
المقدسي وتأليفه
ليس المقدسي أول من تولى وصف الشام، لكنه يفوق على من تقدمه بوفرة معلوماته وبحسن أسلوبه، والحق يقال: إنه تحرى في عمله طريقة نظامية تجعل تأليفه في مقام رفيع.
ولد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء نحو (السنة 336ه/947م) في القدس الشريف، فدعي لذلك بالمقدسي، وهو الاسم الذي ندعوه به اختصارا فيما يأتي، وكان جده مهندسا بارعا في الشام، وهو الذي ابتنى ميناء عكا كما أفادنا حفيده؛ إذ قال فيه (ص162 و163): «لم تكن «عكا» على هذه الحصانة حتى زارها ابن طيلون (طولون)، وقد كان رأى صور ومنعتها واستدارة الحائط على ميناها، فأحب أن يتخذ لعكا مثل ذلك المينا، فجمع صناع الكورة وعرض عليهم ذلك، فقالوا: لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان، ثم ذكر له جدنا أبو بكر البناء وقيل: إن كان عند أحد علم هذا فعنده. فكتب إلى صاحبه على بيت المقدس أن ينهضه إليه، فلما صار إليه وذكر له ذلك قال: هذا أمر هين علي بفلق الجميز الغليظة. فصفها على وجه الماء بقدر الحصن البري وخيط بعضها ببعض، وجعل لها بابا من الغرب عظيما، ثم بنى عليها بالحجارة والشيد، وجعل كلما بنى خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء، وجعلت الفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد جلست على الرمل تركها حولا كاملا حتى أخذت قرارها، ثم عاد فبنى من حيث ترك كلما بلغ البناء إلى الحائط القديم داخله فيه وخيطه به، ثم جعل على الباب قنطرة، فالمراكب في كل ليلة تدخل الميناء، وتجر السلسة مثل صور.»
تعاطى «المقدسي» في أول أمره التجارة، وتجشم لذلك أسفارا أعدته للدروس الجغرافية، وكان يشعر في قلبه ميلا عظيما إلى معرفة البلدان، ولم يزل يقوى فيه ميله إلى أن انقطع إلى ذلك الفن بتمامه، فطاف كل بلاد الإسلام - اللهم إلا السند والأندلس، ثم باشر نحو السنة 985 تصنيف كتابه، فبلغه كماله بعد ثلاث سنوات، أما سنة وفاته فلا تزال مجهولة، وكذلك تفاصيل ترجمته لا نعلم منها إلا القليل مما أثبته عن نفسه في مطاوي كتابه، الذي دعاه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم».
ومن البديهي أن الكاتب أحكم القسم المختص ببلاد الشام مسقط رأسه فتوسع فيه، لكن تأليفه كله يستحق الثناء، قال المستشرق غلدميستر
Gildemeister : «إن المقدسي قد امتاز بين بقية أرباب أوصاف البلدان بكثرة ملحوظاته وسعة نظره.»
1
وقال سبرنغر
Sprenger : «ليس من سائح تجول في البلاد كما تجول المقدسي، ولا أحد لحظ ما لحظه أو روى معلوماته مثله بنظام وترتيب.» وكذلك العلامة بربيه دي مينار
B. de Meynard
يعد تأليفه ذا قيمة لا تقدر.
2
وكل هذه الأقوال عين الصواب، أما حسن الأسلوب فله المقام الأول فيه بين وصفائه السابقين، والذين أتوا بعده لم يبلغوا شأوه بل زادوا تقهقرا، ومن تصفح كتاب المقدسي استحسن طريقته في الكتابة، فإنك لا تراه يضيف إلى عمله الإضافات النافلة والاستطرادات الزائدة كما يفعل ابن رستة وابن الفقيه، وكذلك لم يدخل في أوصافه تعداد المراحل أو مبالغ الخراج على طريقة مملة، شأن ابن خرداذبة في تأليفه، هذا فضلا عن حسن نظر وأصالة رأي مع ما يبدي لوطنه من الحب الواجب دون أن يبخس حقوق بقية البلاد.
ومما يستحبه القارئ فوق ذلك في مطالعة تأليف المقدسي حرصه على سياق الأخبار وتنسيق الأوصاف، فترى الأبواب متواصلة على أحسن طريقة وأضبط أسلوب، لا يفارقه همه في النظام وترتيب المواد، على خلاف ما ترى في كتب من تقدمه، مثال ذلك أنه في كلامه عن كورة قنسرين جعل قصبتها حلب، وقد أحس بأن القارئ يعترض عليه في ذلك، فسبق بالرد على اعتراضه بما حرفه (ص156): «فإن قال قائل: لم جعلت قصبة الكورة حلب وههنا مدينة على اسمها؟ قيل له: قد قلنا إن مثل القصبات كالقواد والمدن كالجند، ولا يجوز أن تجعل حلب على جلالتها وحلول السلطان بها وجميع الدواوين إليها وأنطاكية ونفاستها وبالس وعمارتها أجنادا لمدينة خربة صغيرة، فإن قال: هلا استعملت هذا القياس في شيراز؟ فأضفت إليها إصطخر ومدنها؟ قيل: لما وجدنا بإصطخر مدنا أحدقت بها وتباعدت عنها استحسنا ما فعلناه ثم، والاستحسان في علمنا هذا ربما غلب القياس.»
وهي لعمري خطة محمودة أن لا يصف الكاتب إلا ما رآه عيانا، وعليها جرى المقدسي فزاد في اعتبارنا مقاما، وكذلك تراه ينبه القارئ إذا ما احتاج إلى وصف شيء لم يعاينه، مثال ذلك قوله (ص12) عن اليمن: «أما طريق اليمن فلا أكاد أضبط مراحلها كغيرها من الكور، غير أني أذكر ما عرفت وأجمل ما سمعت.»
أما طبعة هذا الكتاب، فحسبنا القول بأن الذي تولى أمرها إنما هو أحد أفاضل المستشرقين، العلامة دي غوي، وكان طبعها أولا سنة 1877، ثم نفدت هذه الطبعة بعد مدة، فاضطر جناب ناشرها إلى إعادة طبعها، فأنجز العمل في السنة المنصرمة، وفي ذلك دليل واضح على إقبال العلماء على هذا الكتاب، وقلما تجد كتابا علميا عربيا يحتاج إلى طبعتين، ومن محاسن هذه الطبعة المستحدثة أن صاحبها أثبت فيها عدة فوائد جديدة استفادها من درسه الخاص ومن ملحوظات العلماء، فجاءت هذه الطبعة الثانية غاية في الحسن سواء كان لضبط المتن،
3
أو لدقة الحواشي التي علقها في ذيل كل صفحة من الكتاب، فيا ليت أدباء الشرق يحذون في طبعهم للتآليف القديمة حذو المستشرقين في طبعاتهم، فيخدموا العلم كما فعل ناشر جغرافية المقدسي.
ولكن دعنا الآن نواصل بحثنا في التأليف الذي نحن بصدده.
