وجماعة تلك كانت حال أكثرهم، لم يكن هناك معدى عن ذهاب هيبتهم لدى سواد الشعب، ونزول أقدارهم عنده، لا يغير من صحة هذا القول لجوء الأهلين إليهم يسألونهم الوساطة والشفاعة، كما جرت به عادتهم من قديم؛ لأن المشايخ في هذه المحنة - محنة الاحتلال الأجنبي - كانوا يتقاضون ما صار بمثابة أجر معلوم لهذه الوساطة والشفاعة؛ ولأنهم اعتمدوا في تعزيز مكانتهم ونفوذهم بين الشعب على دعم صلاتهم بالفرنسيين، ومداهنتهم والحرص على خدمة مآربهم، ناهيك بانكبابهم على الدنيا، والحرص على جمع المال، وزوال الصفات الأصيلة التي كانت مبعث زعامتهم السابقة، والأساس الذي قام عليه نفوذهم في الماضي، وهي الورع والتقوى، والزهد في الدنيا، والاشتغال بالدين.
وقد ظهرت بوادر اضمحلال نفوذهم، وضياع هيبتهم، في حادث الشيخ خليل البكري الذي سبقت الإشارة إليه، ثم إنه لما طلب الفرنسيون إلى هؤلاء المشايخ المتصدرين أثناء ثورة القاهرة الثانية أن يتوسطوا لإنهاء الفتنة، وعقد الصلح على أساس خروج العثمانيين والبكوات المماليك الذين دخلوا القاهرة وقتئذ، قام الأهلون على المتوسطين «وسبوهم وشتموهم، وضربوا الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ موسى السرسي ورموا عمائمهم وأسمعوهم قبيح الكلام، وصاروا يقولون: هؤلاء المشايخ ارتدوا، وعملوا فرنسيس، ومرادهم خذلان المسلمين، وأنهم أخذوا دراهم من الفرنسيس.»
وكان هؤلاء المتصدرون، أمثال محمد المهدي، وعبد الله الشرقاوي، وموسى السرسي، وسليمان الفيومي وغيرهم، هم أول من رحب بعودة الباشا العثماني بعد انقضاء حكم الفرنسيين، وكانت لهم في العهد الجديد بعض الوساطات والشفاعات، ولكن في حالات متفرقة ونادرة، غمرتهم الفوضى السياسية المنتشرة وقتئذ في غمرتها، وانصرفوا إلى شئونهم الدنيوية، فلما يتصدوا لزعامة الشعب إلا مدفوعين من الشعب نفسه أو بالأحرى من القاهريين الذين أبهظتهم مظالم الباشوات، وتكرر وقوع اعتداءات الجند من أرنئود وإنكشارية ودلاة وغيرهم عليهم، وحتى في الحالات النادرة التي تدخل فيها المشايخ يتوسطون ويشفعون، لم يكن لذلك أي أثر، وظلوا خلال سنوات الفوضى هذه أدوات طيعة في أيدي أصحاب الانقلابات التي وقعت في أثنائها، والتي سبق الحديث عنها في موضعها، حتى عرف محمد علي كيف يستخدمهم بدوره لتنفيذ مآربه، واطمأن هؤلاء إلى التعاون معه؛ لما كان لديه من قوة كأحد كبار ضباط الأرنئود، والذي انفرد بزعامتهم بعد مقتل طاهر باشا، واعتقدوا أن في وسعه حماية أشخاصهم وأموالهم، ورفع المظالم عنهم وعن سواد الشعب.
فقد تقدم عند الكلام عن الفوضى السياسية التي انتشرت عقب خروج الفرنسيين من البلاد، كيف أن المشايخ والسيد عمر مكرم خصوصا تحدثوا عن إلباس طاهر باشا الفرو عن المظالم والإتاوات وسألوه رفعها دون طائل، وكيف أنهم أذعنوا لمطلب طاهر باشا منهم، فوقعوا على إعلام مهيأ لإرساله إلى الآستانة، تبريرا للانقلاب الذي وقع وأفضى إلى طرد خسرو باشا من الولاية، وكيف تشفع الشيخ محمد السادات في مصطفى آغا الوكيل، دون جدوى.
