في القاهرة قبيل تسليمه.
ومن المشايخ الذين اشتهروا بتملق الفرنسيين، وانتقلت مداراة هؤلاء على أيديهم إلى تعاون صادق، ومداهنة ونفاق على حساب سواد الشعب: محمد المهدي، أقبلت عليه الدنيا قبل مجيء الفرنسيين وتداخل في الأكابر ونال منهم حظا وافرا، وعندما وقع الطاعون في سنة 1791، وفني كثيرون من البكوات وأهل البلاد، «اختفى بما أحبه مما انحل عن المولى من إقطاعات ورزق وغيرها، وزادت ثروته ورغبته وسعيه في أسباب تحصيل الدنيا، وعان الشركات والمتاجر في كثير من الأشياء مثل الكتان والقطن والأرز وغير ذلك من الأصناف، والتزم بعدة حصص بالبحيرة، مثل شابور وخلافها بالمنوفية والجيزة والغربية، وابتنى دارا عظيمة بالأزبكية بناحية الرويعي ... ولما حضرت الفرنساوية إلى الديار المصرية، وخافهم الناس، وخرج الكثير من الأعيان وغيرهم هاربين من مصر، تأخر الشيخ محمد المهدي عن الخروج ولم ينقبض كغيره عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم وواصلهم، وانضم إليهم وسايرهم ولاطفهم في أغراضهم، وأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعاته، ووثقوا بقوله، فكان المشار إليه في دولتهم مدة إقامتهم بمصر، والواسطة العظمى بينهم وبين الناس في قضاياهم وحوائجهم، وأوراقه وأوامره نافذة عند ولاة أعمالهم حتى لقب عندهم وعند الناس بكاتم السر، ولما رتبوا الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين في قضاياهم ودعاويهم، كان هو المشار إليه فيه، وخدمة الديوان الموظفون فيه تحت أوامره، وإذا ركب أو مشى يمشون حوله وأمامه وبأيديهم العصي، يوسعون له الطريق، وراج أمره في أيامهم جدا، وزاد إيراده وجمعه واحتوى بلادا وجهات وأرزاقا، وأقاموه وكيلا عنهم في أشياء كثيرة وبلاد وقرى يجيء إليه خراجها، ويصرف عنها ما يصرفه، ويأتيه الفلاحون منها ومن غيرها بالهدايا والأغنام والسمن والعسل، وما جرت به العادة، ويتقدمون إليه بدعاويهم وشكاويهم، ويفعل بهم ما كان يفعله أرباب الالتزامات من الحبس والضرب، وأخذ المصالح وصار له أعوان وأتباع، وخدم من وجهاء الناس.»
وقد حرص الشيخ المهدي على التمسك بذلك الأساس الذي قام عليه سلطانه، وهو التوسط والشفاعة لدى السلطات الحاكمة لرفع المظالم عن الساعين إليه بشكاياتهم من الفلاحين وسائر الأهلين، وهو دور كان لا غنى له عن المضي فيه عندما كان الأصل في تقريب الفرنسيين لهؤلاء المشايخ هو أن يكونوا الواسطة بينهم وبين الشعب، للوقوف على مطالبه ورغباته، للسعي في إزالة ما قد يكون سببا في إثارة الخواطر ضدهم، ولتوطيد سلطانهم الداخلي، فقال الشيخ الجبرتي: «وبالجملة فكان بوجوده وتصدره في تلك الأيام النفع العام، سد بفعله ثقوبا واسعة وخروقا، وداوى برأيه جروحا وفتوقا، لا سيما أيام الهيازع والخصومات والتنازع، وما يكدر طباع الفرنساوية من مخارق الرعية، فيتلاقاه بمراهم كلماته، ويسكن حدتهم بملاطفاته.» ولم يفت الشيخ أن يذكر أنه كان لهذه الوساطة والشفاعة ثمن يستحق بفضلها الجوائز الجزيلة من جانب أولئك الذين يتوسط لهم ويشفع فيهم لدى الفرنسيين.