بلاد الشام على عهد المقدسي
أول ما افتتح به المقدسي كتابه نظر عمومي في أحوال الشام، وهذه المقدمة حسنة إجمالا، لولا أن المؤلف أفقدها شيئا من فوائدها بزخرف سجعها، والأولى بمثل هذه المقدمات العلمية أن تكتب بسذاجة وكلام بعيد عن كل تصنع؛ لئلا يحيد الفكر عن الجوهر فينصرف إلى الأعراض، لا سيما إذا اتسع الكتبة في السجع وتجاوزوا الحدود كما فعل ابن جبير، فدونك ما كتب المقدسي في وصف الشام (ص151): «(إقليم الشام) جليل الشأن، دار النبيين، ومركز الصالحين، ومعدن البدلاء، ومطلب الفضلاء، به القبلة الأولى، وموضع الحشر والمسرى، والأرض المقدسة، والرباطات الفاضلة، والثغور الجليلة، والجبال الشريفة، ومهاجر إبراهيم وقبره، وديار أيوب وبئره، ومحراب داود وبابه، وعجائب سليمان ومدنه، وتربة إسحاق وأمه، ومولد المسيح ومهده، وقرية طالوت ونهره، ومقتل جالوت وحصنه، وجب أرميا وحبسه ، ومسجد أوريا وبيته، وقبة محمد وبابه، وصخرة موسى، وربوة عيسى، ومحراب زكريا، ومعرك يحيي، ومشاهد الأنبياء ، وقرى أيوب، ومنازل يعقوب، والمسجد الأقصى، وجبل زيتا، ومدينة عكا، ومشهد صديقا، وقبر موسى، ومضجع إبراهيم ومقبرته، ومدينة عسقلان، وعين سلوان، وموضع لقمان، ووادي كنعان، ومدائن لوط وموضع الجنان، ثم به دمشق جنة الدنيا، وصغر البصرة الصغرى، والرملة البهية، وخبزها الحواري، وإيليا الفاضلة بلا لأوى، وحمص المعروفة بالرخص وطيب الهواء، وجبل بصرى وكرومه فلا تنسى، وطبرية الجليلة بالدخل والقرى، ثم البحر يمد على طرفيه، فالحمولات فيه إليه أبدا، وبحر الصين
4
متصل بطرفه الأقصى، له سهل وجبل وإغوار وأشياء، والبادية على تخومه كالزقاق منه إلى تيماء، وبه معادن الرخام وعقاقير كل دواء، ويسار وتجار ولباقة وفقهاء وكتاب وصناع وأطباء.»
فترى من هذا الوصف أن بلاد الشام كانت وقتئذ غنية بمحصولاتها مثرية بتجارتها، تزينها المدن العامرة والدساكر الخصبة، لم تزل بحسن موقعها وعظم شأنها على ما كانت عليه سابقا (اطلب المشرق 10: 109)، فتحفظ مقامها الخطير بين الأقطار، وكانت الشام مشحونة بالديار الواسعة والمنازل العامرة، حتى يكاد الناظر يسهو عنها لكثرتها، قال المقدسي (ص155، راجع أيضا 176): «وفي هذا الإقليم قرى أجل وأكبر من أكثر مدن الجزيرة
5 (مثل داريا وبيت لهيا وكفر سلام وكفر سابا)، غير أنها على رسوم القرى معدودة فيها، وقد قلنا إن عملنا موضوع على التعارف.»
وكان صاحب هذه الأسطر قد ألحق بوصفه للشام خارطة كما فعل بسائر الأقاليم، إلا أن هذه الخارطة لم تنشر بالطبع فلا يسعنا الحكم عليها لنوجه إليه الثناء أو اللوم، كفعلنا بالخوارط التي رسمها كتبة العرب.
وبعد هذه المقدمات ترى المقدسي يستقري كور الشام واحدة واحدة مباشرة من جهة الشمال، وهو يحصيها ستة: قنسرين، ثم حمص، ثم دمشق، ثم الأردن، ثم فلسطين، ثم الشراة، وهذه الكور توافق الخمسة الأجناد التي قسمت إليها بلاد الشام منذ أول الفتح الإسلامي، والكورة الأولى أي قنسرين تنطبق مع ولاية حلب الحالية تقريبا، لكننا لا نفهم كيف استطاع المقدسي (ص154) أن يدخل فيها جوسية الواقعة على مسافة ست ساعات جنوبي شرقي حمص، ولعل النساخ تصرفوا بتقديم بعض الأسطر أو تأخيرها فشوشوا الترتيب، أما كورة الأردن فكانت تشمل في جملة مدنها طبرية وقدس وصور وعكا واللجون وكابل وبيسان وأذرعات، وذلك ما يوافق من أنحائنا الحالية كل متصرفية عكا وقسما من متصرفية نابلس وقائمقامية صور وبعض متصرفية حوران، أما كورة الشراة فإن المقدسي (ص155) قد جعل «قصبتها صغر ومدنها مآب ومعان وتبوك وأذرح وويلة ومدين.» وصغر هذه هي المذكورة في التوراة، كان موقعها جنوبي بحيرة لوط، وقد استولى عليها الخراب منذ زمن طويل وسنعود إلى ذكرها. هذا محصل تقسيم كور الشام كما كانت في القرن العاشر.
وها نحن نستقري كل كورة؛ لنرى ما يقول المقدسي فيها، قال عن حلب (ص155): «وأما حلب، فبلد نفيس خفيف حصين، وفي أهلها ظرف ولهم يسار وعقول، مبني بالحجارة عامر، في وسط البلد قلعة حصينة واسعة فيها ماء وخزائن السلطان، والجامع في البلد، شربهم من نهر قويق يدخل إلى البلد إلى دار سيف الدولة في شباك حديد، والقصبة ليست بكبيرة إلا إن بها مستقر السلطان، لها سبعة أبواب: باب حمص، باب الرقة، باب قنسرين، باب اليهود، باب العراق، باب دار البطيخ، باب أنطاكية، وباب الأربعين مسدود.»
وكانت أنطاكية في أيام المقدسي قد انحطت عن رتبتها السابقة، بعد تقدمها على كل مدن الشام؛ ولذلك يكتفي الكاتب بذكرها دون وصفها، وعلى خلاف ذلك حمص، فإنها كانت نالت نصيبا وافيا من الفخر، قال المقدسي في تعريفها (ص156): «حمص ليس بالشام بلد أكبر منها، وفيها قلعة متعالية عن البلد ترى من خارج، أكثر شربهم من ماء المطر، ولهم أيضا نهر، ولما فتحها المسلمون عمدوا إلى الكنيسة فجعلوا نصفها جامعا، عنده بالسوق قبة على رأسها شبه رجل من نحاس، واقف على سمكة تديرها الأرياح الأربع، وفيه أقاويل لا تصح، والبلد شديد الاختلال متداع إلى الخراب.»
ويلوح من قول المقدسي (ص156) أن تدمر كانت بعد في عهده على حالة من العمران «قريبة من البادية رحبة طيبة»، وهاك وصف دمشق قال (ص156 و157): «دمشق هي مصر
6
الشام ودار الملك أيام بني أمية وثم قصورهم وآثارهم، بنيانهم خشب وطين، وعليها حصن - أحدث وأنا به - من طين، أكثر أسواقها مغطاة، ولهم سوق على طول البلد مكشوف حسن، وهو بلد قد خرقته الأنهار، وأحدقت به الأشجار، وكثرت به الثمار، مع رخص أسعار، وثلج وأضداد، لا ترى أحسن من حماماتها، ولا أعجب من فواراتها، ولا أحزم من أهلها. الذي عرفته من دروبها باب الجابية، باب الصغير، باب الكبير، باب الشرقي، باب توما، باب النهر، باب المحامليين. وهي طيبة جدا، غير أن في هوائها يبوسة وأهلها غاغة، وثمارها تفهة، ولحومها عاسية، ومنازلها ضيقة، وأزقتها غامة، وأخبازها ردية، والمعايش بها ضيقة، تكون نحو نصف فرسخ في مثله في مستوى.»
ثم يردف المقدسي كلامه بوصف الجامع الأموي الشهير «المعدود كإحدى عجائب الدنيا»، ووصفه أقدم ما ورد إلينا في ذلك البناء العظيم، ولولا طوله لأثبتناه هنا، وهو يعرفنا بمحاسن ذلك العمل الجليل ورونقه البهي، قبل أن يصاب ثلاثا بمصاب الحريق، ونحن نكتفي بذكر رواية نقلها المؤلف عن نفسه حيث قال (ص159): «قلت يوما لعمي: يا عم، لم يحسن الوليد
7
حيث أنفق أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو صرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورم الحصون لكان أصوب وأفضل. قال: لا تغفل بني أن الوليد وفق وكشف له عن أمر جليل، وذلك أنه رأى الشام بلد النصارى ورأى لهم فيها بيعا حسنة، قد أفتن زخارفها وانتشر ذكرها، كالقمامة، وبيعة لد والرها، فاتخذ للمسلمين مسجدا أشغلهم به عنهن، وجعله أحد عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيئتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين، فنصب على الصخرة قبة على ما ترى.»
