1 - أرض ذات شهرة قديمة
2 - يوم في طيبة
3 - يوم في طيبة
4 - فرعون في القصر
5 - حياة الجندي
6 - حياة الطفل
7 - بعض الأساطير
8 - بعض الأساطير
9 - استكشاف السودان
10 - رحلة استكشافية
11 - الكتب المصرية
12 - المعابد والقبور
13 - قدماء المصريين والسماء
1 - أرض ذات شهرة قديمة
2 - يوم في طيبة
3 - يوم في طيبة
4 - فرعون في القصر
5 - حياة الجندي
6 - حياة الطفل
7 - بعض الأساطير
8 - بعض الأساطير
9 - استكشاف السودان
10 - رحلة استكشافية
11 - الكتب المصرية
12 - المعابد والقبور
13 - قدماء المصريين والسماء
مصر القديمة
مصر القديمة
تأليف
جيمس بيكي
ترجمة
نجيب محفوظ
الفصل الأول
أرض ذات شهرة قديمة
لو سألنا سائل عن أعظم أمم الأرض حفولا بغرائب التاريخ؛ لذكر سوادنا فلسطين؛ ليس ذلك لوجود شيء غريب فيها، ولكن للحوادث العظيمة التي مثلت على أرضها. وفوق ذلك فقد كانت موطن نبينا.
وبعد فلسطين تأتي مرتبة مصر، وفيها تمت سلسلة القصص التي بدأت على أرض فلسطين والمذكورة في العهد القديم؛ ذلك العهد الذي يخبرنا عن يوسف الصبي الرقيق الذي صار نائب ملك مصر، وعن موسى الطفل الإسرائيلي الذي صار أميرا في عائلة فرعون، ثم كان بطل قصة خروج بني إسرائيل من مصر. وفضلا عن ذلك؛ فمصر لها تاريخها الخاص بها، ترويه آثارها إلى اليوم ثم إلى غد وبعد غد، فلم يقم لها بين أمم الأرض القديمة نظير له ما لها من الملوك العظام والرجال العقلاء والجنود الشجعان، ولا يجد إنسان في مملكة غيرها آثارا ومخلفات لها نصف ما للآثار المصرية من الروعة والجلال.
إن لنا بعض المباني القديمة - وهي الحصون والكنائس - التي يرجع وقت تشييدها إلى خمسمائة أو ستمائة عام، وربما أكثر. وكم يتكبد الناس من مشقات السفر ليشاهدوها.
في مصر، تعد أمثال هذه المباني من الآثار الحديثة العهد، ولا يكاد يحفل برؤيتها إنسان، ويمكن أن تتصور ذلك إذا علمت أن المعابد العظيمة والمقابر الهائلة الموجودة الآن في مصر شيدت قبل أن يبدأ الكتاب المقدس بمئات السنين.
ولأضرب لك مثلا بالهرم العظيم الذي لا يزال أعجوبة الدنيا، فهو لم يشيد قبل أي بناء قائم الآن في أوروبا بآلاف السنين فقط ، وإنما شيد قبل أن يباع يوسف ويصير رقيقا في منزل يوتيفار. وآلاف الأعوام قبل أن يسمع إنسان بالإغريق والرومان، كان يحكم مصر ملوك عظام، يرسلون بجيوشهم لتغزو سوريا والسودان، ويبعثون سفنهم لتستكشف البحار الجنوبية. وكان حكماء المصريين يضعون الكتب التي نقرؤها الآن.
وفي الوقت الذي كانت بريطانيا جزيرة مجهولة مسكونة بالمتوحشين والهمج - كأنهم لتوحشهم وهمجيتهم سكان جزر البحار الجنوبية - كانت مصر أمة متمدينة كثيرة المدن العظيمة، عديدة المعابد والهياكل والقصور، وكان سكانها من أعقل الرجال وأعظمهم علما. وقد قصدت - في هذا الكتاب الصغير - أن أروي لك نتفا من تاريخ هذه الأمة العجيبة، وأبين لك نوع الحياة التي كان يحياها الناس في تلك الأيام الغابرة، قبل أن تبدأ الأمم الأخرى في الاستيقاظ، وقبل أن يكون لها تاريخ.
ولكن قبل أن أبدأ في قصتي، دعني أكون لك فكرة عن جغرافية الأرض.
ويجدر بي هنا أن ألاحظ أن أعظم الممالك خطرا في التاريخ كانت من أصغرها مساحة؛ فبريطانيا لا تعد مملكة واسعة رغما عن تاريخها المجيد، وفلسطين التي أسدت للعالم أيادي لم تسدها أمة أخرى كان يطلق عليها الأرض الصغيرة، ثم تلا فلسطين في هذه المرتبة بلاد الإغريق، وما هي إلا زاوية جبلية في جنوب أوروبا، ومصر أيضا أرض صغيرة.
ربما خيل إليك وأنت تراها على الخريطة أنها كبيرة المساحة، ولكن ينبغي أن تتذكر أن معظم الأرض التي تقرأ عليها «مصر» صحراء أو تلال صخرية، حيث لا يقدر الإنسان على الحياة. أما مصر الحقيقية فهي شريط رفيع على جانبي النيل، وفي بعض الأحيان يكون امتداده ميلا أو ميلين داخل الرمال التي يخترقها النيل، ولا يزيد على ثلاثين ميلا في أي جهة من النهر (إذا استثنينا الجزء الشمالي منه، المسمى الدلتا). وقد شبه بعضهم وادي النيل بزنبق ذي ساق ملتوية، وقد صدق في تشبيهه؛ فالنيل هو الساق الملتوية، والدلتا هي الزهرة، وتحت الزهرة مباشرة توجد برعمة صغيرة؛ واد خصب هو الفيوم. وفي عهد مضى - قبل أن يبدأ تاريخ مصر نفسه - لم يكن للزنبق زهرة .
فقد كان النيل أوسع بكثير مما هو عليه الآن، وكان يصب في البحر بقرب القاهرة - العاصمة الحديثة لمصر - ولم تكن الأرض إلا ذلك الوادي الضيق المحدود من الجانبين بتلال الصحراء.
ولكن على مرور الأيام قرنا بعد قرن، حفر النيل مجراه، فزاد عمقه، وغارت المياه وانخفضت تبعا لذلك، تاركة أرضا خصبة بين المجرى الجديد والتلال، أما الطين الذي حملته المياه، فقد كان يرسب عند المصب حتى كون الدلتا كما هي الآن تقريبا.
كانت مصر كذلك قبل أن يبدأ التاريخ؛ فلما ابتدأ التاريخ كانت الدلتا أرض مستنقعات؛ لأنها كانت حديثة التكوين في مكان البحر، قبل أن يطرد النيل بطينه مياهه.
وكان سكان الوادي يحتقرون الناس الذين يعيشون بين المستنقعات، وحتى بعد أن تم تكوين الدلتا، لم تكن مساحة المملكة كلها لتعادل مساحة ويلز مرتين، ومع ذلك كان يعمرها عدد عظيم من السكان - عظيم بالنسبة لمساحتها - وكان يبلغ - على أكثر تقدير - قدر سكان لندن مرتين.
قال مؤرخ إغريقي قديم: «مصر هبة النيل» وهذا صحيح.
لقد رأينا كيف أن النيل كونها باختراقه طريقا بين التلال، وبتكوينه الدلتا، وهو لم يخلقها فقط، بل هو يحفظ لها حياة مستديمة.
ولقد كانت مصر - كما هي الآن - من أخصب البلدان أرضا، ومن ميزاتها أن ينمو بها أغلب المزروعات، فهي تنتج أجود أنواع القمح والخضراوات والقطن.
ولما كانت روما عاصمة العالم، كانت تستورد ما تحتاجه من الحبوب من مصر، بواسطة سفن الإسكندرية الشهيرة، وأنت تذكر ما يروي الإنجيل عن إخوة يوسف، الذين أتوا مصر من فلسطين - التي اجتاحتها المجاعة - ليشتروا من قمح مصر.
ومع هذه الخصوبة، فالمطر غير معروف في مصر؛ نعم قد تمطر السماء في أحايين قصيرة من عام طويل لا تسقط فيه من السماء قطرة!
كيف يتيسر لأرض لا تمطرها السماء أن ينمو بها أجود أنواع النباتات؟ سر ذلك النيل؛ ففي كل عام إذا سقطت المياه في أواسط إفريقيا وعلى جبال الحبشة ازداد النيل ارتفاعا، وحملت الأمواج إليه طينا كثيرا، وفي هذه الحال تغمر المياه الأراضي، ثم تتركها بعد أن يرسب فيها الطين. ولما كانت المياه لا تصل إلى الأراضي المرتفعة؛ فإنه يوصل بها ترع، ثم تقسم هذه الترع إلى قنوات صغيرة حتى تتخلل جميع الأراضي، وتسير فيها المياه كما يسير الدم في الأوردة والشرايين. وقد نتج عن هذا النظام أن زادت خصوبة الأرض، وارتوت منها جميع الجهات، فعوضت بذلك ما يمكن أن تكسبه الأمطار من المياه في الأراضي التي تسقط فيها.
ولولا نهر النيل، لكانت مصر قطعة من الصحراء ليس فيها ما يميزها عن بقية أجزائها، وليس من شيء في حياة مصر يسترعي الانتباه إلا تاريخها العظيم؛ ذلك التاريخ القديم الذي وسم القطر بميسم سحري جعلها مصدر جاذبية لجميع الناس. وكذلك آثارها المجيدة؛ ولهذا لا توجد أمة -غير مصر - تشاهد فيها السكان الأصليين ومظاهر الحضارة القديمة كما كانت في بدء تاريخها.
هنا تستطيع أن تشاهد معابد الآلهة القديمة وهياكلها، والقبور الهائلة التي لم ترها عين إنسان، بل تشاهد السيوف والحراب والخوذ التي كان يحارب بها الملوك والجند والشجعان - لأجل وطنهم - قبل أن يشترك داود في حروب بني إسرائيل بآلاف السنين.
ومن الصور المختلفة على جدران المعابد والقبور، أمكننا أن نعرف كيف كان هؤلاء الناس يعيشون في تلك الأيام الماضية، وكيف كانت تبنى بيوتهم، وكيف كانوا يكسبون ويعملون، وكيف يلهون ويقصفون، وكيف يعبرون عن هم دفين في وقت الأسى والحزن، ثم كيف يعبدون آلهتهم. تراهم في هذه الصور وهم يقومون بهذه الأعمال كلها، بل تستطيع أن تعرف ما كان يغرم به الأطفال من أنواع اللهو واللعب، وتعرف اللعب والعرائس الجميلة التي كانوا يلعبون بها، وتستطيع أن تقرأ القصص التي كانت ترويها الأمهات والمربيات لأطفالهن.
كل هذا مما يجعل لمصر جاذبية خاصة، وسحرا خياليا بديعا. وما قصدت إليه هنا هو أن أصور لك بعض نواحي هذه الحياة، لتستطيع أن تكون لنفسك صورة في مخيلتك عن الحياة في هذه الأيام.
الفصل الثاني
يوم في طيبة
لو أراد غريب أن يكون لنفسه فكرة صحيحة على حالتنا الحاضرة، والدرجة التي بلغها من الحضارة والرقي، فأول مكان يخطر له أن يقصده ليشاهده هو لندن؛ لأنها عاصمة المملكة ومدينتها العظمى.
وعلى هذا القياس، لو أردنا أن نستقي أخبارا صحيحة عن الحياة المصرية القديمة، وكيفية طرق المعيشة فيها وأحوال الناس ووسائل معيشتهم، ينبغي لنا أن نذهب إلى عاصمتها، ثم نمعن النظر فيما عساه أن يقع تحت بصرنا.
وعلى ذلك، افرض أننا لم نعد من سكان بريطانيا، وأننا لسنا من أبناء القرن العشرين، بل أننا رجعنا إلى الماضي البعيد، وأننا من أحياء سنة 1300 قبل الميلاد، أي قبل أيام المسيح، وقبل عهد موسى أيضا. •••
وصلنا من «صور» في سفينة فرعونية محملة بأنواع مختلفة من الملابس والأقمشة، وأوعية من برنز ونحاس، على أمل بيعها في أسواق طيبة، أعظم مدينة في مصر.
لقد رست السفينة على شاطئ البحر، على مقربة من مصب النيل، بعد أن كنا هالكين - لا محالة - في عاصفة هائلة لم ننج منها إلا بعد جهد جهيد.
وكان معنا على السفينة دليل مصري، وقد وقف على منحنى السفينة يصيح بأعلى صوته؛ ليعين الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه السفينة، وكان مديرا المجدافين الكبيرين الملصقين بجانبي السفينة عند مؤخرها- يوجهان السفينة تبعا لتعاليمه.
وكانت الريح الشمالية تهب بقوة وعنف، وتدفع السفينة بقوة، حتى سارت بسرعة رغما من أمواج النيل الثقيلة التي تسير في اتجاه مضاد لنا، تبعا لانحدار النهر صوب البحر.
ولذلك فقد ترك العمال المجاديف بعد أن انتهكت قواهم، وسرنا جهة الجنوب بعد أن أطلقنا الشراع في الهواء. وكنا نرى على جانبي النيل أراضي واسعة؛ بعضها سهل لين، تنمو بها نباتات مختلفة، والبعض تكتنفه المستنقعات التي تنمو على حافاتها نباتات شيطانية.
وكلما تقدمت بنا السفينة صوب الجنوب كانت السهول الزراعية تضيق شيئا فشيئا، وكنا قد شارفنا على مؤخر الدلتا، بل أخذنا نسير في وادي النيل.
ولقد مررنا على مدينة عظيمة تناطح معابدها العالية السماء الزرقاء، وعلى ساريات المعابد تتموج الرايات، والمسلات منتثرة هنا وهناك. وقد أخبرنا دليلنا بأن هذه المدينة هي ممفيس - وهي من أقدم مدن مصر - وكانت عاصمتها يوما من الأيام. وعلى مقربة من ممفيس شاهدنا الأهرامات الثلاثة تظهر كأنها جبال عالية، وقد علمنا من دليلنا بأن كل هذه الكتل الحجرية - التي لا مثيل لها في الضخامة والعظمة - هي مقابر الملوك الأقدمين، وأن ما يحيط بها من أهرامات - أصغر حجما وأقل خطرا - هي مقابر بعض أمراء وعظماء الدولة.
ولما لم تكن ممفيس هي الغرض من رحلتنا، فقد واصلنا السير صوب الجنوب، وانقضت عدة أيام والسفينة تمخر بنا عباب الماء دون انقطاع.
ولقد مررنا بمدن كثيرة، وقد استوقف نظرنا من بينها مدينة متهدمة خربة، لم نر من آثارها إلا أكوام الحجارة والتراب، ولقد قال لنا الدليل: إن تلك الخرائب كانت مدينة من أجمل مدن القطر، بل وكانت عاصمة لأحد الملوك، غير أنه آمن بآلهة جديدة، وحاول أن ينشر ديانته الحديثة، فعمد إلى الآلهة القديمة، وهدمها وخرب معابدها، ليمحو آثارها ويبعد عن الأذهان اسمها.
وأخيرا - بعد سفر طويل - لاحت لنا عن بعد أبنية عظيمة على شاطئ النيل، ثم تبين لنا أنها مدينة عظيمة، لم نر لها نظيرا فيما رأيناه من مدن الأرض.
ولما اقتربت السفينة من المدينة، ميزنا أمامنا مدينتين في الواقع؛ فعلى الشاطئ الشرقي للنيل تقوم مدينة الأحياء؛ بأسوارها المرتفعة، وأبراجها العالية، ومعابدها العظيمة، وصفوف منازلها التي لا يرى لها أول ولا آخر، من قصور النبلاء إلى أكواخ الفقراء.
أما على الشاطئ الغربي فتقع مدينة الأموات، ولم يكن بها قصور ولا شوارع، وكان السكون يخيم عليها، والهدوء يشملها، ولا يستطيع الناظر إليها إلا أن يشعر بالخشوع والحزن والكآبة.
ولقد رأينا فيها تلالا ممتدة، بها فتحات كثيرة متراصة، تظهر كخلايا النحل؛ هذه هي قبور طيبة، حيث يرقد أمواتها من سنين لا عداد لها.
وفي المكان الفسيح الممتد ما بين النيل والتلال الغربية توجد هياكل متتابعة يخيل للناظر أن ليس لها حصر، وبعض هذه الهياكل متين الجدران، سليم البنيان، عظيم الحجم، والبعض الآخر واهي الأساس، متهدم الجدران، لم يبق منه إلا أثر ضئيل.
وكانت إذا سقطت أشعة الشمس عليها، انعكست مرسلة في الجو أسلاكا من ذهب، وقرمزا يبهر العين.
أخذت سفينتنا تقترب من الشاطئ لترسو هنالك؛ وبذلك تكون قد انتهت رحلتنا.
ولقد أتى نحوها في الحال ضباط الجمرك المصري في قوارب ليفتشوا أمتعتنا، وليجمعوا منا ما يجب دفعه عليها. ولقد جلسنا نراقبهم بجذل وسرور؛ لأن مظهرهم كان غريبا عنا كل الغرابة، فهم يختلفون عن ملاحينا ذوي اللحى المرسلة والمعاطف ذات الألوان الكثيرة، إذ يحلق المصريون لحاهم وشعورهم، وبعضهم يضع على رأسه شعرا مستعارا، ويطلقونه مسترسلا حتى الأعناق، ولا ريب أنهم يتكبدون تعبا جما في تنسيقه وتمشيطه، وسواهم يرتدي ملابس من الكتان قصيرة «أشبه برداء الجند السكسونيين».
أما رئيس الضباط فيرتدي معطفا أبيض جميلا فوق ردائه السكسوني، وحول وسطه منطقة ذهبية لها أهداب طويلة تكاد تلامس ركبتيه، وفي يده اليمنى عصا طويلة، لا يتأخر عن إلهاب ظهر أحد أتباعه بها إذا قصر في تأدية واجباته.
وبعد مناقشة بيننا وبينه، أعطيناه المبلغ المطلوب، وصرنا بذلك أحرارا في أن نتوجه إلى أي ناحية من أنحاء المدينة.
ولم نتعمق داخل المدينة مسافة قصيرة حتى تجلى لنا ما كانت عليه من العظمة، ومما وصل إلى آذاننا علمنا أنها في حركة دائمة تدل على الحياة والنشاط.
ولكنا سمعنا ضوضاء داوية آتية من الشارع الضيق الذي يساير النيل، ورأينا - بعد برهة - جماعة من العمال تصخب وتصرخ وتتدافع بعنف في شكل مظاهرة، ويتقدمهم شخص ظهر لنا - من حالته التي كان يرثى لها - أنه يجري فارا من العمال، وأنه يخشى على نفسه منهم أن يصيبوه بسوء. وكان العمال في حالة مزرية؛ عرايا الأجسام إلا مما يستر عوراتهم، والظاهر أن الجوع عضهم، فثاروا وأضربوا عن عملهم، ولم يجدوا أمامهم من يصبون عليه جام غضبهم إلا هذا الرجل العجوز، الذي يجري أمامهم محاولا النجاة بحياته.
واتجه الرجل العجوز نحو قصر جميل تحيط به حديقة غناء ذات أسوار ضخمة، ولما يئس العمال من اللحاق به رموه بالحجارة، فأصابه بعضها، وتفجرت الدماء من عدة أجزاء من جسمه، ولكنه - رغما عن ذلك - جرى بقوة نحو باب القصر، وهمس في أذن البواب بضع كلمات، ثم دخل إلى الحديقة، ثم أغلق الباب في وجه المطاردين، الذين اضطروا للوقوف، وقد أخذ الغضب منهم كل مأخذ، وأخذوا يهزون قبضاتهم في الهواء مهددين مزمجرين.
وبعد فوات مدة قصيرة فتح الباب، وخرج منه رجل جميل الطلعة بادي النعمة والجاه، يتبعه ستة من العبيد مدججين بالسلاح.
هذا الرجل هو الأمير باسر، الذي يهيمن على مصلحة العمل في حكومة طيبة. أما العمال فكانوا بنائين يقومون بعمل فوض إليهم في مقبرة طيبة.
سأل الأمير العمال عما جعلهم يحدثون هذا الشغب ويطاردون سكرتيره.
وقد رد كل واحد منهم بما شاء على هذا السؤال، فحدثت ضجة، ولم يفهم الأمير كلمة واحدة، فأنابوا عنهم واحدا يتكلم بلسانهم، وقد ابتدأ الرجل الكلام في تلعثم واضطراب، ولكن لم يلبث أن زال عنه ما ألجم لسانه من الخوف، وبلغ الأمير الشكوى.
