هذا المنظار ...
عجول وأناسي ...!
بين معمم ومقبع ومطربش!
يا خسارة!
طلاب لهو وطلاب قوت وطلاب موت
هكذا تكون الشرطة!
أنا وكيل نيابة
متحمس ...!
متحمسان ...!
حجرة التحمس!
حمار آخر ...!
في زوايا الطريق!
شيخ وشيخ
شرف!
ولكنني كسبت القضية!
بين الأرقام والأحلام
ذات صباح ...
زهرة وزهرة ...
أيام في القرية
من الفأس إلى السلاح
عرفان الجميل
آدمي ...!
القاهرة ليلة الجمعة!
قطط وكلاب وناس!
ساع في الدرجة الخامسة!
في حجرة البك الناظر!
صنع في إنجلترة ...
كرنفال!
بين «دغف» وصعلوك ومغفل ...!
مجلس ظريف
دب في الترام
حلاقو القاهرة ...!
صاحب السلطان
صاحب السلطان الزائل
صاحب السطان الزائف
صاحب السلطان الحقيقي
مصري من الخارج
رئيس ...!
فتوات ميري!
صاحب الديوان
صاحب الديوان أيضا
صاحب الديوان الظريف
صاحب الديوان المجد
صاحب الديوان المتمرد
في حجرة صاحب ديوان ...!
الفارس الجديد
شاعر عبقري
المتعاظمون
في عيد الفسيخ
محمد أفندي ...!
من خوف الكوليرا في كوليرا!
القرآن في شارع فؤاد!
هذا المنظار ...
عجول وأناسي ...!
بين معمم ومقبع ومطربش!
يا خسارة!
طلاب لهو وطلاب قوت وطلاب موت
هكذا تكون الشرطة!
أنا وكيل نيابة
متحمس ...!
متحمسان ...!
حجرة التحمس!
حمار آخر ...!
في زوايا الطريق!
شيخ وشيخ
شرف!
ولكنني كسبت القضية!
بين الأرقام والأحلام
ذات صباح ...
زهرة وزهرة ...
أيام في القرية
من الفأس إلى السلاح
عرفان الجميل
آدمي ...!
القاهرة ليلة الجمعة!
قطط وكلاب وناس!
ساع في الدرجة الخامسة!
في حجرة البك الناظر!
صنع في إنجلترة ...
كرنفال!
بين «دغف» وصعلوك ومغفل ...!
مجلس ظريف
دب في الترام
حلاقو القاهرة ...!
صاحب السلطان
صاحب السلطان الزائل
صاحب السطان الزائف
صاحب السلطان الحقيقي
مصري من الخارج
رئيس ...!
فتوات ميري!
صاحب الديوان
صاحب الديوان أيضا
صاحب الديوان الظريف
صاحب الديوان المجد
صاحب الديوان المتمرد
في حجرة صاحب ديوان ...!
الفارس الجديد
شاعر عبقري
المتعاظمون
في عيد الفسيخ
محمد أفندي ...!
من خوف الكوليرا في كوليرا!
القرآن في شارع فؤاد!
من وراء المنظار
من وراء المنظار
صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
تأليف
محمود الخفيف
يا قارئي العزيز:
إن قرأت هذا الكتاب فأغضبك فإني أعيذك أن تلعنني، وإلا كنت كمن رأى صورته في المرآة فكرهها فحطم المرآة بغيا وظلما؛ وإن أنت أحببته وضحكت معي إذ أضحك، وتألمت معي إذ أتألم فحسبي جزاء أني أدخلت السرور على قلبك ساعات، وأني بعثت في نفسك شيئا من الألم الذي تطهر به النفوس.
محمود الخفيف
هذا المنظار ...
ضقت بالكتب حتى لأخشى أن ينقلب هذا الضيق قطيعة ليس بعدها صلة، والحق أني حائر في تعليل هذا الضيق الشديد، وأنا الذي ظل الكتاب زمانا مبعث أنسي وبهجتي، فلا أمله إذا قعدت، ولا أدعه إذا خرجت، كأنما كان ضرورة كالهواء الذي أتنفس فلا تقوم حياتي إلا به، أو كأنه بعض ملابسي التي لا أستطيع أن أبرح المنزل إلا وهي على جسدي، بل كثيرا ما خيل إلى رفاقي أني أستغني عن كل شيء ولا أستغني عن الكتاب، وإن كنت لا أفتحه بينهم إلا دقائق معدودات ...
أيكون مرد هذا الضيق إلى ما يبعثه طول الألفة من سأم؟ أم يكون مرده إلى أن الكتب وقد صارت عندي درسا وملهاة قد شغلتني عن كثير من متع هذه الحياة، فأنا أصدف عنها كيلا أنسى نصيبي من الدنيا، فأحرم من زينة الله التي أخرج لعباده؟
ولكني لا أرتاح إلى هذا السبب ولا إلى ذاك، ففي نفسي مما يبغض الكتب إلي ما هو أعظم خطرا مما ذكرت ... ذلك أنه قد استحوذ على قلبي خيال لا أدري ما إذا كنت فيه مخطئا أم مصيبا، وهو أن الكتب على طول صحبتي لها لم تعلمني شيئا مما ينبغي لي أن أعلمه من شئون هذه الحياة، ولا يزال هذا الخيال آخذا بخناقي يوسوس إلي أني إن جعلت كل همي إلى كتبي، فسوف ينقطع ما بيني وبين هذا الوجود ...!
ولا تحمل أيها القارئ كلامي هذا على المبالغة أو على المزاح فلو شئت لجئتك بألف دليل على ما يثبت لي العذر فيما أقول، وحسبك أن الكتب قد بينت لي كثيرا من أصول الفضائل وقواعد الخلق، فلما أتيح لي أن أتبين ذلك في سلوك من أخالط من الناس وجدتني في حيرة مما تقول الكتب، وأنكرت أكثر هؤلاء الناس وأنكروني، ولا شك أنهم رموني من الغفلة والحمق بقدر ما رميتهم بالضلال والسفه ...
وحسبك أن كثيرا من خلاني الأدنين - عفا الله عنهم - قد سخروا مني أكثر من مرة، سخرية كانت تنال من نفسي بعض الأحيان حتى لأهم أن أثبت لهم حماقتهم بالغضب منهم والثورة عليهم؛ فهم - سامحهم الله - يتهمونني بالغفلة إذا جادلتهم في أمر، كما أرى ذلك أحيانا في أعينهم وأحيانا في ألفاظهم، ولقد يجمعون على هذا إذ يجادلونني حتى لأوشك أن أطمئن إلى صوابهم، ومعنى ذلك الشهادة على نفسي أني مغفل، ولكني حين أذكر ما قرأت في الكتب لا ألبث أن أراهم بما يبدون من آراء من أكبر الحمقى، ومن عظماء المغفلين، أو هكذا يخيل إلي!
ولقد يصارحني من يجد نفسه في مأمن من غضبي، إما لكبر سنه وإما لسمو مكانته عندي أن أبرز عيوبي - وهي والحمد لله كثيرة - أني رجل خيال، أو بعبارة أصح رجل كتب لا أدري شيئا مما تقوم عليه الحياة بين من يفهمون الحياة، ومعنى هذا كما ترى أني جاهل غر، وإن كانوا ليصطنعون الذوق في شتمي إن جاز اصطناع الذوق في السباب!
وأكثر من ذلك لقد كان مرد كثير من أخطائي - وهي والحمد لله كذلك كثيرة - إلى جهلي بطباع من تربطني بهم صلة العمل الذي أكسب منه قوتي، أو قل: إلى جهلي بمبادئهم، ولطالما سبب لي ذلك كثيرا من العنت والحيرة وأظهرني عندهم بمظهر المشاغب الذي يحب المعارضة والمماحكة في سبب وفي غير سبب، وما بي والله شيء من حب الشغب ولا كانت المماحكة من طبعي، وإنما هي الكتب - لعنها الله - تريني أنني على حق إذا تدبرت ما تقوله، وأنهم غارقون في الباطل إلى أذقانهم الجليلة؛ وأظل حائرا أأسير طوع الكتب فلا أفرغ من الخصام والحرب، أم أسير وفق مبادئهم وسلوكهم، فأغنم الهدوء والسلام وعلى الضمير والخلق والفضيلة ألف تحية وألف سلام؟
وكثيرا ما كانت تقل ثقتي بنفسي لما أرى مما يشبه الإجماع ممن أعاشر، على إنكار مسلكي، وكثيرا ما سألت نفسي أأنا الغر حقا أم أنهم هم الأغرار الأغفال؟
لذلك لم يكن عجبا أني طويت الكتب زمنا، ورحت أتعلم مكر الناس لا لأمكر مكرهم ولكن لآمن مما يمكرون، كما رحت أطالع الحياة لأستعيض بما فيها من مسلاة عما كنت أتسلى به من الكتب ...