وهو قول جليل يدل على ما بلغه فن البناء والهندسة في بلاد الشام بين أهل الذمة.
أما المدن الساحلية فإنها على ما يظهر كانت قليلة الشأن بالنسبة إلى حمص ودمشق، فإن المقدسي لا يكاد يزيد على ذكر أسمائها، حيث قال (ص160): «صيداء وبيروت مدينتان على الساحل حصينتان، وكذلك طرابلس إلا أنها أجل.» بخلاف بانياس فإنها كانت في ذلك العهد مدينة عامرة واسعة الثروة بما يأتيها من غلال كورة الحولة، التي يدعوها المؤلف «معدن الأقطان» قال (ص160): «ومدينة بانياس على طرف الحولة وحد الجبل أرخى وأرفق من دمشق، وإليها انتقل أكثر أهل الثغور لما أخذت طرسوس، وزادوا فيها وهي كل يوم في زيادة، لهم نهر شديد البرودة يخرج من تحت جبل الثلج، وينبع وسط المدينة، وهي خزانة دمشق رفقة بأهلها بين رساتيق جليلة، غير أن ماءها ردي.»
ومن المدن التي أفاض المؤلف في وصفها طبرية، وكانت إذ ذاك أعظم خطرا منها اليوم. مع انطباق وصفها إجمالا مع وضعها الحالي، قال (ص161): «طبرية قصبة الأردن وبلد وادي كنعان، موضوعة بين الجبل والبحيرة، وهي ضيقة كربة في الصيف مؤذية، طولها نحو من فرسخ بلا عرض، وسوقها من الدرب إلى الدرب، والمقابر على الجبل، بها ثمانية حمامات بلا وقيد ومياض عدة حارة الماء، والجامع في السوق كبير حسن، قد فرش أرضه بالحصى على أساطين حجارة موصولة، ويقال: «أهل طبرية شهرين يرقصون، وشهرين يقمقمون، وشهرين يثاقفون، وشهرين عراة، وشهرين يزمرون، وشهرين يخوضون.» يعني يرقصون من كثرة البراغيث، ويلوكون النبق، ويطردون الزنابير عن اللحم والفواكه بالمذاب، وعراة من شدة الحر، ويمصون قصب السكر، ويخوضون الوحل. وأسفل البحيرة جسر عظيم عليه طريق دمشق وشربهم منها، عليها بما يدور قرى نخيل، والسفن فيها تذهب وتجيء، وماء الحمامات والدواميس إليها، لا يستطيبها الغرباء، كثيرة الأسماك، خفيفة الماء، والجبل مطل على البلد شاهق.»
والجسر الذي يذكره الكاتب ليس هو على ما نظن جسر المجامع الذي يرى اليوم جنوبا، بل يريد جسرا آخر خربا ترى بقاياه عند مخرج الأردن من بحيرة طبرية، وكان أكبر من جسر المجامع وأقرب من طبرية، ويتضح من وصفه أيضا أن الطريق من دمشق إلى طبرية كانت تقطع ذلك الجسر مارة بأفيق سواء، وبينهما بريد واحد (ص190)، وهكذا كانت تسهل المواصلات مع طبرية دون عطفة جسر المجامع، وهذا ما يحملنا على مخالفة رأي المسيو دي غوي الذي ارتأى أن الجسر المذكور هو جسر المجامع (ص161، في الحاشية
h )، ويؤخذ أيضا من كلام المقدسي أن ملاحة بحيرة طبرية كانت ذات بال، وأن الكورة كانت في نمو وعمران، أما اليوم فلا تكاد ترى على بحيرة طبرية سوى قوارب قليلة، والأمل معقود بأن سكة الحديد الحميدية سوف تعيد قريبا إلى هذه المحال حركتها السابقة وتقدمها.
ثم أتبع المؤلف وصفه بذكر بلاد فلسطين، وقد قدمنا فويق هذا تعريف عكا وميناها الخطير، المشابه بحسنه مينا صور الذي وصفه بما يلي (ص163): «وصور مدينة حصينة على البحر، بل فيه، يدخل إليها من باب واحد على جسر واحد، قد أحاط البحر بها، ونصفها الداخل حيطان ثلاثة بلا أرض، تدخل فيه المراكب كل ليلة ثم تجر السلسلة التي ذكرها محمد بن الحسن في كتاب الإكراه، ولهم ماء يدخل في قناة معلقة، وهي مدينة جليلة نفيسة، بها صنائع ولهم خصائص، وبين عكا وصور شبه خليج؛ ولذلك يقال: «عكا حذاء صور إلا أنك تدور.» يعني حول الماء.»
ولم يكن المؤلف لينسى وطنه بيت المقدس، فأفرد له وصفا مطولا يستشف من ورائه حب الكاتب لمسقط رأسه، وأورشليم كانت إذ ذاك كما هي اليوم مدينة معتبرة؛ ولذلك أحببنا أن ننقل قسما من كلامه، وليس شاهد أدل على فضل المقدسي من هذه المنقولات التي نثبتها في كلامنا مع حسن بيانها لأحوال الشام في عصره، قال بعد ذكره للرملة قصبة بلاد فلسطين (165-167): «بيت المقدس ليس في مدائن الكور أكبر منها، وقصبات كثيرة أصغر منها كإصطخر وقابن والفرما، لا شديدة البرد، وليس بها حر، وقلما يقع بها ثلج، وسألني القاضي أبو القاسم ابن قاضي الحرمين عن الهواء بها، فقلت: سجسج لا حر ولا برد شديد. قال: هذا صفة الجنة. بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعف من أهلها، ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، عنبها خطير، وليس لمعتقتها نظير، وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب، وكنت يوما في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بن بهرام بالبصرة، فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت: أي بلد أجل؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيها أطيب؟ قلت: بلدنا؟ قيل: فأيها أفضل؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيها أحسن؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيها أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيها أكبر؟ قلت: بلدنا. فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل: أنت رجل محصل، وقد ادعيت ما لا يقبل منك، وما مثلك إلا كصاحب الناقة مع الحجاج، قلت: أما قولي: «أجل»؛ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة، فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة، فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب الهواء فإنه لا سم لبردها ولا أذى لحرها، وأما الحسن فلا ترى أحسن من بنيانها، ولا أنظف منها ولا أنزه من مسجدها، أما كثرة الخيرات فقد جمع الله - تعالى - فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال، والأشياء المتضادة كالأترج واللوز، والرطب والجوز، والتين والموز، وأما الفضل فلأنها عرصة القيامة، ومنها المحشر وإليها المنشر، فتحوي الفضل كله، وأما الكبر فالخلائق كلهم يحشرون إليها، فأي أرض أوسع منها؟! فاستحسنوا ذلك وأقروا به.»
ويلي فلسطين ذكر الكورة السادسة وهي كورة الشراة، دعيت بذلك باسم جبل الشراة الذي يمر بها، وقد سبق لنا في أحد أعداد المشرق الأخيرة (10: 577) ما اكتشفه في تلك الجهات الدكتور لويس موسيل، وها نحن نثبت هنا نتفا مما جاء في تأليف المقدسي عن بعض بلدانها، قال في وصف صغر التي أشرنا آنفا إلى موقعها جنوبي بحيرة لوط في موقع تنيف حرارته على لظى كل البلاد (ص178): «صغر أهل الكورتين يسمونها صقر. وكتب مقدسي
8
إلى أهله: من صقر السفلى إلى الفردوس الأعلى. وذلك أنه بلد قاتل الغرباء، رديء الماء، ومن أبطأ عليه ملك الموت فليرحل إليها، ولا أعرف في الإسلام لها نظيرا في هذا الباب، ولقد رأينا بلدانا وبية ولكن ليس كهذه، أهلها سودان غلاظ، وماؤها حميم وكأنها جحيم، إلا أنها البصرة الصغرى والمتجر المربح، وهي على البحيرة المقلوبة وبقية مدائن لوط، وإنما نجت لأن أهلها لم يكونوا يعملون الفاحشة، والجبال منها قريبة.»