قال إنه وزملاءه يشتغلون منذ أسابيع، ولم يأخذوا أجرا مقابل أتعابهم، حتى القمح والزيت اللذان هما حق لكل عامل من عمال الحكومة.
وعليه، فقد قصدوا سيدهم يضرعون إليه أن يصرف لهم جرايتهم، فإن كانت المخازن خاوية فليرفع شكواهم لفرعون. إننا مسوقون إلى هنا بدافع الجوع والظمأ، ولا نملك ملابس ولا زيتا ولا طعاما، فاكتب لفرعون يرسل لنا ما تقوم به حياتنا.
ولما أتم الرجل كلامه وافق الجميع على أقواله، وتماوجوا هنا وهنالك في حالة وعيد وتهديد، وهنا وعدهم الأمير بأنه سوف يرسل إليهم خمسين كيسا من القمح في مكان عملهم، وطلب منهم أن يئوبوا من حيث أتوا، وأن يستأنفوا عملهم، ويكفوا عن مطاردة سكرتيره، وإلا فهو لا يستطيع أن يصنع لهم شيئا.
وترددوا مدة؛ لأنهم منوا قبل ذلك بالوعود التي لم يوف واحد منها، ولكن لما كانوا ينقصهم زعيم ماهر ليقود العصيان، ولما لم يكن معهم سلاح يدافعون به عن أنفسهم، وقد كانت رماح العبيد تظهر مخيفة في أيديهم؛ فقد آبوا من حيث أتوا متذمرين ساخطين، أما الأمير فقد دخل القصر وهو يهز كتفيه، وأما إرسال الأكياس أو عدم إرسالها، فهذا شيء آخر.
فالإضراب - كما نرى - لم يكن مجهولا في تلك الأيام.
الفصل الثالث
يوم في طيبة
بعد أن مر أمامنا منظر إضراب العمال وعودتهم إلى عملهم ثانيا، واصلنا سيرنا إلى قلب المدينة، ولقد لاحظنا أن شوارعها ضيقة، وتتقابل المنازل من فوق الرءوس هنا وهنالك؛ فكان يحدث أننا نسير تحت منازل متصلة، كمن يسير في سرداب مظلم، وبعض المنازل عظيم الاتساع شاهق الارتفاع، ولكن مظاهرها الخارجية - على العموم - غير جميلة.
فقد يكون داخل المنزل جميلا فاخرا، تكتنفه الحدائق الغناء الحافلة بجميع أنواع الأزهار والأشجار، وفي وسطه بركة بديعة، وغرفه مؤثثة بأفخر الرياش، مزينة بأجمل الستائر، ولكن أسواره الخارجية سوداء، ولها باب ضخم عظيم.
ثم مررنا بأحياء مكدسة بالأكواخ الحقيرة، مزدحمة بالمارين، حتى إنه صعب على المار أن يشق طريقا لنفسه! هذه هي أحياء العمال، ولا تذهب في أي جهة منها إلا وتشعر بالحرارة المرتفعة، وتشم الروائح الكريهة التي لا تطاق. وكم عجبت؛ كيف يستطيع إنسان أن يعيش في أمثال هذه الأماكن؟!
وبعد أن قطعنا شوطا كبيرا، انتهى بنا المسير إلى ميدان فسيح، وهو سوق من أسواق المدينة، والعمل هنالك في حركة دائبة، والحوانيت عبارة عن خيم أو مظلات متوسطة الاتساع ومفتوحة من الجهة الأمامية، وترى البضائع موضوعة في الداخل والخارج، بينما يجلس صاحب الحانوت القرفصاء متأهبا للبيع والحساب، ويلفت إليه الأنظار بصوته العالي وهو يشيد بجودة بضاعته ورخص ثمنها.
وكان الناس - وهم من جميع الطبقات والأجناس - يذهبون ويجيئون دون أن ينقطع لهم تيار؛ فإن أمثال هذه الأسواق كانت تجذب إليها الناس من جميع أنحاء القطر وأطراف العالم القديم.
فأهل المدينة يأتون ليشتروا حوائج منزلية، وليتبادلوا الأخبار المختلفة، والفلاحون يبادلون ما يحملونه من قطعان الحقول ومحصولاتها بالبضائع التي لا توجد إلا في المدن، ويجيء كثير من السيدات النبيلات - يتبعهن الخدم - لينتقوا من بين المعروضات ما يروقهن من الجلابيب المزخرفة والصنادل الجميلة.
وكنا نرى غير ذلك كثيرا من الغرباء، وقد رأينا حيثيا من قادش وحوله مظهر خاص به يميزه عما سواه؛ يضع على رأسه غطاء عالي القمة، وبشرته صفراء، وحذاؤه ثقيل، ويسير ملتفتا حواليه وعيناه تبرقان بحب الاستطلاع والجشع، كأنه يعتقد أن طيبة خير مدينة للنهب والسلب. وشاهدنا كاهنا من الطبقة العليا، يسير برأسه المحلوق لافا حول كتفيه جلد نمر، ممسكا بيده درجا من درج البردي، ويتبعه سرديني يسير متغطرسا، وقد انعكست أشعة الشمس على قرني خوذته، وتمايل السيف المعلق بجانبه، وليبي من رماة القوس يتبعه بقوسه، ويلفت الأنظار إليه بريشتيه المعلقتين في غطاء رأسه.
وكان الجميع منهمكين في البيع والشراء والمبادلة. والنقود التي نستعملها الآن كانت مجهولة في تلك الأيام، ولهذا كانت المبادلة أساس المعاملة التجارية.
وكثيرا ما كانت المناقشة تحتد والأصوات تعلو إذا ما اختلف على عدد السمكات - مثلا - التي يصح أن تبادل بفراش، أو على عدد أكياس البصل التي تقدم في مقابل مقعد فخم، وهكذا. ولما كان المصري - بطبعه - ميالا للمساومة ماهرا فيها، فقد كانت ضوضاء الكلام لا تنخفض أبدا، وكثيرا ما كان يخرج بعض التجار عن العادة المتبعة في المبادلة، فيبادلون بالخواتم النحاسية والفضية والذهبية بدلا من البضائع. فإذا أراد فلاح أن يبيع ثورا يقدم له التجار نظيره تسعين خاتما نحاسيا، ولكن الفلاح يشكو قلة الثمن، ويصرح بأن مثل هذه المبادلة تعد سرقة، وبعد مشادة طويلة يرفع التاجر عدد الخواتم إلى أحد عشر فوق المائة، فيتم الاتفاق بذلك؛ ولكي يتحقق الفلاح بأنه لم يخدع يعمد لوزن الخواتم، ويأتي بميزان كبير، ويضع الخواتم في كفة، ويضع في الكفة الأخرى أثقالا (على شكل رءوس الثيران)، ولا يهدأ ثائره إلا إذا انخفضت كفة الخواتم، ولكن رغم حذره وشدة احتراسه، فإنه لا يجمع الخواتم في كيسها ويسير في حال سبيله، حتى يكون التاجر قد استرجع كثيرا من الخواتم إلى محلها الأول.
وبعد ذلك ضربنا خيمتنا، وعرضنا فيها ما حملنا من نفائس البضائع، وكانت أقمشة ذات ألوان زاهية، وكان جارنا صائغا، وهو دائما منهمك في عمله، قابض على منفاخه، وأمامه فرنه الصغير، وكان يلحم سوارا لامرأة تنتظره بصبر وأناة .
وفي إحدى نواحي السوق يقع منزل كبير، ولم تكن به بضائع ولا معروضات، وكان الناس يدخلونه زرافات زرافات، وكان كثير من العمال يدخلونه، ثم يغيبون برهة، ويخرجون وهم يمسحون أفواههم ويترنحون في ضعف وانحلال.
ولقد رأيت شابا يترنح يتجه نحو باب المنزل، وكان بجانبي رجلان، فلما رآه أحدهما قال لزميله: «إن بنتوير ذاهب مرة أخرى ليمضي يوما في سرور؛ سوف تكون نهاية هذا الشاب سيئة.»
وخرج - بعد وقت قصير - بنتوير، وكانت قدماه لا تستطيعان حمله، وبعد أن تمايل ذات اليمين وذات اليسار، سقط على الأرض لا حراك به كمن فقد الحياة، وترك على هذه الحالة المخزية، والمارة يضحكون منه دون أن يكترثوا لشأنه، وحدث أن مر به رجل وابنه، ولما تأمله قال لابنه: «انظر إلى هذا الشاب يا بني، واتعظ بمصيره، وعاهد نفسك ألا تشرب خمرا، فإنها تتلف صحتك، وتلوث نفسك بالأوحال، فإن صرعت يسخر منك الناس، ولا يمد لك أحد يد المعونة، حتى رفقاؤك، فإنهم يتركونك ويذهبون ليشربوا، ولا ترى إلا راقدا في الطين وغائبا عن الوجود.»
ولكن أمثال هذه النصائح كانت تذهب هباء؛ لأن المصري ميال بطبعه لقضاء اليوم الطيب - كما كان يدعو اليوم الذي يمضيه في الحان- حتى السيدات الجميلات كن يشربن حتى يتعذر عليهن المشي، ويرفعن وهن في حالة إعياء إلى منازلهن.
مضينا في سيرنا ببطء وتمهل، حتى اقتربنا من الحي المقدس في المدينة؛ حيث لاحت لأنظارنا المعابد العالية والمسلات العظيمة من فوق أسطح المنازل.
وقد رأينا عن بعد جماعات من الناس مقبلة نحونا في مظاهرة كبيرة، وسمعنا أصوات الطبول والناي، وقد سألنا بعض المارين مستفسرين عن هذا الموكب وأخبرونا بأنه احتفال ديني، وأن هذه الجماعة تحمل صورة صغيرة للرب آمون؛ إله طيبة العظيم، وأنهم يتأهبون لحفلة دينية كبرى، سيكون على رأسها فرعون نفسه.
ووقفنا ملتصقين بأحد أبواب المنازل من شدة الزحام، وراقبنا الاحتفال وهو يمر أمامنا، فمر الموسيقيون والمغنون، وأخذت النساء يرقصن ويحركن في أيديهن قطعا من المعدن، وشاهدنا في وسط الجماعات ستة من الرجال كانوا مركز المظاهرة الدينية، وإليهم كانت تتجه الأنظار.
كانوا طوالا نحافا، حادي النظرات، محلوقي الرءوس، ملفوفي الأجسام في أثواب بيضاء من الكتان المصري الجميل. وكانوا يحملون على أكتافهم - بواسطة قضبان - أنموذجا لقارب نيلي مقام في وسطه تمثال صغير، وكان هذا التمثال مغطى بستر، لم يظهر منه شيء، كأنهم أرادوا أن يخفوا الإله عن عيون المتطفلين.
وكان أمام الباب الذي كنا مستندين عليه عمود خشبي مثبت في وسط الشارع، فلما وصل الرجال إلى هذه البقعة وضعوا القارب الصغير على قمته، وكان مع اثنين منها بخور فحرقاه، وتصاعد دخانه حول القارب والتمثال.
ثم رفع كاهن صوته، وعدد مناقب الرب العظيم الذي خلق كل شيء وصان كل شيء، وعلى أثر ذلك تقدم بعض الواقفين، وقدموا للرب أزهارا أو فواكه ومأكولات أخرى.
بعد ذلك أتت الدقيقة الرهيبة، وتقدم كاهن من التمثال، وأزاح الستر الذي يخفيه، في وسط سكون مخيم كتمت فيه الأنفاس، ورأينا أمامنا صورة خشبية لا يزيد ارتفاعها عن ثماني عشرة بوصة، مزينة بالأوسمة، وملونة بالأخضر والأسود.
ولقد كان لظهور الصورة من التأثير على الطيبين (وهي أقدس شيء في العالم في نظرهم) ما جعل ألسنتهم تلهج بآيات الإعجاب والعبادة.
أسدل الستر بعد ذلك على التمثال، وواصل الموكب سيره، وتبعته الجموع الغفيرة، فعادت الشوارع إلى ما كانت عليه من السكينة والهدوء.
وكان علينا إن أردنا مشاهدة فرعون - في أثناء مروره إلى معبد آمون - أن نسرع بتناول الغداء، وعلى ذلك رجعنا إلى شاطئ النيل مخترقين الشوارع المضللة التي قطعنا في سيرنا الأول، وذهبنا توا إلى سفينتنا لتناول طعام الغداء.
الفصل الرابع
فرعون في القصر
أزف الوقت الذي قرر أن يذهب فيه الملك إلى المعبد العظيم بالكرنك ليقدم أضحية. لقد ذهبنا إلى الطريق الذي يوصل ما بين القصر وطريق المعبد؛ لنشهد فرعون وموكبه الملوكي.
وأحب الآن أن أحدثك عن فرعون، والحياة التي يحياها.
ليست كلمة فرعون اسمه الحقيقي، وليست هي لقبه الرسمي، وكل ما في الأمر أنها لفظ كانوا يدلون به على أحد العظماء الذين يتهيبون من ذكر أسمائهم، كما كان يذكر التركي الباب العالي إذا عنى السلطان وحكومته، وعلى هذا القياس كان المصريون يطلقون لفظة فرعون على ملكهم العظيم، ومعناها اللغوي «البيت العظيم».
وقد كان ملك مصر عظيما حقا، وكان الناس لذلك ينظرون إليه كما لو كان أكثر من إنسان عادي، وكان هو نفسه يعتقد أن ذلك صحيح لا ريب فيه. نعم، لقد كان المصريون يعبدون آلهة متعددة، ولكن أقرب هذه الأرباب كلها إلى نفوسهم، وأحوزها لاحترامهم وعبادتهم كان ملكهم.
لقد حكمت الملوك مصر منذ أزمان غابرة، ولقد كانوا دائما يعتقدون أن ملوكهم آلهة كامنة في لحم بشري، وكان الملك يطلق على نفسه «ابن الشمس»، وعلى جدران المعابد ترى صورة الملك وهو صغير جالسا على فخذ الرب الذي يدلله كما يدلل الأب ابنه.
وتبعا لهذا الاعتقاد، فهم كانوا يبذلون في سبيله كل عزيز لديهم، ويقدمون له أنواع الضحايا، فإذا صعد إلى السماء لاحقا بإخوته الآلهة، شيدوا له معبدا عظيما لإحياء ذكره على الأرض، ويخصص لهذا المعبد جماعة من الكهنة يسلخون حياتهم في عبادته والتغني بمناقبه.
ولكن يوجد فارق واحد بين فرعون وبقية الآلهة، فالأرباب أمثال آمون في طيبة، وبتاح في ممفيس، وغيرها، تدعى «الآلهة العظام»، أما لقب فرعون فيختلف عن ذلك. ويدعى «الإله الطيب».
وفي الوقت الذي أتحدث عنه، كان «الإله الطيب» رمسيس الثاني، ولا ريب أن هذا جزء صغير من اسمه الكامل؛ لأنه مثل جميع الفراعنة، له قائمة من الأسماء تملأ صفحته.
ولم تكن رعيته في طيبة قد رأته من زمن طويل؛ لأنه كان غائبا في سوريا يحاول حل عدة مشكلات سياسية، فلما رجع لمصر، انهمك في بناء عاصمة جديدة في تنيس أو «زون» كما يدعوها اليهود. وهي واقعة بين الدلتا والحدود الشرقية، وكان يمضي معظم وقته فيها.
وجميع الذين شاهدوا العاصمة الجديدة يثنون عليها أجمل ثناء، ويشيدون بعظمها إشادة بليغة، ويسهبون في وصف معبدها الجديد وتمثال فرعون المقام أمامه البالغ ارتفاعه تسعين قدما، ولكن، حتى في ذلك الوقت كانت طيبة لا تزال مركز حياة الشعب التجارية.
وكان سبب قدوم الملك إلى طيبة هو توقعه قيام حرب بينه وبين الحيثيين، وقد أتى ليستشير أخاه الرب آمون، ليجمع جيشه.
وكان القصر الملكي في حركة غير اعتيادية؛ فالرسل ذاهبون آئبون، والقواد والمستشارون يدخلون وبأيديهم التقارير والأوامر.
ولم يكن القصر الملكي من الفخامة والمتانة بحيث يستطيع الخلود على ممر الأيام، وقد كان المصريون يشيدون القبور والمعابد على أن تخلد أمد الدهر، أما القصور فقد كانوا يبنونها لأجل معلوم. وقد كانت العادة أن الملك الجديد لا يقيم في قصر أبيه، وإنما يأخذ في بنيان قصر جديد يوافق مزاجه وذوقه، فلم يكن فرعون يشيد قصره إلا ليمضي فيه حياته القصيرة، وكان عالما بأن ابنه إن تولى الملك يوما سوف يبني قصرا جديدا، وعليه فقد كانت القصور تبنى من مواد بسيطة، وتحاط بأسوار متينة ضخمة؛ لأنه وإن كان فرعون ربا معبودا، إلا أن رعيته قد تتمادى في أشد حالات العصيان والتمرد خطرا، ولم تكن المكايد ضد الملوك مجهولة في ذلك الوقت، فقد حدث لأحد الفراعنة الماضين أن هوجم وهو على فراش القيلولة، واضطر إلى الدفاع عن نفسه بمفرده وبيديه ضد جماعة قوية من المتآمرين.
ومن ذلك الوقت رأى فرعون أن يعتمد على أسواره الضخمة، وعلى حراسة السردانيين الأقوياء، وألا يجعل جل اعتماده في الدفاع عن نفسه موقوفا على ألوهيته وعبادة الناس له. ويحيط هذا السور بحديقة غناء حافلة بأنواع الزهور والرياحين، وفي وسطها بحيرة صناعية محاطة بأنواع الأشجار والشجيرات المختلفة.
وفي نهاية الحديقة يوجد باب ضخم يؤدي إلى بهو الاجتماع العظيم، وهو مزين بالألوان، ومقام سقفه على أعمدة مزخرفة على شكل سيقان اللوتس، وعلى كل جانب من جانبي البهو توجد غرفة كبيرة، وخلف بهو الاجتماع توجد غرفتان للاستقبال، وهما أفخم غرفتين في مصر كلها، وخلفهما تأتي حجرات نوم أهل القصر العديدين.
ولرمسيس زوجات كثيرات، وله تبعا لذلك جيش من الأولاد والبنات، وغرفة نوم الملك منعزلة في جهة وحدها، ومكللة بالزهور والرياحين.
وكان «ابن الشمس» يمضي يوما مملوءا بالأعمال المختلفة، فكان عليه أن يطالع كثيرا من الرسائل والتقارير ليصدر حكمه فيها، وكان الأمراء السوريون قد أرسلوا للملك تقريراتهم عن تقدم جيوش الحيثيين، وطلبوا معونة الملك لدفع الخطر عن أنحاء ملكه الواسع.
وقد عقد الملك العزم على أن يصدر تصريحا بكل ذلك، ومن ثم يتبادل المشورة مع قواد ونبلاء المملكة. وكان في إحدى نواحي البهو شرفة فخمة كان يظهر فيها الملك لشعبه، وكانت واجهتها مرصعة بالجواهر والأحجار الكريمة، وكانت العادة أن الملكة وبعض الأميرات يقفن بجانب الملك عند ظهوره للشعب.
فتحت أبواب البهو، وتسرب إليه جماعات النبلاء وحكام الأقاليم وقواد الجيش الكبار ومديرو الإدارة، وتزاحموا جميعا ليقدموا فروض الطاعة لسيدهم ومولاهم، وفي لحظة اصطف الجميع في نظام وأدب، وفتح باب كبير، وفي الحال ظهر الملك العظيم؛ ملك الوجهين البحري والقبلي، مصحوبا بزوجته وأسرته.
وكانت العادة المتبعة قديما في استقبال الملوك، أن القوم الذين يحظون بمقابلة ملك من الملوك ينبغي لهم أن يركعوا له سجدا ويقبلوا الأرض بين يديه، ولقد اندثرت هذه العادة الآن، فلا يبلغ حب الملوك وإظهار الطاعة لهم حد السجود والركوع بين أيديهم.
لما دخل فرعون انحنى الجميع أمامه باحترام لا مثيل له، ورفعوا أيديهم كما لو كانوا في صلاة دينية «للرب الطيب»، وانتظروا صامتين متهيبين حتى يبدأ الملك بالكلام.
وصوب فرعون نظره إلى الجمع المحتشد أمامه، ونقل بصره من واحد إلى آخر، حتى استقر على قائد قوات طيبة، فسأله عن مقدار استعداد جيشه.
