وكيف تريد السياسة أن يكون إصلاح الإدارة في مصر؟ لا ريب سيقولون: نضع أنظمة جديدة فيضعونها، ونعطي المصريين حصة من العمل في الإدارة أزيد من حصتهم الحاضرة فيعطون أو لا يعطون. ولكن مصلحة السياسة ومصلحة مصر متضادتان، فأي دليل على أن هذه الأنظمة ستكون في مصلحة مصر، ولو فرض أنها ستكون في مصلحتها فأي دليل على أنها تنتقل من القول إلى الفعل؟ ولو فرض إنها ستنتقل فأي دليل على أن هذا الانتقال دائم؟ وأخيرا أي دليل على أن المصريين الذين ينالون تلك الحصة الواسعة من العمل الإداري سيكونون مخيرين لا مسيرين؟
اللهم إن هناك دليلا واحدا هو الماضي، وهذا الماضي يشهد أن شيئا من ذلك لا يكون، فخير ألا يكون من أصله، وخير أن ترجع السياسة إلى الصداقة على البعد، إلى الفوز بعطف أمة لها من مركزها ونهضتها تأثير عظيم في الشرق والغرب، إلى مطلب الأمة الصحيح، إلى الاستقلال التام؛ فقد عقد المصريون عليه خناصرهم وأصبحوا لا يقنعون بما دونه، لأنهم يريدون أن يكونوا أحياء، ولأنهم أدركوا أن الحياة هي الاستقلال.
قال المستر روبرتسون سنة 1905 ما معناه: «إن الموظفين الإنكليز يفعلون بغيرهم ما لا يريدون أن يفعله غيرهم بهم، سواء في ذلك موظفو الإدارة في مصر، والسياسيون في إنكلترا، والصحفيون الأوربيون في إنكلترا ومصر».
كان هذا رأي «المستر روبرتسون» قبل أربع عشرة سنة، فهل تغيرت الحال؟ كلا فإنها غريزة في الفطرة، وخلق يجري من النفوس مجرى الدم من الأجسام، وخطة وضعت لغاية لا تتخلف، ولكن المصريين لا يريدون أن يفعل غيرهم بهم إلا ما يفعلونه به إقامة لحكم المساواة بين الناس، وهيهات أن يرضى القوم ذلك، فإنها طبيعة لا يغيرها الزمن ولا شيء آخر قط.
ولسنا ندري ماذا يقول المستر روبرتسون اليوم، وقد بقي الموظفون في إدارة الأحكام والسياسيون في إنكلترا والصحفيون البريطانيون في إنكلترا ومصر على عهده بهم منذ أربع عشرة سنة؟ على أننا لا ندري ماذا يقول هؤلاء جميعا إذا سألهم سائل: لماذا تصفون المصريين بما تصفونهم به، وأنتم الذين أخذتم على أنفسكم تعليمهم وترقيتهم؟ ومتى يتعلمون ويرتقون؟ وماذا تقولون في التبعة؟ من يحتملها ومن الجدير بها؟ ومن الذي يجب أن يترك هذه الشئون حتى لا تتجدد تبعته مرة أخرى؟
إن أعذب ما قيل في هذا الباب كلمة قالها المستر روبرتسون أيضا سنة 1905 وهي: «إن للمصريين ما للأوربيين من الآمال، وقد ساعدتهم صحافتهم الوطنية على الانتباه إلى الحركة الكبرى الحاصلة في العالم الآن، عرفوا ما قامت به الأمة اليابانية، وأدركوا سخافة الأوربيين الذين اعتمدوا على التكهن الغربي المتأصل فيهم، فكانوا يزعمون أن اليابان لن تحرز ما أحرزته الآن».
لم تزل للمصريين تلك الآمال، وهي لم تقف عند المنزلة التي كانت لها يوم قال المستر روبرتسون هذه الكلمة، فقد تولتها الحياة النامية فضوعفت، وتعهدتها النفوس المخلصة فعظمت، ولم تكن حركة العالم الكبرى منذ أربع عشرة سنة إلا ذرة من حركته اليوم، فكم يكون انتباه المصريين؟ وكم تكون يقظتهم؟
ألا إن الإرادة لا تصلح إلا في أيدي أصحابها، وما كان لغريب الدار واللسان والخلق والعادة أن يعرف ما يعرفه صاحب الدار لنفسه، هل يكون ساكن المريخ أستاذا يلقي دروسه على ساكن الأرض ؟ إن أعجب العجب أن يكون ذلك أو يصدقه عقل، فإن كان فلا صلاح ولا فلاح!
اللهم إن وحي الإلهام الإلهي يحدثنا أن في سجل قضائك المبرم سطرا كتبته قدرتك العالية: إن مصر مع نفسها في ثلث القرن الجديد، وإلى الأبد.
الفصل السابع عشر
صفحة غير معروفة