ودونك ما كتب عن مآب (ص177): «مآب في الجبل كثيرة القرى واللوز والأعناب، قريبة من البادية، ومؤتة من قراها، وثم قبر جعفر الطيار.»
ومؤتة المذكورة هنا موقعها معروف، على بعد نحو أربع ساعات جنوبي الكرك، وهذا دليل على موقع مآب، لكنه غير كاف للحكم البات في ذلك كما سبق لنا القول في المشرق (10: 580). أما الكرك فإن المقدسي لم يرو اسمها ولا دفعة واحدة، بخلاف مآب التي يكرر اسمها ويعدها كمكان ذي شأن، وما أدرانا أن الكرك نفسها كانت تسمى مآب، كما يشعر بذلك اسمها اليوناني القديم، فإن البوزنطيين كانوا يسمونها كركموبا
χαράχμωβα .
وليست مآب وحدها التي باد أثرها في تلك الناحية التي كانت بعد عامرة في أيام المقدسي، ومما ذكره أذرح الشهيرة بمعسكرها الروماني، وفيها جرت حكومة الحكمين من أعظم حوادث الدولة الأموية.
9
وبقيت أذرح في مقامهما الصالح إلى القرن الثاني عشر، وهي اليوم خراب، وقد زرنا بقاياها في شهر آب من السنة 1905 عند رجوعنا من وادي موسى ومدينة بترا التي كان الخراب استولى عليها قبل عهد المؤلف بزمن طويل فلم يتعرض لذكرها. •••
قد تبعنا المقدسي في تعريفه لأعظم مدن الشام الباقية في زمنه طبقا لأوصافها الطبيعية وتقاسيمها النظامية، ولا نشك أن القارئ قدر الكاتب قدره بما نقلنا من نصوصه المتعددة، وهي كما ترى كافية لتجعل له مقاما ممتازا بين أرباب رسوم البلدان، إلا أن للمقدسي فضلا آخر بما ألحقه بهذا القسم، وهو فصل علمي دعاه «بجمل شئون هذا الإقليم»، وأودعه عدة ملحوظات لتعريف جغرافية الشام الطبيعية والاقتصادية والنسبية، وفي هذا الفصل أيضا معلومات أخرى في العادات والنقود والأوزان والمكاييل ومال الخراج على مقتضى عادة كل كورة، وعندنا أن المؤلف يظهر في هذا الفصل من المزايا الفنية وحسن النظر الجغرافي الذي يرقي مقامه بين الكتبة، وله من الملحوظات ما لو كتب في زماننا لنال بسببه الكاتب ثناء، وهو القسم الذي لأجله يطري المستشرقون عمل المقدسي ويعظمونه
10
فمن ذلك ما روينا عنه في تقاسيم بلاد الشام ما يشهد له بثقوب العقل ودقة النظر.
11
والكاتب يفتتح كلامه بوصف أحوال الجو في بلاد الشام كما كان حقيقا به، قال (ص179): «هو إقليم متوسط الهواء إلا أوسطه من الشراة إلى الحولة، فإنه بلد الحر والنيل، والموز والنخيل، وقال لي يوما غسان الحكيم ونحن بأريحا: ترى هذا الوادي؟ قلت: بلى. قال: هو يمتد إلى الحجاز، ثم يخرج إلى اليمامة ثم إلى عمان وهجر، ثم إلى البصرة، ثم إلى بغداد، ثم يصعد إلى ميسرة الموصل إلى الرقة، وهو وادي الحر والنخيل، وأشد هذا الإقليم بردا بعلبك وما حولها، ومن أمثالهم: قيل للبرد: أين نطلبك؟ قال: بالبلقاء، قال: فإن لم نجدك؟ قال: بعلبك بيتي. وهو إقليم مبارك، بلد الرخص والفواكه والصالحين، وكل ما علا منه نحو الروم كان أكثر أنهارا وثمارا وأبرد هواء، وما سفل منه فإنه أفضل وأطيب وألذ ثمارا وأكثر نخيلا ليس فيه
12
نهر يسافر فيه.»
وهذا القول الأخير غاية في الصواب؛ فإن المقدسي لم يكن ليصادق على مذهب أسطرابون ومن حذا حذوه، بأن العاصي يمكن ركوبه على الأقل من أنطاكية. وهو زعم لا صحة له حتى مع حصر الكلام وتخصيصه بهذا القسم الصغير، فإننا قد تحققنا بنفسنا الأمر؛ إذ سرنا في وادي العاصي من أنطاكية فوجدناه لا يصلح لمرور القوارب.
ومن الظواهر الجوية التي ذكرها المقدسي الندى في أنحاء الشام، وخصوصا في بعض جهات فلسطين، فقال (ص186): «ينزل على فلسطين في كل ليلة الندى في الصيف إذا هبت الجنوب حتى يجري منه مزاريب المسجد الأقصى.» ومما رأيناه بالعيان أننا بتنا في دئبان بين الكرك ومادبا في شهر آب سنة 1905 تحت ظل السماء، فلما قمنا صباحا شعرنا بالندى قد بلل أغطيتنا، حتى أمكننا عصرها لو شئنا، ومثل هذا الندى يسقط في الناصرة من عمل الجليل، وفي بزيزا في ناحية الكورة (لبنان). ووفرة الندى كما هو معلوم من البركات التي يستدرها الناس من السماء ، ويعد بها الكتاب الكريم كالغيث والمطر.
وقد أعقب المقدسي ذكر الظواهر الجوية بوصف التجارات أي الغلات الصادرة من الشام، وفي تعداده دليل واضح على تقدم التجارة والصناعة في ذلك العهد كما يشهد على كثرة تلك الصادرات وثمنها
13
وها نحن نورد كلامه لفائدته (ص180-181): «والتجارات به - أي الشام - مفيدة، يرتفع من الفلسطين الزيت والقطين والزبيب والخرنوب والملاحم والصابون والفوط، ومن بيت المقدس الجبن والقطن وزبيب العينوني، والدوري غاية والتفاح، وقضم قريش الذي لا نظير له، والمرايا وقدور القناديل والإبر، ومن أريحا نيل غاية، ومن صغر وبيسان النيل والتمور، ومن عمان الحبوب والخرفان والعسل، ومن طبرية شقاق المطارح والكاغد وبز، ومن قدس الثياب المنيرة والبلعسية والحبال، ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات، ومن مآب قلوب اللوز، ومن بيسان الرز، ومن دمشق المعصور والبلعيسي وديباج ودهن بنفسج دون والصفريات والكاغد والجوز والقطين والزبيب، ومن حلب القطن والثياب والأشنان والمغرة، ومن بعلبك الملابن ولا نظير لقطين وزيت الأنفاق وحواري وميازر الرملة ولا لمعتقة وقضم قريش وعينوني ودوري وترياق وترذوغ وسبح بيت المقدس، واعلم أنه قد اجتمع بكورة فلسطين أربعة وثلاثون شيئا لا يجتمع في غيرها، فالسبع الأولى لا توجد إلا بها، والسبع الثانية غريبة في غيرها، والاثنان والعشرون لا تجتمع إلا بها، وقد يجتمع أكثرها في غيرها، مثل: قضم قريش والمعتقة والعينوني والدوري وأنجاص الكافوري وتين السباعي والدمشقي والقلقاس والجميز والخرنوب العكوب والعناب وقصب السكر والتفاح الشامي والرطب والزيتون والأترج والنيل والراسن والنارنج واللفاح والنيق والجوز واللوز والهليون والموز والسماق والكرنب والكمأة والترمس والطري والثلج ولبن الجواميس والشهد وعنب العاصمي والتين التمري.»