هنا تقدم الجندي باحترام، وانحنى بتهيب وإجلال، ولكنه لم يتفوه بكلمة في الموضوع؛ لأنه لم تكن العادة أن يتكلم مباشرة، وراح يلقي قطعة مديح محفوظة تشيد بعظمة الملك وشجاعته وإقدامه في الحروب، قائلا إنه حيث تجري جياده تفر أمامها جموع الأعداء، ثم أجاب بعد ذلك على سؤال الملك. وعلى هذا المنوال تقدم القواد والنبلاء والمستشارون ليجيبوا على الأسئلة الموجهة إليهم، وليبدوا آراءهم فيما يبسط أمامهم من أمور الدولة.
ولما انتهى الاجتماع، أصدر الملك أوامره بإعداد عربة ليحضر حفلة المعبد الدينية، وخرج كما دخل بين صفوف ساجدة بين يديه مستغرقة في عبادتها.
بعد ذلك رأينا الباب الحصين يفتح على مصراعيه، وخرجت ثلة من الجنود رافعة الرماح، ثم وقفت على مسافة قصيرة من باب القصر، وعلى أثرهم خرج الحرس السرداني مثقلا بالأسلحة، وعلى رءوسهم الخوذ اللامعة، وبأيديهم الدروع المتينة والسيوف الطويلة المسلولة، وقد اصطفوا على جانبي الطريق، ووقفوا كالتماثيل مترقبين ظهور فرعون.
وسمعنا أصوات عجلات، وظهرت أمامنا عربة فرعون وهي تسير به شطر طريق المعبد. وقد سارت الجنود الرافعة الرماح في المقدمة، أما السردانيون فقد جروا بحذاء عربة الملك على كل من جانبيها، ولم يتأخروا عنها قيد شعرة رغم تثقلهم بالأسلحة.
وما إن رأت الجموع المزدحمة عربة الملك، ووقعت أبصارهم على فرعون، حتى سجدوا على الأرض، ومسوا التراب بجباههم، وفرعون ينظر أمامه لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وكان واقفا منتصبا لا يتمايل - ولو قليلا - رغم اهتزاز العربة الشديد، وكان ممسكا بيده عصا معقوفة وسوطا، وهما الرمز الملكي المصري، وعلى رأسه خوذة الحرب، وفي الجهة الأمامية من هذه الخوذة أفعى مكونة قمة عالية بعدة لفات حول نفسها. وكان شكلها مخيفا كأنها تهدد أعداء مصر. وكان يزين طلعته الجميلة بلحية مستعارة، ويغطي جسمه القوي الجميل بثوب من الكتان الأبيض، وحول وسطه نطاق ذهبي تصل أهدابه إلى ركبتيه، وفي طرفيه حيتان مزخرفتان، ويجري بجانب العربة حاملوا المراوح من ريش النعام، يحركونها في أثناء جريهم دون أن يضطربوا لذلك، ومهارتهم تدعو للإعجاب والدهشة! ويتبع عربة الملك عربات الحاشية، وهي - على العموم - أقل فخامة وعظمة من عربة الملك. وقد جلست في العربة الأولى الملكة، وبيدها زهرة اللوتس الجميلة يتضوع شذاها.
أما الذين في العربات الأخرى فجلهم أمراء يجري في عروقهم الدم الفرعوني، وقد شاهدنا بينهم الأمير الساحر خامواس، وكان أعظم ساحر في مصر، ومن معجزاته قدرته على استحضار الأموات من القبور! وكان الناس يجفلون أمام بصره الحاد، ويتهامسون فيما بينهم وبين أنفسهم، بأن درج البردي الذي يضمه إلى صدره كان قد أخذه من قبر ساحر من ساحري الأيام القديمة.
وفي دقائق معدودة مر الموكب بعد أن بهر الأنظار بفخامته، وبالأشعات المنعكسة على أسلحته وجنوده والجواهر التي على أفراده العظام، وجرت خلفه الجموع الغفيرة نحو معبد الكرنك.
لقد رأيت في لحظة أعظم رجل على ظهر البسيطة، والظالم الجبار المذكور في قصة بني إسرائيل؛ كم كان قويا، وكم كان فخورا!
وطبيعي أنه لم يكن يحلم بأن اليهودي الصغير الذي تبنته ابنته، والذي تربى بجامعة الكهنة بهليوبوليس، سوف يذل مصر في يوم من الأيام، ويبدل عزها هوانا، وأن اسم فرعون العظيم لم يكتب له الخلود وذيوع الصيت إلا لأنه اقترن باسم موسى.
الفصل الخامس
حياة الجندي
إنك إذا اطلعت على ما كتب عن المصريين في الكتاب المقدس، خيل إليك أنهم أمة حرب وطعان، وأنهم لم يوجهوا همهم لشيء في الحياة كالحرب والغزو. وحقا لقد حاربوا طويلا، وانتصروا كثيرا، واستطاعوا بذلك أن يكونوا إمبراطورية عظيمة لم تصغر في شأنها عن أي إمبراطورية قامت في العهد القديم.
ولكنهم لم يكونوا ميالين بطبعهم وسجيتهم إلى الحرب والقتال، ولم تكن روح المصري مفعمة بذلك الميل الغريزي الذي يدفع صاحبه إلى القتال في أي فرصة، ويسبب له من السرور والحبور في أثناء القتال ما لا يمكن تصوره عقل إنسان، أي إنهم لم يكونوا مثل أعدائهم الآسيويين والبابليين.
ونحن الذين قدر لنا أن نتصل بأحفادهم - المصريين الحديثين - وأن يكون بيننا وبينهم من الأمر ما هو معروف. نعلم حق العلم أن المصري ينفر من الحرب نفورا شديدا، ولقد تحققنا من ذلك في أثناء حروبنا معهم وضدهم.
نعم؛ قد يظهر الجندي المصري مهارة خاصة، ويبلي بلاء حسنا، إذا قاده إلى القتال قواد ماهرون، ولكنه مع ذلك يختلف عن السوداني الذي يقاتل حبا في القتال.
المصري يؤثر عيشة السلام على الحرب، وليس أشهى لديه من الإقامة في حقله بين أسرته وقطعانه يزرع الأرض ويرويها. هكذا المصري، وهكذا كان آباؤه وأجداده، ولكن إذا أمر فرعون بالحرب فلا يوجد من يتردد في طاعة أمره؛ هنالك يحاربون تحت قيادته ويبلون البلاء الحسن، ولكن طول الوقت لا يشغل بالهم مثل وطنهم والحنين إليه، وكم تكون سعادتهم عظيمة إذا انتهت الحرب، وأزف وقت الرجوع إلى الوطن ومسراته الهادئة البسيطة!
وعلى العموم، كانوا شعبا مسالما رحيما، ميالا للسرور والأخذ بأسباب المسرات، ولا تجد بينهم فظا غليظا كما تجد بين الآسيويين.
وفي الحقيقة كان المصري لا يرضى لنفسه أن يحترف الجندية؛ لأنه كان يعتقد أنها عمل مؤلم لا يختلف عن الأعمال الشاقة، ففيها يتعرض الجندي لكل أنواع الذل والمهانة، ولا تظن أن سوء ظنه هذا بالجندية كان على غير الحق.
أما ما يرجوه في الحياة، فهو أن يفوز بعمل كاتب عند أحد الأغنياء أو في مصالح الحكومة، يكتب التقارير ويحسب الحسابات. ولما لم يكن في الإمكان أن تتسع الوظائف لجميع الشبان، فقد كان الأب الذي يتمكن من توظيف أحد أبنائه أسعد الآباء، ولو أنه من المحتمل جدا أن يحتقره الابن، ويترفع عن الانتساب إليه وإلى إخوته الذين يزرعون في الحقول أو يخدمون في الجيش.
ولدينا الآن كتاب قديم كان كاتبه جنديا، ثم رقي إلى ضابط في الإدارة السياسية، كتبه لشاب صغير مبينا له آراءه عن الجندية، محذرا إياه أن يتخذها مهنة مستقبلة. وكان الشاب ولوعا بأن يكون في أحد الأيام من جنود العربات، وهم الذين يقابلون الفرسان عندنا اليوم، وكان يقف في العربة جنديان أحدهما يسوق ويقود الجياد، والآخر يحارب بقوسه، وفي بعض الأحوال بالسيف أو الرمح.
وقد قال له إن فرسان العربات ليسوا أحسن حالا من بقية الجند، وقد يظهر العمل لقليل الاختبار جذابا جميلا، فلا يركب الجندي العربة حتى يظن أنه ملك على الأرض كلها، ثم يذهب إلى أهله بملابسه الجديدة فخورا مختالا!
ولكنه معرض لأشد أنواع العقوبات وأقساها إذا ارتكب أقل الأخطاء وأهونها، فإذا جاء يوم التفتيش ووجد أن أحد الجنود مقصر أقل تقصير، أو أن إحدى معداته بها خلل لا يذكر، فإنه يطرح على الأرض، ويضرب بالعصي ضربا مبرحا، حتى يشرف على الهلاك من شدة الألم. ويؤكد للشاب أن هذه الحالة التي وصفها تعد خيرا بكثير من حالة الجنود العادية، فإنهم كانوا يجلدون في ثكناتهم لأي هفوة تصدر منهم، ثم إنهم يتكبدون أشد المتاعب في أثناء الحروب، فيسيرون إلى سوريا الأيام الطوال، والأرض تأكل أقدامهم التي لم تلمس إلا أرض مصر اللينة. وكانوا يحملون معداتهم ولوازمهم وآلات القتال. وبالجملة فقد كانوا ينوءون تحت حمل ثقيل، وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى شرب الماء القذر في أثناء اجتيازهم الصحراء، غير مبالين بما قد يسببه لهم من الأمراض، وهم الذين يقاتلون الأعداء معرضين أنفسهم للموت وأجسامهم للتلف، بينما يجلس القواد في أمان وسلام. فإذا انتهت الحرب عاد الجندي منهم إلى بلده مثخنا بالجراح، مهدم البنيان، مسلوب الملابس؛ وذلك لأن النوبيين الذين يحرسون الأمتعة ينتهزون فرصة اشتباك الفريقين في القتال، ثم يسرقون الأمتعة ويلوذون بالفرار.
وختم الكاتب كلامه بأن قال: «خير من كل ذلك أن تختار لنفسك مهنة كمهنة الكتابة، وتعيش سعيدا في وطنك.»
وأستطيع أن أقول إن كلام هذا الكاتب صحيح، وهذه الحالة التي كانوا يشكون منها قديما لا تزال على ما كانت عليه إلى الآن، ولكن رغما عن كل ذلك، فقد استطاع فرعون أن يجمع الجيوش الجرارة في وقت الخطر.
ولم يكن الجيش المصري كثير العدد مثل الجيوش التي نسمع عنها الآن، أو التي نقرأ عنها في كتب القدماء؛ فالجيوش التي قادها الفراعنة إلى أرض سوريا لم تكن تزيد على العشرين أو الخمسة وعشرين ألفا، ولكن الغريب أن يكون الجيش - وهو على هذه القلة - كثير الجنسيات، مثل جيشنا الموجود في الهند.
وأهم فرق الجيش هي فرق الوطنيين من رماة القوس ورجال الرمح، ويحمل الأولون الأقواس والسهام، وهم أخف حملا من رماة الرمح إلا أنهم أشد خطرا، فإن المصريين اشتهروا بالمهارة في الرماية مثل الإنجليز القدماء، وقد كانوا سبب انتصار فرعون في كثير من الأوقات، أما الآخرون فيحملون الرماح والدروع، وفي بعض الأحيان الفئوس والخناجر أو السيوف القصار.
وهنالك فرقة من جنود العربات، وهم من المصريين أيضا، ويعتبرون أرقى درجة من المشاة. ولم تكن مهمة جندي العربة من الأمور السهلة، فقد كان عليه أن يحفظ توازنه، وأن يصيب عدوه في أثناء جري الخيل وسير العربة، ولا يخفى ما في ذلك من الصعوبة، وما يحتاجه من المران والثبات. وكانت خيول العربات تزين أجمل زينة.
وفي كثير من الأحيان إذا خان الحظ الجندي المقاتل الموجود بالعربة، يعمد الآخر - السائق - إلى مساعدته، فيلف عنان الجوادين حول وسطه، ويبتدئ في الطعان، على أن يضبط الخيل بتمايله ذات اليمين وذات اليسار.
ويحيط بعربة فرعون الحرس الملكي، وكان مكونا من رجال يدعوهم المصريون «أرشردن» أو السردانيين، ومن المحتمل أن يكونوا من القوم الذين أتوا مصر من جهة البحر؛ ليرتزقوا من الخدمة في الجيش. وكانوا يضعون على رءوسهم الخوذ المعدنية ذات القرون، وحول صدورهم الدروع القوية، وبأيديهم السيوف الطويلة.
وخلف هؤلاء تسير الجند المرتزقة، وهم فرق سودانية على أجسامهم جلود الحيوانات المفترسة، وفي المؤخرة جنود ليبيون من البدو.
ويسبق الجميع في أثناء الحرب فرق الكشافة، يستطلعون الأخبار، ويتجسسون على العدو، ويمدون جيوشهم بالأخبار.
وكان للملك حارس خاص به، هو أغرب حارس في العالم القديم والحديث؛ لأنه كان أسدا مستأنسا، درب لخدمة سيده والدفاع عنه بأسنانه ومخالبه إذا هاجمه عدو.
أما مهمات الجيش، فكانت ترفع على ظهور الحمير ويرقبها الحمالون، وكان المصريون من أعظم الناس احتمالا لمشقات السفر والمشي، حتى ولو كان تحت أشعة شمس سوريا المحرقة، وخلال طرقها المجهولة، وكانوا يسيرون خمسة عشر ميلا يوميا، لمدة أسبوع دون أن ينهكهم التعب. والآن سأروي لك قصة جندي، حدثت في معركة من «أهم» معارك التاريخ.
كان مينا من أمهر راكبي العربات في الجيش المصري، وقد ساعده نبوغه على الترقي والتقدم مع حداثة سنه، حتى اختير ليكون سائق عربة فرعون نفسه لما خرج الجيش من زارو (حصن مصر على الحدود) ليحارب جيوش الحيثيين في شمال سوريا.
ولقد سار الجيش مسافة طويلة مخترقا الصحراء ثم أراضي فلسطين عابرا الجبال، ولم يظهر للعدو أثر، وكان مينا موجها اهتمامه لقيادة الخيل وإدارة العربة.
وابتدأ الجيش ينحدر إلى وادي الأورنت في اتجاه قادش، وقد تسربت الكشافة إلى جميع الجهات، ومكث الجيش ينتظر قدوم العدو وقد ساوره القلق.
وكانت قادش ترى على مرمى البصر، وقد ظهرت في الأفق قمم أبنيتها، وانعكست في الفضاء أشعة الشمس المنعكسة على سطوح أنهارها وسطح الخندق المحيط بها. وكان السهل الممدود بين الجيش المصري والبلد الزاحف عليها خاليا من أثر الإنسان، بما زاد في دهشة الملك وقلق جنوده، وجاءت الكشافة بالأخبار، وأعلمت الملك بأن جيش الأعداء تقهقر إلى الشمال من الخوف والفرق، فظن الملك أنه مستول على المدينة بلا عراك، ثم أسرع بتقسيم الجيش إلى أربع فرق، وقاد الفرقة الأولى، وسار بها نحو قادش بجرأة عظيمة، وبلا روية أو تدبير، بعد أن أمر الفرق الأخرى باللحاق به، على ألا تبدأ فرقة بالمسير إلا إن ابتعدت منها الفرقة السابقة لها بمسافة معلومة.
ووصلت الفرقة الأولى يقودها فرعون إلى شمال غرب قادش، وعسكرت هنالك بعد أن أنهكها الأين والكلال، وأخذ منها التعب كل مأخذ.
ثم رفعت الأثقال عن ظهور الحمير؛ لتأخذ قسطها من الراحة.
وإذ كانت الكشافة تجوب الجهات المختلفة لتستطلع أخبار العدو، عثرت في طريقها بعربتين، فقبضت عليهما، وسارت بهما إلى المعسكر، وقدمتهما إلى فرعون، وأمر الملك بضربهما بالعصي، حتى اعترف البائسان بأن ملك الحيثيين مختبئ في الجهة المقابلة لعسكر المصريين، وأنه يتربص الدوائر لينزل بأعدائه هزيمة منكرة.
وأسرع الملك فأنحي باللائمة على جنود كشافته، واتهمهم بقلة التبصر والتسرع في نقل الأخبار، وأصدر الأوامر بالتأهب للمسير.
ولكن قبل أن يقفز الملك إلى عربته - التي هيأها مينا للرحيل - دوت في الفضاء ضوضاء مزعجة عند باب المعسكر، ورئيت الفرقة المصرية الثانية مشتتة الشمل ضائعة اللب، وهي تفر أمام جيوش الحيثيين الجرارة وعرباتهم البالغة خمسة وعشرين ألفا، والآخرون يقتلون فيهم ويأسرون.
انتظر الملك في مخبئه حتى وصلته الأخبار من جواسيسه بمعسكر الفرقة الأولى، ولما درى بقدوم الفرقة الثانية أمر بالهجوم عليها دفعة واحدة، ولما كانت الفرقة منهوكة القوى من مشقة السفر، لم تستطع المقاومة والثبات، وانتهى الأمر بفرارها وانتصار الحيثيين عليها. وقد أحدث فرارهم - وما هم عليه من تعب وبؤس - خوفا عظيما في معسكر فرعون، سرى في نفوس الجميع، ففر سوادهم مع بقية أفراد الفرقة الثانية، ولم يبق لمقاومة الأعداء إلا فرعون وبعض أفراد العائلة الذين أبت شجاعتهم أن يسلموا للخوف ويولوا الأدبار.
ومع ما أظهره رمسيس من قلة التبصر وضعف النظر في قيادة الجيش؛ إلا أنه أبدى شجاعة نادرة وبسالة لا مثيل لها.
فبعد أن قفز إلى عربته، أمر أتباعه المخلصين باتباعه، وأمر مينا بسوق العربة للقاء الأعداء، ولم يكن مينا جبانا، ولكنه لما رأي عربات المصريين التي تعد على الأصابع، ثم شاهد عربات الأعداء التي لا تعد ولا تحصى، شعر، بالرغم منه، بالخوف يهز قلبه.
ومع ما اختلج في نفسه من الخوف، لم يفكر لحظة في الهروب أو العصيان، ولكنه وهو يميل إلى الأمام ليقود الخيل همس في أذن فرعون: «يا قوة مصر العظيمة في يوم الحرب، أنقذنا.» فأجابه: «الثبات ... الثبات ... سأفترس جموعهم كالباز.»
وفي الحال سابقت جياد مصر الريح قاصدة جيوش الأعداء، وكان لاندفاعها غير المنتظر أثره في نفوس الحيثيين، حتى إن فرعون وأتباعه اخترقوا الصفوف وغاصوا في لجتها. وكان مينا منهمكا في عمله حاصرا عقله فيه، غير مبال بما قد يصيبه من آلاف السهام المتطايرة في الجو، وكان فرعون يقاتل بمهارة منقطعة النظير، وكان قوسه يرسل السهام باستمرار، فتصيب مقاتل الحيثيين، وتصرعهم من عرباتهم. وكذا فعل الأمراء الذين كانوا يتبعون فرعون، وقد تركوا خلفهم صفوفا من القتلى والجرحى.
وهكذا استطاع فرعون أن يفتح ثغرة من صفوف الأعداء، ولكنهم كانوا جموعا زاخرة يزيدون عليه وعلى أتباعه آلاف المرات. وكانت بعض العربات المصريات قد اتجهت جهة الجنوب؛ لتأتي بنجدة من جنود الفرقتين الباقيتين، ولكن كان يلزم لوصولها مضي وقت غير قصير.
