دروس مصر لنفسها
«لقد أبنا بتمام الجلاء أن الأمة تريد أن تكون سيدة منزلها، سيدة صاحبة عزم وحزم، والآن تريد أن تبين أنها تريد أن تكون سيدة عادلة، ولكن تريد أن تكون سيدة على كل حال»
المستر لويد جورج
الدروس التي نفترض جدلا أن غيرنا سيلقيها علينا في معالجة الأمراض التي عجز هذا الغير عن معالجتها خلال ست وثلاثين حجة، أو الدروس التي يريدون أن يلقوها علينا كرها لا طوعا، هي التي وصفناها فيما مضى، والتي وصفنا مادتها وصيغتها، واللسان الذي تلقى به، والأسلوب الذي يعرب عنها، وقد علا صوت الأمة وصح عزمها على ألا تدخل مدرسة تلك الدروس مرة جديدة؛ لأنها تهلكة، ولأن الذي يلقي بنفسه في التهلكة هو المجنون.
والأمة تعرف سبيلها يوم تنفرد في وطنها كما ينفرد صاحب الدار في داره إذا تركه الضيف الذي يزاحمه في امتلاك الدار، تعرف الأمة سبيل التجديد والترميم، ولا تبطئ في بناء الأركان المهدومة والجدران المنقضة، كلما رأت ما فعل ضيفها الراحل الأمة التي بنت فهدموا، وغرست فاجتثوا، وأحيت فأماتوا، ورفعت فخفضوا، والأمة التي أقامت دهرا طويلا مغلولة اليد إلى العنق ترى الهدم والاجتثاث والإماتة والخفض، تأبى إلا أن تبني وتغرس، وتحيي وترفع، إذا أطلقت يدها المغلولة وحطم قيدها الشديد.
ولكن عسى أن يتطلع الناس لمعرفة ما ستصنع هذه الأمة لنفسها يوم تترك لنفسها، ولئن لم ينطق التاريخ بما ستفعل فإن حياتها الحاضرة وعزمها المنشور ينطقان به.
إن الأمة المصرية صادقة الأمل في الحياة، واثقة بأنها ستظفر بحياتها الكاملة لأن لها عزيمة تخضع قوة الزمن قبل أن يخضعها، ولها إرادة تحطم إرادة الدهر قبل أن يحطمها، ولم تفتقر أمة إلى أكثر من هذه الإرادة وتلك العزيمة، وكل أمة كانت مغلوبة فانتصرت على غالبها إنما كتب لها النصر بصدق إرادتها ومضاء عزيمتها.
ليست ثقة المصريين وليدة الحركة التي أطبقت على الأرض في هذه الأيام، وليس أملهم مخلوقا مع الآمال التي أحيتها مطامع النور في هذه الأعوام، ولكن ثقة المصريين وأملهم قديمان، ولو لم يكونا كذلك لكان أقل جهاد للسياسة كفيلا بأن يمسخهم ألوانا وأشكالا ونفوسا غير ألوانهم وأشكالهم ونفوسهم، غير أن السياسة جاهدت جهاد المستبسل وصبرت على طول الزمن لتبلغ النصر، ثم كانت عاقبتها وعاقبتنا أن بقيت في مصر أمة ممتلئة حياة ونشاطا وأملا، مندفعة في سبيل الرفعة والمجد الوطني اندفاع السيل المنحدر، وكان من فضل ذلك أن حفظت قوميتها ولغتها وأخلاقها ووطنيتها وأصابت من العلم بنفسها ما لا يتفق لأمة أخرى أن تصيبه لو أن السياسة وقفت لها موقفها لهذه الأمة.
هذا الحاضر الماثل أمام الأبصار صفحة بيضاء ينظرها الناس فيقيسون بها ما سيفعله المصريون لأنفسهم يوم تشرق عليهم شمس الاستقلال التام، أما المستقبل فما أيسر أن نقص على الناس ما تنوي الأمة أن تستوفيه من عظمته ومجده.
سنصلح المالية فلا تنفق أموالنا آلافا مؤلفة فيما لا ينفع، ونذرا يسيرا فيما ينفع ظاهرا ويضر باطنا، ولا تكون خزانتنا كالوقف الأهلي تفيض على الموظفين الإنكليز في غدواتهم وروحاتهم، وفي يقظتهم ونومهم، وفي حضرتهم وغيابهم، وفي بقائهم موظفين فإذا اعتزلوا الوظائف وعادوا إلى بلادهم أفاضت عليهم معاشا فخما ضخما، ومكافآت أضخم وأفخم من المعاش، ولا تخترع لنا كل ساعة أمورا جديدة يبرق ظاهرها باسم «مشروعات الإصلاح» وهي تستنفد المال ولو كان جبالا.
صفحة غير معروفة