ومن نفس الطراز، كان الشيخ أحمد العريشي، الذي نال حظوة كبيرة على أيام الفرنسيين، «تداخل (قبل مجيئهم) في القضايا والدعاوى، واشتهر ذكره، واشترى دارا واسعة بسوق الزلط بحارة المقسي خارج باب الشعرية، وتجمل بالملابس وركب البغال، وصار له أتباع وخدم، وهرعت الناس والعامة والخاصة في دعاويهم وقضاياهم وشكاويهم»، قلده الفرنسيون القضاء وانحرف هؤلاء عنه عند مقتل كليبر؛ لكون قاتله ظهر من رواق الشوام وهو شيخه، ولكنهم عادوا فولوه القضاء عندما تبينت براءته، وكان عبد الله جاك منو
Menou
رسم أن يكون اختيار القاضي بالقرعة فوقعت على الشيخ، فاستمر في منصبه حتى خرج الفرنسيون من البلاد.
وكان كذلك سائر المتصدرين، أقبلوا على الدنيا، وجمعوا المال، وتقربوا من الهيئات الحاكمة سواء كانت هذه من البكوات المماليك أم من الفرنسيين بعد مجيء حملتهم إلى مصر، وتداخلوا في القضايا؛ أي توسطوا لفض المنازعات بين الأهلين بعضهم وبعض أو بينهم وبين الحكام، وزاولوا التجارة، وإن عرف عن بعضهم الجود والكرم كالشيخ سليمان الفيومي، وكان هذا قد نال حظوة لدى البكوات، ثم لدى الفرنسيين، أحبه هؤلاء «وقبلوا شفاعاته، وصاروا يحضرون إلى داره، ويعمل لهم الولائم، وساس أموره معهم، وقرروه في رؤساء الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين، ولما نظموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذي جعلوه، ورتبوا على مشايخ كل بلد شيخا ترجع أمور البلدة ومشايخها إليه وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي شيخ المشايخ، مضافا ذلك لمشيخة الديوان، ازدحمت داره بمشايخ البلدان، فيأتون إليه أفواجا ويذهبون أفواجا، وله مرتب خاص، خلاف مرتب الديوان، واستمر معهم في وجاهته إلى أن انقضت أيامهم.» ومع أن الشيخ الجبرتي قد أطنب في وصف كرمه وجوده وسعيه في قضاء حوائج الناس والشفاعة لهم عند البكوات المماليك ثم عند الفرنسيين، فقد قال عنه إن بضاعته في العلم دقيقة، وراج أمر الشيخ موسى السرسي، بانتسابه للشيخ أحمد العروسي، «واشترى أملاكا واقتنى عقارا وببلده سرس الليانة ومنوف، مزارع وطواحين ومعاصر، واشترى دارا نفيسة بدرب عبد الحق بالأزبكية، وعدد الأزواج واشترى الجواري والعبيد والحبشيات الحسان.»