وكذلك عدد المعادن الشامية، وتعداده مهم لشئون الصناعة في زمانه، قال (ص184): «به - أي إقليم الشام - معادن حديد في جبال بيروت، وبحلب مغرة جيدة، وبعمان دونها، وبه جبال حمر يسمى ترابها الصمغة، وهو تراب رخو، وجبال بيض تسمى الحوارة، فيه أدنى صلابة يبيض به السقوف، ويطين به السطوح، وبفلسطين مقاطع حجارة بيض ومعدن للرخام ببيت جبريل، وبالأغوار معادن كبريت وغيره، ويرتفع من البحيرة المقلوبة ملح منثور وخير العسل ما رعى السعتر بإيليا وجبل عاملة، وأجود المري ما عمل بأريحا.»
وهذا التعداد يدل كما ترى على فقر بلاد الشام بالمعادن كما أشرنا إليه غير مرة،
14
وللمقدسي أسطر قليلة كتبها في مجاري المياه والعيون في بلاد الشام تفيد معرفتها محبي الأسفار، قال (ص184): «ومياه هذا الإقليم جيدة، إلا ماء بانياس، فإنه يطلق، وماء صور يحصر، وماء بيسان ثقيل، وماء الرملة مري، وماء نابلس خشن، وفي ماء دمشق وإيليا أدنى خشونة، وفي الهواء أدنى يبوسة.»
ولم يسه المؤلف عن ذكر حمامات طبرية المعدنية وحمامات الحمة،
15
قال (ص185): «وبطبرية عين تغلي تعم أكثر حمامات البلد، وقد شق إلى كل حمام منها نهر، فبخاره يحمي البيوت، فلا يحتاج إلى وقيد، وفي البيت الأول ماء بارد يمزج مقدار ما يتطهرون به، ومطاهرهم من ذلك الماء، وفي هذه الكورة ماء مسخن يسمى الحمة حار، من اغتسل فيه ثلاثة أيام ثم أغتسل في ماء آخر بارد وبه جرب أو قروح أو ناسور أو أي علة تكون برأ بإذن الله.»
ومن غريب ما رواه (ص184) في مجاري الأنهار، قوله عن بردى عند خروجه من دمشق، فزعم «أنه ينقسم قسمين، بعض يتبخر نحو البادية وبعض ينحدر فيلقى نهر الأردن»، وبديهي أن نهر بردى ليس هو مطلقا من سواعد الأردن. ومن مزاعمه أيضا (ص184) أن في بحيرة لوط جبالا. وهو رأي تفرد به المقدسي ولا أصل له، وكذلك يسمي بحر القلزم «بحر الصين» ويطلق الاسم عينة على خليج العجم، وفي قوله دليل على اتساع تجارة الصين في زمانه، وشيوعها في مدن بحر القلزم الساحلية، أما الجبال فقد وصفها المقدسي وصفا خفيفا غير واف بالمرام، ومما قال في لبنان (ص188) إنه «كثير الأشجار والثمار المباحة»، ثم ذكر عباده ويلوح من قوله فيه أن جنوب هذا الجبل لم يكن مأهولا على عهده.
فيرى القراء من هذه التفاصيل سبب إعجاب المستشرقين بتأليف المقدسي، فيا ليته كان وجد له أخلافا مثله ذوي عقل ثاقب يفقهون الأبحاث الجغرافية، فكان هذا العلم أصاب ترقيا عظيما، إلا أن أغلب الكتبة الذين جاءوا بعده كانوا دونه، اللهم إلا الشريف الإدريسي.
ومما استفاده القارئ أيضا من هذا البحث كما نظن أنه يرى ما طرأ على بلاد الشام من التقلبات، واختلاف الأحوال في أطوار التاريخ فمنها ما يزيد وينمو، ومنها ما ينقص ويتقهقر على حسب كوارث الدهر، وهذا يلوح من درس كل الكتبة الجغرافيين من العرب، فإنهم وإن لم يبلغوا شأو المقدسي، إلا أنهم تركوا لنا معلومات ثمينة تؤدي بنا إلى معرفة بلادنا في قرون شتى، مع ما جرى فيها من الماجريات في نظامها وتقاسيمها وتجارتها وبقية أمورها، مما يستفيد منه المؤرخ لاستطلاع أحوال البلاد، وإدراك الحوادث الجارية فيها جيلا بعد آخر.
بلاد سورية في القرن الثاني عشر
وفقا لرواية ابن جبير
تعريف رحلة ابن جبير
في السنة الهجرية 578 الموافقة لسنة الميلاد 1184 - أعني سنتين قبل فتح السلطان صلاح الدين للقدس الشريف - حضر من الأندلس رحالة مسلم ليزور بلاد الشام. وكان السائح المومأ إليه يدعى بأبي الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني،
1
كان تقلد في بلاد المغرب والأندلس المناصب الشريفة وتقلب في الأعمال المنيفة، فلما عاد إلى وطنه دون أخبار سفره إلى الشرق،
2
وهذه خلاصة رحلته: ركب ابن جبير البحر في سبتة مقلعا إلى الإسكندرية على مركب للجنويين، فمر على جزيرة سردانية فصقلية فجزيرة أقريطش، وبلغ الإسكندرية بعد 30 يوما، ثم طاف الصعيد، ومال إلى عيذاب، فقطع بحر القلزم إلى جدة، وسار منها إلى مكة، فأتم فريضة الحج، ثم زار المدينة، ورحل منها إلى العراق برا، فوصل إلى الكوفة ومنها إلى بغداد، ثم كر راجعا إلى المغرب، فمر بالموصل وبلاد الجزيرة إلى أن بلغ منبج، فدخل سورية وزار أولا حلب، ثم وادي العاصي، ثم دمشق وصور وعكا، ومنها أبحر إلى الأندلس على إحدى المراكب الجنوية.
ولا نتعقب آثار المؤلف في كل رحلته بل نكتفي بما كتبه عن سورية التي عليها مدار كلامنا، ووصفه لها يشغل في الكتاب نحو70 صفحة، ونحن نقصر درسنا على هذا القسم فقط، فنبين خواصه وفرائده، وقد صرفنا إليه نظرنا بعد المقدسي؛ لأن بين الكاتبين بونا عظيما في كلامهما عن سورية، لا يكاد يجمعهما غير وحدة الموضوع، وكان الأول كما سبق القول وطنيا، وكان ابن جبير أجنبيا غريبا، كتب المقدسي بصفة جغرافي مدقق ، أما ابن جبير فإنه يكتب كتابة الرحالة الذي يدون كل يوم ملحوظاته في محفظته، كما أثرت فيه وعملت في قلبه، وقد اختلف أيضا الكاتبان في أسلوبهما وغايتهما؛ ولذلك تجد تعريفهما لبلاد الشام متباينا وبينهما نحو القرنين، فإن المقدسي يقصد قبل كل من كتابته الإفادة والتعليم، أما ابن جبير فإنه يتوخى من كتابته بهجة القراء وترويح ألبابهم، وكذلك تجد الأول كثير التدقيق محبا للضبط والإيجاز، على خلاف الثاني الذي يطلق العنان إلى قلمه فلا يحصر نفسه في قالب أو يقضي عليها بخطة معلومة، فتراه يمزج تفاصيل رحلته بما يعاينه ويسمعه، وربما أدمج وصفة بالأخبار والماجريات التي جرت إبان رحلته أو نقلها عن الرواة، كما فعل بذكر صلاح الدين (ص300-301)، فإنه يروي عنه أمورا بلغته عن ذلك الملك العظيم الذي كان يحاصر حينئذ حصن الأكراد.