ونظرت من وراء منظاري ورحت أتدبر، فزادتني التجربة يقينا أن الكتب جنت علي بقدر ما قدمت من كلام إلي! ... وما لبثت أن رأيت منظاري يقع بي على كثير مما أصيب فيه الدرس ومما أجد فيه المتعة والبهجة؛ ووجدتني على ضآلتي أشبه نفسي غرورا وتطاولا بأولئك الفحول من الكتاب والمفتنين من أساطين القصة الذين لم يأخذوا فلسفتهم من الكتب، وإنما أخذوها من الحياة ولأن أكون منهم كالقزم من العمالقة، فلخير لي أن أكون قزما مقلدا من أن أرضى بالضآلة والغفلة معا ...
وليت لي مثل بصيرة هؤلاء ... إذا لأفدت من العلم من وراء منظاري، ما لن يأتيني نصفه من جميع ما في دار كتبنا العظيمة من مجلدات!
ولكن لا ضير أن أنظر وأن أطيل النظر، وأن أدور بمنظاري هنا وهناك، في المدينة وفي القرية في كل زاوية وفي كل طريق، في المنتديات وفي الحقول وفي الأسواق، وفي غير ذلك من نواحي هذا المسرح العظيم أو هذا المضطرب الواسع، الذي يمثل كل امرئ عليه دوره ...
ولعل طول النظر وتنوعه يعوض علي بعض ما فاتني من العلم فيما تصرم من سني عمري بين أوراقي وكتبي ...
هيا ... هيا ... أيها المنظار، هذا هو المسرح الذي لا يسدل عليه ستار.
عجول وأناسي ...!
- يا شيخ ... يا معلم، صل عا النبي! - أصلي عا النبي إيه ... اسكت يا عم خليك في حالك ...!
صاح بالعبارة الأولى رجل في المدخل الشمالي لميدان السيدة زينب، ينادي بها فظا غليظ القلب من بني آدم كان بالليل يسوق أمامه عددا من العجول الصغيرة قد سلكها جميعا في حبل، وصار يدفعها بإحدى يديه في غير هوادة إلى حيث تذبح، ويهوي على أجسامها لا يبالي أين يقع ضربه بحبل غليظ معقد كلما أبطأت، أو على الأصح كلما جهدت وتقطعت أنفاسها فاضطرها الإعياء والكلال إلى الإبطاء ...
ورد ذلك الفظ في غلظة ووحشية يطلب إلى من يسأله الرفق أن يبقى في حاله فلا يتدخل في شأنه؛ وما ملك هذا إلا أن يحوقل ويستغفر الله ويستعيذ به، ويركن بعد لسانه إلى أضعف الإيمان!
ونظرت فإذا بذلك الغليظ الفظ يزيد الضرب بحبله على أجسام هاتيك العجول الجاهدة، ويزيدها دفعا ولكما؛ ووقع أحدها على الأرض فجذب الصف كله وجذبه الصف فانقلب على ظهره، وزعق زعقة مثلت لي ألمه بصورة لم يكن ليمثلها لي كلامه لو أنه تكلم! ... زعقة أشبه بزعقة الآدمي يبتعثها منه الألم وفمه مزموم، فهي بين حنجرته وخيشومه ... وكأنما يقول العجل الصغير: آه ... وخيل إلي كأنما يدعو العجل ضاربه أن يصلي على النبي! وأهوى الغليظ الجلف بحبله المعقد على العجل المسكين وحده، وقد تمدد على جنبه وهو يحاول أن يضع صدغه على الأرض، فتجذبه العجول وقد اضطرب نظامها، وإن جسده كله لينتفخ ويهبط في سرعة من فرط ما يلهث، وإنه ليحاول النهوض من ألم الضرب فما يزيد على أن يبسط أرجله ويثنيها في الهواء تارة، وعلى الأسفلت الجامد جمود قلب هذا الغليظ تارة أخرى ... ثم جذبه الجلف من إحدى أذنيه ومن ذيله جذبة قوية وركله ركلة شديدة، فوقف على رجليه يلهث، ومشى مع بقية العجول، وصاحبه الفظ يمسك بذيله مخافة أن يقع ثانية على الأرض ...!
وتحرك قلبي لما رأيت، ولكنني لم أستطع أن أصنع شيئا، ولا يعيبن القارئ علي أضعف الإيمان، فالرجل غليظ وحبله أغلظ، وما تعلمت الملاكمة، أو كانت لي حتى بمخاطبة الغلاظ الجهال طاقة ... ولم يكن على مقربة مني شرطي أستعينه ... شرطي؟ والله لو وجد لسخر مني أن أدعوه إلى مؤاخذة الرجل على صنعه، ولظن بعقلي الظنون ...
وأعيذك أيها القارئ أن تعجب أن يتحرك قلبي لمثل هذا المنظر، فما أحب إلا أن تكون رفيقا، وإذا أنت ترفقت بالعجول كنت حريا أن تترفق ببني آدم ... ولقد تداعى لهذا المنظر الأليم في ذهني معنى ... بل معان ... فكم من الآدميين من يرتبطون هكذا على خسف، ويسقطون من كلال وإعياء، وعلى جنوبهم وظهورهم تهوي أيد خفية بما هو أقسى من الحبل المعقد الغليظ ... أجل كم من آدمي في الأصفاد والأغلال، وإن لم تعض بساقيه سلسلة، أو يخنق عنقه غل ... كم من البشر من يساقون كما تساق هذه العجول ليكدحوا في لظى الصيف، وفي زمهرير الشتاء؛ كي يسعد فريق مثلهم من بني آدم بطيبات الحياة، وأي فرق لعمري بين هذا وبين الرق؟!
آه لقلبي ... وأف لمنظاري ... يا عجبا! ما أسرع ما تمثل لي هذا المعنى الذي طاف بخاطري، فإذا هو صورة مجسدة تدب على الأرض، فها هو ذا عسكري غليظ شديد يسوق أمامه رهطا من الغلمان، قد ربط ذيل هذا في ذيل ذاك، أو يد هذا في يد جاره، إن لم يكن لهما ذيلان يربطان، وقد التقطهم جميعا من الشارع، وكان ذلك في نفس الميدان من مدخله الجنوبي، ولا بد أن قطيع العجول قد مر برهط الصبية قبل أن تقع عيني عليهم بدقيقتين أو ثلاث!
وأخذ العسكري الغليظ الفظيع يهوي بكفه الثقيلة المعقدة بما يتحلى به من خواتم غليظة، على قفا هذا الصبي الهزيل مرة، وعلى قفا ذاك المريض النحيل مرة، والويل لمن يلتفت وراءه من الصبية؛ وكان هؤلاء المساكين كلما سمعوا وقع الكف الثقيلة المعقدة على قفا أحدهم، رفعوا أكتافهم ونزلوا برءوسهم ليخفوا أقفيتهم، والرعب ملء جسومهم وحسبهم ما هم فيه من جوع وعري ومرض وشقاء ...
ولم أطق صبرا فدنوت من هذا العسكري العاتي، فليس في يده حبل أخاف منه، وإنه لحري أن يغره تدخلي وجرأتي فيحسبني من رجال النيابة مثلا أو من أولي الجاه على أي حال، وقلت في لهجة الآمر لا في لهجة المستفهم: «لا تضرب هؤلاء المساكين يا شاويش.»
