تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

إلياس الأيوبي ت. 1346 هجري
120

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

تصانيف

18

وكبرت حركة القطر الزراعية التجارية العملية في عيوننا؛ وبتنا أقرب إلى النظر، بلا تحيز، إلى ما يهول به من جسامة الضرائب وفداحة الديون.

هذا إذا صح الاعتماد على صدق الأرقام المبينة أعلاه، ولكن المعلوم أنها دون الحقيقة بكثير، وذلك لأن مصلحة الجمارك لم يدخلها الإصلاح، بمعانيه كلها، إلا في سنة 1877 فإنها كانت، في أيام (محمد علي) التزاما يمنح، مقابل جعل سنوي معلوم، إلى أفراد يستغلونه لحسابهم الخاص، أسوة بأبواب إيراد أخرى كانت حكومة (محمد علي) تعطيها التزاما لمن يرسو عليه آخر عطاء.

وكانت الجمارك نوعين: جمارك الثغور والحدود والجمارك الداخلية، فكانت الرسوم في جمارك الثغور تؤخذ على الواردات والصادرات؛ وتؤخذ في جمارك الحدود على الواردات فقط سواء أكانت من السودان أم من الغرب والشرق، وأما الجمارك الداخلية فكانت رسوما تدفع على البضائع لدى إدخالها في أي بلد من بلاد القطر الهامة، وكان يقال لها في مصر وطنطا وغيرها: «دخوليات» وفي أسوان وإسنا وباقي الصعيد حتى أسيوط «جمارك»، والاختلاف في التسمية نتيجة الاختلاف في الواردات، فمن أسوان لغاية أسيوط كانت تتقاضى، على الأخص، من الجلابين، على الرقيق المجلوب؛ وأما فيما عداها من المدن فكانت تؤخذ على البضائع، ولا سيما مواد الطعام، كالخضر والفواكه والأسمان واللحوم.

وقد رأينا أن محمد سعيد باشا ألغى جميع الجمارك الداخلية والدخوليات، كما أنه أبطل أن تكون جمارك الحدود والثغور التزامات، وأنه جعلها مصلحة أميرية مستقلة.

غير أنها لم تنتظم: (أولا) لأن وظائفها كانت تباع بيعا كما كانت تباع مناصب القضاء في فرنسا قبل الثورة العظمى فيها سنة 1789؛ (ثانيا) لأن المرتبات كانت قليلة، وغير وافية بالحاجة، فتلزم متقاضيها بالركون إلى «البقشيش» والرشوة ليعيشوا فكانوا يأخذون جنيها، مثلا، على صندوق البضائع الحريرية، الملزم بدفع رسوم قدرها ثلاثة وعشرون جنيها وثمانية عشر شلنا للحكومة، ويسمحون له بالخروج من الجمرك؛ أو يعتبرون البضائع الحريرية بضائع قطنية، ويتقاضون عليها الرسوم المفروضة على البضائع القطنية؛ أو كانوا، أيضا، لا يراعون حقوق الأولية: فيمكنون من يزيد بقشيشه من التجار على بقشيش سواه من تخليص بضائعه والخروج بها قبل غيره، ولو كان آخر القادمين، غير تبخيس أثمانها الحقيقية ساعة التثمين؛ و(ثالثا) وأخيرا لأن التهريب كان كثيرا ومنظما؛ ومعظم المهربين يونانيون في منتهى الجسارة؛ ونظام الامتيازات يحميهم، فيمكنهم من الاستهزاء بالحكومة المصرية عمالها، ولا أدل على ذلك مما رواه موريس بك، أحد كبار رجال خفر السواحل ضبطوا ذات يوم كمية كبيرة من تبغ وتمباك كان بعض المهربين اليونانيين يحاولون تهريبها، فلما نمى خبر الضبط إلى القنصل اليوناني - وكان يشاطر المهربين أرباحهم - جمع في الحال خمسمائة «جريكي» من حرافيش القوم وزعانفهم وأوباشهم، علاوة على جماعة المهربين أنفسهم؛ وهاجم، بجمهورهم الغفير، خفراء السواحل، في عقر مقرهم، ليستخلص منهم المضبوط، فدارت بين الطرفين معركة فظيعة، عض القنصل فيها بأسنانه ذراع أحد العساكر عض كلب، رأى موريس بك أثره بعدئذ، في ذراع الرجل، وعرف أن القنصل هو العاض، لأن سنا من أسنان هذا الموظف الأمثل الأمامية كانت ناقصة في فكه، وظهر أثر نقصها في دائرة العضة، فلما رفع الأمر إلى الحكومة، أتدري أيها القارئ اللبيب، ماذا كانت نتيجة الشكوى؟ أن السياسة تداخلت في الأمر: فعوقب خفراء السواحل ولم يصب المهربين أذى.

19

فعهد (إسماعيل) إلى موظف إنجليزي في جمرك لندن، يقال له: المستر سكر يڨنور، بتنظيم مصلحة الجمارك المصرية وترتيبها، وكان الرجل خبيرا في العمل، لاشتغاله زمنا طويلا فيه، وتقلده عدة مناصب إدارية جمركية في البرتغال والبرازيل.

فأدخل إصلاحات جمة على المصلحة المعهودة أمورها إليه، لا سيما على حساباتها، التي وصفها لي كبير من موظفي الحكومة المحالين على المعاش ممن كانوا في الجمرك في ذلك العهد البعيد، فلم يجد تعبيرا عن حالتها أظهر للخلل السائد فيها من قوله لي: «إنها كانت بطن حمار».

ولكن خللا كبيرا استمر، بالرغم من مساعي المستر سكر يڨنور ومجهوداته، منتشرا في عدة أفرع من مصلحة الجمارك؛ ولم يعمها الإصلاح تماما إلا في عصرنا هذا وعلى أيدي حكومتنا الحالية بفضل مجهودات مديريها كليار باشا وشيتي بك والمستر كنج لويس خليفتهما.

صفحة غير معروفة