وكان مما يزيد الحالة حرجا أن ملك الحيثيين، على رأس جيش يبلغ الثمانية آلاف كان معسكرا على شاطئ النهر الآخر، ولو أنه أسرع بعبور النهر لقضى على رمسيس ومن معه. ولم يبق أمام فرعون إلا القتال، فقاتل بشدة هو وجنوده، واستطاع بمهارته أن يجعل بعض عربات الحيثيين بينه وبين النهر، وأمن بذلك شر نبال الجنود المعسكرة على الشاطئ الآخر. وبعد فوات زمن غير قصير، ظهرت طوالع الفرق المصرية، وفي الحال انضموا إلى إخوانهم، وأخذ الفرق بين الجيشين يقل نوعا ما عما قبل، وكانت جعبة المصريين قد خلت من السهام، فسلوا السيوف وأطلقوا الرماح، وهنا حمي وطيس القتال، وأخذ الأعداء في التقهقر صوب النهر، وقد وقف ملك الحيثيين على الشاطئ الثاني من النهر مندهشا لما رآه أمامه. وقد فات الوقت لعبوره النهر واشتراكه في القتال، أما الآن فلم يكن في الإمكان عبور النهر؛ لامتلاء الشاطئ الآخر بعربات الحيثيين وجنودهم، بما لم يدع مكانا لجنود جديدة.
ومما زاد في فرح المصريين وقوى ساعدهم، وصول الفرقة الأخيرة، وأسرع بقدومها الهلاك إلى جنود الأعداء، وأخذوا يتساقطون في النهر، وكانت مذبحة عظيمة.
وانتهت بهروب الأعداء، وقد رصد لهم رماة القوس المصريين من يرمونهم بسهامهم، فيقتلون منهم من يقتلون، ويجرحون من يجرحون. وقتل من الحيثيين شقيقا الملك ورئيس حراسه، وأعظم كتابه، وحامل درعه.
أما ملك الحيثيين، فقد سقط في النهر وهو يجتاز مخاضة فيه، وكاد يموت غرقا، لولا أن رمى أحد أتباعه بنفسه في الماء وأنقذ الملك من يد الهلاك المحقق، فترك ميدان القتال بعد أن ضاعت من يده فرصة عظيمة للقضاء على عدوه اللدود، وآب بالفشل والخذلان.
وبعد انتهاء المعركة دعا فرعون قواد الجند أمامه، وقد وقفوا متخاذلين تعلو وجوههم حمرة الخجل؛ لما بدر منهم من دلالات الجبن في بادئ المعركة، أما فرعون فقد خلع عن رقبته الملكية طوقا ذهبيا ووضعه حول رقبة تابعه الأمين مينا، ثم وبخ قواده عن تركهم له ليواجه الأعداء بمفرده وفرارهم جبنا وخوفا، ثم حدثهم عن مينا، وكيف أنه لم يتركه ساعة الخطر، وختم الحديث بقوله: «ولا أنسى جوادي عربتي، وسوف يتناولان طعامهما يوميا - أمامي- في السراي الملكية.» ولما كان الجيشان قد خسرا خسارة عظيمة وأخذ التعب منهما كل مأخذ، فقد تعذر عليهما مواصلة القتال، وقبلا عن رضاء خاطر الهدنة، وانسحب الحيثيون إلى الشمال، ورجع المصريون إلى وطنهم، ولم يربحوا شيئا رغما عما بذلوه من جهد وأبدوه من بسالة، ولكن فرحهم بالنجاة من الهلاك المحقق أنساهم ما خسروه. وكم كان مينا فخورا وهو يسوق عربة الملك داخل أسوار زارو.
وسار الجيش بين جموع الشعب التي أتت لاستقباله، ولنثر الورود على جنوده، وكانوا من جميع الطبقات؛ فيهم الكاهن والتاجر والنبيل.
ولم يكن يوجد بعد رمسيس الذي أنقذ جيشه ووطنه وشرفه من يستطيع أن يفتخر بعمله مثل مينا، الذي وقف بجانب سيده في أشد حالات الخطر.
الفصل السادس
حياة الطفل
كيف كانت حياة الأطفال في تلك الأرض القديمة منذ هذه الآلاف من السنين؟
ماذا كانوا يضعون على أجسامهم من الملابس؟ وما هي أنواع اللعب التي كانوا يغرمون بها؟ وما هي العلوم التي كانوا يدرسونها؟
لو أنك كنت من أحياء مصر في ذلك العهد القديم، لتبينت ما بين حياة طفلنا الآن وبين حياة الطفل القديم من تباين، ولا يمنع ذلك من ذكر أوجه التشابه بين أطفالنا وأطفالهم.
كان الصبيان والبنات صبيانا وبنات كما هم الآن، لا تختلف تصرفاتهم عن تصرفات أطفالنا، ولا تفترق ألعابهم - تقريبا - عن ألعابهم.
إنك لو تقرأ بعض القصص الخرافية، تجد أن للصبي الصغير فيها «جدة خرافية» تحوم حوله أثناء الليل، وتنير فراشه، وتهديه الهدايا، وتتنبأ له عن المستقبل، وهكذا كان في الأزمنة القديمة، فكان إذا ولدت «تاهوتي» الصغيرة أو «سن سنب» في طيبة قبل الميلاد بآلاف السنين، وجدت لها «جدة خرافية» تتنبأ لها بالحوادث والمستقبل، وكان في مصر طائفة يطلق عليهم المصريون اسم «هافورز»، ليس لهم من عمل إلا التنبؤ عن المستقبل، وكان عهد الطفولة أطول مما هو الآن، فكان على الأم السعيدة ألا تترك طفلها يغيب عن ناظريها ثلاث سنين متوالية، فتحمله على كتفها أينما توجهت.
وإذا مرضت الطفلة ودعت أمها طبيبا، فإنه يصف لها من الأدوية ما يختلف عن أدويتنا كل الاختلاف؛ فلم يكن الطبيب المصري يعرف الشيء الكثير عن الأمراض والأدوية، وهو لجهله هذا كان يجرع مريضه أقذر ما عرف الإنسان من جرعات الأدوية، ولا أظن أنك ترضى ببلع حبوب مصنوعة من عصير مياه أذن الخنزير، ودماء الضب، ولحمة قذرة. وكان الطبيب إذا فحص المريض كثيرا ما يقول: «ليس هذا الطفل مريضا؛ إنما هو مسحور.» وعلى ذلك يكتب هذه «الوصفة»:
علاج يقي من السحر «خذ خنفساء كبيرة، واقطع رأسها وجناحيها، ثم اسلقها، وضعها في زيت واتركه بعد ذلك، واطبخ أجنحتها ورأسها، واسق الخليط للمسحور.»
وأظن أن القارئ يؤثر عذاب السحر على أكل مثل هذه الوصفة! وفي أحيان أخرى يكتفي الطبيب بكتابة كلمات سحرية غامضة على ورقة قديمة يربطها بالعضو الموجوع.
وكان كثير من الأمهات إذا ظهرت على أطفالهن أعراض مرض ظنن أن عفريتا يزعج الأطفال، فإذا صرخ طفل من ألم المرض قامت أمه وجابت أنحاء الغرفة وهي تقرأ هذه الكلمات - مخاطبة الشيطان:
هل أتيت لتقبيل الطفل؟
لا أسمح لك أن تقبله!
هل أتيت لتهدئة خاطره؟
لا أسمح لك أن تهدئ خاطره!
هل أتيت لتؤذيه؟
لا أسمح لك بأن تؤذيه!
هل أتيت لتخطفه مني؟
لا أسمح لك أن تخطفه!
فإذا برئ الطفل من مرضه وذهب عنه العفريت، خرج ليلعب، والطفل وأخته يستحمان كل صباح، ولكنه لما كان الجو حارا عظيم الجفاف لم يحتاجا للملابس التي تغطي الأجسام، فكانا يلعبان عرايا إلا مما يستر عورتيهما.
وكانت أدوات لهو الأطفال كثيرة الشبه بأدوات أطفالنا الآن، فكان تاهوتي يلعب برجل خشبي إذا شد فتيلة متصلة بوسطه وذراعيه، انحنى مثل الخباز، وكان يلهو أيضا بتمساح إذا ضغط على ظهره فتح فاه. أما الطفلة فكانت تلعب بعروس مزخرفة وبخادمة لها نوبية، وفي كثير من الأحايين كانا يلعبان الكرة مع بعضهما.
هكذا كان يمضي الطفل الأربع سنين الأولى من سني حياته، فإذا تجاوزها أرسلوه إلى «الكتاب»، ويظل تاهوتي عاريا إلا من هذه القماشة التي تحيط بوسطه وهو في المدرسة، كما كان وهو في البيت. أما شعره الأسود فيضفر ويرسل من فوق أذنه اليمنى.
ويبدأ بتعليمه القراءة والكتابة، ولم يكن ذلك أمرا بسيطا، إلا أن الكتابة المصرية وإن ظهرت في شكل بديع يثير الإعجاب والدهشة إذا نسختها يد ماهرة متمرنة، فإن تعلمها أمر من أشق الأمور، خاصة وأن المبتدئ كان عليه أن يجيد كتابة أسلوبين مختلفين. ولا أظن أنك لو طالعت في كتب - أمليت في عهد قديم للتلاميذ - تعثر على شيء عظيم الأهمية. ولدينا الآن عدة كتب مصرية مملاة أو منسوخة من كتب أخرى، وقام بنسخها التلاميذ أثناء تمرينهم على الكتابة، ومن هذه الكتب يتبين لنا بوضوح ما كان يغرم بقراءته قدماء المصريين؛ لأن هؤلاء التلاميذ كانوا يكتبون كلمات حكمائهم وبعض القصص القديمة أثناء تمرينهم على إجادة الخط. هذا ما نفهمه من هذه الكتب التي كلفت كاتبيها من المشقة والعناء ما لا يحكم به كاتب الآن. ولما كان المدرسون المصريون يعتمدون على العصا في تأديب التلاميذ وتعليمهم، فكثيرا ما كانت تاهوتي الصغيرة تذرف الدمع وهي في المدرسة. وكان التلميذ المسكين ينتظر يوميا الجلد كما ينتظر الطعام الذي تحضره له أمه، وكان مدرسه يقول له: «أذنا الطفل فوق خديه، وهو يصغي جيدا كلما ضرب.»
وقد كتب تلميذ إلى معلمه القديم بعد أن ترك المدرسة بمدة طويلة، يقول: «كنت تحوطني برعايتك أثناء تربيتي وتعليمي وأنا طفل صغير، ولقد ضربتني بعصاك على ظهري فرسخت كلماتك في أذني.»
أما إذا كان الطفل عنيدا؛ فإنه يعاني أنواعا من العقوبات يهون بجانبها ضرب العصا، فلقد كتب تلميذ لمعلمه: «لقد كنت شديدا علي وأنا تلميذك، وإني لا أزال أذكر ثلاثة أشهر قضيتها في المعبد عقابا لي.»
وكان وقت العمل المدرسي نصف يوم، يخرج بعده التلاميذ إلى منازلهم وهم يصيحون من الفرح والسرور. ولم تتغير هذه العادة رغما عن طول ما بيننا وبينهم من الزمن.
ولا أظن أنهم كانوا يقومون ببعض الواجبات المدرسية في منازلهم، وربما كان وقتهم في المدرسة أقل فظاعة مما نتخيل عنه؛ بسبب ما ذكرنا من وصف عقوباتهم.
وإذا كبر «سن سنب» عن ذلك قليلا، وأتقن أصول الكتابة، يطلب معلمه منه - على سبيل الامتحان - أن ينسخ له عدة صحائف من خيرة الكتب المصرية، وكان غرضهم من ذلك أن يتقن الناشئ كتابة الخط، ولينمي ملكة إنشائه، فكان ينقل من كتب شعرية أو دينية أو من الأساطير.
ولم يكن هم المعلم من إملاء تلميذه القطعة أو أمره بنقلها من كتاب أو نحوه أن يحسن خطه فقط، وإنما كان يأمل فوق ذلك أن يثقف عقله وينير إدراكه بالأفكار السامية.
لذلك كان يختار موضوعات مفيدة، مثل نصيحة ملك لابنه وغيرها. وفي بعض الأحيان كان المعلم يكاتب تلاميذه كما لو كانوا أصدقاء فرق بينهم الدهر.
وتعليم الحساب لحسن الحظ لم يكن يستوجب حفظ قواعد كثيرة. وعلى العكس كانت قواعده محدودة، فيبدأ المعلم بتلقين التلميذ مبادئ الجمع والطرح والضرب، والطريقة التي كانت حينذاك عقيمة وبطيئة، أما القسمة فلم يكن التلاميذ يتعلمونها؛ ليس لسبب إلا أن المعلم نفسه كان يجهلها.
وكان التلميذ يتعلم شيئا عن قياس مساحة الأراضي بطريقة بدائية عقيمة، وينتهي تعليمه الأولي إذا أتقن ما قدمنا من العلوم.
بعد ذلك يتعلم ما يؤهله لعمل يسترزق منه في المستقبل، وإن أراد التلميذ أن يعمل ككاتب عادي، فلا يحتاج للاستزادة من العلوم عما قدمنا؛ لأن عمل الكاتب الصغير لا يخرج عن القراءة والكتابة والحساب، أما إن كان في نيته أن يكون ضابطا في الجيش؛ فلا بد له من الالتحاق بالمدرسة الحربية.
ولكي يكون كاهنا، كان يلتحق بجامعة معبد من معابد الأرباب، حيث يتلقى - كما كان موسى يتلقى - كل ما أنتجه العقل المصري في مختلف العلوم، ويقرأ كتب الدين التي تبحث عن الآلهة، والتي تكشف النقاب عن سر الحياة بعد الموت، وعن المكان الذي تحل فيه الروح بعد أن تترك أجسامها الفانية.
ونحن نجهل بعد ذلك ما لو كان التعليم يتناول تقويم الخلق وإعداد الشاب للحياة الاجتماعية أم لا، وكل ما نعلمه أنهم كانوا يعتنون عناية خاصة بتخريج الطفل، ويعودونه على احترام الكبار؛ فلا يجلس وهم واقفون، ولا يخل بأدبه ووقاره أمامهم، وعلى رأس هؤلاء الواجب احترامهم وتبجيلهم يضع الطفل والديه، وخاصة أمه؛ لأن المصريين كانوا يخصون أمهاتهم باحترام لا يطمع فيه كائن آخر. ولكي أبين ذلك أنقل للقارئ نصيحة من أب لابنه؛ قال: «يجدر بك ألا تنسى ما تكلفته أمك من المتاعب من أجل راحتك وتربيتك، فلقد حملتك في بطنها، وغذتك صغيرا، ولم تتركك أبدا، ثم تعهدتك بالتربية والتقويم ثلاث سنوات، وأحاطتك بعين العناية والرأفة. ولما دخلت المدرسة لتنهل من موارد العلم، كانت تحضر لك كل يوم غذاءك من الخبز والجعة، فإن أهملتها بعد ذلك حق عليك لومها، وإن الرب ليسمع شكواها ويستجيب دعاها.»
وربما كان أبناء اليوم لا يعملون بهذه النصائح، التي بقيت لنا في أقدم كتب في العالم.
ولكن لا إخالك تظن أن حياة الطفل المصري لم تكن إلا تربية وتعليما.
ففي أثناء العطلة تذهب العائلة المصرية إلى الغابات لتمضية يوم في صيد الأسماك أو صيد الطيور، فإذا كانوا قاصدين صيد الأسماك أنزلوا في الحال قاربا من قصب البردي، ثم حركوا مجاديفهم وهم مسلحون بالحراب، وكانت حربة الصيد ذات شعبتين من الأمام. وكانوا إذا رأوا الأسماك في باطن مياه البحيرات الهادئة الصافية صوبوا نحوها الحراب ليصطادوها، وإن ساعد الحظ فقد تصطاد الحربة سمكتين؛ سمكة في كل شعبة.
أما صيد الطيور بين المستنقعات فأعجب من ذلك بكثير، وفي هذه الحالة لا تستعمل الحراب، وإنما يتسلحون بعصي مقوسة تستعمل للرماية، ويستصحبون معهم مساعدا غير مألوف.
في هذه الأيام، يستصحب الصائد معه كلبا يدربه على إحضار الصيد الذي يسقط من رشاش بندقيته، وكان للمصريين كذلك كلاب يستعملونها في صيد الحيوانات، أما في صيد الطيور فكانوا يدربون القطط بدلا من الكلاب.
يسير القارب بهم في المستنقع بين الغاب الكثيف؛ حيث يعيش البط وغيره من الطيور المائية، ثم يقف في جهة تخفيه عن عيون الطير.
فاذا طارت بطة أو إوزة صوب الأب أو ابنه نحوها عصاه، وأطلقها بمهارة، فإذا أصابت الهدف ووقع الطير، جري نحوه القط وأتى به إلى سيده من بين الغاب.
وكان فرح الأطفال بالصيد عظيما، ولم يكن ألذ عندهم من وجودهم في القارب ينتظرون طيران طائر ليصطادوه. وإنه وإن لم يكن يعرفون من فنون اللهو ما نعرف الآن؛ إلا أنهم فرحوا بما كان بين أيديهم كما نفرح بما بين أيدينا.
الفصل السابع
بعض الأساطير
كان الأطفال ذوو الوجوه السمر الذين يعيشون في مصر منذ ثلاثة آلاف سنة مغرمين مثل أطفالنا بالقصص التي تبدأ ب «يحكى أن»، وسأقص عليك الآن بعض القصص التي كانت تحكى لتاهوتي و«سن سنب» إذا خيم الليل، وإذا انتهيا من عملهما المدرسي ولهوهما.
وهي أقدم قصص خرافية ولو أنها منسية الآن، وقد اخترعت قبل أن يفكر أحد في كتابة قصة «جاك» و«بينستوك» بقرون عديدة.
في ذات يوم دعا الملك خوفو(وهو الذي بنى هرم الجيزة الأكبر) أولاده وعقلاء مملكته، ثم قال لهم: «هل فيكم من يستطيع أن يروي لي قصص قدماء الساحرين؟» وهنا وقف الأمير بوفرا - ابن الملك - وقال: «مولاي، سأروي لكم قصة غريبة حدثت في عهد الملك سنيفرو أبيكم العظيم.»
فقد تضايق الملك يوما، وشعر بالسأم والضجر، ولم يجد ما يفرج به عن نفسه الملل، وأخيرا قال لضباطه: «أحضروا إلي الساحر زازامانخ.» فلما مثل بين يديه قال له الملك: «أيها الساحر زازامانخ، لقد بحثت في جميع قصري، فلم أجد ما يذهب عني الملل.»
فقال الساحر: «تفضل يا مولاي بالركوب في القارب، ودعه يسير بنا في بحيرة القصر، ومر بإحضار عشرين فتاة ليحركن المجاديف، وركب في القارب مجاديف من الأبنوس المرصع بالذهب والفضة، ولا بد أن تفرج عنك يا مولاي بالنظر إلى طيور الماء، وشواطئ البحيرة الجميلة، والحشائش الخضراء، وتعيد لنفسك سرورها.»
وركب الجميع في السفينة الجميلة، التي سارت بهم في بحيرة القصر، وكان على كل جانب من جانبي السفينة تجلس تسع فتيات يجدفن، أما الاثنتان الباقيتان، وكانتا أجمل الفتيات، فقد جلستا في مؤخر السفينة بجانب الدفة، وأخذتا تنشدان لحنا خاصا للتجديف، وابتدأ السرور يعاود الملك كلما توغل القارب داخل البحيرة، وكانت المجاديف ترتفع في الهواء وتغوص في الماء على نغم الفتاتين الجميلتين.
ولكن حدث أن مجداف إحدى الفتاتين الجميلتين لمس خطأ رأس الفتاة الثانية، فسقط تاج فيروزي صغير كان على رأسها، فتوقفت عن التجديف وعن الغناء، وتوقفت الفتيات اللائي في صفها كذلك. فسأل الملك: «لم توقفتن عن العمل؟»
فأجابت الفتاة: «ذلك لأن تاجي الفيروزي سقط في الماء.» فقال الملك: «استمري في الغناء، وسأعطيك واحدا غيره.» - «أريد تاجي القديم، ولا أرغب في امتلاك سواه.»
فدعا الملك الساحر، وقال له: «لقد سر قلبي لاتباعي مشورتك، ولكن سقط تاج هذه الفتاة في الماء، ودعاها ذلك للسكوت، مما جعل جميع فتيات صفها يتوقفن عن التجديف، وهي ترغب في استعادة التاج المفقود.»
وهنا وقف الساحر في القارب، وفاه بكلمات غريبة غامضة.
وعلى أثر ذلك ارتفعت المياه الموجودة في نصف البحيرة، وتجمعت على سطح مياه النصف الآخر، حتى ارتفعت بذلك المياه إلى علو عظيم، ووقفت سفينة الملك على سطح المياه العالية، وظهر قعر البحيرة في النصف الآخر منها وما فيه من الأصداف المتلألئة تحت أشعة الشمس، ورؤي التاج الصغير على صدفة مكسورة، فقفز الساحر وأتى به، ورجع إلى السفينة، ثم فاه مرة أخرى بكلمات غريبة، فرجعت البحيرة إلى ما كانت عليه أولا.
