وتشاء المصادفات الأليمة أن أصطبح منذ يومين باثنين من هؤلاء الشجعان ينظران في أقفال الدكاكين، في الصباح الباكر وقد ألفيت نفسي حيالهما فجأة عند منعطف في أحد الشوارع ... يا حفيظ ... قل أعوذ برب الفلق! لقد كان يكفيني من الهم مجرد رؤيتهما، فما بالك أيها القارئ وقد سمعت أحدهما يغني ...! إي والله يغني وفي يديه هراوته قائلا: «أنا من ضيع في الأوهام عمره.» ولست أدري كيف يكون لهذا الحيوان عمر؟ وكيف يضيع في الأوهام عمره وما ضيعه إلا في الجهل والإجرام ...
وبعد فلو أني مضيت أسرد ما يغيظني ويحفظني على هؤلاء لضاق عنه أضعاف هذا المجال، فبحسبي تفكهة للقارئ ودرءا لما قد يكون ناله من سيرة هؤلاء البواسل من ضيق، أن أقص عليهم تلك القصة ... أمر أحد شرطتنا في حفلة من الحفلات منعا للتزاحم أن يدخل الناس، اثنين اثنين، ووقف الشرطي الهمام النبيه، فجاء أحد الباشوات ومشى وحده في غير زحمة، ولكن الشرطي منعه من الدخول فهو لا يدخل حسب الأمر إلا اثنين، وضحك الباشا وعاد فاستصحب سائق سيارته، فما أسرع ما أفسح الجندي لهما الطريق ودخل الباشا يضحك ملء نفسه، ويدق كفا بكف ويقص النكتة على المحتفلين قائلا: «دخلت بنفس هذا السائق.»
وهنيئا لحكومتنا «فتواتها الميري»، فأنا على يقين أنها تتنازل عن متاحفنا جميعا في يسر، ولا تتنازل عن هذا الطراز العجيب النادر من شرطتها الذين يحق أن تباهي بهم العالم، وتبلغ في مباهاتها حد الإعجاز.
صاحب الديوان
إياك أن تظنه «ديوان شعر» فمثل هذا أهون من أن يحفل به إلا من كانوا مثله من ذوي الأحلام والأوهام، في هذه الدنيا التي باتت لا تحفل بالأحلام ولا بذوي الأحلام.
ولعلك فطنت بعد هذا ما أعنيه بهذا اللقب؛ ثم لعلك فهمت لم أسميه «صاحب الديوان»، فما كان لفظ «الموظف» أو «المستخدم» وما يجري مجراهما مما يفي بالغرض في معرض الحديث عن ذلك الذي توافى له من أسباب الجاه والسلطان ما يسمو به على الناس، رضوا بذلك أو لم يرضوا؛ وما أرى نعته بمثل تلك الألقاب المتواضعة إلا ضربا من الخطأ أسبق مجمع اللغة في تلافيه، فأضع له هذا الاسم الجديد، وبودي لو وقعت له على اسم آخر أكثر فخامة وأضخم جرسا وأبلغ رهبة.
ولست أدري وقد وقع منظاري على أنماط وأشكال من أصحاب الديوان من منهم أدير إليه الحديث أولا، فأجعله في طليعة أصحابه فإني لست بمعفيهم جميعا من حديثي، ولو لحقني بعدها من سطوتهم ما أعض أصبع الندم عليه.
أأبدأ بالحديث عن ذلك الشاب الماجن المتظرف الذي لا تساوي الدنيا في نظره شيئا؟ أم أبدأ بصاحبه المتزمت المتبرم الذي يحمل الدنيا كلها على رأسه؟ أم أدعهما إلى ذلك الكهل الذي أخلق برد الشباب على مقعده وهو يلتفت إلى الماضي في حسرة، ويحتمل الحاضر في ملل، وينظر إلى المستقبل في يأس، ولا يني عن احتقار من هم دونه والحقد على من خلفوه وراءهم وكانوا وإياه في صف واحد عند بدء الشوط؟ أم أبدأ من عل غير متهيب ، فأتحدث عن ذلك الذي يخضع له هؤلاء جميعا، ويتملقه أكثرهم وليس فيهم من لا يكره أن يودع كرسيه في أقرب فرصة؟
الحق أني حائر، ولا مخرج لي من هذه الحيرة إلا بأن أعرض عليك صورة لفريق أصحاب الديوان في قاعة من قاعاتهم قد وقفت منهم، بل جلست جلسة المتفرج ساعة.
دخلت تلك القاعة في شأن من الشئون، فوجدت نحو خسمة عشر من هؤلاء ينصتون إلى من يتلو عليهم حديثا وهم على مكاتبهم يرنون إليه حتى إذا فرغ من قصته انطلقوا يضحكون في صخب عظيم، ثم أخذ كل منهم يسابق الآخر في التعقيب عليها بما يسعه من نكتة أو قصة مشابهة، ومضى على ذلك وقت ليس بالقصير، وأنا واقف في ركن عند مدخل القاعة لا أدري من أقصد، ولا أجد من يلتفت إلي كما لو كنت «صاحب ديوان» مثلهم لا حرج علي ولا غرابة في أن أكون معهم في حجرتهم.
صفحة غير معروفة