وصدق ظني فقد رفع العسكري يده إلى رأسه بالتحية، وراح يفهمني أن هؤلاء هم سارقو الجيوب وخاطفو الحلي ... و... و... فقاطعته وأنا أوهمه أني أحفظ رقمه قائلا: «لا تضربهم مرة ثانية.» ونظر إلي هؤلاء المساكين وقرأت في كل وجه من وجوههم الشاحبة معنى هو أسمى من أن أصفه بالشكر ... ووقعت نظراتهم من نفسي موقعا لن ينهض لتصويره أبلغ الكلام ...
وتدخل شاب حاسر الرأس عليه حلة أنيقة وتحت إبطه مجلات وكتب، فخاطب الشرطي في عنف قائلا: «ألك أولاد يا شاويش؟ أترضى أن يعامل أولادك هذه المعاملة؟» ثم أدار إلي الحديث قائلا: «ومع ذلك فنحن كما نزعم أمة متمدنة ... في أي بلد متمدن يوجد مثل هؤلاء المساكين في الشوارع على هذه الصورة؟ وأين ما نسمع عنه من أسماء المبرات وجمعيات الإحسان والخير؟ ... لقد مر بي منذ لحظة قطيع من العجول يدفعه فلاح عات كما يدفع هذا الشرطي الصبية، فاشمأزت نفسي لذلك المنظر وتكدر خاطري، ثم ما لبثت أن رأيت هؤلاء المساكين ... ألا إن بيننا وبين الرقي أجيالا وأجيالا، وإنما تخدعنا العمارات الضخمة والسيارات الفخمة والعواصم الكبيرة.»
وانطلق الشاب وقد غاب عن بصره وبصري الشرطي والغلمان، وقلت لنفسي: ما أوسع الفرق بين مصير العجول ومصير الصبية، فإنما تساق هذه العجول إلى حيث تريحها سكين الجزار، ويساق هؤلاء الصبية إلى حيث ينتظرهم العذاب الأليم!
بين معمم ومقبع ومطربش!
الحر شديد تلفح زفراته الوجوه، والترام مزدحم بالناس قعودا ووقوفا، وما منهم إلا من ملأ الفتور بدنه كأنما أخذتهم جميعا سنة فهم صامتون مطرقون. وليس ما يدب فيه النشاط والقوة إلا هذا الترام السريع الذي ينحدر إلى القاهرة من مصر الجديدة منطلقا كالسهم، يهز ركابه الوسنانين هزات قوية تنفض عنهم بعض فتورهم، وتكاد تلقي بالجالسين منهم على أطراف المقاعد إلى أرض العربة، في منعرجات الطريق ...
وفي زاوية من العربة جلس ثلاثة: معمم على أحد المقاعد يواجهه على المقعد المقابل مقبع ومطربش.
أما المعمم فهو في حدود الأربعين أنيق الثياب جدا، نظيفها كأنما هو قادم بها من فوره من دكان الخياط، ولست أدري ماذا يصنع يوم العيد ليشعر الناس أنه «غير» ملابسه، ممتلئ البدن، أبيض الوجه في حمرة، متورد الوجنتين، تنبئك ملامح وجهه بأنه فكه خفيف الروح، وتحدثك عيناه ولفتاته ونظراته فيمن حوله - على الرغم من الفتور الذي لحقه كما لحق غيره - أنه «ابن بلد» بأوسع معنى لهذه الكلمة.
أما المقبع فهو عتل في نحو الستين، ثقيل الظل جامد الطبع فيما يبدو من ملامحه وهيكله جميعا، وبخاصة حاجباه الكثيفان ومنخاراه الواسعان وعيناه الضيقتان، وفمه الذي ما إن رأيته حتى جزمت بأنه لم يبتسم مرة في سنواته الستين، ولو طلب إلي أن أؤدي يمينا عن هذا لأديتها في غير حرج.
أما المطربش فأرجو أن تعفيني من وصفه، فذلك هو أنا صاحب المنظار!
وحدث بين هؤلاء الثلاثة ما بعث الركاب جميعا من سنتهم، وما أضحكهم على الرغم من الحر والغبار وجهد اليوم ...
مد المقبع إحدى رجليه فوضعها على المقعد حتى مس حذاؤه ملابس المعمم أو كادت، فنظر إليه هذا نظرة استنكار عله يسترد رجله، ويبعد ذلك الحذاء الذي خيل إلي لكبره أنه مركب من مراكب الأطفال؛ فقال له المعمم: «من فضلك يا خواجه.» وأشار إلى حذائه؛ فنظر إليه المقبع متثاقلا، وقال: «لا ... أنا حر.» ونطق الحاء خاء فازداد ثقلا على ثقل.
وازداد وجه المعمم حمرة ورأيته أخذ يتحمس، ولكنها حماسة من يعرف كيف يسلك في مثل هذا الموقف ما يشاكله من مسلك: «أنت حر في بيتك ولكن هنا لا ...» ونطق المعمم كذلك الحاء خاء، كأنما هو حيال «نص» لا يملك له تبديلا.
ولم يلتفت المقبع إليه فازداد بذلك جمودا على جمود!
ولم يرع هذا العتل إلا رجلا الشيخ جميعا تمتدان، فتستقران لا على المقعد ولكن في حجره، وقد ضغط الشيخ بنعليه على بطنه وهو يقول: «أنا كمان حر.» وأصر على جعل الحاء خاء.
وضحكت حتى تبادر دمعي وضحك من شهدوا المنظر جميعا، وطار عنهم فتورهم؛ ونهض المقبع كأنما لدغته عقرب، وهو يرطن بلغته، وكأنما فمه بالوعة غصت بالماء وقد انتفخ شدقاه فازداد غلظا على غلظ.
ونظر إلي المعمم وهو بين الضحك من فعلته، وما أثارته من ضحك عام وما كللت به من نجاح أعجبه، وبين الغيظ مما يرطن به المقبع، وقال لي: «ترجم حرفيا ما يقول لألقي به تحت الترام.» فأحجمت وما زدت على أن ضحكت، فقال الشيخ وقد حبس ابتسامته وبدا الجد في وجهه: «أتمتنع عن ترجمة ما يقول هذا الخنزير؟ أهذه غيرتك على كرامة بني وطنك؟»
ورأيتني على رغمي قد دخلت خصما ثالثا في القضية!
ونظرت إلى الشيخ وقلت: «أفتراني - يرحمك الله - أتبين شيئا مما يقول؟ ومع ذلك فهل تظنه يمتدحك ويثني عليك؟»
وأعجب الشيخ ردي فابتسم أو كاد ثم عاد إلى عبوسه وتقطيبه، على أنه ما لبث أن ضحك مع من ضحكوا لهذا الرد.
ورأيت أني أحرجت الشيخ إذ حرمته مما أراد أن يتعلل به من جهله بما يقول خصمه، وكفى الله المؤمنين القتال ... وصار لزاما أن يلقي بذلك المقبع تحت الترام وإلا فقد قبل شتائمه.
وأنقذ المقبع من الموت المحتم تحت عجلات الترام، أو قل: أنقذ الشيخ من حرجه وقوف الترام على آخر محطة، بحيث لم تعد عجلاته تفعل شيئا!
وانطلقت وأنا أدير في رأسي هذه القضية الصغيرة التي فسرت لي تفسيرا عمليا معنى الحرية، وظللت ساعة لا تبرح خيالي رجلا الشيخ يضغط بنعليهما على بطن ذلك المقبع، الذي ظن أنه لا يزال لقبعته ما كان لها قبل من هيبة!
يا خسارة!
المجلس حافل كعهده كل ليلة بالشخصيات من كل نمط، ففيه القاضي والمحامي والأستاذ والنائب والكاتب والشاعر والصحفي وغير هؤلاء ممن أداروا ظهورهم للعمل، وركنوا إلى المعاش أو إلى الراحة ...
ويتشقق الحديث حتى لينسى السامرون كيف بدأ ولا أين اتجه، ثم لا يلبث أن ينتهي بنكتة أو ينقطع بسلام قادم يأبى على عادتنا إلا أن يصافح الجالسين، من يعرف منهم ومن لا يعرف في حماسة وشوق ...
وظل هذا حال المجلس ساعة ثم انتظم الحديث وأخذ سمته إلى غايته، واتجهت الأنظار إلى شاب من صحابتي لم أقدمه إلى أحد، وإن كان يعرف الكثيرين بأسمائهم وأشخاصهم.