أمضى الملك يوما سعيدا، ووهب للساحر مالا وهدايا.
ولما أتم ابن الملك قصته سر بها الملك، ولهج لسانه بمدح القدماء والثناء على أعمالهم.
ثم قام ابن آخر له هو الأمير «هورداديف» وقال: «أيها الملك، هذه قصة من قصص الأيام الغابرة، ولا يستطيع أحد أن يجزم بصحة خبرها أو كذبه، أما أنا فسوف أقدم بين يديك ساحرا يعيش في زماننا هذا.» - «من هذا الساحر يا هورداديف؟» - «اسمه ديدي، وعمره مائة وعشرة أعوام، وطعامه اليومي خمسمائة رغيف، وشرابه مائة إبريق من الجعة، وهو - بفنونه السحرية - يستطيع أن يثبت رأسا فصل عن جسمه، وله القدرة على أن يخضع أسد الصحراء له ويجعله يتبعه ذليلا مستكينا، ويعرف سر منزل الرب الذي طالما تشوقت لمعرفته.»
وفي الحال أمر الملك ابنه بإحضار الساحر، وصدع الأمير للأمر، وأتى به في القارب الملكي.
وخرج الملك إلى فناء القصر، ومثل ديدي بين يديه، فسأله الملك : «لم لم أرك من قبل يا ديدي؟» وأجابه الساحر: «وهبك الرب الحياة والصحة والقوة أيها الملك؛ إن المرء لا يحظى بالمثول بين يديك إلا إذا دعوته!» - «هل صحيح أنك تستطيع أن تثبت رأسا فصل عن جسده؟» - «هذا صحيح يا مولاي.»
فقال الملك: «أحضروا سجينا، واقطعوا رأسه، وسنري كيف تثبته في جسمه.» - «أطال الرب عمرك أيها الملك؛ الأوفق أن نقطع رأس حيوان أو طير على أن نفصل رأس إنسان.»
وأتوا بإوزة وقطعوا رأسها، ثم وضعوا الرأس في ركن والجسم في ركن آخر، ووقف الساحر يتمتم بكلمات غامضة، فحدث ما يعد معجزة؛ إذ تحرك الرأس نحو الجسم، وسار الجسم ناحية الرأس، ثم التصقا ببعضهما كما كانا، وقامت الإوزة على قدميها أمام عرش الملك، ثم صاحت.
ثم أعاد ديدي التجربة على رأس ثور ضخم، ولما شاهد الملك ذلك قال للساحر: «وهل حقيقي تعرف سر منزل الرب؟» - «نعم؛ هذا صحيح، ولكني لست أنا الذي أستطيع أن أعلمك به.» - «إذن من الذي يستطيع؟» - «هو الولد الأكبر للسيدة «رد ديديت»، زوجة كاهن رع إله الشمس وقد وعده رع بأن أولاده الثلاثة سوف يحكمون مملكتكم.»
ولما سمع الملك هذه الجملة اضطرب قلبه، وظهرت على وجهه علامات القلق، فقال ديدي: «لا تضطرب أيها الملك؛ فسوف يحكم بعدك ابنك، وسوف يحكم بعده ابنه، ولكن بعد هذا الحفيد سيئول العرش إلى أحد الأبناء الثلاثة».
وأمر الملك بأن يقيم الساحر في القصر، وأن يقدم له يوميا مائة رغيف، ومائة إبريق من الجعة، وثور، ومائة بصلة.
ولما ولد الأولاد الثلاثة أرسل إليهم رع أربع ربات ليكن مربياتهم.
وقد جئن في لباس الراقصات المرتحلات، وجاء معهن رب في زي حمال، فلما ربين الأطفال الثلاثة قال لهن زوج رد ديديت: «أيتها السيدات، أي أجر تطلبن؟»
ثم أعطاهن أكياسا مملوءة شعيرا، وذهبن بعد أن أخذن أجرهن.
ولما بعدن مسافة قصيرة قالت رئيستهن وهي إيزيس: «لم لا نفاجئ الكاهن بأعجوبة؟» وعليه فقد صنعن تيجانا منها تاج مصر الأحمر، وتاجها الأبيض وأخفينها في كيس الشعير، ووضعنه في مخزن «رد ديديت»، وذهبن إلى حال سبيلهن.
وبعد مضي أسبوع - وكانت رد ديديت تصنع بيرة لأهل المنزل - أرسلت خادمة لها إلى المخزن؛ لتحضر كيسا مملوءا شعيرا. وذهبت الفتاة إلى المخزن، ولكنها لم تمكث فيه دقيقة حتى سمعت نغمات شجية وصوت غناء ورقص مما لا يسمع مثيله إلا في قصر الملك، فارتعبت الفتاة، ورجعت لسيدتها وأخبرتها بالأمر، ونزلت السيدة فسمعت الموسيقى الملكية، ولما حضر زوجها أخبرته عن قصة الغناء، وعلم من ذلك أن أولاده سيحكمون مصر، وقد باتت الأسرة هذه الليلة على أسعد ما يكون. وبعد مدة قصيرة من هذه الحادثة، بدا من تصرف الخادمة ما حمل سيدتها على طردها بعد ضرب موجع. وقالت الخادمة لخدم المنزل وهي تودعهم: «هل يصح أن تعاملني هذه المعاملة؟ لقد ولدت ملوكا، وسأنقل خبرهم إلى الملك خوفو.» وانصرفت إلى عمها، وأخبرته بما عقدت العزم على عمله، ولكنه غضب من ذلك، ولم يرض أن تخون الأطفال الأبرياء، وضربها بسوط ضربا أليما.
وتركت منزل عمها وهامت على وجهها، وبينما هي تسير على شاطئ النيل، ظهر تمساح فجأة وجذبها إليه، واختفى بها في الماء.
وهنا - للأسف - تنتهي القصة، ولم نعرف هل حاول خوفو قتل الأطفال أم لا؛ فإن أوراق البردي مفقودة، لا يعلم أحد عنها شيئا.
ولكنا نعلم أن الملوك الثلاثة الذين خلفوا أسرة خوفو في حكم مصر، كانوا يحملون أسماء كأسماء أولاد كاهن رع.
هذه هي أقدم الأساطير في العالم، وقد لا تكون جميلة جذابة بحيث تستثير إعجابك، ولكن يلزم أن تعلم أن لكل شيء بداية، وأن الذين كتبوا هذه القصص لم يكونوا مدربين في فن القصص كما نحن الآن.
الفصل الثامن
بعض الأساطير
أما هذه القصة التي سأرويها الآن، فقد كتبت في زمن أحدث بمئات السنين من القصص التي رويتها في الفصل السابق. وأستطيع أن أقول إن الأطفال المصريين القدماء كانوا ينظرون إليها كما ينظر الأطفال الآن إلى قصة السندباد البحري، وإنهم كانوا يشعرون بلذة في أثناء تلاوتها تعادل ما يشعر به أطفالنا الآن في أثناء قراءة السندباد البحري.
وهي تدعى «قصة ملاح السفينة المكسورة»، والملاح نفسه هو الذي يقصها لنبيل مصري؛ حدث الملاح، قال:
أبحرت سفينتي على قصد التجوال حول ملك فرعون العظيم، وكانت سفينتنا من أعظم السفن؛ لا يقل طولها عن 225 قدما وعرضها عن 60 قدما، وكان عدد ملاحيها 150 رجلا من صفوة ملاحي القطر؛ شداد القلوب كالأسود، وكنا جميعا سعداء، يصور لنا الأمل رحلة جميلة وعودا هنيئا. ولكن عند اقترابنا من أحد الشواطئ هبت عاصفة عظيمة أثارت الأمواج ثورانا عظيما، حتى ارتفعت كالجبال العالية، فغرقت سفينتنا الجميلة وغمرتها المياه، وذهب كل مجهود بذلناه لإنقاذها سدى.
وكان من حسن حظي أن تعلقت بقطعة خشب كبيرة، حملتها المياه وأنا عليها ثلاثة أيام طوال، حتي رست بي على شاطئ جزيرة، وكنت إذ ذاك وحيدا؛ فقد غرق كل من كان معي على ظهر الباخرة، فرقدت تحت غصون بعض الأشجار وقد أنهكت قواي.
ومكثت على هذه الحالة مدة لم أعرف قدرها، حتى استرددت بعض نشاطي، فقمت باحثا عن طعام، ولم أبذل جهدا في ذلك؛ لأن الجزيرة كانت غنية بالفواكه، كالتين والأعناب وكافة الحبوب وأنواع الطيور، فأكلت حتى شبعت، وأوقدت نارا، ثم قدمت تضحية للآلهة؛ معبرا عن الشكر والحمد لتفضلها علي بالحياة والنجاة بعد الموت المحقق.
وجلست مفكرا، ثم دوى في الفضاء صوت صارخ كالرعد القاصف أزعج السكون الشامل، وهز الأشجار، وزلزل الأرض. فنظرت حولي بخوف مستطلعا فرأيت ثعبانا هائلا يزحف نحوي، وكان طوله خمسين قدما، وطول شوكته ثلاث أقدام، وكان جسمه يتلألأ تحت أشعة الشمس كالذهب. ولما اقترب مني التف حول نفسه، حتى صار كعمود مرتفع ذي حلقات، فارتعبت، وسقطت على وجهي من شدة الخوف والفزع، فابتدرني قائلا: «ما الذي أتى بك إلى هنا أيها الشيء الصغير؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟ تكلم؛ إنك إن لم تخبرني سريعا عما أتى بك إلى هذه الجزيرة فسأفنيك كما يفنى اللهب.»
ولم يتم حديثه حتى أخذني في فمه، وحملني إلى وجاره، وتركني على الأرض، ولم يمسني بأي سوء، ثم قال ثانيا:
ما الذي أتى بك إلى هنا أيها الشيء الصغير؟ ما الذي أتى بك إلى هذه الجزيرة؟
وهنالك قصصت عليه تاريخ رحلتي، من وقت إبحارنا إلى مصر، حتى ساعة غرق السفينة، وأخبرته كيف غرق زملائي ونجوت وحدي، فقال لي: «لا تخف أيها الصغير، وامسح مسحة الحزن عن وجهك. إذا كنت أتيت إلى هنا، فالرب هو الذي أرسلك إلى هذه الجزيرة المملوءة بالخيرات. اسمع الآن؛ ستقيم هنا أربعة أشهر، وفي نهايتها ستقدم سفينة من وطنك إلى هذه الجزيرة، وستعود فيها إلى وطنك آمنا، حيث تموت في مسقط رأسك. وإن أردت أن تعلم شيئا عني فاعلم أني أقيم هنا مع رفقاء لي ومع أولادي، وعددنا جميعا خمسة وسبعون، وبجانب ذلك كانت توجد فتاة صغيرة أتى بها القدر إلى هنا، وقد حرقت بنار من السماء. وإذا كنت قويا وصبورا فسوف تعانق أولادي وزوجتي، وتعيش معنا سعيدا حتى تعود إلى وطنك.»
وهنا انحنيت أمامه باحترام، ووعدته بأن أقص خبره لفرعون، وأن أعود إليه بسفن محملة من جميع كنوز مصر، التي لا يوجد مثيل لها في البلدان الأخرى. ولكنه ابتسم لكلامي، وقال: «ليس في بلادك ما أرغب فيه، لأني أمير بلاد «بنت»، وكل كنوزها ملك لي، وفوق ذلك فإنك بعد أن ترحل من هنا لن ترى هذه الجزيرة مرة أخرى؛ لأنها ستكون حينذاك أمواجا كأمواج البحر.»
وانتظرت أربعة أشهر، وقد صدقت كلمة الثعبان، وأتت السفينة الموعودة، وقد حدثني الثعبان قائلا: «وداعا وداعا، اذهب الآن إلى وطنك أيها الصغير وتمتع برؤية أطفالك بعد هذا الغياب، ولا تذكر اسمي إلا بالخير؛ هذا كل ما أرغب فيه.»
وودعته، وركبت السفينة بعد أن زودني بعطايا نفيسة، مثل العاج والأخشاب وغيرهما.
وقد وصلنا أرض مصر بعد شهرين في الماء، وسأحظى بالمثول بين يدي فرعون، وأقص له قصتي، وأقدم له هدايا الثعبان، وسوف يشكرني الملك في حضرة عظماء مصر ا.ه. •••
أما القصة الأخيرة، فقد كتبت بعد قصة السفينة السابقة بمدة طويلة.
في سنة 150 قبل الميلاد، حكمت مصر أسرة مالكة اشتهرت بميلها الحربي ، وقد أسس أفرادها إمبراطورية كانت من السودان جنوبا إلى سوريا وناهارينا شمالا، وكانت هذه الإمبراطورية أرضا مجهولة قبل فتحها وامتلاكها، فكانت هذه الأرض مثل أمريكا على عهد الملكة إليزابث.
وهذه القصة هي «الأمير المقضي عليه بالهلاك» التي سأرويها لك، تمثل بعض أدوارها في ناهارينا، والبعض الآخر في مصر، وهي - كما سترى - تمت بأسباب كبيرة إلى قصصنا الخرافية الحديثة.
يحكى أنه كان بمصر ملك لم يلد وارثا لعرشه، وقد أورثه ذلك حزنا دائما، وكان كثيرا ما يصلي للآلهة ويضرع إليها أن تهبه طفلا؛ فأصغت الآلهة إلى تضرعاته ووهبته طفلا. ولما جاءت «جداته» ليكشفن الستار عن مستقبله، قلن: «سيكون موته على يد تمساح أو ثعبان أو كلب.» ولما سمع الملك ذلك زال عنه السرور، وعاد إلى الحزن والألم، وبعد تفكير طويل عزم على حفظ الطفل في مكان حريز حيث لا يمكن أن يصل إليه ضرر أو سوء، وبنى له قصرا بعيدا في الصحراء، وأثثه بأفخم الأثاث، وأرسل إليه الطفل تحت رعاية خدم أمناء يحرسونه ويسهرون على راحته. وهكذا نما الطفل وكبر في هذا القصر، بعيدا عن العالم وما فيه.
ولكن في ذات يوم وكان الطفل واقفا على سطح القصر رأى رجلا يسير في الصحراء يتبعه كلب، فقال للخادم الذي معه: «ما هذا الذي يتبع الرجل؟» - «إنه كلب.» - «أحضر لي واحدا مثله.»
ثم إن الخادم ذهب إلى الملك وأعلمه بالخبر، فقال الملك: «ابحث له عن جرو (كلب صغير) وخذه إليه حتى لا يحزن.»
ونفذ الخادم أمر الملك، واشترى للأمير كلبا صغيرا.
وشب الأمير وترعرع، وشعر بالملل والضجر من وجوده وحيدا في القصر، ولما نفد صبره أرسل لأبيه رسالة جاء فيها: «ولماذا تحبسني هنا دائما؟ إن كان الموت مقدرا لي على يد أحد الحيوانات الثلاثة، فدعني أنال في الدنيا ما أشتهي، وليقض الرب ما يريد.»
واقتنع الملك برأي الأمير، فأعطوا للأمير سلاحا، وذهبوا معه إلى الحدود الشرقية، وقالوا له: «اذهب حيث تشاء.» فسار صوب الشمال وكلبه يتبعه، حتى وصل إلى ناهارينا.
وكان لحاكم هذه البلاد بنت واحدة بنى لها قصرا عجيبا، شيده على قمة صخرة شاهقة يزيد ارتفاعها على مائة قدم، وكان بالقصر سبع نوافذ.
وقد جمع الحاكم أبناء حكام البلد الصغار، وقال لهم: «ستكون ابنتي زوجة من يستطيع منكم تسلق الصخرة والدخول من إحدى النوافذ.»
وقد عسكر الأمراء حول الصخرة المشيد عليها القصر، ثم أخذوا يحاولون تسلق الصخرة كل يوم، ولكن واحدا منهم لم يستطع الوصول إلى النافذة؛ لأن الصخرة كانت مرتفعة وعظيمة الانحدار.
ففي ذات يوم وهم في محاولتهم مر بهم الأمير المصري وكلبه الأمين، فرحبوا به، وأعطوا له زادا هو وكلبه، وسألوه: «من أين أتيت أيها الشاب النبيل؟»
ولم يرغب في أن يخبرهم بأنه ابن فرعون مصر، فأجاب: «أنا ابن ضابط مصري، وقد تزوج أبي أخرى، ولما ولدت أطفالا كرهتني أشد الكره، وطردتني من منزل أبي.»
فضموه إلى رفقتهم، وعاش بينهم، ثم سألهم: «لماذا تقيمون هنا؟ ولماذا تحاولون تسلق هذه الصخرة؟»
فأخبروه عن الأميرة الجميلة التي تعيش في القصر، وكيف أن أول من يصل إلى نافذتها يتزوجها.
واشترك الأمير معهم، ونجح في الوصول إلى الغرض، ولما رأته أحبته وقبلته.
وفي الحال نمى الخبر إلى مسامع الحاكم، ولما سأل الذي أوصل له الخبر عن الأمير الذي ظفر بابنته أجاب الرجل: «هو ليس أميرا؛ إن هو إلا ابن ضابط مصري، طردته زوجة أبيه من المنزل.»
فثار غضب الحاكم، وقال: «هل تتزوج ابنتي مصريا متشردا؟ أرجعوه إلى مصر.»
ولما رجع الرسول إلى الأمير، وأعلمه بإرادة الحاكم القاضية بإقصائه عن ملكه، أمسكت الأميرة بيده، وقالت: «إذا أبعدتموه عني، فسوف لا آكل ولا أشرب حتى أموت في أقرب وقت.»
فأرسل الأب رسلا ليقتلوا المصري، ولكن الأميرة تعرضت لهم، وقالت: «إن قتلتموه ستجدونني ميتة قبل غروب الشمس؛ لن أعيش ساعة واحدة بعيدة عنه.»
وعلى ذلك وافق الحاكم على كره وتزوج الأمير من الأميرة، ووهب الحاكم لهما قصرا وعبيدا وخيرا جزيلا.
وبعد مضي زمن طويل قال الأمير للأميرة: «كتب لي الموت إما بيد تمساح أو ثعبان أو كلب .» - «إذن، لماذا تحفظ بجانبك هذا الكلب؟ دعنا نقتله!» - «كلا؛ لن أقتل كلبي الأمين، الذي نشأ عندي منذ كان جروا صغيرا.»
وامتلك قلب الأميرة الخوف على حياة زوجها، فما كان يبعد عن عينها لحظة.
وبعد أعوام رجع الأمير وزوجته وكلبه إلى مصر؛ حيث أقام الجميع في سعادة واطمئنان.
وفي ذات مساء، استولى نوم عميق على الأمير، وملأت الأميرة إناء لبنا، ووضعته بجانبه، ثم جلست ترقبه بعينيها الساهرتين، فرأت حية عظيمة تزحف نحو الأمير، فأمرت الخدم أن يقدموا لها اللبن، فأقبلت عليه تشرب منه حتى لم تستطع حراكا.
وهنا قتلت الأميرة الحية بعدة طعنات من خنجرها.
ثم إنها أيقظت زوجها، الذي كانت دهشته عظيمة عندما رأى الحية الميتة بجانبه. وقالت زوجته: «لقد نجاك الرب من الخطر الأول، وسينجيك من الآخرين.»
هنالك قدم الأمير للآلهة تضحية، وشكرها من أعماق قلبه.
وفي يوم من الأيام ذهب الأمير للتمشي في أملاكه يتبعه كلبه كالمعتاد، وفي أثناء سيرهما جرى الكلب في جهة معينة لغرض خفي عن الأمير، ولكنه تبعه في الحال حتى اقتربا من النيل، وسار الكلب ناحية الشاطئ والأمير خلفه، وهنا ظهر للأمير تمساح عظيم أمسك بالأمير، وقال: «أنا مقدورك؛ أتبعك حيثما سرت.»
وهنا تنتهي القصة بلا نهاية، ولم توجد بعد بقية لفات البردي، ونحن تبعا لذلك لا نعرف ما حدث للأمير، وأظن أنه نجا من التمساح بمساعدة الكلب، ثم إنه مات بواسطة الكلب الأمين الذي يحبه ويخلص له.
