فلما أتم علومه المدرسية، عاد إلى القطر المصري؛ وكان والده الفارس المهيب قد استلم زمام الحكم فيه، وأخذ يظهر للملأ أن كفاءته الإدارية لا تقل عن كفاءته الحربية.
فشرع الأمير (إسماعيل) يتعلم، في مدرسة أبيه الحازم، ضروب الحكم وفنون الإدارة، ويعلل نفسه بالنبوغ فيها، نبوغه في سائر العلوم التي تلقاها، كما أنه أخذ يتشرب لبان الأحكام القائمة على قاعدة التطور طبقا لمقتضيات الأيام.
ولكن المرض، الذي كان قد أنشب أنيابه إنشابا أليما، في أحشاء إبراهيم باشا لم يمهله كثيرا؛ ولم يرحم القطر المصري الذي باتت آماله كلها في تحسين أحواله، وترقية شئونه، وسعادة أيامه، متعلقة بأذيال تلك الحياة الثمينة، فحصد الموت عمر قاهر (نزيب)، بعد عود ابنه الأمير (إسماعيل) إلى مصر بقليل؛ وغادر أولاد ذلك الرجل العظيم الثلاثة، حزانى، كسيري الفؤاد، بالرغم من الثروة الواسعة المخلفة لهم.
وإنما كان حزنهم وانكسار فؤادهم مسببين لهم، أولا: من فقدانهم أبا، قلما جادت بمثله لغيرهم الأيام؛ ثانيا: من تحكم الداء العضال في جسم (محمد علي) العظيم وعقله، بحيث أحرمهم مؤاساته في ذلك المصاب وأعوزهم تعضيده؛ وثالثا: لأن ارتقاء ابن عمهم (عباس الأول) السدة المصرية، مع ما اشتهر عنه من الجفاء لوالدهم جفاء حمل إبراهيم باشا في حياته على إبعاده إلى مكة المكرمة،
2
لم يكن من شأنه أن يلهمهم الصبر، ويحل من قلوبهم، محل بلسم العزاء الذي كانت قلوبهم محتاجة إليه.
غير أنهم تقووا وتجلدوا، وبذلوا مجهودهم ليكونوا مع الوالي الجديد على أتم ما يرام من الصفاء.
ولما كان الأمير (إسماعيل) لا يزال يافعا، وقليل الحنكة في الأشغال المالية، عهد النظر في شئون دائرته إلى إدارة خاصة، باشرتها برهة مباشرة لم ترضه الرضا كله، فشمر عن ساعد الحزم والجد وأخذ زمام تلك الإدارة بيده؛ فنجحت أموره نجاحا باهرا، وازدادت ثروته زيادة عظيمة.
وكانت له في الصعيد الأطيان الشاسعة، من التي يزرع فيها قصب السكر وتأتي بمحصول جيد منه، فأقبل على تحسين زراعتها تحسينا ضاعف محصولها، وأوجد في تلك الأصقاع معملا بخاريا لتكرير السكر، على مثال المعامل الإنجليزية الأولى.
وبينما هو موجه كل اهتمامه إلى أشغاله هذه الخصوصية، ومكب عليها بكل نشاط نفسه النشيطة، إذا بملك الموت نزل مرة أخرى، وقبض بالإسكندرية، بقصر رأس التين، روح (محمد علي) المنزوي عن العالم!
صفحة غير معروفة