أخذ هذا الفتى يتكلم بعد صمت، وأنصت السمار إليه أول الأمر يتبينون من هذا القادم الجديد، وإني لأعلم من قبل أنه سوف يأسرهم بحديثه، ففي صوته ما ترتاح إليه الآذان من إشباع في غير غلظ، ومن رنين في غير حدة، وفي منطقه ولهجته من الظرف والهدوء وحسن السياق ما يجذب إليه النفوس من حيث لا تشعر؛ وفي محياه من الفتوة والقسامة، وفي عينيه من البريق والدعة، وفي فمه من الابتسام والسلام، في كل أولئك وفي حسن إشارته وإيماءته ما يجعله حديث مجالس من طراز نادر.
هو في الخامسة والثلاثين أو زاد عليها قليلا، مهندم الثياب في تواضع يدل على رقة الحال أكثر مما يدل على السعة، ولكن خفة روحه وبراعة تحدثه يصرفان الأعين عن ثيابه إلى شخصه ثم عن شخصه إلى حديثه ...
واتجه الحديث بعد أن انتهى شوط منه إلى السياسة بعد الأدب، فأعجب هذا الشاب الواسع الاطلاع سامعيه على اختلاف مذاهبهم، إذ أشار إلى أن بعض النقص في كمال هذا الزعم يعوضه بعض الكمال في نقص ذاك.
وانتقل الكلام إلى الاقتصاد فأنصت مليا ثم أدلى برأيه، فلخص ما سمع من آراء تلخيصا جميلا، فكأنما أتى برأي جديد، وهو لم يأت بشيء إلا ما نسقت فطنته وأدت بلاغته ...
ومال الحديث بالسامر إلى قضية المرأة والرجل، فقال: إنه لا الرجال صالحون للحكم على النساء، ولا النساء صالحات للحكم على الرجال، وهذه هي القضية التي لا يوجد فيها حكم من غير الطرفين، ولسوف تنعقد جلساتهم ثم تؤجل إلى أجل غير مسمى؛ وذلك لأن الرجال والنساء لا يرتضون الحكم الأول الذي صدر من الغيب على آدم وحواء ...
وضحك السامرون وخرجوا من الجد إلى المزاح، وراح كل يدلي بما يحفظ من نكتة أو يذكر من نادرة، ثم أنصتوا إلى صاحبي الشاب فأضحكهم جميعا بنكاته وأقاصيصه، وراعهم بحافظته وسرعة انتقاله من نكتة إلى نكتة، وهو ينسبها جمعيا لأصحابها بل ويذكر الصحف التي نشرتها والمناسبة التي أخرجتها.
وبدا لأحد الجالسين فسأل هذا الشاب ما عمله؟ وابتسم الشاب ابتسامة عريضة تجلت فيها خفة روحه، ولكن مازجها شيء من الدعابة الناقمة، وقال: أنا ناظر مدرسة ...
وعاد سائله يستفهم أثانوية أم ابتدائية هذه المدرسة؟
ورد الشاب بقوله: «لا يا فندم إلزامية بس.»
وصاح أحد الجالسين من غير وعي قائلا: «يا خسارة!»
وضج بعض الجالسين بالضحك؛ ونظر آخرون في ساعاتهم يريدون أن ينصرفوا؛ وصمت في غيظ وعبوس شخص كان يناديه تارة يا أستاذ وتارة يا بك، وانتحى البعض جانبا مزورين وهم ينظرون نظرات كريهة إلى هذا الذي أعجبوا به منذ دقائق.
وارتفع صوت أحد الفضلاء يقول للذي أعلن الخسارة: حسبتك والله تقول: «ونعم» ... حتام يا قوم تغرنا الألقاب والرتب؟ وحتام نحترم الرجل لجاهه أو لماله أو للقبه؟ أليس في ذلك معنى من معاني العبودية؟ وكم عندنا من نظار المدارس الابتدائية أو الثانوية من نضعهم إلى جانب هذا الأستاذ في سعة اطلاعه ورجاحة عقله. ألا إن المرء بأصغريه ... ألا إن المرء بأصغريه.
أما صاحبي فلم يأبه بما حدث؛ لأنها كما حدثني ليست أول مرة يلقى فيها مثل ما لقي، وما زاد على أن ضحك ملء نفسه من المزورين جميعا، وإن كنت أحسست في ضحكه المرارة والألم ...
طلاب لهو وطلاب قوت وطلاب موت
كل أولئك رأيتهم في ليلة واحدة وفي شارع واحد، لعله أكبر وأحفل شوارع عاصمتنا، وكل أولئك قل أن يخلو منهم شارع من الشوارع الكبيرة في عاصمتنا العظيمة ...
أما طلاب اللهو فهم أنماط من الناس حسب ما يبتغي كل لنفسه مما يلهو به أو يزجي به فراغه، وأكثر هؤلاء بادون للأعين في غير حاجة إلى منظار، فالشوارع بهم مكتظة، ومنهم فريق هم طلاب اللهو الخفي والعياذ بالله لا يكاد يتبينهم المنظار حتى يرتد عنهم فرارا أو يختفوا هم عنه ...
وأما طلاب القوت فهم كذلك طوائف وأنماط من الخلق، ولكن دع عنك أصحاب الملاحي والمتاجر، فهؤلاء في الحق طلاب ذهب لا طلاب قوت ...
وإنما أعني بطلاب القوت أولئك الذين «يسرحون» من بنين وبنات وفتيان وكهول بأوراق «اليانصيب»، أو بالصحف أو بصناديق مسح الأحذية أو بصناديق الحلوى أو أدوات الحلاقة أو السكائر أو غيرها؛ ثم أولئك الذين لا تجد في أيديهم شيئا من هذا، وتراهم يتساقطون على الموائد تساقط الذباب، أو يقعون على مقربة منها إقعاء القطط وغير القطط من الدواب، ينتظرون لقمة أو يفتشون في قمامة، أو يلتقطون ما يلقى من أعقاب السكائر ...
وطلاب القوت هؤلاء وبخاصة من يطلبونه بغير عمل، قذى في العيون بأسمالهم وأذى للنفوس بألفاظهم ومعاركهم وصخبهم ...
ولكن أكبر ظني أن ولاة الأمر قد اقتنعوا أنهم زينة ينقص بغيابهم جمال العاصمة نقصا كبيرا، أو لعلهم أيقنوا أنهم باتوا بحق من تراثنا القومي ومن تقاليدنا الأهلية، فلو خلت الشوارع منهم بمعجزة من المعجزات لبثت الحكومة عينوها، وأرصدت أعوانها حتى يأتوا بهم طائعين، فيعود للعاصمة جمالها الذي غاضت بشاشته ورونقها الذي انطفأت بهجته ...
وأما طلاب الموت فأحسب ذهنك أيها القارئ قد وثب إلى أولئك الجنود الذين كانوا يدبون بالعاصمة كالجراد المنتشر، ولكني لست أقصد هؤلاء فقد أراحنا الله - سبحانه - من عفاريتهم الحمر والسمر والسود إلى غير رجعة إن شاء الله ...
إنما طلاب الموت هم أولئك العظام الملقاة على طوارئ الشارع، والذين يعدون في الأحياء وهم من الموتى لولا أنفاس ضئيلة في صدورهم تتردد.
رأيت خمسة من هؤلاء على مسافات متقاربة، أما أولهم فقد تكور في ثيابه كالقنفذ، وبجانبه زجاجة لعله كان يدور بها في نهاره على المستشفيات، وتحسبه في الثمانين وقد لا يزيد عن الأربعين.
وأما ثانيهم فغلام في نحو الخامسة عشرة بسط إحدى ذراعيه على الأرض ووضع الثانية على بطنه، حيث موضع الألم أو موضع الجوع، وفي وجهه الذابل المتجه إلى السماء صفرة الموت، وفي ساقيه أو في عظمتيه الممدودتين فقاقيع حمراء مخيفة تشيع في صفرتها، ولقد حسبت أنه لن يرى وجه النهار ...