وعلى كل حال، فنهاية القصة كانت حتما بموت الأمير؛ لأن المصريين كانوا راسخي الإيمان بالقدر، وبأنه لا يمكن لإنسان أن يحول إرادته عما ينوي فعله بالإنسان. ولربما يعثر بعض المستكشفين الذين يجوبون أرض مصر بحثا عن آثارها، بأوراق البردي الباقية، وسنعرف وقتئذ ما إذا كان الكلب هو الذي قتل الأمير، أو أن الآلهة نجته من الأخطار الثلاثة كما أملت بذلك زوجته.
هذا مثل من القصص التي كان يستمع إليها الأطفال كل مساء إذا أنهكهم التعب من اللعب والجري، وقد تراها بسيطة عارية من كل جمال أو لذة، ولكن لا ريب عندي أنه لما كانت تروى قديما، فإن عيون الأطفال السود لمعت بنور الإعجاب والدهشة، ولا بد أن الساحر الذي يفصل الرأس ويثبته ثانيا كان موضع إعجاب الجميع، وأن التمساح الذي يتكلم كان يخيل إليهم أنه حقيقة لا مراء فيها ولا جدال.
وعلى كل حال، لقد قرأت الآن أقدم الأساطير، وهي أجداد - إن صح أن نقول ذلك - القصص العظيمة الحاضرة، التي تنال إعجاب الأطفال، وتدخل السرور لقلوبهم الصغيرة في كل زمان ومكان.
الفصل التاسع
استكشاف السودان
لا توجد رواية أمتع من رواية استكشاف القارة المظلمة «أفريقيا»؛ لقد استكشفت جزءا جزءا، حتى انتهى الأمر بمعرفة الأسرار العظيمة التي ظلت مدفونة في جوفها أعواما لا عداد لها.
ولكن هل يمكن تصور طول هذه القصة، التي بدأ الفصل الأول منها منذ أحقاب لا تعد؟
ونحن نقرأ هذا الفصل باللغة المصورة الأنيقة - التي كان يكتب بها قدماء المصريين - على جدران المقابر، في الجزء الجنوبي من مصر، في مكان يدعى «أليفانتين».
في الأزمنة القديمة، كانت حدود مصر الجنوبية تقف عند الشلال الأول، حيث تنصب مياه النيل في سيول عظيمة.
ولقد اختفى ذلك الشلال الآن؛ لأن المهندسين الإنجليز بنوا سدا عظيما في عرض النهر في هذه النقطة، وتحول الجزء الذي يلي هذا السد من جهة الجنوب إلى بحيرة كبيرة، أما في تلك الأيام الغابرة، فكان المصريون يعتقدون أن النيل - الذي يدينون له بكل شيء - ينبع عند الشلال الأول.
ومع ذلك فكانوا يعرفون شيئا عن مملكة نوبيا المتوحشة الكائنة خلف الشلال؛ لأنه قبل خمسة آلاف سنة كان المصريون يرسلون - بين آن وآخر - حملات استكشافية إلى الأرض شبه الصحراوية، التي نعرفها الآن باسم السودان.
على مقربة من الشلال الأول، كانت توجد جزيرة إليفانتين، ولما كانت المملكة المصرية صغيرة تركت أمر تأديب القبائل النوبية التي كانت تغير على الحدود الجنوبية، إلى الأمراء الذين كانوا يحكمون الجزيرة المذكورة، وحملتهم مسئولية حماية القوافل المصرية، فكانوا في كثير من الأحايين يقودون القوافل داخل الصحراء.
وكانت القافلة في ذلك الوقت تختلف تمام الاختلاف عما تتصوره الآن عند ذكر اسمها من صف الجمال الذي يخترق الصحراء. نعم؛ لقد وجد الجمل في مصر قبل بدء التاريخ، ولدينا صور تثبت ذلك ولكنه - لسبب نجهله - اختفى منذ مئات السنين؛ فلم يستعمله الفراعنة الأمراء، واستبدلوا به الحمار، الذي كان يحمل لهم العاج والذهب، والأبنوس الذي كان يستجلب من السودان.
وكان أمراء جزيرة أليفانتين يحملون لقب حرس الباب الجنوبي، أو قواد القوافل. ولم تكن قيادة القافلة أمرا سهلا، ولم يكن الرجوع بها وبكنوزها مع النجاة من غزو القبائل النوبية متيسرا دائما، وكم من أمير رحل على رأس قافة لا ليعود بالكنوز؛ بل ليترك عظامه وعظام رفقائه بين رمال الصحراء.
ويخبرنا أحدهم كيف أنه لما علم بموت أبيه في الصحراء جمع أتباعه وسار جنوبا وخلفه مائة حمار، ثم أنزل بالقبائل التي قتلت والده وأبادت قافلته أشد أنواع العقاب، وأحضر معه عند عودته لوطنه جثة والده؛ ليدفنها بما تستحقه من الشرف والتقدير.
ويمكن قراءة أخبار هذه الرحلات - وهي أول مجهود إنساني بذل في سبيل الاستكشاف - على جدران مقابر عظماء المستكشفين القدماء. وقد أخبرنا أحد الأمراء المدعو هيركوف عن أربع رحلات قام بها إلى السودان. ففي الرحلة الأولى كان مع أبيه، وقد غاب عن وطنه ما يقرب من سبعة أشهر، وفي الرحلة الثانية سمح له أن يذهب بمفرده، وقد عاد بقافلته آمنة بعد غياب ثمانية أشهر، وقد توغل في رحلته الثالثة أكثر من قبل، وجمع كميات كبيرة من العاج والذهب؛ حتى إنه اقتضى حملها ثلاثمائة حمار، ولما كانت مثل هذه القافلة مما يغري نفوس النوبيين ويثير جشعهم؛ فقد اتفق هيركوف مع أحد رؤساء القبائل على إرسال حملة معه لحمايته. وهكذا سارت القافلة في مأمن من طمع رجال القبائل وكيدهم، الذين لم يفكروا في مهاجمتها؛ بل أظهروا استعدادهم لمد يد المعونة للقائد المصري، وتزويده بالقطعان والرجال.
ولما رجع هيركوف إلى مصر محملا بالكنوز سر الملك بنجاحه، حتى إنه أرسل إليه رسولا خاصا في قارب مملوء بما لذ وطاب؛ إظهارا لإعجابه وتقديره.
وكانت الحملة الرابعة أعظم نجاحا من سابقاتها، وكان الملك الذي تمت الرحلات الثلاث الأولى في عهده قد مات، وتولى عرشه طفل يدعى «بيبي»، وكان في السادسة من سني حياته، وقد حكم تسعين عاما، وهو أطول عهد أمضاه ملك على عرشه.
ففي العام الثاني لجلوس بيبي على العرش، خرج الرحالة على رأس قافلته للمرة الخامسة، وقد أحضر معه شيئا آثره الملك أكثر على الذهب والعاج.
أنت تعلم أنه لما ذهب ستانلي في البحث عن أمين باشا اكتشف قوما في غابات أواسط إفريقيا، كلهم أقزام يعيشون في عزلة عن العالمين، ويخشون لذلك الغرباء.
والظاهر أن أجداد هؤلاء الأقزام كانوا يعيشون في مكان أقرب للسودان ومصر من المكان الذي عثر عليهم فيه ستانلي. وقد حدث أن أحضر أحد رحالة المصريين قزما من هؤلاء إلى قصر فرعون؛ ليسر الملك بشكله الغريب.
وكان من حسن حظ هيركوف أن فكر في إحراز قزم يهديه للملك الصغير، ليضمه إلى لعبه الخشبية، ولما سمع الملك الطفل عن هذا القزم سر سرورا عظيما، وقد كان مجرد التفكير فيه يدخل لقلبه سرورا يصغر بجانبه سروره بالكنز العظيم الآتي إليه مع القزم.
وأمر بكتابة خطاب لهيركوف، يظهر فيه سروره وإعجابه، ويطلب منه أن يعتني بالقزم اعتناء عظيما؛ حتى لا يصيبه ضر أو سوء.
والخطاب بما فيه من جمل غريبة، لا يختلف عن أي خطاب يكتبه طفل ينتظر لعبة جديدة. كتب فرعون الصغير: «ترغب جلالتي في امتلاك هذا القزم أكثر من جزية بلاد بنت، وإذا أحضرته إلى القصر سليما، فسيجزيك جلالتي خيرا مما جزى الملك أسا مستشاره بورديد» (وهذا المستشار هو الذي أحضر القزم في الأيام القديمة).
ثم أرسل الملك أناسا يوافونه بالأخبار عن القزم، بعد أن أمرهم بحراسته.
فكانوا يسهرون أمام الغرفة التي ينام فيها، وينظرون إلى وجهه عشر مرات ليتأكدوا من وجوده حيا سليما. ولا شك أن القزم قد كابد آلاما كثيرة من هذه المراقبة، فكيف يذوق الراحة مثلا إذا كانوا يوقظونه عشر مرات ليلا ليتأكدوا أنه حي يرزق ، وأنه سليم معافى؛ لربما كان الخطر الذي يهدد حياته من شدة عنايتهم به أعظم مما ينجم لو ترك لنفسه! وعلى كل حال، فقد وصل هيركوف سليما ومعه القزم، ولا ريب أن القزم كان أحسن من جميع لعب الملك، كما كان أحبها إلى نفسه.
ويعجب الإنسان؛ كيف كانت حال القزم وهو يشاهد المدن المصرية العظيمة بقصورها الشاهقة؟ وهل لم يحن يوما إلى حريته الكاملة في موطنه؟
وقد بلغ افتخار هيركوف برسالة الملك أن أمر بنقشها على جدران قبره حرفا حرفا، ويمكن قراءتها إلى اليوم، وهي تخبرنا عن أول حملة استكشافية ذهبت إلى السودان، وتدلنا بذلك على قدم عهد رواية استكشاف القارة المظلمة، كما تدلنا على أن الطفل طفل دائما، ولو عاش قبل الآن بآلاف السنين وكان على عرش مملكة عظيمة.
الفصل العاشر
رحلة استكشافية
منذ 3500 سنة، حكمت مصر ملكة عظيمة، ولم يكن ذلك مألوفا في مصر، ولو أن النساء كن موضع الاحترام والتجلة دائما؛ فقد كانوا يجلون أم الملك، ويضعونها في منزلة تماثل منزلة أبي الملك احتراما وتعظيما.
وقد جلست على العرش، وأدارت شئونه بمهارة فائقة، وتركت خلفها كنزا من الشهرة والعظمة خلد على مر السنين والأعوام، وهي تعد من بين أعظم النساء في العالم، أمثال الملكة إليزابث والملكة فيكتوريا.
وقد بقيت الملكة حتشبسوت عهدا طويلا، وهي تشترك مع زوجها في حكم مصر، وفي أواخر أيامها أشركت معها في الحكم ابن أخيها ووريثها، ولكنها حكمت بمفردها ما لا يقل عن عشرين عاما، ساست في أثنائها الرعية بحذق وحكمة.
وأهم ما يلفت الأنظار في قراءة تاريخها، هو هذه الرحلة التي أمرت جزءا من أسطولها بالقيام بها. ولقد قام المصريون برحلات بحرية في البحر الأحمر إلى أرض تدعى «بنت» أو «الأرض المقدسة»، قبل حكم حتشبسوت بقرون، ومحتمل أن تكون بنت هذه جزءا من الصومال الحالي.
ولكن أوقف تيار هذه الرحلات، ولم يعد يعرف الناس شيئا عن هذه الأرض؛ اللهم إلا ما تناقلته العامة عاما بعد عام، وجيلا بعد جيل، أو ما روته القصص القديمة.
وتخبرنا الملكة أنها في يوم من الأيام وكانت تصلي في معبد آمون شعرت بوحي ينزل عليها من الإله، يأمرها بأن ترسل حملة إلى تلك الأرض المنسية. «سمع أمر الإله في المعبد بأن الطريق المؤدية لبنت ينبغي استكشافها، وأن الطريق الموصل لأشجار البخور يجب أن يمهد للسير.»
وطاعة لهذا الأمر؛ جهزت الملكة أسطولا صغيرا، وملأته بنخبة من الملاحين، وكان منهم مندوب لها، وأبحرت السفن في البحر الأحمر للبحث عن الأرض المقدسة، وقد حملوا في السفن بضائع مصرية على أمل أن يبادلوها بكنوز بنت.
ونحن نجهل الزمن الذي استغرقه الأسطول في البحث عن الأرض المجهولة، وقد كان السفر في البحر في تلك الأزمان محفوفا بالمخاطر والأهوال، ولكنا نعلم أن السفن وصلت آمنة.
وأول ما رأوا أمامهم منازل البنتيين، وكانت مبنية على تلال، حتى إنه لا يمكن الصعود إليها إلا بواسطة سلالم، وكانت ضيقة وملتصقة مثل خلايا النحل.
ولم يكن سواد الأهالي زنوجا ولو أنه وجد ذلك العنصر بينهم وكانوا على العموم يشبهون المصريين في مظهرهم. لهم لحى طويلة، وعلى أجسامهم جلود الأسود، وترتدى النساء ملابس صفراء بلا أكمام، وتصل أطرافها إلى وسط الساق.
وقد نزل «نيهسي» نائب الملكة إلى البر، وصحبه ضابط وثمانية من الجنود، ولكي يبين أنه آت في حملة سلمية؛ قدم لرئيس البنتيين بعض الهدايا، كالحراب والسيوف والخناجر الذهبية، ومثل هذه الهدايا يقدمها المستكشف الأوربي - الآن - إلى رئيس القبيلة الإفريقي.
وقدم الأهالي من جميع الجهات ليشاهدوا الغرباء وسفنهم وهداياهم، فملكتهم الدهشة، وسألوا المصريين:
كيف وصلتم إلى هذه الأرض وهي مجهولة من جميع الناس؟! هل جئتم عن طريق السماء، أم عن طريق البحر المقدس؟
وتقدم إلى المصريين الحاكم واسمه «باريهو» وامرأته «آتي» وابنتهما. وكانت زوجته راكبة حمارا، فنزلت عن ظهره لتتأمل الأغراب، ولا شك أن الحمار حمد الإله على ذلك؛ لأن المرأة كانت في غاية السمن والضخامة، وكذلك كانت ابنتها على صغر سنها.
وتبادلوا مع رسول الملكة السلام، وابتدأ المصريون في العمل، فضربوا خيمة كبيرة ليعرضوا فيها بضائعهم، وقد وقف بجانبها بعض الجنود؛ ليدفعوا من يفكر في السلب والنهب، وفتح السوق جملة أيام، والأهالي تبادل كنوز بلادها ببضائع المصريين، ففرغت السفن المصرية، ثم ملئت ثانيا بكنوز بنت، وهي الذهب، والأبنوس، والقرود، وجلود النمر والأسد، وأخشاب البخور والصمغ. وعاد مع المصريين على سفنهم كثير من نبلاء بنت؛ ليشاهدوا البلاد التي لم يسمعوا عنها.
ولم يكن الرجوع سهلا؛ خاصة وأن السفن كانت مثقلة بالكنوز والرجال. ووصل الأسطول إلى طيبة عن طريق قناة توصل بين البحر الأحمر والنيل.
وقد سر جميع المصريين بنجاح الحملة، فكان يوم وصولها إلى طيبة يوم احتفال عظيم، اشترك فيه جميع المصريين على اختلاف طبقاتهم، وخرج الأهالي في صفوف منظمة يستقبلون الجنود المستكشفين، وقاد الأسطول المستكشف أسطول ملكي إلى رصيف المعبد؛ حيث رست السفن كلها.
واستطاع الطيبيون أن يروا الكنوز التي أتى بها المستكشفون، وكانت دهشتهم عظيمة عندما وقعت أبصارهم على البنتيين، ولفت أنظارهم خاصة زرافة أحضرها المصريون معهم. وقد يتساءل كيف حملت الزرافة المسكينة التي أثارت دهشة المصريين برقبتها الطويلة وبقع جلدها الجميلة؟!
وقد وضعوا البخور في المعبد، بعد أن وزنته الملكة بنفسها بميزان مصوغ بالذهب والفضة، وهكذا انتهت الرحلة بالنجاح والفوز، ولكنها لم تكن كل أغراض الملكة، بل ولم تكن نصفها.
كان والد الملكة قد ابتدأ في تشييد معبد في مكان يبعد عن طيبة عدة أميال، على مقربة من أطلال معبد متخرب، ولكن الموت حال بينه وبين إتمامه، فأخذت الملكة على عاتقها هذه المهمة، وابتدأت في العمل، وقام البناء، وكان على طراز جديد مخالف للمعابد المصرية التي سبقته.
ففي جهته الأمامية بنوا على رمال الصحراء طبقات مدرجة من الأرصفة، كل واحدة تعلو على سابقتها، ومحدودة على الجانبين بأعمدة مرتفعة، ويؤدي ذلك البناء المدرج إلى الحجرة المقدسة المنحوتة في الصخر الشاهق.
وكانت قد شيدت المعبد ليكون «جنة آمون» وهو الرب الذي أوحى إليها بإرسال الأسطول للاستكشاف، وغرست حول المكان المدرج السابق الذكر شجر البخور الذي أحضرته من بلاد بنت، ولكي يهيئوا له الحياة المستديمة؛ فقد حفروا بالقرب منه بئرا في الصحراء لتروى منها الأشجار.
وأمرت الملكة بنقش قصة الرحلة على جدران المعبد في شكل صور مختلفة تمثل الرحلة من مبتداها إلى منتهاها.
فأنت تستطيع أن ترى السفن وهي تجاهد أمواج البحر في سبيل غرضها المجهول، ومقابلة المصريين بالبنتيين، ثم المبادلة التجارية ونقل المواد إلى السفن، ثم المواكب العظيمة من الجنود المصرية التي استقبلت رجال الأسطول المنتصر.
ولم تترك صغيرة إلا صورتها، وبفضل دقتها ودقة حفاريها علمتنا كيف كانت حياة البحارة وأعمالهم في تلك الأزمان، وكيف كانت المعاملات التجارية في الأراضي الغريبة، وكيف كانت تعيش القبائل في البلاد المتوحشة.
والعادة الآن أن الرحالة يضمن ملاحظاته عن البلاد التي جابها، ويجمع صورا عن أغرب المشاهدات فيها في مجلد كبير ينشره بين مواطنيه، ولكن واحدا منهم لم ينقش قصته كما نقشتها الملكة حتشبسوت، وواحدا منهم لم يزين كتابه بصورة بلغت من الدقة والجمال ما بلغته هذه الصور التي ظهرت للوجود حديثا، بعد أن طويت قرونا عدة.
وقد تركت الملكة بعد موتها غير المعبد وقصة الرحلة ما يكفي وحده لتخليد ذكراها على مر العصور.
وهي تخبرنا كيف أنها كانت جالسة يوما في قصرها تفكر في خالقها، حين لاح لها فجأة أن تشيد مسلتين أمام معبد الكرنك، وقد أمرت بتنفيذ الفكرة، وفي الحال سافر مهندسها الماهر «سن مت» إلى أسوان، وقطع من حجر الجرانيت ما يكفي لتشييد المسلتين، وأتى به عن طريق النيل.
ويبلغ ارتفاع مسلة كليوباطرة المقامة على ضفاف التيمز ثماني وستين قدما ونصفا، ونحن نظن أن مثل هذه الكتلة لا تستطيع صنعها يد بشر. ولقد تكلف مهندسونا الشيء الكثير في نقلها إلى هنا وإقامتها حيث هي على شاطئ التيمز.
أما هاتان المسلتان اللتان شيدتهما حتشبسوت، فلا يقل ارتفاع الواحدة منهما عن ثمانية وتسعين قدما ونصف، وتزن كل منهما ثلاثمائة وخمسين طنا، ومع ما وصفنا فقد استغرق المهندس المصري في نقل الحجارة من أسوان إلى طيبة وفي صنعهما سبعة أشهر!
ولا تزال إحداهما باقية إلى الآن في الكرنك، وهي أطول مسلة في المعبد. أما الأخرى، فقد تهدمت وتكومت أطلالها بجانب المسلة الباقية، وهما تدلان دلالة واضحة عما كان عليه المصريون من التقدم العقلي والفني في عهد تشييدهما.
ولربما كان الإله الذي تعبده الملكة والذي كانت تفكر فيه في قصرها، قريبا من قلب خادمته حقيقة.
الفصل الحادي عشر
الكتب المصرية
إن لم يكن المصريون هم أول من دون آراءه بالكتابة - وبعبارة أخرى أول من اخترع الكتب فقد كانوا بلا ريب بين أوائل من اخترعوا هذا الفن. وإن أحد كتبهم - المملوء بالحكم والنصائح يسديها أب لابنه - لهو أقدم كتب الدنيا جميعا.
