ولكن قبل أن أبدأ في قصتي، دعني أكون لك فكرة عن جغرافية الأرض.
ويجدر بي هنا أن ألاحظ أن أعظم الممالك خطرا في التاريخ كانت من أصغرها مساحة؛ فبريطانيا لا تعد مملكة واسعة رغما عن تاريخها المجيد، وفلسطين التي أسدت للعالم أيادي لم تسدها أمة أخرى كان يطلق عليها الأرض الصغيرة، ثم تلا فلسطين في هذه المرتبة بلاد الإغريق، وما هي إلا زاوية جبلية في جنوب أوروبا، ومصر أيضا أرض صغيرة.
ربما خيل إليك وأنت تراها على الخريطة أنها كبيرة المساحة، ولكن ينبغي أن تتذكر أن معظم الأرض التي تقرأ عليها «مصر» صحراء أو تلال صخرية، حيث لا يقدر الإنسان على الحياة. أما مصر الحقيقية فهي شريط رفيع على جانبي النيل، وفي بعض الأحيان يكون امتداده ميلا أو ميلين داخل الرمال التي يخترقها النيل، ولا يزيد على ثلاثين ميلا في أي جهة من النهر (إذا استثنينا الجزء الشمالي منه، المسمى الدلتا). وقد شبه بعضهم وادي النيل بزنبق ذي ساق ملتوية، وقد صدق في تشبيهه؛ فالنيل هو الساق الملتوية، والدلتا هي الزهرة، وتحت الزهرة مباشرة توجد برعمة صغيرة؛ واد خصب هو الفيوم. وفي عهد مضى - قبل أن يبدأ تاريخ مصر نفسه - لم يكن للزنبق زهرة .
فقد كان النيل أوسع بكثير مما هو عليه الآن، وكان يصب في البحر بقرب القاهرة - العاصمة الحديثة لمصر - ولم تكن الأرض إلا ذلك الوادي الضيق المحدود من الجانبين بتلال الصحراء.
ولكن على مرور الأيام قرنا بعد قرن، حفر النيل مجراه، فزاد عمقه، وغارت المياه وانخفضت تبعا لذلك، تاركة أرضا خصبة بين المجرى الجديد والتلال، أما الطين الذي حملته المياه، فقد كان يرسب عند المصب حتى كون الدلتا كما هي الآن تقريبا.
كانت مصر كذلك قبل أن يبدأ التاريخ؛ فلما ابتدأ التاريخ كانت الدلتا أرض مستنقعات؛ لأنها كانت حديثة التكوين في مكان البحر، قبل أن يطرد النيل بطينه مياهه.
وكان سكان الوادي يحتقرون الناس الذين يعيشون بين المستنقعات، وحتى بعد أن تم تكوين الدلتا، لم تكن مساحة المملكة كلها لتعادل مساحة ويلز مرتين، ومع ذلك كان يعمرها عدد عظيم من السكان - عظيم بالنسبة لمساحتها - وكان يبلغ - على أكثر تقدير - قدر سكان لندن مرتين.
قال مؤرخ إغريقي قديم: «مصر هبة النيل» وهذا صحيح.
لقد رأينا كيف أن النيل كونها باختراقه طريقا بين التلال، وبتكوينه الدلتا، وهو لم يخلقها فقط، بل هو يحفظ لها حياة مستديمة.
ولقد كانت مصر - كما هي الآن - من أخصب البلدان أرضا، ومن ميزاتها أن ينمو بها أغلب المزروعات، فهي تنتج أجود أنواع القمح والخضراوات والقطن.
صفحة غير معروفة