وأما ثالثهم فكهل ضرير ناحل البدن، خائر القوة تدور حول صدغيه من أسفل ذقنه إلى قمة رأسه لفائف بيضاء تحتها قطع من القطن، ولعله قدم بها من إحدى «العيادات الخارجية»، واستلقى هنا يطلب الراحة لبدنه بالموت ...
وأما رابعهم فشيخ تدل لحيته البيضاء ويداه المعروقتان وجبينه المغضن على أنه جاوز السبعين، وقد ألقى عصاه بجانبه ووضع تحت رأسه بعض العلب من الصفيح، لعله كان يلعق ما ترك فيها من طعام.
وأما خامسهم فقد آلمني مرآه أكثر مما فعل مرأى سابقيه جميعا، فهو مقطوع اليدين والرجلين كأنه بقية تمثال قديم، ولست أدري كيف يتحرك المسكين وكيف يأكل إن وجد ثمة من أكل!
وقلت لصاحبي، وقد زفرت زفرة طويلة: أيرى الناس هؤلاء كما أرى؟ فضحك وليس المجال مجال ضحك وقال: أف لمنظارك، فأجبته: بل أف لهؤلاء الذين يملئون الصحف بأسماء المؤسسات والمبرات، والذين يتكلمون كثيرا عن أوجه الإصلاح وأنماط المشروعات ...
ومضيت وأنا أسائل نفسي: في أي بلد من بلاد العالم يجمع فيه شارع واحد بين اللاعبين بالذهب، وبين الذين يعيشون كما تعيش الكلاب والقطط، والذين يطلبون الموت فلا يظفرون حتى بالموت؟
هكذا تكون الشرطة!
يا سيدي! بالباب عسكري يقول إنه يريد أن يسلمك محضرا!
بهذا النبأ المزعج دخل علي الخادم في نحو الساعة الثامنة من مساء ليلة قريبة، وأنا جالس إلى مكتبي أفتش في المراجع دون أن أقع على طلبتي حتى ضاق صدري، فلم يسر عني ما بي إلا هذا النبأ البهيج! ووثبت من فوري أتلقى البشرى، فلقد والله زادني الخادم غيظا على غيظي بابتسامته البلهاء التي شفع بها هذا الخبر الأسود، كما لو أنه جاء يبشرني بما تنبسط له نفسي!
ومشيت وأنا أسأل الخادم، أو على الأصح أصيح به محنقا - فقد خيلت إلي أعصابي المكدودة أنه يشمت بي إذ يبتسم أو يظن بي خوفا: أي محضر؟ ولم أخرج من داري نهاري كله، ولا أذكر أني فعلت بالأمس ولا قبل الأمس شيئا يستوجب المحضر، ولا أنا - ولله الحمد - ذو سيارة حتى أدوس بها أحدا أو أخالف بها نظام المرور، ولست ممن يعودون إلى دورهم بعد منتصف الليل ... ولا ... ولا ...
ومضيت إلى الباب الخارجي فما راعني إلا عتل أبرز ما فيه شارباه وأنفه وطول قامته، حتى لقد ذكرني ذلك العملاق بتلك الصور الكاريكاتورية التي ترسمها بعض المجلات لبني جنسه، وأشهد والله بعد رؤيته ما فيها شيء مما كنت أظنه من مبالغة! - ماذا تريد يا شاويش؟ ... وليصدقني القارئ أني أتأدب حتى في خطاب من يسلمني محضرا. - معي محضر يا أفندي من فضلك وقع عليه بالاستلام! - لمن هذا المحضر؟ - لا أعرف. - ما موضوعه؟ - لا أعرف.
هذه والله - في غير تحريف - إجابة الشاويش الهمام لم أصنع بها شيئا إلا أني عربتها! وحبست ضحكي تأدبا علم الله وبنفسي أن أقهقه لولا أني لا أحب أن أسيء حتى إلى مثل هذا العتل وقلت: إذا كنت لا تعرف صاحب المحضر ولا موضوع المحضر ... فلم اخترت بيتنا هذا بالذات؟ - قالوا: عند المزلقان ...
ومددت يدي أتناول الورق منه، فدفعه إلي بعد تردد وحذر؛ وألقيت نظرة فإذا هو لفلان في بيته المرقوم بكيت ويقع كذلك عند مزلقان وهو بشأن سيارة لم يعنني أن أعرف موضوعها، وتبسمت وقلت للشرطي: ليس المحضر لنا، ورحت أصف له موضع البيت المقصود وأذكر له اسم الشخص المطلوب، وحسبت أنه سوف يحمد لي هذا الإرشاد؛ ولكنني نظرت فإذا به يداعب شاربه ويرميني بنظرة اشتركت فيها عيناه وأنفه وغلظه وجهله، وإنه ليبتسم ابتسامة أسمج من هيكله، وكأنما يريد أن يذكرني أنه من رجال البوليس وأنه ليس يضحك أحد أو يمكر برجال البوليس، ثم قال: وقع على الورق يا أفندي. مافيش لزوم للزوغان!
ورأيت أني أكون أجهل منه لو ناقشته بعد ذلك، فهممت أن أوقع وأن أتحمل تبعة المحضر وما فيه لمجرد التخلص منه، وليفهمه رؤساؤه بعد خطأه؛ وعدت أؤكد له أني لست الشخص المطلوب، وهو ينظر إلي ويصب علي سماجته كلها، حتى ضقت به فقلت: لن أوقع، وإذ ذاك تراجع وطلب إلي أن أدله على البيت المكتوب في الورق ... فتنفست الصعداء وقلت: أتعرف بيت محمد باشا محمود؟ - محمد باشا محمود؟ ومين محمد باشا محمود ده؟ ومين يا أفندي اللي يعرفني بالكلام ده؟!
وجذبته من ذراعه وسرت معه خطوات حتى وقفت به في الشارع المجاور، وهو شارع الفلكي، وقلت له: أنت الآن تتجه «بحري» فأين يدك اليسرى؟ ومد إلي يده اليسرى في سذاجة، فقلت: تظل ماشيا في هذا الشارع إلى أن تجد بيتا كبيرا يقف ببابه، ويقع عن شمالك، عسكري مثلك، فاسأله أين البيت المطلوب ...
وانطلق العملاق يتمتم بكلمات ولعله كان يستنزل لعنة الله على من كلفوه ما لا يطيق؛ وعدت إلى مكتبي ومراجعي وأنا أقول لنفسي: هذا وأمثاله هم حفظة الأمن والنظام، وهذا وأمثاله من يستلم المرء محضرا حقا إذا انتهرهم أو ضاق بهم فدفعهم من طريقه أو من مدخل داره ... هذا وأمثاله وليسوا قليلين هم شرطتنا، ألا متى يفهم القائمون بالأمر، حفظة الأمن الكبار - حفظهم الله - أن تغيير هذا الصنف كله بات من أوجب الواجبات؟
أنا وكيل نيابة
أعيذ فطنتك أيها القارئ أن تحسبني ظفرت فجأة بهذا المنصب الخطير، الذي يجعل لي من السلطان أن أقبض على من أشاء في أي وقت أشاء، فما كنت وربك إلا صاحب هذا القلم المتواضع، وصاحب هذا المنظار اللعين الذين يأبى إلا أن يقع بي على ما لست أحب ... ولكنه عنوان اقتضاه المقام.
هذه مواقف ثلاثة من مواقف التحمس، ولكنه تحمس رسمي والعياذ بالله، فيه قبض وتحقيق وحبس، أو هكذا ظهر لي ولمن شهده من الناس، ولقد سمعت هذه العبارة التي جعلتها عنوانا لكلمتي هذه بنصها وحروفها في كل من هاتيك المواقف الثلاثة.
شهدت الموقف الأول وسمعت هذه العبارة، وهممت أن أكتب ولكنني آثرت العافية وأنف المنظار في الرغام؛ ثم لم يكد يمضي يومان حتى وقع منظاري على الموقف الثاني وسمعت نفس الكلمة، فجمعت أطراف شجاعتي ولكني ما كدت أشرع القلم حتى عدت فآثرت العافية واستعذت بالله من الشيطان ... ويأبى منظاري اللعين إلا أن يريني الموقف الثالث حيث سمعت العبارة بنصها، وعندئذ لم يبق لي إلا أن أشهد على نفسي بالجبن أو أكتب، فآثرت الثانية، فوالله للضر مع الشجاعة خير من العافية مع الجبن، وما كانت العافية لتدوم يوما لجبان ...