ونحن كثيرا ما نستعمل كلمتين جديرتين بأن يذكرانا دائما بفضل المصريين القدماء؛ أولهما
The Bible ، ومعناها الكتاب، والثانية
، ومعناها الورق، ونحن إن كتبنا الأولى فإننا نستعمل كلمة من الكلمات الإغريقية التي أطلقت قديما على النبات الذي اتخذ منه المصريون كتبهم (يعني ورق البردي)، وإذا كتبنا الكلمة الثانية فإننا نستعمل اسما آخر، وهو الأشيع لنفس النبات؛ لأن المصريين كانوا أول من صنع الورق، وقد استعملوه قرونا قبل أن يعرفه الناس. ومع ذلك فلو رأيت كتابا مصريا قديما لعجبت من شكله ونظامه، ولعلمت أنه يختلف كل الاختلاف عن كتبنا الجميلة التي نمسكها بقبضة يدنا ونطالعها.
كان المصري إذا أراد أن يصنع كتابا جمع سيقان البردي الذي ينمو في بعض جهات القطر التي تكتنفها المستنقعات، وهذا النبات ينمو لارتفاع اثنتي عشرة قدما، وقد يبلغ خمس عشرة قدما، أما سمك سيقانه فلا يقل عن ست بوصات، وكان يقشر الجزء الخارجي من الساق، ثم يقطع الجزء الباقي قطعا طوليا إلى طبقات رقيقة بآلة حادة. وتوضع هذه الطبقات بجانب بعضها حتى تتصل أطرافها، ثم يراق الصمغ على سطحها الأعلى، ثم يأتي بطبقة أخرى ويضعها عرضا على الجزء الأعلى من الطبقة الأولى، ثم تضغط الطبقتان وتجففان.
ويختلف اتساع العرض تبعا للغرض الفني الذي صنعت الأوراق له، وأعظم عرض عثر عليه للآن لا يزيد على سبع عشرة بوصة، ومعظم النسخ الأخرى أضيق من ذلك.
فإذا انتهى المصري من صناعة ورقه، فإنه لا يجمعه ملازم ويغلفه كما نفعل الآن، ولكنه يوصل الورق من الطرف الأعلى، ثم يكتب، فإن احتاج لورق ألصق ورقة بورقة، وهكذا. ويلف الجميع إن أراد أن يسير وكتابه في يده. وعليه؛ فالكتاب كان لفة من الأوراق قد تبلغ - أحيانا - عدة أقدام طولا. وعندنا في دار الآثار البريطانية كتاب مصري طوله مائة وثلاثون وخمس أقدام، ونحن نعجب من الكيفية التي كانوا يحملون بها أمثال هذا الكتاب.
ولكن الأغرب من الكتاب نفسه هو ما يتضمنه من الكتابة، التي تعد بحق أغرب الكتابات كلها، وربما أجملها أيضا، ونحن نسميها الهيروغليفية، ومعناها: النقش المقدس، وهي عبارة عن صور صغيرة. وكان المصريون في أول عهدهم بالكتابة يرمزون للكلمة التي يرغبون في التعبير عنها بصورة المعبر عنه، وبعد ممارسة ذلك الفن عهدا تمكنوا من وضع حروف هجائية، ووضعوا علامات تمثل مقاطع الكلمات، ولم تكن هذه العلامات إلا صورا صغيرة؛ فمثلا كانت إحدى علاماتهم للحرف
وجه نسر، وعلاماتهم للحرف م أسدا.
فإذا تصفحت كتابا مصريا مكتوبا بالهيروغليفية، رأيت سطورا من الطيور والحيوانات والزواحف والرجال والنساء والقوارب وجميع الأشياء الأخرى تسير في الصحيفة.
وكان إذا أراد المصريون أن يخلدوا كتابتهم تركوا أوراق البردي الواهية، ويكتبون في كتب مختلفة اختلافا تاما عن البردي وأوراقه.
لا بد أنك سمعت عن النصائح المنقوشة على الأحجار، وفي الواقع أن معظم الكتابة المصرية التي تخبرنا عن الفراعنة وأعمالهم، منقوشة على الأحجار. نقشت في وضوح وعمق على سطوح المسلات وجدران المعابد، وكانت العادة أن الملوك إذا رجعوا من إحدى الحروب، نقشوا وصف المعارك وما لاقوه في الذهاب والإياب على جدران أشهر المعابد في أيامهم، أو على الأعمدة المقامة في تلك المعابد؛ حيث بقيت إلى الآن، وهي على حالتها الأولى ليقرأها الباحثون.
وكانت إذا نقشت الهيروغليفية على الحجارة طبعت الخطوط بالألوان المختلفة، حتى إن الكتابة كانت تظهر مثل لهب من جميع الألوان الخفيفة، وتظهر الجدران كما لو كانت مغطاة بستائر ذات ألوان جميلة.
ولقد نصلت الألوان الآن، ولكنك تستطيع أن تشاهد أثرها واضحا في بعض المعابد والقبور. ومن شرحي هذا، تستطيع أن تتصور ما كانت عليه هذه الكتابة من الجمال والرونق.
وكان الكتبة والحفارون عالمين بمكانة فنهم من الجمال والحسن؛ لذلك لم يألوا جهدا في إبرازه في شكل جميل جذاب.
وبلغ اعتناؤهم بالجمال أنهم كانوا إذا وجدوا أن الصور التي تتكون منها الكلمة أو الجمل تظهر قبيحة المنظر بسبب اتصالها وترابطها حذفوا الصور التي تقبح منظر الصفحة، وضحوا بصحة هجاء الجمل في سبيل إبرازها في نسق جميل.
ونحن نخطئ أحيانا في هجاء بعض الكلمات، ولكن ليس الداعي في ذلك أن نكونها في صورة جميلة طبعا! والآن نعود ثانيا إلى لفات البردي، ولنفرض أنه فرغ من صناعتها، وأنها أصبحت مهيأة للكتابة، ونحب أن نعلم كيف كان الكاتب يقوم بعمله.
أهم أدواته صندوق خشبي طويل وضيق جدا، وهو يختلف عن ريشة المصور، وهو عبارة عن كتلة خشبية في وسطها تجويف طويل، وحوله تجويفان أو ثلاثة أقل غورا وأضيق من التجويف الأول. ويوجد في هذا التجويف أقلام قلائل مصنوعة من قصب دقيق، مرضوضة من نهاياتها كالفرشاة، ويوضع في التجاويف الأخرى حبر أسود وهو يستعمل في معظم الكتابة، وأحمر، وتكتب به بعض كلمات، وربما أضاف الكاتب لونين آخرين؛ لتكون الكتابة في أبهى حلة. ويجلس الكاتب القرفصاء، ويغمس قلمه القصبي في الحبر ثم يكتب.
وهو إذا كتب أجزاء مهمة في الموضوع استعمل لونا زاهيا.
والآن نستطيع أن نفهم أن الكتابة بالصور لم تكن أمرا سهلا، خاصة وأنه لم يكن مع الكاتب إلا قلم من البوص.
ولكن على مرور الزمن تطورت الكتابة، وأخذت في النقصان والصغر، حتى اكتفوا أخيرا بأن يرمزوا بعلامات تدل على المعبر عنه، بدلا من رسم صورته، وهكذا أصبحت الكتابة الهيروغليفية سهلة التدوين، ككل الكتابات.
وقد كتبت كثير من المؤلفات باللغة الجديدة، وكانوا يسمونها اللغة الكهنوتية أو الهيراطيقية، ولكن جزءا كبيرا من الكتب العظيمة كانت تكتب باللغة القديمة.
ولقد ترك المصريون في لفات البردي عصارة أفكارهم ومشاعرهم، وخلاصة تجاريبهم. فمن النصائح الحكيمة، إلى القصص الخرافية - وقد أوردنا بعضها - إلى أساطير الآلهة، وكذلك وصف الأسفار والرحلات، وغير ذلك بما ليس له حصر.
وأهم كتاب في هذه المخلفات يختص بالديانة المصرية، واسمه كتاب الموتى، والبعض يدعوه الإنجيل المصري. وليس هذان الاسمان صحيحين، وهو - مهما كان - لا يشبه الإنجيل. ولقد سماه المصريون «فصول عن البعث»، والسبب في وضعه هو اعتقاد المصريين بأن من يقرأ نصائحه يأمن أخطار الدنيا الأخرى.
وكان الكتبة ينسخون من الكتاب أعدادا كثيرة، يحفظونها كرأس مال احتياطي، وكانوا يتركون في بعض الصفحات مسافات خالية، وهي التي تشمل أسماء الأموات الذين يشترون الكتاب في أثناء حياتهم.
وكان إذا مات فرد - لم يكن قد اشترى الكتاب - يذهب أحد أهله إلى كاتب، ويشتري نسخة من كتاب الموتى، ثم يملأ الأمكنة الخالية بأسماء الميت. وينبغي دفن الكتاب مع الميت في قبره، حتى إذا اعترض طريقه إلى السماء حيات أو أرواح نجسة استطاع - بما هو مكتوب في الكتاب - أن يدفع شرهم وينحيهم عن طريقه، وإن قامت في طريقه العقبات كوجود بعض الأبواب التي يتعذر عليه فتحها، ويلزمه المرور منها لمواصلة السير، أو لوجود بعض الأنهار التي لا يمكنه عبورها؛ فإنه بعد تلاوة الكلمات السحرية الموجودة في الكتاب يتمكن من تذليل كل هذه الصعاب.
وقد كتبت بعض هذه النسخ بإتقان وجمال بلغا حد الكمال، وشرحت بصور صغيرة هي غاية في الدلالة والتنسيق، وكلها تمثل نواحي مختلفة من حياة العالم الثاني، ومن هذه الصور تمكنا من معرفة عقائد قدماء المصريين عن الحساب بعد الموت، وعن السماء.
ولكن باقي النسخ مكتوب بإهمال؛ لأن الكتبة كانوا يعلمون أن مصير الكتب - التي يسهرون في كتابتها - الدفن مع الميت، حيث لا يمكن أن تقع عليها عينا إنسان، وعليه فلم يعتنوا في كتابتهم، ولم يروا بأسا في وجود غلطات كثيرة، بل كان يبلغ الإهمال بهم أحيانا إلى حذف بعض فصول برمتها من الكتاب، ولم يكن يدور بخلدهم أنه بعد موتهم بآلاف الأعوام ستنبش القبور، ويستولى على ما فيها، ويظهر إهمالهم للملأ.
وما لا ريب فيه أن كثيرا مما يتضمنه هذا الكتاب سقط وسخف - وهي أبعد ما تكون عن تعاليم الإنجيل النبيلة - وسأنقل للقارئ فصلا موجزا ليحكم بنفسه:
فصل في دفع خطر الثعابين
كان المصريون يعتقدون أن الميت لا يحتاج للنجاة من الثعبان إذا اعترضه في طريقه إلى السماء إلا أن يذكر هذه الجملة، وهي كفيلة بأن تحل قوى الثعبان؛ ليتمكن الميت من السير بأمان. وهذه الجملة هي: «تحية أيها الثعبان، لا تتقدم من مكانك، قف حيث أنت وسوف تأكل جرذا يكرهه رع «رب الشمس» وسوف تمضغ عظام قطة قذرة.»
هي حماقة ليس إلا، وتوجد فصول أخرى لا تقل عن الفصل السابق غباوة وبلاهة. وإني أعجب كيف كان أناس عقلاء كالمصريين يعتقدون في هذه الخزعبلات!
ولكن بجانب هذا السخف نجد فصولا تحوي أفكارا غاية في السمو والنبل، كأنما أوحيت إليهم من الله نفسه. وأهم هذه الأفكار هو اعتقادهم بأن الإنسان يحاسب على أعماله في الدنيا - بعد الموت - وأن الآلهة لا ترحم في الآخرة إلا الذين عدلوا ورحموا وتواضعوا وخضعوا لأوامرها.
الفصل الثاني عشر
المعابد والقبور
إن السائح الذي يجوب بلادنا إنجلترا لمشاهدة الآثار القديمة، لا يجد أمامه إلا كنائس وحصونا، فهنا الكاتدرائيات الفخمة، وهنالك القصور العظيمة التي كان يسكنها الملوك والأمراء، والتي كانوا يتخذون منها قصورا تؤويهم، وحصونا تدفع عنهم شر أعدائهم.
ولكن الأمر يختلف إذا كان هذا السائح يجوب أرض مصر.
يوجد عدد وافر من الكنائس أو بالأحرى المعابد، وهي غاية في الإبداع والفخامة، أما الحصون والقصور فلم يبق منها شيء، وبدلا منها توجد القبور. وفي الحق إن مصر بلد المقابر والمعابد.
لأنه لما كان الشعب المصري عظيم التدين، يخص آلهته بكل تبجيل وتقدير؛ فقد أكثر من تشييد المعابد لها.
ولكن ما السبب في تلك الحماية الموفورة التي وجهوها إلى بناء القبور؟
السبب في ذلك - وسنشرحه شرحا وافيا في فصل قادم - أنه لم يوجد شعب آثر الحياة الأخرى على الحياة الدنيا كالشعب المصري القديم.
فهم كانوا يبنون منازلهم وقصورهم بأخف المواد كالخشب والصلصال، علما منهم بأن تعميرهم فيها لن يطول، أما قبورهم أو المساكن الأبدية - كما كانوا يسمونها - فقد شيدوها باعتناء ودقة حتى خلدت على الدهر.
وسأصف لك الآن معبدا، وهو في أكمل صورة؛ أي كما كان وقت تشييده. والناس يقصدون مصر الآن من جميع أنحاء الدنيا ليشاهدوا خرائب تلك المعابد، وهم يعدونها - كما هي الآن - من أغرب ما خلف العالم القديم، بل هي تعد من غرائب فن البناء في الوقت الحاضر.
وهي الآن لا تزيد عن أن تكون الهيكل العظمي للمعابد الأصلية، ولا تدل على الأصل القديم إلا بمقدار ما يدل الهيكل العظمي على الجسم الإنساني في جماله وحياته.
هب الآن أننا قادمون نحو مدخل معبد عظيم، وهب أن المعبد لا يزال مقرا لرب من الأرباب تعبده آلاف من البشر.
فإذا تركنا الشوارع الضيقة المؤدية للمعبد، نجد أنفسنا واقفين في طريق ممهدة تمتد أمامنا مئات الأقدام، وعلى جانبي ذلك الطريق يوجد صفان من تماثيل أبي الهول ذات أجسام الأسود ورءوس البشر أو أي مخلوق آخر.
بعض آباء الهول لها رءوس إنسان مثل أبي الهول الكائن بجانب الهرم، ولكن التي توجد على جانبي طريق المعبد يكون لها في الغالب رأس كبش أو رأس ابن آوى.
وفي نهاية الطريق يرى السائر برجين عظيمين بينهما مدخل المعبد الكبير، وأمام كل برج من برجي المعبد تقف مسلة عظيمة منحوتة من حجر الجرانيت، وهي أشبه شكلا بمسلة كليوباطرة المقامة على ضفاف التيمز، وكل مسلة منقوشة نقشا بديعا، ومكتوب عليها باللغة الهيروغليفية والصور مطعمة بالألوان الجميلة الزاهية.
وقمة المسلة مصوغة بالذهب؛ ما يجعلها تتلألأ تحت أشعة الشمس المرسلة.
وبجانب كل مسلة يوجد تمثال أو تمثالان للملك الذي أمر بتشييد المعبد، والتمثال يصور ملك مصر جالسا على عرشه، واضعا على رأسه تاج مصر المزدوج الأبيض والأحمر.
وإنك حين تنظر إلى وجه الملك تعجب؛ كيف استطاعت أيد بشرية أن تنحت من الأحجار الصماء وجها ناطقا بالغا حد الكمال في تمثيل مقاطع الوجه مثل هذا!
ولا يزال إلى الآن بقية تمثال رمسيس الثاني قائما أمام أحد معابد طيبة. ولما كان هذا التمثال جديدا كان ارتفاعه سبعا وخمسين قدما، وكان وزنه ألف طن، وهو أعظم كتلة حجرية أخرجتها يد البشر، وعلى كل برج مثبت عمودان في نهاية كل منهما راية مزينة بالألوان.
أما جدران البرج، فكلها صور تمثل الملك في أثناء حروبه، فهنا تراه مطاردا في عربته، وهنا تراه ممسكا ببعض الأسرى من شعورهم، ورافعا سيفه ليقتلهم.
وهذه الصور تظهر الملك قويا وأعداءه مستضعفين؛ إما أسري وإما هاربين. وواجهة المعبد مزينة بالألوان مزدانة بالنقوش، وهي على العموم، بما فيها من نقوش ورموز تاريخية، تاريخ تصوري لحكم الملك.
نحن الآن واقفون أمام باب المعبد المصنوع من خشب الأرز، والذي لا تستطيع أن تتبينه لما عليه من النقوش والصور المزينة بالألوان.
فإذا دخلنا من الباب، رأينا أمامنا بهوا عظيم الاتساع، وهو يشبه الدير، وسقفه مقام على أعمدة طويلة منقوشة، وهي منحوتة على قد النخلة وشكلها، وفي وسط المكان يرتفع عمود عظيم منقوش على سطحه أعمال فرعون، وصوره وهو يقدم الهدايا لرب المعبد، وهذا العمود مزين بالأحجار الكريمة.
وفي نهاية البهو يرى الداخل برجين بينهما باب، وهذه الوجهة تشبه الوجهة الخارجية، وهي تؤدي إلى بهو آخر. وإذا اجتزت هذا الباب، وجدت نفسك في بهو آخر يكاد يكون مظلما؛ لأن النور لا يصله إلا من الباب السابق الذكر، ومن طاق ضيق في السقف، وهذا البهو هو أوسع حجرة شيدتها يد البشر.
وفي وسط المكان يوجد صفان من الأعمدة التي ترفع السقف، وهي تكون صحن البهو، وحول ذلك ممرات ضيقة مرفوعة سقوفها على أعمدة صغيرة عديدة متراصة.
والأعمدة التي تكون صحن البهو ترتفع فوق رأسك سبعين قدما في الهواء، ورءوسها منحوتة على غرار زهرة مفتحة، ومساحة قمتها تسع مائة رجل.
كيف أحضروها إلى هذا المكان، وكيف صنعوها على هذا الارتفاع العظيم؟
وكانت الأعمدة مغطاة بالنقوش والصور كما قدمنا وكذلك كانت جميع الجدران المحاطة بالبهو، ولكن ليست هذه الصور تمثل الحروب؛ لأن ذلك المكان أقدس من أن يرسم فيه أمثال هذه الصور.
بدلا من ذلك ترى صور الآلهة، وصور الملوك تهدى إليها الهدايا، وهي كثيرة متعددة؛ لأن كل هدية كان يقدمها الملك كانت تنقش صورته وهو يهديها.
وأخيرا نصل إلى قدس الأقداس، وهي حجرة أصغر حجما وأخفض سقفا من البهوين السابقين، والنور لا يجد إليها منفذا، وعلى ذلك فهي في ظلام دامس، ولولا شعاع المصباح الذي يمسكه الكاهن وهو يقودك لما استطعت التقدم خطوة واحدة.
هنالك يوجد المقام المقدس، وهو مأوى يسكنه رأس الإله، وهذا المقام منحوت من الجرانيت، وله أبواب من خشب الأرز، وهي مغلقة دائما.
ولو استطعنا فتحها لوجدنا تمثالا خشبيا كهذا الذي رأيناه محمولا محتفلا به في شوارع طيبة، وعليه أفخر الثياب، وحواليه الهدايا والمأكولات والمشروبات؛ وما ذلك إلا لأنه الخالق لكل ما وصفنا لك من عظمة هذه الأمة القديمة.
ويوجد جيش من الكهنة يقومون بخدمته ليل نهار، يزينونه بالنقوش، ويقدمون له الطعام والشراب والضحايا، يترنمون بمدحه وعبادته.
وخلف المعبد توجد مخازن مفعمة بالحبوب والفواكه والنبيذ، وهي كفيلة بتموين مدينة كبيرة في أثناء حصار عصيب. والإله - فوق ذلك - مالك من أغنى الملاك، له من الأراضي الواسعة ما ليس لنبيل أو عظيم، ويوازي دخله دخل فرعون نفسه، وله جيشه الخاص الذي لا يأتمر إلا بأمره، وكذلك أسطول في البحر الأحمر، ويحمل إليه البخور من الأراضي الجنوبية، وأسطول آخر في البحر الأبيض يورد إليه الملابس وخشب الأرز من لبنان.