وأما الشيخ عبد الله الشرقاوي فكان طموحا، بدأ حياته «في قلة من خشونة العيش، وضيق المعيشة، فلا يطبخ في داره إلا نادرا، وبعض معارفه يواسونه ويرسلون إليه الصفحة من الطعام، أو يدعونه ليأكل معهم، ولما عرفه الناس واشتهر ذكره، فواصله بعض تجار الشوام وغيرهم بالزكوات والهدايا والصلات، فراج حاله، وتجمل بالملابس، وكبر تاجه ... ثم اشترى له دارا وساعده في ثمنها بعض من يعاشره من المياسير.» ولما توفي الشيخ أحمد العروسي (مارس 1794) تولى بعده مشيخة الجامع الأزهر «فزاد في تكبير عمامته وتعظيمها حتى كان يضرب بعظمها المثل»، وتعصب عليه جماعة من المشايخ والعلماء المناصرين للشيخ مصطفى الصاوي ضده وقتئذ، فضعف شأنه، حتى إذا حضر الفرنسيون نشط الشيخ عبد الله الشرقاوي، ومال إليهم بكليته، فجعلوه رئيس الديوان، «وانتفع في أيامهم بما صار يتحصل له من المعلوم المرتب له عن ذلك، وقضايات وشفاعات لبعض الأجناد المصرية (المماليك)، وجعالات على ذلك، واستيلاء على تركات وودائع خرجت أربابها في حادثة الفرنساوية وهلكوا، واتسعت عليه الدنيا، وزاد طمعه فيها، واشترى دارا بظاهر الأزهر، وهي دار واسعة من مساكن الأمراء الأقدمين، وزوجته هي التي تدبر أمره، وتحرز كل ما يأتيه ويجمعه، ولا يروح ولا يغدو إلا عن أمرها ومشورتها، وكانت قبل زواجه بها في قلة من العيش، فلما كثرت عليه الدنيا اشترت الأملاك والعقار والحمامات والحوانيت بما يغل إيراده مبلغا في كل شهر له صورة.»
وكان الشيخ خليل البكري يحقد على عمر مكرم توليه نقابة الأشراف، على أيام مراد وإبراهيم، فما إن احتل الفرنسيون البلاد، حتى تداخل فيهم، وعرفهم «أن النقابة كانت لبيتهم وأنهم غصبوها منه، فقلدوه إياها، واستولى على وقفها وإيرادها»، وراج حاله معهم، وصار يولم لهم الولائم في الموالد، ويسعى لخدمة أغراضهم، فكان له «قبول عند الفرنساوية، وجعلوه من أعاظم رؤساء الديوان، فأضحى وافر الحرمة، مسموع الكلمة، مقبول الشفاعة عندهم، فازدحم بيته بالدعاوى والشكاوى، واجتمع عنده مماليك من مماليك الأمراء المصرية الذين كانوا خائفين ومتغيبين، وعدة خدم وقواسة ومقدم كبير وسراجين وأجناد»، واستمر الحال على ذلك إلى أن حضر يوسف باشا ضيا عقب اتفاق العريش المعروف مع كليبر، وقامت ثورة القاهرة الثانية عقب نقض هذا الاتفاق، «ووقعت الحرب في البلدة (القاهرة) بين العثمانية والفرنساوية والأمراء المصرية وأهل البلدة، فهجم على داره المتهورون من العامة ونهبوه وهتكوا حريمه، وعروه من ثيابه، وسحبوه بينهم مكشوف الرأس»، ولم ينقذه من الهلاك سوى شفاعة بعض الأعيان، فلما انقضت الفتنة، شكا الشيخ للفرنسيين ما حل به بسبب موالاته لهم، «فعوضوا عليه ما نهب له ورجع إلى الحالة التي كان عليها معهم.»
وشذ عن هؤلاء المتصدرين حفنة قليلة من المشايخ، منهم الشيخ محمد السادات الذي اضطهده الفرنسيون، والشيخ محمد الأمير، وكان منصرفا للعلم، وصاحب جرأة وشجاعة، والشيخ مصطفى الصاوي، وقد لحقه اضطهاد الفرنسيين قبل ثورة القاهرة الثانية، وكان من بين الذين عوقوهم بالقلعة قبل تسليم «بليار»، ثم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وكان ممن غادروا القاهرة إلى أبيار عند دخول الفرنسيين، ولكنه ما لبث أن عاد إليها، ثم عينه «منو» في الديوان الذي أنشأه، وشغل بتدوين تاريخه، وعرف بالاتزان والاعتدال، ولم يرض عن مسلك المتصدرين، ولم يعمد لاستغلال النفوذ الذي صار له كأحد أحد أعضاء الديوان، عن طريق المداخلة، والمشاركة في القضايا والشفاعات.
صفحة غير معروفة