أما الموقف الأول فكان في عاصمة إحدى المديريات، وهناك سيارة عامة كبيرة، لا يريد سائقها أن يبرح بها مكانها إلا أن تمتلئ بالركاب حسب العدد المقرر، ولم يكن ينقصه لتمتلئ إلا ثلاثة أو أربعة؛ وجاء شاب حدث في نحو الخامسة والعشرين يخطر في مشيتة خطرة من يريد أن يشعر الناس بعظم مكانته، وكان الوقت موعد الانصراف من الدواوين، فما إن وضع رجله على سلم السيارة ليركب حتى أهاب بالسائق أن ينطلق بالسيارة، ثم أثبت في وجهه نظرة حادة إذ رأى منه شيئا من عدم المبالاة؛ ورد السائق بقوله: «حاضر لما يتم العدد.» وثار الشاب وصاح بالسائق: «هيا، اسمع الكلام.» ولم يزد السائق على أن ينظر إليه متعجبا، ودق الشاب بيده على زجاج السيارة وهو يقول في تحمس شديد: «أتدري من يكلمك؟ أنا وكيل نيابة ال...» وقال السائق وقد داخله شيء من الرهبة: «يا سيدي حاضر كلها نفرين أو ثلاثة.»
ووثب الشاب من مكانه ونادى أحد «الكونستبلات» وأمره بالقبض على السائق معلنا له وظيفته. وما كان أشد عجب هذا الشاب وعجب الركاب والسائق قبلهم جميعا بالضرورة، حين سمعوا هذا الشرطي يقول: «وإيه يعني وكيل نيابة؟!» ... وكأنما سرت هذه الكلمة عند الناس فانبعثت ضحكاتهم على الفور عالية مجلجلة ...
ونادى الشاب وقد بلغ حنقه غايته أحد العساكر، وكان هذا يعرفه فأسرع نحوه وحياه التحية العسكرية، فأصدر إليه أمره بالقبض على «الكونستبل» بتهمة إهانة النيابة، وسبقهما إلى مقر التحقيق ونجا السائق المسكين، وهكذا مصائب قوم عند قوم فوائد.
أما الموقف الثاني فقد شهدت شابا كذلك يثب في أول ميدان باب الخلق، فيدرك الترام ويتعلق به، ثم يقف بباب الحريم لا يتزحزح ولا ينحرف، يميل طربوشه ويبرز طرف منديله فيتدلى على صدره، ويضبط ربطة عنقه، ويصف شعر فوديه، ويرسل النظرات الحادة إلى داخل المكان، حتى جاء المحصل فنبهه في هدوء إلى ما لا يحمد من وقفته هذه، فقال في غضب وعنف وتحمس شديد: «موش شغلك ... اسكت.» ونفخ المحصل في زمارته متحمسا كذلك فوقف الترام؛ واشتدت حماسة المحصل واستغنى عن التلميح بالتصريح. وجن جنون ذلك الشاب ونزل وأمسك بذراعه وهو يقول: «أتدري من تكلم ... أنا وكيل نيابة.» وأخذ المحصل شيء من الخوف إذ أشار هذا الشاب إلى أحد العساكر ليقبض عليه، وتدخل بعض الناس، وقبل الشاب بعد لأي شفاعتهم وترك المحصل قائلا له في كبرياء الظافر الذي يعفو عن قدرة: «أما بارد قليل الأدب صحيح.» وتعلق المحصل بالترام، وهو يقول إذ يدق كفا بكف: «أنا البارد القليل الأدب؟»
ولست أدري أكان «صاحبنا» كما ادعى وكيل نيابة حقا، أم أنه يهوش بذلك على الناس؟
ويأتي بعذ ذلك ثالث المواقف أو ثالثة الأثافي؛ فنحن في سيارة عامة في أحد شوارع القاهرة، ليس فيها إلا من هو ذاهب إلى عمل أو حريص على ميعاد، وكان في المقعد الأمامي شاب كذلك تبدو عليه سيما الهدوء والرزانة، فطلب إلى السائق الوقوف بالسيارة لينزل، فقال السائق: «ما فيش محطة هنا.» فقال الشاب: «محطة إيه؟ إسمع، نزلني.» ولم يسمع السائق ولم يقف، فصكه الشاب على صدره صكة جمع فيها كل تحمسه وأفرغ كل غيظه وهو يقول: «استنى يا حمار.»
ووقف السائق سيارته والتفت نحو الشاب وفي وجهه مثل نظرات المجنون، فقال له الشاب: «إوع تتكلم ... أتدري من أنا؟ أنا وكيل نيابة ... تعرف شغلك بعدين.»
ووقف المحصل بينهما يخشى أن يفضي الأمر إلى شر خطير والسائق يقول: «إفرض أنك حتى رئيس نيابة ... تضرب الناس بدون سبب؟» والركاب يتفرجون وما فيهم إلا من ضاق ذرعا بهذا الصلف وبهذه الوقفة التي لا يدري أحد متى تنتهي؛ وأحسست أنا ثلاثة أمثال ضيقهم، وقد شهدت المنظر ثلاث مرات.
وكان السائق هو القابض هذه المرة، إذ إنه لم يجد متنفسا لغيظه إلا أن يقسم يمينا بالطلاق ألا يدع هذا الأفندي إلا في القسم ولو قطعت رقبته. ولم يبق محل لشفاعة الشافعين، بعد أن نطق السائق بهذه اليمين، ومضيا معا إلى القسم، ومضينا نحن الركاب يبحث كل منا عن وسيلة أخرى يصل بها إلى حيث يريد.
وبعد فأنا أؤكد لك أيها القارئ أني لم أزد شيئا على ما شاهدت، وإلا فإني مستعد أنا الواضع اسمي أدناه لأن أتلقى قرار القبض علي بتهمة أنا والله منها بريء، وهي «إساءة استعمال» قلمي ... أو على الأصح ... منظاري.
متحمس ...!
يتحمس في كل شيء: في رأيه، في إشارته، في نطقه، في عبارته، في جلسته، في حركته، فيما يختار من ألوان مبلسه، في ضحكته، ولا بد أنه قياسا علي كل هذا متحمس كذلك في بكائه، وكم تمنيت - على شدة كراهيتي للبكاء - لو رأيته يبكي لأرى مبلغ حماسته في دمعته!
قارب الثلاثين أو جاوزها قليلا. حديث العهد بشهادة من شهادات إحدى جامعتينا فهو بها معتز مغتبط متحمس في اعتزازه واغتباطه، ولست أجد في ذلك ما يلام عليه فهذا ما يفعله كثيرون غيره ممن يظفرون بالألقاب العلمية الضخمة، ومن منهم لا يحب أن يصبح دكتورا مرموق المكانة عظيم الخطر؟
وصاحبنا الذي اختلس منظاري النظر إليه ساعة، وحملقت فيه عيناي أكثر من مرة من شدة إعجابي به، ولست أقول من فرط تعجبي منه، قد عقد النية فيما علمت من أنبائه على أن يكون دكتورا مهما كلفه ذلك من جهد، ثم ما زال حتى ظفر بهذا اللقب في يسر فما أيسر أن تصنع جامعتنا الدكاترة، وإلا فماذا تكون رسالتها في مصر؟ على أنني لا أذكر أني رأيت فيمن يحملون هذا اللقب العظيم من هو أشد ذهابا بنفسه من صاحبنا هذا، ولا من يصطنع لهجة الأستاذية والضلاعة، ولا من يقطع بالرأي في سرعة ويقين، ولا من يقذف بالأحكام العريضة في سخاء ويسر، كما يفعل هذا الذي أصبح دكتورا منذ قريب، وهذا هو سر إعجابي به، فما أحسب إلا أنه يستطيع أن يستغني بذلك كل الغنى عن جميع الألقاب؛ لأنه سوف يغدو بما يفعل ويتحمس، فيلسوفا.