وطبيعي أن يكون الكهنة في منزلة من القوة والسلطان دونها جميع الأمراء والنبلاء، بل لقد كان فرعون نفسه لا يقدم على إغضابهم، ولنفوذهم الذي قد يهز أركان عرشه، وهكذا كان المعبد المصري منذ ثلاثة آلاف سنة؛ أي في الوقت الذي كانت فيه مصر سيدة الأرض، ومع ما وصفت لك من جمال المعابد وفخامتها، فإن ذلك كله لا يعد شيئا لو قابلناه بجمال القبور وعظمتها.
لقد دفع المصريين اعتقادهم الراسخ بالحياة السفلى إلى تشييد قبور خالدة، تحفظ أجسادهم على مرور الأعوام والأجيال، حتى إن الملوك - الذين حكموا القطر قبل بدء التاريخ - حفروا لأنفسهم قبورا حصينة في باطن الأرض، ووضعوا فيها من الأثاث والأطعمة كل ما ظنوا أنهم يحتاجون إليه في حياتهم السفلى.
ولكن أعظم مثل للقبر المصري القديم في العظمة والفخامة هو ما بني في عهد خوفو، الذي خبرتك عنه في خرافات زازامانخ وديدي.
على مقربة من القاهرة - عاصمة مصر في الوقت الحاضر - يرى أعظم ما ترك السلف من الأبنية، ترى الأهرام - قبور ملوك مصر القدماء - وإن من يشاهد هذه القبور يدرك ما كان البناءون المصريون عليه من المقدرة قبل الميلاد بأربعة آلاف من السنين.
وأكبر هذه الأهرام هرم كيوبس وهو خوفو الذي ورد اسمه علينا في الخرافات السابقة، ولم يشيد مثله فيما مضى قبل زمن تشييده، ولا بعد ذلك حتى أيامنا هذه. ويقدر ارتفاعه بأربعمائة وخمسين قدما، وقد هدم جزء من قمته يبلغ ارتفاعه ثلاثين قدما، ويبلغ طول الجانب الواحد من جوانب قاعدته خمسا وستين قدما، أما مساحة الأرض التي يشغلها فيقدر باثني عشر فدانا؛ وهذا اتساع حقل جميل.
ولكي أقرب إلى ذهنك صورة من عظمته، أقول إنه لو استعملت أحجاره للبناء لكفت لتشييد مدينة تسع سكان أبردين، ولو قسم كل حجر من أحجاره إلى أحجار مكعبة لا يزيد ضلع الواحد منها عن قدم، ثم رصت هذه الأحجار في خط، لتجاوز هذا الخط نصف محيط الكرة الأرضية، ولكن الصعوبة في كسر الأحجار؛ لأن معظمها يزن من أربعين إلى خمسين طنا.
وجميع أحجار الهرم متلاصقة بعضها ببعض؛ بحيث لا يمكن إدخال ما يساوي سمكه سمك صفحة كتاب رقيقة بين حجرين.
وفي داخل ذلك الجبل العظيم توجد ممرات تؤدي لحجرات صغيرة، ومن هذه الحجرات «حجرة الملك»، وفيها كان يرقد الملك أعظم بناء عرف من بدء الخليقة وكانت الممرات مسدودة بكتل حجرية عظيمة، حتى لا يزعج الملك في رقدته متطفل.
ولكن رغم كل هذه الحوائل، وجد اللصوص طريقهم إلى حجرة الملك، وسرقوا التابوت، وتركوا جثة الملك العظيم تذروها الرياح، كما قال الشاعر بيرون: «لم يبق من كيوبس ولا قبضة تراب.»
أما باقي الأهرام فأصغر من الأول، وأقل ضخامة منه ، ولكن مما لا ريب فيه، أنه لو لم يوجد الهرم الأكبر لعدت من عجائب الدنيا.
ويوجد بجانب الهرم الثاني تمثال أبي الهول، وهو تمثال ضخم له جسم أسد ورأس إنسان، ونحن لا نستطيع أن نجزم بمعرفة ناحته، ولا السر في تصويره على هذا الشكل، وهو رابض في مكانه منذ أجيال عديدة، كأنه يحرس قبور الفراعنة!
ويقدر ارتفاعه بسبعين قدما، وطوله بمائتي قدم.
وهو أغرب تمثال نحتته يد الإنسان.
وبعد مرور أعوام عدة، تعب الملوك من تشييد الأهرامات، وتغيرت عاداتهم؛ فبدلا من أن يرفعوا القبور إلى هذا الارتفاع العظيم، حفروها في الأرض لحفظ رفاتهم. وعلى ضفاف النيل الغربية عند طيبة توجد هذه المقابر، وهي لتعددها تظهر في التلال مثل خلايا النحل. ووجدت هذه القبور مزينة بالصور ومنقوشة بالهيروغليفية، وتمثل صورها حياة الملك في مظاهرها المختلفة.
ففي صورة تراه جالسا وبجانبه زوجته، ومن حولهما الخدم وهم يقومون بأعمالهم المختلفة، يروون الأرض ويبذرون البذور، ويجمعون الكروم، أو يصنعون النبيذ. وفي صورة أخرى ترى صاحب القبر وهو ذاهب إلى السوق يشتري حوائجه.
وجملة القول أنه بعد التأمل في هذه الصور يمكننا أن نعرف أسرار الحياة المصرية في ذلك العهد، وفي الواقع أن معظم معلوماتنا عن المصريين القدماء وأحوال معيشتهم مستمدة من هذه القبور وأمثالها.
وفي أحد الوديان الضيقة المسمى «وادي الملوك» دفن كل الفراعنة المتأخرين تقريبا، ومقابرهم الآن من أهم ما يذهب السائح من أجله إلى طيبة.
وسوف أصف لك أجملها وهو قبر سيتي الأول والد رمسيس الثاني السابق الذكر.
تدخل الباب الصخري فتجد نفسك في ظلام، ولا تترك ممرات إلا لتسير في أخرى، حتى تصل إلى الحجرة الرابعة عشرة «منزل أوزوريس الذهبي»، وهي على بعد أربعمائة وسبعين قدما من المدخل، وفيها يرقد الملك في تابوته الجميل، وجميع الجدران والأعمدة منقوشة ومزينة بالألوان والصور.
وبعض هذه الصور وهي المرسومة على الأعمدة تمثل الملك وهو يقدم الهدايا للآلهة، أو تصور الآلهة وهي ترحب بالملك. أما الصور التي على الجدران فهي في غاية الغرابة؛ لأنها تمثل رحلة الشمس في مملكة الدنيا السفلى، وتبين جميع الصعوبات التي تلقى الروح في أثناء سياحتها في الشمس. والروح الشريرة تتبعها الحيات والوطاويط المسلحة بالحراب. وهي تسوم سيئ الحظ الذي يقع تحت رحمتها أقسى أنواع العذاب؛ فتمزق قلبه، وتقطع رأسه، أو تضعه في قدر تغلي، أو تعلقه من قدميه وتترك رأسه يتدلى في بحيرة من نار.
وتدخل الروح - إذا تخلصت من هذه الأخطار - في حقل الرحمة؛ حيث تجني ثمار أفعالها الطيبة في الدنيا، وحيث تنال السعادة الأبدية، وفي نهاية الرحلة يصل الملك، وترحب به الآلهة في مسكن السعداء؛ حيث يعيش عيشة إله في حياة أبدية.
والتابوت الذي كان يرقد فيه سيتي موجود الآن بدار الآثار ب لندن، ولما اكتشف كان فارغا، ولم يعثر على جثة الملك حتى سنة 1872م؛ إذ وجدها بعض لصوص المقابر المحدثين (نعني المستكشفين) مخفية في حفرة عميقة بين الصخور، ومعها جثث ملوك آخرين.
وهو الآن في دار العاديات بالقاهرة، وتستطيع أن ترى وجهه وملامحه، ولم تتغير كثيرا عما كانت عليه لما حكم قبل الآن بثلاثة آلاف ومائتي سنة.
وفي هذا المتحف يمكن رؤية تحتمس الثالث أعظم ملك حربي مصري، ورمسيس الثاني مضطهد بني إسرائيل، ومنفتاح الذي كفر بدين موسى، ورفض طلبه بخروج بني إسرائيل من مصر، والذي غرق في البحر الأحمر وهو يطارد عبيده الفارين.
كم يكون عجيبا لو استطاع واحد منا أن يرى الوجوه الحقيقية لأبطال قصة الإنجيل!
لقد كان المصريون يعتقدون أنه إذا مات إنسان تنتقل روحه إلى حياة أخرى، وهي تحب أن ترجع إلى جثمان أرضي، ويسرها أن تستقر في نفس الجسم الذي كانت فيه قبل طلوعها إلى العالم الثاني، وأن هدوء الروح واستقرارها في العالم الثاني يتوقفان - بطريقة ما - على حفظ الجسم سليما.
وطبيعي بعد ذلك أن يوجهوا عنايتهم إلى تحنيط الجثث؛ فكانوا ينقعونها أياما في قار وطيب حتى تحنط، ثم يلفونها في طبقات كثيفة من الكتان.
بهذه الطريقة بقيت الجثث دون أن يصيبها التلف أو التغير، وكأنما كتب لها أن تسكن المتاحف ، وأن يراها من كانوا همجا يسكنون الغابات حين كانت مصر إمبراطورية عظيمة ذات قوة وسلطان.
الفصل الثالث عشر
قدماء المصريين والسماء
أريد - في هذا الفصل - أن أشرح لك ما كان يظن قدماء المصريين عن السماء.
ما هي السماء، وأين توجد؟ وكيف يسكنها الناس بعد الموت؟ وأي نوع من الحياة يعيشون فيها؟ وقد كان لهم أفكار غريبة عن كل ذلك.
كانوا يعتقدون مثلا أن السماء الزرقاء صحن حديدي يشمل الفضاء الموجود فوق الدنيا، وأن هذا الصحن مرفوع على جبال في أربعة أركان؛ هي الشمال والجنوب والشرق والغرب، والنجوم مصابيح معلقة في بطن القبة العظيمة، وكانوا يتصورون أن حول العالم يجرى نهر عظيم، وهو الذي تسبح فيه الشمس يوما بعد يوم في سفينتها مرسلة الأنوار للدنيا، ونحن نستطيع رؤيتها في أثناء سيرها من الشرق إلى الغرب، أما بعد ذلك فيجري النهر خلف جبال شاهقة تحجب الشمس عنا، وهنالك تبدأ رحلة الشمس في عالم الظلام.
ويتبع الشمس في سيرها القمر، وهو يبحر في سفينة خاصة، وتحرسه عينان لا تغفلان عنه أبدا، ومما يدعو لهذه الحراسة أن القمر يصطدم كل شهر بعدو لدود يظهر له في شكل خنزير، ففي بحر أسبوعين يسير القمر مطمئنا، يكبر ويستدير إلى أن ينتصف الشهر ويكون قد بلغ تمامه، فيتمكن الخنزير من طعنه ويزحزحه عن مكانه، ويطرحه في النهر، فيأخذ في النقصان والزوال حتى مستهل الشهر الثاني؛ حيث تعود الحياة إليه رويدا رويدا.
هذه هي أفكار قدماء المصريين عن دورة القمر وزيادته ونقصانه، وكان لهم أفكار أخرى لا تقل عن هذه غرابة.
لا أقصد أن أقول شيئا عن اعتقادهم في الله؛ لأنهم كانوا يعبدون آلهة كثيرة، وكان لكل إله من هذه الآلهة مذاهب ومعتقدات خاصة، وإني أتعبك لو حاولت أن أشرح لك كل هذه الديانات وما يتصل بها من المعتقدات المختلفة.
وأهم ما يسترعي الانتباه حقا هو اعتقاداتهم عن الحياة التي يحياها الناس في السماء، بعد انتهاء حياتهم على الأرض؛ فإنه لم يوجد شعب من الشعوب كان يصدق ويؤمن بخلود الأرواح بعد الموت مثل المصريين، وفوق ذلك كانوا يعتقدون بأن كل ميت يبدأ حياة جديدة، يسعد فيها أو يشقي تبعا لما كان يفعله في الدنيا من الخير أو الشر. وعلى العموم كانت أفكارهم عن الدنيا السفلى مختلفة يصعب على العقل فهمها، وسأشرح لك أهم وأبسط هذه الأفكار.
كانوا يظنون أنه في بدء تكوين الخليقة، لما كانت الأرض صغيرة، كان يحكم مصر ملك نبيل يدعى أوزوريس، وكان محبا للرعية، قضى حياته في تعليمهم أنواع المعرفة المفيدة.
وكان للملك أخ شرير حسود يدعي سيت، يكرهه ويحقد عليه؛ ففي ذات يوم دعا سيت أخاه لتناول العشاء معه، وكان قد جمع بعض رفقائه ودبروا مكيدة ضد أوزوريس النبيل.
وجلس الجميع، وبينهم الملك، يقصفون ويلهون، حتى قام سيت وأتي بصندوق جميل، ووعد بمنحه لمن يماثله طولا وحجما، وقام كل واحد منهم يقيس نفسه على الصندوق طمعا في إحرازه دون جدوى. ولما جاء دور أوزوريس انتظر المتآمرون حتى وضع نفسه في الصندوق - الذي صنع على قده - ثم أغلقوا بابه ورموا به إلى النيل، وحملته الأمواج مسافات طويلة، حتى رسا بجانب الشاطئ.
وكان لأوزوريس زوجة مخلصة هي إيزيس، خرجت تبحث عنه في كل مكان، حتى عثرت على الصندوق، وجلست بجانبه تبكي زوجها المحبوب. ولكن فاجأها سيت، وخطف الجثة من بين يديها، وقطعها إربا إربا، ونثرها في الهواء، فزاد ذلك في حزن إيزيس، حتى هامت على وجهها تجمع ما تناثر من لحم زوجها، وتدفنه حيث تجده.
وكان لإيزيس طفل يدعي هوروس، فلما كبر وصار رجلا تبارز مع سيت وقتله انتقاما لوالده. هنالك اجتمعت الآلهة وتبين لها من محاسبة الشقيقين ما كان أوزوريس عليه من الحق والهدى، وما كان أخوه عليه من الغي والضلال، ثم إنهم رفعوا أوزوريس إلى مصاف الآلهة، وعينوه قاضيا يحاسب الناس بعد الموت.
واستنتج المصريون من هذه القصة الاعتقاد بالحياة بعد الموت، فقالوا: إذا كان أوزوريس قد بعث بعد الموت، فإن الذين يعبدونه يبعثون كذلك ويعيشون معه.
وتشابه هذه القصة ما ترويه الكتب المقدسة عن موت المسيح، وبعثه حيا بعد ذلك.
وكانوا يعتقدون كذلك أنه إذا مات الإنسان على الأرض تصعد روحه - بعد تحنيطه ودفنه - إلى أبواب قصر أوزوريس في الدنيا الأخرى؛ حيث تحاسب الأرواح في المحكمة الإلهية، وكان لا بد للروح من معرفة أسماء الأبواب السحرية لكي تدلها على المحكمة.
وكان بالمحكمة ميزان كبير يقف بجانبه إله لتدوين نتائج حساب الأرواح، وكان يجلس في جوانب المكان اثنان وأربعون مخلوقا مفزعا؛ وهم الذين يعاقبون الخطاة الذين اقترفوا ذنوبا معينة، فإذا دخلت روح إلى المحكمة تتقدم من هؤلاء، وتعترف لهم بأنها لم تقترف ذنبا من الذنوب المنصوص بعقاب من يقترفها. بعد ذلك يحضر قلب صاحب الروح، ويوضع في إحدي كفتي الميزان، ويوضع في الكفة الأخرى ريشة، وهي رمز الصدق، فإذا رجحت كفة القلب كانت الروح خاطئة، وجزاء صاحبها أن يقذف بقلبه بين براثن وحش عظيم، يتكون نصفه من التمساح، والنصف الآخر من فرس النهر، وكان دائما يربض خلف الميزان ليلتهم القلوب الخاطئة. أما إن رجحت كفة الصدق «الريشة» فإن هوروس يقود الرجل إلى حضرة أوزوريس؛ حيث يسمح له بالدخول في السماء.
ولكن ما هذه السماء؟ لقد كون المصريون عنها عدة أفكار متباينة، منها ما هو ظريف؛ وهو أن الأرواح العادلة تصير نجوما تضيء العالم إلى الأبد، ومنها أن هذه الأرواح ترافق الشمس في سفينتها، وتسير معها في سياحتها الأزلية.
ولكن الفكرة التي كانوا يرجحونها هي ما يتصورونه عن وجود بلد عجيب يدعي «حقل البردي» في مكان قاص جهة الغرب؛ حيث تنمو شجرة القمح، وترتفع ثلاث ياردات ونصفا في الهواء، وتكون سنبلتها ياردة كاملة، وتكتنف أرض الحقل القنوات الجميلة المفعمة بالأسماك، حولها الغاب والبردي، فإذا تركت الروح المحكمة سارت في طرق غريبة محفوفة بالأخطار، حتى تصل إلى ذلك المكان الجميل حيث يقضي الميت، - وهو حينئذ حي خالد - حياة أبدية في سعادة لا تشوبها شائبة، يزرع ويحصد، أو يتريض في قاربه، أو يلعب في المساء تحت شجرة الجميز.
ومثل هذه السماء تجذب قلوب من تعودوا الأعمال العظيمة ، ومارسوا أشق الحرف، وكابدوا الكثير من متاعب الحياة؛ أما النبلاء فلم تستهوهم هذه السماء، فهم لا يقومون بأي عمل على الأرض، فلماذا يكلفون أنفسهم ذلك في السماء؟
وأعملوا الفكرة ليهتدوا إلى طريقة يستطيعون بها أن يستصحبوا معهم عبيدهم إلى السماء، وأظنهم حاولوا ذلك في بادئ الأمر بقتل العبيد في قبر سيدهم، حتى يرافقوه إلى السماء ويقوموا بأعماله كما كانوا يفعلون في الأرض.
ولكن لما كان المصريون ميالين بطبعهم إلى الرأفة، فقد نفروا من هذه الطريقة الشنيعة، ووجد الأشراف طريقة أخرى لتنفيذ فكرتهم، وهو أنهم كانوا ينحتون من الأحجار وجوها تشبه أوجه العبيد، وكانوا ينحتون مع كل عبد آلة للعمل؛ فهذا على كتفه مجرفة، وذاك في يده صندوق، وهكذا.
وكانوا يسمون هذه الوجوه المجيبين
Answerers ، فإذا دفن أمير دفنوا معه جملة منها، حتى إذا وصل السماء ودعي للقيام بعمل في حقل البردي، ناب عنه في العمل المجيبون؛ ولهذا نجد مع الأجسام المحنطة كثيرا من هذه الوجوه، مكتوبا عليها أسطر تخبر العبد عن العمل الذي سوف يقوم به في الدنيا السفلى، وإليك مثل منها:
أيها المجيب، إذا دعاني أحد لأعمل أي شيء في السماء كأن أروي حقلا أو أحمل رملا، ينبغي عليك أن تصيح «أنا هنا.»
يالها من فكرة غريبة عن السماء! والأغرب منها ظن الأمراء بأنهم يستطيعون تجنب العمل والتعب في الدنيا الأخرى بهذه الوجوه الطينية.
ولكن يجب علينا ألا ننسى أن المصريين توصلوا كذلك لمعرفة جانب عظيم من الحقيقة التي قررتها الأديان التوحيدية، فكانوا يعتقدون بأن أفعال الإنسان في الدنيا هي التي تقرر مصيره في الآخرة، وأن الشرير وإن نجا من العقاب في الدنيا، فالآلهة لا تتركه في الدنيا الأخرى بلا حساب أو عقاب.
ومن الإنصاف أن نذكر أن هؤلاء القوم الذين دلوا على عبقريتهم في أحوال كثيرة، لم يكونوا إلا أطفالا بالنسبة للزمن والعلم، وهم مثل الأطفال في تكوينهم الأفكار الخاطئة المضحكة عن الأشياء التي يجهلونها ولا يستطيعون فهمها، ومثل الأطفال، أيضا يمدون أيديهم في الظلام، يبحثون عن أبيهم المحبوب وهم يجهلون مكانه.
فلا حاجة للغرابة إذا أخطئوا في ذلك الزمن وضلوا الطريق.
وإنما يحق لنا أن نعجب كيف أن الله الذي هداهم إلى تلك الأفكار السامية، وعلمهم تلك الفنون العظيمة، قد ترك لنفسه شواهد تدل عليه حتى في تلك الأيام المنطوية.
صفحة غير معروفة