وكلا الكاتبين يدعي مع ذلك أنه لا يروي غير ما شهده بالعيان على أن المقدسي يشمل في وصفه كل أنحاء سورية، بينما يقتصر ابن جبير على ذكر الأمكنة التي احتلها في سفرته، وإن كانت تلك الأمكنة ليست قليلة؛ لأن الرحالة تفقد معظم مدن سورية الشهيرة في زمانه، اللهم إلا جهات فلسطين، وربما زاد في أوصافه لمدن الشام أمورا وفوائد جغرافية فاتت المقدسي، أو ضرب عنها صفحا.
ومما نبهنا إليه الخواطر في كتاب المقدسي فانتقدناه عليه استعماله أحيانا للسجع في أوصافه، لكن المقدسي في ذلك لا يتجاوز حدود كتبة زمانه، ولا يبالغ كثيرا، أما ابن جبير فإن السجع يغلب على إنشاءه فيواصله في صفحات متتالية، ومن المعلوم أن السجع يؤدي بصاحبه إلى حشو الكلام، وإلى استعمال الغريب وإلى التصنع، فيبتعد الكاتب عن طرائق الكتابة الساذجة المألوفة، ويبدلها بالمعاني المستغلقة والتعابير المستبهمة، وكان السجع قليلا في عهد الجاهلية وفي قرون الإسلام الأولى، ثم تكاثر بانحطاط فنون الكتابة، وما نقوله بالإجمال يصح في سجع ابن جبير، ألا ترى مثلا كيف وصف مدينة حلب بما يشنف إذن السامع دون أن يجديه نفعا كبيرا في معرفتها، قال (ص250): «بلدة قدرها خطير، وذكرها في كل زمان يطير، خطا بها من ملوك كثير، ومحلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح، وسلت عليها من بيض الصفاح، لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تسطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة.»
إلى آخر ما هناك من الكلام المسجع (اطلب نخب الملح 3: 90) الذي ليس تحته كبير أمر. ومثله في وصف بساتين دمشق (ص260): «ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيى النفس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم: هلموا إلى معرس للحسن ومقيل، قد سئمت أرضها كثرة الماء، حتى اشتاقت إلى الظماء. فتكاد تناديك الصم الصلاب: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر.»
ومما يستحبه القارئ في مطالعة رحلة ابن جبير، كما في أخبار الأسفار عموما، أن كاتبها يشير إلى خواطر نفسه، ويترجم عن أحواله الشخصية وشواعره لدى معاينته الآثار والبلاد، فمثال ذلك أنه إذا رأى بلدا في الشام تذكر نظيره في الأندلس، وقاس ذاك بهذا لما يجد فيهما من الشبه، كما فعل بحمص التي ذكرته إشبيلية، قال (258): «وتجد في هذه البلدة عند إطلالك عليها من بعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها بعض شبه بمدينة إشبيلية من بلاد الأندلس يقع للحين في نفسك خياله، وبهذا الاسم سميت في القديم، وهي العلة التي أوجبت نزول الأعراب أهل حمص فيها حسبما يذكر، وهذا التشبيه وإن لم يكن بذاته فإنه لمحة من إحدى جهاته.»
وله قول كهذا في قنسرين وهو يعارضها بجيان الأندلس (ص254): «وتشبهها من البلاد الأندلسية جيان؛ ولذلك يذكر أن أهل قنسرين عند استفتاح الأندلس نزلوا جيان تأنسا بشبه الوطن وتعللا به، مثل ما فعل في أكثر بلادها حسب ما هو معروف.»
3
هذا وإن في إنشاء ابن جبير تعابير وألفاظا تفرد بها تشعر بأصله المغربي، وفي النصوص التي نثبتها عنه دليل على ذلك.
ومهما كان الأمر من محاسن ابن جبير ونقائصه، فإنه لمقرر أن هذا الكاتب أحد أرباب القلم، يعتبره المستشرقون اعتبارا عظيما، قال العلامة رورخت في كتابه المعنون مكتبة جغرافيي فلسطين:
4 «إن رحلة ابن جبير غاية في الخطر لمعرفة بلاد الشام.»
وقد أدرجت جمعية الكتابات والفنون في باريس قسما كبيرا من هذه الرحلة في مجموع مؤرخي الحروب الصليبية الشرقيين،
5
لما أودع الكتاب من الفوائد التاريخية عن الأمور الجارية في زمانه، وقال الأستاذ سكيابارلي في مقدمة ترجمة ابن جبير إنه «إذا قوبل بينه وبين غيره من رحالي العرب كالمقدسي وابن بطوطة وغيرهما لا يوجد ابن جبير دون أحد منهم في شيء من حيث الضبط والدقة وحسن الأسلوب وخطر الأمور المدونة.» هذا ما قاله سكيابارلي، وحكمه صواب، وإن كنا نرى أن المقدسي أعلى طبقة من ابن جبير، لكننا نقدر أيضا ابن جبير قدره، كما أقر بفضله ابن بطوطة وغيره ممن استشهدوا به ونقلوا عنه.
ومما أفادنا ابن جبير تعريفه لأحوال أهل الشام ووصفه لعاداتهم كما لحظها في تجوله بينهم، فدون ملحوظاته فيها، وبما أنه كان غريبا تجده يتسع في بيان أمور لا ينصرف إليه نظر أهلها، ولولاه لجهلناها تماما، فمن ذلك عدة أشياء ذكرها في دمشق قد أخنى عليها الزمان منذ زمن طويل كالبنكام الذي رآه هناك (ص269-270)، وكقبة النسر التي وصف خصائصها (ص293) واستغرب حجارتها فقال: «وفي الجدار حجارة كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة، ولا تنقلها الفيلة فضلا عن غيرها، فالعجب كل العجب من تطليعها إلى ذلك الموضع المفرط السمو، وكيف تمكنت القدرة البشرية، فسبحان من ألهم عباده إلى هذه الصنائع العجيبة، ومعينهم على التأتي لما ليس موجودا في طبائعهم البشرية، ومظهر آياته على يد من يشاء.»
فليت شعري ما عساه كان قال ابن جبير لو رأى حجارة بعلبك أو عاين هيكلها العجيب، إلا أن مسيره لم يؤد به إلى تلك المدينة.
6
سورية وابن جبير
رأيت في الفصل السابق الطريقة التي توخاها ابن جبير في تسطير رحلته وما ضمنها من الفوائد، فبقي علينا أن نرافقه في سياحته في بلاد الشام، فنلتقط بصحبته بعض المعلومات عن سورية في مختتم القرن الثاني عشر، ولا غرو، فإن دليلنا فكه النفس متوقد الذهن، فيبهج رفقته ويفيدهم معا.
بعد أن اجتاز ابن جبير بلاد الجزيرة قطع الفرات، فكان أول ما لقيه في وجهه من بلاد الشام منبج، فأحس السائح بجواد قلمه يركض، فاسترسل في وصفها بالسجع كمألوف عادته (ص248)، ولم يذكر من خواصها إلا النزر القليل مما لا يشفى به العليل ولا يروي الغليل، ثم سار من منبج إلى حلب فوصفها وصفا طويلا، روينا شيئا من ألفاظه المبهرجة، وألحق هذا الوصف باشتقاق اسم حلب فقال (ص251): «كانت قديما في الزمان الأول ربوة يأوي إليها إبراهيم الخليل بغنيمات له فيحلبها هنالك ويتصدق بلبنها، فلذلك سميت حلب، والله أعلم.»
وهذا الاشتقاق في الغرابة بمكان، ذكره ياقوت في معجم البلدان (2 : 304) مرتابا في صحته، وقد زاد عليه ابن بطوطة ما هو أغرب، فجعل بدلا من الغنم بقرة شهباء قال: فكان إذا حلبها إبراهيم قيل: «حلب إبراهيم الشهباء»، وليس في كل هذه الاشتقاقات كما ترى ذرة من الصحة، وإنما هي مشابهات لفظية لا طائل تحتها، ومثلها إشارة ابن جبير إلى اشتقاق اسم حماة من حمى يحمي (ص255).
