يقول: إن هذه النسوة يمصصن من فمي مصات لميلهن إلي. هن: يعني الرشفات. في فمي أحلى من حلاوة التوحيد في قلب الموحد، وهو المقر بوحدانية الله تعالى! وهذا أحد ما نسب المتنبي لأجله إلى الكفر؛ حيث جعل الترشف أحلى من التوحيد! وروى: هن فيه حلاوة التوحيد يعني: للترشف في الفم حلاوة التوحيد. وهذا أخف من الأول. وقيل: إنه المعشوق بعاشقه، أي قوله: أنت واحدى؛ عند إقباله على وصاله، من دون أن يعرف غيره، فلهذا أحلى ما يكون للعاشق إذا كان معشوقه لا يعرف سواه، ولا يقول إلا به، وإذا فعل ذلك فقد وحده، فكأنه يقول: هن في الفم أحلى من هذا التوحيد.
كل خمصانةٍ أرق من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجلمود
الخمصانة: الدقيقة الخاصرة. والجلمود: الصخر الصلب. روى: أرق في موضع الجر صفة لخمصانة، وبالرفع صفة لكل.
يقول: كل واحدة من هذه المترشفات وهي: كل ضامرة البطن أرق بشرةً من الخمر، بقلبٍ أشد قساوة وصلابة من الصخر. شبه رقة بشرتها بالخمر، وقساوة قلبها بالحجر، وجعله أقسى منه: أي أقسى من الحجر الصلب.
ذات فرع كأنما ضرب العن ... بر فيه بماء وردٍ وعود
أي: كل خمصانة ذات فرع، كأنما خلط فيه العنبر بماء الورد والعود، طيبًا ورائحة؛ وإنما كان ذلك خلقة، فلهذا قال: كأنما.
حالكٍ كالغداف جثل دجوجي ... ى أثيثٍ جعدٍ بلا تجعيد
الحالك: الشديد السواد. والغداف: الغراب الأسود. والجثل: الشعر الكثير. والدجوجى: الشديد السواد أيضًا. والأثيث: الكثيف الملتف.
والتجعيد: يجعل جعدًا بتكلف.
يقول: هي ذات فرع أسود بهذه الصفة.
تحمل المسك عن غدائرها الري ... ح وتفتر عن شتيتٍ برود
الهاء في غدائرها للمرأة، وروى: من غدائره. أي: من غدائر الفرع والغدائر: هي الضفائر، واحدها غديرة، والريح: فاعلة تحمل والشتيت: صفة الأسنان، وهو المفلج، والبرود أيضًا.
يقول: إنها مع استغنائها عن الطيب، تستعمل الطيب الكثير، بحيث تحمل الريح عن غدائرها المسك. وتفتر: أي تضحك عن ثغر مفلج فيه ماء بارد، أو يبرد حرارة الكبد! وهو الريق المتحلب من بين الأسنان، وقيل: هو من البرد النازل من السماء، فوصف أسنانها بأنها مفلجة، وبأن ريقها بارد؛ لبياضه ونقائه وبرده إذا مص.
جمعت بين جسم أحمد والسقم ... وبين الجفون والتسهيد
أراد بأحمد: نفسه.
يقول: إن هذه المرأة جمعت بين جسمي، وبين السقم! وبين جفوني والتسهيد فبعدت عني الصحة والنوم.
هذه مهجتي لديك لحيني ... فانقصي من عذابها أو فزيدي
المهجة: النفس. والحين: الهلاك.
يقول: هذه نفسي عندك مسلمةً إليك للهلاك! فانقضى من عذابها، أو فزيدي في عذابها فحكمك نافذٌ فيها، وأخذه من قوله تعالى حكاية عن عيسى ﵇: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
أهل ما بي من الضنى بطلٌ صي ... د بتصفيف طرةٍ وبجيد
الضنى: طول المرض والضعف وتصفيف الطرة: تسويتها من الصف وأهل: مرفوع لأنه خبر الابتداء، والابتداء: بطل. متأخر عن الخبر كأنه يقول: بطل صيد بتصفيف طرة أهل مابي.
ومعناه: إنني بطلٌ صيد؛ ومع ذلك أهلٌ لما بي، مستحق لطول المرض، وهذه الإشارات إلى شجاعة نفسه، وإنه مع ذلك قد صيد، بتصفيف طرة وبجيد. ويجوز أن يكون أهل مبتدأ، وبطلٌ خبره. ويجوز أن يكون أهل خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: أنا أهل ما بي من الضنى؛ ثم بين العلة فقال: لأني بطل صيد بتصفيف طرةٍ وبجيد.
كل شيءٍ من الدماء حرامٌ ... شربه ما خلا دم العنقود
يقول: جميع الدماء حرام شربها، ما خلا دم العنقود: الذي هو الخمر. ثم أخذ في ذكر الخمر استسقاءً لها فقال:
فاسقنيها فدىً لعينيك نفسي ... من غزالٍ وطارفي وتليدي
يقول: اسقني هذه الخمرة فدىً لعينيك نفسي، وما اكتسبته من مالٍ، وما ورثته من آبائي وجعل المخاطب غزالًا بقوله: من غزال. فكأنه قال: من بين الغزلان ومن: هنا للتخصيص.
شيب رأسي وذلتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي
يقول: أربعة أشياء شاهدات لي على هواك. وهي: الشيب؛ لحلوله قبل أوانه، ونزوله في غير زمانه. وذلي في هواك، ونحول جسمي، وانسكاب دموعي، والله تعالى أمر في القضاء بالشاهدين ولي أربعة شهود وهذا مثل قول القائل:
1 / 16