وفقد المشايخ كل نفوذ لدى أصحاب السلطان، فلم يأبه محمد علي لوساطتهم التي طلبها منهم أحمد باشا والي مكة والمدينة، وانتهى الأمر بإخراجه من البلاد، وبلغ من انهيارهم أنهم صاروا أدوات طيعة في أيدي إبراهيم والبرديسي وسائر البكوات أثناء الحكومة الثلاثية المعروفة، وأفلح محمد علي في جعلهم يوجهون الدعوة لعلي باشا الجزائرلي تحت مسئوليتهم للحضور إلى القاهرة، فأتاحوا الفرصة بذلك للبكوات حتى يقتلوه في الظروف التي عرفناها، ولم يفز المشايخ لقاء مسايرتهم للبكوات بطائل ، فعبثا حاولوا التوسط لدى إبراهيم بك في غضون عام 1803 لرفع المظالم التي علا ضجيج شكوى الشعب منها، وعبثا حاول الشيخ محمد الأمير نصح البكوات في اتباع العدل وترك الظلم في أوائل العام التالي.
ولقد استطاع محمد علي بتودده للمشايخ، وبتشجيعه للسيد عمر مكرم، وبالأشياخ على معارضة حكومة البكوات، أن يجعلهم يحرضون الأهلين ويؤازرونهم في تلك الثورة التي قضت على هذه الحكومة في مارس 1804، وأن يجعلهم يؤمنون بصدق ذلك الفرمان المزور الذي أعطى باشوية القاهرة لأحمد باشا خورشيد في الشهر نفسه.
وعبثا حاول المشايخ التوسط لدى خورشيد لإنهاء المظالم، واقتضى الحال تكاتف أربعة من المتصدرين، منهم: محمد السادات، ومحمد الأمير ومحمد المهدي وسليمان الفيومي، ثم السيد عمر مكرم؛ للشفاعة في حق السيدة نفيسة أرملة مراد بك.
ثم استطاع محمد علي مرة أخرى، استخدامهم في طرد خورشيد باشا من الولاية، وكان هذا الحادث فريدا في نوعه، من ناحية الآثار التي ترتبت عليه؛ لأنه لم يسبق للمشايخ الاشتراك في الانقلابات التي وقعت قبل ذلك وأفضت إلى تنحية أحد الباشوات من الولاية في السنوات الأربع الماضية؛ ولأن المشايخ ما لبثوا أن استندوا عليه وعلى ما وقع من مشاركتهم في الحوادث الهامة اللاحقة كأزمة النقل إلى سالونيك المعروفة، أو أثناء حملة «فريزر»، أو عندما صار محمد علي يوسطهم لإنهاء خصومة البكوات المماليك معه في المطالبة باختصاصات اعتقدوا أنها من لزوميات الزعامة التي صارت لهم في العهد الجديد، فكان ذلك منشأ اصطدامهم مع الباشا، والقضاء على البقية الباقية من ذلك النفوذ الضئيل الذي شاءت إرادة الباشا أن تحفظه لهم، حتى يؤدوا نفس الدور الذي أدوه سابقا كواسطة بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، ولكن بالطريقة التي يرضى عنها الباشا ويرسمها هو لهم بنفسه. (3) الاصطدام مع الباشا
ولقد درج الكتاب على إضفاء أهمية بالغة على ما حدث أثناء انقلاب مايو 1805، الذي أسفر عن المناداة بولاية محمد علي، وبالغوا في تقدير قيمة الوثيقة التي تضمنتها شروط المشايخ والزعماء الشعبيين، لإقامة الحكم الصالح في نظرهم، وهي الشروط التي رفضها خورشيد، وقبلها محمد علي، فمع أن هذه الشروط كانت منصبة على إبداء الرغبة التي طالما طلب المشايخ والأهلون بتحقيقها: وقف اعتداءات الجند عليهم، ورفع المظالم والمغارم والفرد التي كانت تحصل منهم، على غرار ما كانوا يفعلونه ويطلبونه كلما واتتهم الفرصة، فقد وصفت هذه بأنها وثيقة حقوق تشبه وثيقة إعلان الحقوق المشهورة التي أقرها البرلمان الإنجليزي في عام 1689 عقب الثورة التي أنهت حكم ستيوارت من إنجلترة، على أساس أن هذه الشروط قد تضمنت نصا يقضي بعدم فرض ضريبة دون موافقة المشايخ ورؤساء الشعب؛ أي تقرير المبدأ المعروف، ألا ضريبة من غير موافقة الشعب عليها، وألا ضريبة من غير تمثيل، الأمر الذي يبعد كل البعد عما حدث فعلا، على نحو ما سلف توضيحه عند الكلام عن تفاصيل هذا الإعلام الذي وقعه محمد علي.
فقد كان كل ما أراده المشايخ والرؤساء الشعبيون من توقيع محمد علي على هذه الوثيقة، ينحصر في أمرين: أحدهما عاجل، هو رفع المظالم التي يشكون ويشكو الشعب منها، والآخر آجل، هو ضمان استمرار المشاورة معهم في تصريف شئون الحكم، توقيا لما قد يقع عليهم وعلى الشعب من مظالم جديدة في المستقبل.
صفحة غير معروفة