ومن ملحوظات ابن جبير في مسيره من حلب إلى دمشق (ص254) أن «خانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة، وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في الغاية»، وكفى بهذا دليلا ناطقا على أحوال بلاد الشام في عهده، وقد كرر الرحالة مثل هذا القول غير مرة؛ اطلب مثلا قوله في خان السلطان (ص259).
ثم يذكر ابن جبير في طريقه من حلب إلى حماة «جبل لبنان» على حسب عادة الأقدمين الذين كانوا يطلقون هذا الاسم ليس فقط على لبنان الحالي، بل أيضا على جبال النصيرية الواقعة في شماله،
7
وجعل في سفح هذا الجبل (ص255) «الملاحدة الإسماعيلية»، وذكر شيئا من بدعتهم، أما لبنان الحالي فقد عرفه ابن جبير بما حرفه (ص287): «وهذا الجبل من أخصب بلاد الدنيا، فيه أنواع الفواكه، وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة.»
وأضاف إلى قوله ما يؤيد قول المقدسي في العباد المنقطعين إلى الله في لبنان فقال: «وقلما يخلو من التبتيل والزهادة.»
ثم مر ابن جبير في رستن (ص257)، فأشار إلى آثارها العظيمة، وتخريبها على يد عمر بن الخطاب، ثم قال: «ويذكر القسطنطينيون أن بها أموالا مكنوزة، والله أعلم.» وقوله هذا صدى لمزاعم العامة في كل زمان عن المطالب والدفائن المكنوزة في الأخربة القديمة، وهو شائع في أنحاء سورية إلى عهدنا هذا، وربما صدقة الجهال فأخربوا بسببه عدة آثار جليلة حطموها طمعا فيما تحتها من الكنوز المرصودة على زعمهم.
ومما أثنى عليه في حمص محاسن بساتينها وطيب هوائها. وذكر قبر خالد بن الوليد، ثم قبر ابنه عبد الرحمن الذي أشبه أباه بجليل أعماله، وأضاف إليهما قبر عبيد الله
8
بن عمر الذي قتل في صفين. ويؤخذ من قول ابن جبير أن جثة عبيد الله نقلت إلى حمص بعد موته، وكانت حمص على عهد ابن جبير فقدت كثيرا من محاسنها، كما لحظ الكاتب حيث قال (ص258): «وأسوار هذه المدينة في غاية العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود، وأبوابها أبواب حديد سامية الأشراف، هائلة المنظر، رائعة الأطلال والإنافة تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة، وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء، خلقة الأرجاء، ملفقة البناء، لا إشراق لآفاقها، ولا رونق لأسواقها، كاسدة لا عهد لها بنفاقها.»
ثم واصل المسافر سيره من حمص إلى دمشق، وكانت الطريق بينهما قليلة العمران كما في أيامنا، اللهم إلا ثلاثا أو أربع قرى التي أحتلها كقارة التي لم يجد فيها غير النصارى (ص259) والنبك، وبعد اجتيازه في خان السلطان، فثنية العقاب، فقصير دخل الفيحاء، فأطلق العنان لقلمه في وصفها، وقد أتسع في ذكر محاسنها وأطنب أي أطناب، ولولا مبالغته في السجع لقلنا إن كلامه من أوفى ما جاء في بيان صفاتها، لا نستثني من ذلك إلا بعض الكتب الخاصة التي وضعت في فضائل دمشق، ودونك ما روى عن بعض أبنيتها، قال (ص283): «وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة وبها مارستانان، قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارا، وله قومة بأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى، والنفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم، والمارستان الآخر على هذا الاسم، لكن الاحتفال في الجديد أكثر، وهذا القديم هو غربي الجامع المكرم، وللمجانين المعتقلين أيضا ضرب من العلاج، وهم في سلاسل موثقون نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر.»
وفي كتاب زبدة كشف الممالك (ص65) ما يشبه هذا الوصف في مارستانات دمشق.
ومما يجدر بنا ذكره الميقاتة، أي الساعة الدقاقة، التي كانت على باب جيرون، أثبت المشرق سابقا (3 : 985) كلامه فيها، وهي من عجائب ذلك الزمان.
ولولا ضيق المكان لأثبتنا شيئا مما ذكره ابن جبير عن الجامع الكبير، الذي اتسع في وصف أرخامه الملونة وبلاطه المذهب المنقوش بالفصوص البديعة، وكانت الفسيفساء تزين جدرانه الخارجة، المتصلة بصحنه (ص268)، فكانت أشعة الشمس تصيبها وتنعكس إلى كل لون منها، فيأخذ منظره بالأبصار.
ومما يزيد به انذهال القارئ وصف ابن جبير لمساجد أخرى عجيبة البنيان، بديعة النقوش والأرخام، وجدها في قرى الغوطة فأفاض في محاسنها.
ثم تابع ابن جبير مسيره من دمشق إلى عكا (ص298-310) مارا بدارية، ثم بانياس ثم وادي تبنين، بين حصني هونين وتبنين، حتى بلغ ساحل الشام، ووصفه لطريقه غاية في الظرافة والاعتبار، يصور أحوال ذلك الزمان تصويرا بهيا، ويمثل للعيان ما كان يجري في أنحاء الشام من الأمور الخطيرة، وكان ابن جبير في صحبة قفل من التجار يسيرون بأمان في بلاد العدو لاتفاق لطيف جرى بين الفريقين ترويجا لسوق التجارة ولطفا بالعباد.
9
وهذا لعمري دليل على ترقي التمدن في ذلك العهد، وفيه عبرة لأهل زماننا الذين لم يتمكنوا من صيانة حقوق التجارة في وقت الحرب، رغما عما أقاموه من مؤتمرات السلم.
ولابن جبير كلام حسن في وصف صور، نثبته هنا ليتمكن القارئ من المقابلة بينه وبين وصف المقدسي (راجع الصفحة 690)، قال (ص304): «أما حصانتها ومنعتها فأعجب ما يحدث به، وذلك إنها راجعة إلى بابين: أحدهما في البر والآخر في البحر، وهو يحيط بها إلا من جهة واحدة، فالذي في البر يفضي إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب، وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعا منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب، ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص، فالسفن تدخل تحت السور وترسي فيها، وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها، وعلى ذلك حراس وأمناء، لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم، فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوقع، ولعكا مثلها في الوضع والصفة، لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وإنما ترسي خارجها، والمراكب الصغار تدخل إليها، فالصورية أكبر وأجمل وأحفل.»
وبقي ابن جبير في عكا حتى أقلعت منها سفينة جنوية عادت به إلى المغرب، وكان الركاب ألفين، وليس هذا العدد مفرطا، ونحن نعلم أن بعض السفن الحربية كانت تحمل 1200 جندي، ما عدا الخيل، ومنها ما كان يركبها الزوار في عدد 1500،
10
وبين القوانين التي وضعت للبحريين في ذلك العهد أنه لا يسوغ أن يتجاوز هذا العدد الأخير،
11
ومن المعلوم أن سفن ذلك الزمان كانت شراعية لا يمكنها السفر إلا في فصول محدودة، وقد نبه ابن جبير إلى هذا الأمر بقوله (ص311): «وفي مهب الريح بهذه الجهات سر عجيب، وذلك أن الريح الشرقية لا تهب فيها إلا في فصلي الربيع والخريف، والسفر لا يكون إلا فيهما، والتجار لا ينزلون إلى عكا بالبضائع إلا في هذين الفصلين في السفر ونصف الفصل الربيعي من أبريل، وفيه تتحرك الريح الشرقية وتطول مدتها إلى آخر شهر مايه وأكثر وأقل، بحسب ما يقضي الله تعالى به، والسفر في الفصل الخريفي من نصف أكتوبر، وفيه تتحرك الريح الشرقية، ومدتها أقصر من المدة الربيعية، وإنما هي خلسة من الزمان قد تكون خمسة عشر يوما وما سوى ذلك من الزمان، فالرياح فيه تختلف، والريح الغربية أكثرها دواما، فالمسافرون إلى المغرب وإلى صقلية وإلى بلاد الروم ينتظرون هذه الريح الشرقية في هذين الفصلين انتظار وعد سابق، فسبحان المبدع في حكمته المعجز في قدرته لا إله سواه.»