كل وصف عنده، سواء وصف ما يرضيه أو وصف ما يسخطه، يأتي على وزن أفعل كما يقول النحاة، فهذا أحسن مؤلف ظهر حتى اليوم، وفلان أكبر عالم في البلد، وهذا أجهل رجل بكيت وكيت من المسائل، وهذه أحسن خطة؛ وهكذا دائما على وزن أفعل النحاة، أو على طريقة أفعل التجار في مثل قولهم: أحسن صنف وأفخم قماش وأجمل لون وأرخص سعر «وأعظم ملبن»!
وهو على أهبة دائما لأن يعارضك فيما تبدي من رأي، وليته يقارعك حجة بحجة، أو يعنى حتى بمجرد الاستماع إلى أن تتم رأيك، فإنك ما تكاد تشير إلى فكرة حتى تراه يثب عليك وينهال بما حفظ من مسائل، فيورد طائفة مختلفة من الآراء، وليس يهمه إن كانت تتصل من قريب أو من بعيد بما يدور الكلام حوله، وإنما يكفيه أنه هكذا قرأها، وإنه ليوردها أحيانا مبتورة مشوهة فيقحمها عليك إقحاما، فإن غيرت مجرى الحديث لتصحح له نصوصه عاند، وأصر على أن الصحيح ما يقول، فلا مناص إذا من أن تجد نفسك وإياه وقد خضتما في حديث جديد لتنتقلا منه بنفس الطريقة إلى غيره ثم إلى غيره، وحينئذ ينظر إليك نظرة الظافر، ويبتسم ابتسامة من يرثي لضيق عقلك وقلة اطلاعك، وإنه لأهون عليك ألف مرة أن ترضى بذلك من أن تسايره في جدله.
وإنه ليلتفت إلى متحاورين في المجلس فما أسرع ما يجعل من نفسه خصما ثالثا وما سأله أحد رأيه، وإنه ليسفه كلا الرأيين المجادلين، فما تدري ماذا يريد، ثم يهجم هجومه على أسلوبه المعتاد، فهذا الرأي أضعف ما قيل في هذه المسألة، وذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، وقول فلان هذا يرفضه أبسط متعلم، ولا يجوز عند أقل الناس إلماما وأضعفهم إدراكا، وإن الرأي الصحيح بل أدق الآراء وأحذقها هو ما ذكره العلامة فلان والفيلسوف علان في كيت وكيت من الكتب، وإنه ليرتعش من جميع نواحيه وتهتز أطرافه من فرط تحمسه، وتتعاقب الصفرة والحمرة على محياه الكريم، بحيث لو دخل زائر في هذه الحال لما شك أنها معركة تبودلت فيها أقذع التهم وأفحش المطاعن؛ وتراه ينظر إلى كل متحدث نظرة من يريد أن يقول: ما لهذا الجاهل ومناقشة الفلاسفة؛ والغريب أنه يفترض الجهل في كل شخص غيره وإنك لترى في وجهه من الغباء والظلمة ما يحملك على الضحك منه بل الرثاء له ...
وإنك لتقرأ في وجهه العجب والغضب من أنك تطاوله، فضلا عن أن تنكر عليه ما يقول، فهل قرأت مثل ما قرأ أو بعضه؟ وكيف لا تؤمن بطول باعه ورسوخ قدمه، وإنك لتراه يتناول كل معضلة ويجادل في كل فن ولا تغرب عن ذهنه صغيرة ولا كبيرة من المسائل، فإن تكلم في المجلس اقتصادي انبرى له، وإن تحدث لغوي وثب عليه، وإن جادل سياسي أخذه من أقطاره، وإن شرح طبيب سبب علة أبان له وجه الخطأ فيما يقول، وإن أرخ مؤرخ لحادث شهده بنفسه أو روى حديثا عن عظيم طواه الموت جابهه بما يشبه التكذيب؛ لأنه لا يمكن أن يعتقد وقوع ذلك فإنه أبعد ما يكون عن العقل والمنطق، وأضعف سندا من أن يعتمد عليه! هكذا يأبى وهو الفيلسوف أن يقبل شيئا يرفضه العقل، ولو كان مرده إلى النقل ...
وبعد فما كانت الحماسة عيبا، وإننا معشر المصريين لمن أكثر بني الدنيا تحمسا في معظم الأمور، وإنما هو هذا المنظار اللعين يأبى إلا أن يستخرج من هذه الحماسة الشائعة ما يسوقه مساق التندر والمعابثة، ولست أشك أن القارئ يخالفني أشد المخالفة في إنكاري التحمس، ويرى من أفظع الظلم وأرذل القسوة وأكبر المغالطة، وأوجع الجمود أن أنال باللوم هذا المتحمس النابغة.
متحمسان ...!
كنا ذات صباح نحو عشرين رجلا قد وقفنا واحدا خلف واحد ننتظر في قلق حتى تفتح نافذة تذاكر السفر؟ وأخذ يتزايد عددنا دقيقة بعد أخرى، وكان كل قادم يأخذ مكانه في ذيل هذا الخط الطويل الذي ذكرني ما كنا نفعل ونحن صغار حين كنا نقلد القطار ...
وكنا جميعا لا نفتأ ننظر في ساعاتنا وصفير القطر، وصوت رحيلها على الأفاريز القريبة يملأ أسماعنا، وحركة المسافرين والحمالين وهم يسرعون في موجب وفي غير موجب تزيدنا قلقا على قلق، ونشاط صارفي التذاكر في النوافذ المفتوحة على جانبي نافذتنا الموصدة يلقي في نفوسنا الشك في وجود من يفتحها، أو يميل بنا إلى الظن أنه ربما ربكه في حجرته عمل آخر، وكان أكثرنا نظرا في ساعاتهم من كانوا أكثر بعدا عن النافذة؛ على أن القلق قد اشتد بنا جميعا حتى أوشك أن يتحول إلى ضجر ... وأخيرا فتحت النافذة.
وأقبل بائع التذاكر على عمله في هدوء وتؤدة، بعد أن ألقى نظرة على المنتظرين، وكان مبعث اطمئنانه فيما يبدو أنه كفيل ببيع التذاكر جميعا قبل تحرك القطار بوقت كاف، فهو خبير بعمله وقلما داخله ما يداخل المسافرين من قلق.
وأخذ كل منا يخطو خطوة كلما خلا من مقدمة الصف رجل، وبينما نحن على هذا النظام مقلدين نزلاءنا منذ كثر عددهم بيننا في هذه الحرب، إذ أخذت عيناي، لا بل أخذ منظاري شابا مقبلا بادي الأناقة، متكلف العظمة، يلتمع شعر رأسه الحاسر التماعا لا يضاهيه إلا التماع رباط عنقه الأحمر، وإنه ليخطو في خيلاء تشبه الصلف، يضرب الأرض بقدميه ضربا قويا حتى ليحدث حذاؤه صوتا واضحا في ضوضاء الفناء، وما أسرع ما فطنت إلى أني منه تلقاء متحمس، وإني لشديد المحبة للمتحمسين عظيم الشغف برؤيتهم.
ومشى هذا المتحمس إلى النافذة، فوضع نفسه في رأس الصف وهيهات أن يرضى متحمس أن يكون في المؤخرة، ولكنه ما كاد يمد يده بالنقود حتى سرت في الصف كله موجة احتجاج كانت أكثر شدة في آخره؛ وارتفع صوت من الوسط ينبه هذا المخالف: أرجو أن تأخذ دورك وإلا فما معنى أن كلا منا قد ارتضى دوره؟ - هذا ليس من شأنك ... أأنت مفتش؟ أأنت مراقب؟ - يا سيدي هذا لا يليق ... ارجع إلى موضعك من فضلك. - موش شغلك يا أفندي ... اشكني إلى مدير المصلحة.
وتحير هذا الذي يحتج ماذا يقول، ولكنه ما لبث أن صاح قائلا في غضب: «يظهر أنه ما زال بيننا «جليطة» كثير.» ونظرت فإذا بي منه تلقاء متحمس ثان في نهاية سن الكهولة، وأنا كما ذكرت لك أحب المتحمسين وأطرب أشد الطرب لرؤية تحمسهم.