وكانت حياة الركاب على تلك السفن الكبيرة ذات حركة وتقلبات كأنها المدن الصغرى، تمثل كل أطوار المعيشة اليومية، ومما أثبته ابن جبير في رحلته وصف عيد أقامه النصارى على ظهر السفينة بأبهة عظيمة ورونق عجيب، قال (ص313): «وفي ليلة الخميس الرابع والعشرين لرجب - وهو أول يوم من نونير (كذا) العجمي - كان للنصارى عيد مذكور عندهم احتفلوا له في إسراج الشمع، وكاد لا يخلو أحد منهم - صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى - من شمعة في يده، وتقدم قسيسوهم للصلاة في المركب بهم، ثم قاموا واحدا واحدا لوعظهم وتذكيرهم بشرائع دينهم، والمركب يزهر كله أعلاه وأسفله سرجا متقدة، وتمادينا على تلك الحالة أكثر تلك الليلة.»
وكان المركب في تلك الأثناء ابتعد عن سواحل الشام، واقترب من جزيرة صقلية، فلا حاجة أن نتعقب آثار سائحنا بعد ذلك، وإنما ندون هنا بعض الملحوظات العمومية التي تستفاد من رحلة ابن جبير بخصوص الشام، ومن أقواله ما يفيد ويروح الألباب معا.
فمن ذلك أنه يستعمل أسماء الشهور القمرية والرومية معا، كما رأيت في النص الأخير، ومنها ما لحظه في أهل الشام من المبالغة في اتخاذ الألقاب، والتعظيم في السلام بما لا أثر له اليوم، قال (ص288): «ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد، وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، وإذا لقي أحد منهم آخر مسلما يقول جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة، كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطيا، والجد عندهم عنقاء مغرب، وصفة سلامهم إيماء للركوع أو السجود، فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض، وربما طالت بهم الحالة في ذلك فواحد ينحط وآخر يقوم، وعمائمهم تهوي بينهم هويا، وهذه الحالة في الانعطاف الركوعي في السلام كنا عهدناه لقينات النساء، فيا للعجب منهم إذا تعاملوا بهذه المعاملة، وانتهوا إلى هذه الغاية في الألفاظ بينهم! فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم؟ لقد تساوت الأذناب عندهم والرءوس، ولم يميز لديهم الرئيس والمرءوس ...»
وقد أثنى في محل آخر على احتفاء أهل الشام بالضيوف، وحسن معاملتهم للغريب، فقال (ص278): «فالغريب المحتاج هنا إذا كان على طريقة مصون محفوظ غير مريق ماء الوجه، وسائر الغرباء ممن ليس على هذه الحال ممن عهد الخدمة والمهنة، يسبب له أيضا أسباب غريبة من الخدمة، إما بستان يكون ناطورا فيه، أو حمام يكون عينا على خدمته وحافظا لأثواب داخلية، أو طاحونة يكون أمينا عليها، أو كفالة صبيان يؤديهم إلى محاضرهم ويصرفهم إلى منازلهم، إلى غير ذلك من الوجوه الواسعة.»
ومن ثم يدعو أهل وطنه ليأتوا بلاد الشام؛ لينتجعوا خيراتها العميمة، قال (285): «فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد، ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المعينات كثيرة، فأولها: فراغ البال من أمر المعيشة، وهو أكبر الأعوان وأهمها، فإذا كانت الهمة فقد وجد السبيل إلى الاجتهاد، ولا عذر للمقصر إلا من يدين بالعجز والتسويف؛ فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل أيها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والانفراد قبل علق الأهل والأولاد، ويقرع سن الندم على زمن التضييع، والله يوفق ويرشد، لا إله سواه ... ولو لم يكن بهذه الجهات المشرقية كلها إلا مبادرة أهلها لإكرام الغرباء وإيثار الفقراء، ولا سيما أهل باديتها، فإنك تجد من بدار إلى بر الضيف عجبا، كفى بذلك شرفا لها، وربما يعرض أحدهم كسرته على فقير فيتوقف عن قبولها، فيبكي الرجل ويقول: لو علم الله في خيرا لأكل الفقير طعامي، لهم في ذلك سر شريف.»
وفي كل هذه الأقوال ما يدل على اعتبار ابن جبير لأهل الشام وارتياحه لسجاياهم الطيبة. •••
كفى بهذه الأمثلة شاهدا على اقتدار المؤلف وخواص كتابه وحسن نظره بالأمور، وهذا ما حمل كثيرين على نقله إلى اللغات الأوروبية بتمامه، أو بأقسام منه ومن ذلك ترجمة كاملة إيطالية نشرها في العام المنصرم العلامة سكيابارلي.
12
وقد تصفحنا هذه الترجمة فوجدناها بالإجمال مضبوطة، جامعة بين الأمانة وحسن الذوق، وقد توصل المترجم إلى أن يزيل اللبس والشبهات عن عدة مواضع كان مسخها النساخ، فتحقق روايتها الأصلية وأخرج معناها الصحيح، بيد أننا كنا وددنا لو ذيل جناب الناقل ترجمته بحواش أوفر وملحوظات أوسع، وقد وقع مع ذلك في هذه الترجمة بعض أغلاط منها (ص250)، أنه لم يفرق بين الواقعة التي جرت في جوار حمص وقصير المجاورة لدمشق، ومن ثم ليس «النهر الجاري أمامها» نهر العاصي كما ظن، وقد كرر هذا الغلط في محل آخر (ص400)، وكذلك وهم (ص387) بزعمه أن باب الجابية في دمشق معناه باب الحوض، وإنما دعي بهذا الاسم؛ لأنه كان بابا يؤدي إلى الجابية، وهي حاضرة بني غسان، إلا أن هذه الأغلاط لا تمس في شيء قدر هذه الترجمة التي تولى عملها، كما أنه جمع في مقدمته من الإفادات في تعريف المؤلف ما لم يبلغه أحد قبله، هذا فضلا عن الفهارس التي ألحقها بالكتاب، فنثني إذن الثناء الطيب على الترجمة الإيطالية الحديثة، التي قربت منافع ذلك التأليف الذي يستحق درسا خصوصيا لكثرة مضامينه، ولتأثيره في الكتبة التابعين.
هذا وكنا في وشك الانتهاء من كلامنا على ابن جبير؛ إذ بلغتنا الطبعة الثانية من كتاب رحلته التي تولاها ذلك المستشرق الهمام السيد دي غوي
de Goeje
صاحب المطبوعات الشرقية المتعددة،
13
وحسبك باسمه دليلا على مزايا هذه الطبعة، التي تفوق الطبعة الأولى مع ضبطها، ومن محاسن هذه الطبعة الجديدة أن جناب ولي العمل أثبت الإصلاحات التي تركها الطابع الأول المسيو «ريت»، وأضاف إليها تنقيحات جديدة.
وقد أبدى المسيو «دي غوي» أسفه على عدم حصوله على نسخة ثانية من الرحلة، أشار إليها المسيو سكيابارلي، وذكر وجودها في مراكش، والحق يقال: إن هذه الرحلة لا يعرف لها حتى الآن نسخة فريدة، فلو أمكنت مقابلتها على نسخة ثانية لاستطيع تحسينها وزيادة ضبطها، وعلى كل حال نهنئ الدكتور دي غوي ونشكره على هذه الخدمة الجديدة التي ألحقها بخدمه السابقة للآداب العربية، لا سيما للآثار الجغرافية، جازاه الله ألف خير، ونفع به أهل وطننا الذين يجدون في مطبوعاته معلومات لا تحصى عن بلاد الشام في غابر الأعصار.
صفحة غير معروفة