وجاء أجنبي في تلك اللحظة فقصد إلى النافذة كما فعل المتحمس الأول؛ ولعله قد رأى مزاحمته فظن الأمر فوضى، وما كان ينبهه أحدنا حتى عاد إلى موضعه في ذيل الصف معتذرا عن خطئه، وفي وجهه حمرة شديدة من فرط الخجل.
وإذ ذاك نظر المتحمس الثاني إلى المتحمس الأول قائلا وهو يشير إلى ذلك الأجنبي: «ألا ترى؟ ذلك لأنه بني آدم.»
ولكن صاحبنا لم يتزحزح عن موضعه وكأنه يتمسك بمبدأ الثبات حتى الموت، وإلا فما له لا يبالي بضجر المتضجرين في الصف كله - إلا أنا بالضرورة - ولا يبالي بنظرات الازدراء تصوب نحوه في شدة كادت تجعل من في الصف جميعا ما عداي متحمسين؟
ولم يعبأ على الرغم من ذلك وظل متمسكا بمبدئه القويم ومد يده بالنقود إلى بائع التذاكر، فما أشد ما أخذه من حيرة إذ سمع ذلك البائع يقول له في هدوء: «من فضلك اذهب إلى موضعك.»
وثارت ثائرة هذا المتحمس، فقال في صوت أشبه بالصراخ وهو يضرب النافذة بقبضته: «أتمتنع عن بيع التذكرة؟» وتطلعت في فرح أحسبني أظفر برؤية متحمس ثالث، ولكن البائع ظل هادئا ونظر إليه مبتسما وهو يقول: «اشكني إلى مدير المصلحة.»
وتناول البائع النقود من كل مسافر حسب دوره في الصف، وظل «صاحبنا» في موضعه قرب النافذة متمسكا بمبدأ الثبات حتى الموت أو على الأقل حتى يسافر القطار! وكان يرشقه كل من أخذ تذكرته بنظرة ازدراء، حتى جاء دور المتحمس الثاني، وقد امتلأت نفسه إعجابا ببائع التذاكر وعدالته، فنظر نظرة نصفها إلى ذلك الذي لم تجده حماسته وقال متهللا: «والله ما يصلح أن يكون مدير المصلحة غيرك.» ثم صوب نحو خصمه الذي ماتت حماسته من الخزي نظرة شامتة، وهرول إلى حيث يقف القطار.
ومضيت صوب القطار، وبنفسي لو استطعت البقاء لأشهد ما عسى أن يأتي من تحمس جديد من جانب هذا الذي سوف يبقى إلى جوار النافذة حتى يتحرك القطار، يغيظه بائع التذاكر الذي يأبى أن يثار!
حجرة التحمس!
ما دخلها قط إنسان إلا انقلب بعد دقائق - مهما بدا من هدوئه أول الأمر - متحمسا من أشد المتحمسين، شهدت ذلك بنفسي وأنا قابع في ركن منها أتفرج من وراء منظاري على ما لم أستمتع بمثله في أية دار من دور اللهو ...
هي حجرة في ديوان إحدى الوزارات كتب على بابها: «المستخدمين» هكذا بالجر! دخلتها والحر شديد وبنفسي ضيق وضجر فسرعان ما روح عني الضحك المتصل، حتى لقد أنساني ضجري كما أنساني ما جئت له.
الحجرة صغيرة مزدحمة بالقماطر أو ما يسميه الموظفون بالمكاتب، وعلى كل قمطر ما عدا واحدا أضابير من الورق يعلم الله مبلغ ما قضته كل ورقة حيث رأيتها، من عمر ...
وأما كل قمطر - ما عدا واحدا غير ذلك الذي خلا من الورق - موظف، وهم جميعا فيما يخيل إلي من أعمارهم دون الأربعين، وفيهم من هم دون الثلاثين ...
وكان أحدهم يقضم قضمات من رغيف أمامه، ويأتدم بقطعة من الجبن وكان آخر يطالع في جريدة؛ وكان ثالث يشرب القهوة، واشتغل أربعة بأوراقهم، وبقي واحد لا يعمل شيئا قط فليست أمامه ورقة وليس في يده قلم أو صحيفة أو شيء غير هذا مما يؤكل أو يشرب، وكان ينظر في ساعته بين حين وحين ليرى متى ينصرف ... وفهمت أنه من «المحاسيب» الذين يعينون لا ليعملوا ولكن ليرتزقوا ...
ودخل كهل هادئ الحركة فقصد أحد القماطر، ورفع صاحبه رأسه فتجهم وتكره إذ رآه، مع أن القادم كان يبسم له ويظهر الاحترام ويختار أرق الكلام؛ ولكن سرعان ما ارتفع صوت هذا القادم وهو يقسم بالله العظيم ثلاثا، ويهز سبابته كما يفعل الخطيب أنه جاء من أجل مسألته ما لا يقل عن ثلاثين مرة، ولا يدري ما يعمل بعد ذلك، وبلغ به التحمس أن أعلن أنه ذاهب من فوره إلى المدير، وقالها بلهجة من ينذر بالموت كأن الذهاب إلى المدير عنده فيه القضاء على الموظف المسكين، وخرج من الحجرة، وما استدار ليخرج حتى أخرج له ذلك الموظف لسانه، وضحك هو وزملاؤه ملء أشداقهم ...
ولم يكد يبتعد خطوة حتى دخل شاب يمسح العرق عن جبينه وصفحة وجهه بمنديله، ودنا من موظف آخر وسأله لعله يذكر موضوعه، فقال له في دماثة متكلفة، وهو يكتم ضحكه: «أيوه يا سعادة البيه، مر علينا بعد ثلاثة أيام تجد كل شيء على ما يرام.» وتحمس سعادة البك تحمسا صامتا تجلى في احمرار وجهه، وإرساله الزفرات وانصرف ليمر بعد ثلاثة أيام؛ وتفكه الموظفون بالسخرية من سعادته والتهكم عليه.
ودخل ثالث فسأل أحدهم عن أمر فقال له: «عند فتحي أفندي في الحسابات.» فخرج ثم عاد بعد قليل ليقول: إن فتحي أفندي لا علم له بالأمر فقال له: «اترك لي المسألة ومر بعد يومين أو ثلاثة تجدها خالصة.» ففكر صاحبنا في الأمر قليلا ثم بدا له فتحمس وصاح قائلا: «ما هذا؟ أديوان حكومة هو أم دكان؟» ودق القمطر بيده قائلا إنه ذاهب إلى المدير، وانطلق والتحمس ملء بدنه، وتحمس الموظفون في الضحك منه ...
ودخل رابع تبدو عليه الرزانة والتؤدة، فسأل عن عبد المنعم أفندي من يكون فدله أحدهم عليه، فمشى إليه في عسر بين القماطر، وأخرج علبة سكائره ومد بها إليه يده وألح حتى تناول واحدة، ثم كلمه في صوت خافت فتظاهر أنه يفكر، ثم قال: مر غدا فإن عمر أفندي غائب وهو الذي عنده مسألتك، فقال: لقد جئت مرتين وعملي في حضن الجبل وأنا قادم هذه المرة في «تاكسي»، وهو عند الباب يدور عداده فهلا صنعت معروفا فأعنتني؟ فأجابه لا يمكن حتى يحضر عمر أفندي، وانصرف عنه إلى أوراقه، فهز صاحب «التاكسي» رأسه مرات وتنهد ثم قال وقد انقلب هدوءه ثورة، وإنه ليدق القمطر بيده دقات عنيفة: ما هذا، مرة عمر أفندي في البنك ومرة عند المدير ومرة في إجازة ... هذا لعب ومسخرة وقلة ذوق ... وبدا التحمس في جميع حركاته وإشاراته ... وانطلق من الحجرة يتوعد ويتهدد.
وجاء الخادم يطلب عبد المنعم أفندي لمقابلة المدير، فذهب إليه ثم عاد بعد دقيقة، ففتش في قمطر عمر أفندي وأخذ منه أوراقا، وخرج ثم رجع بعد قليل يقوله لزملائه: «خلصنا منه يا سيدي، وأمضي المدير أوراقه وبلاش غلبة ونفخة كدابة.»
ودخل بعد لحظة شيخ معمم ذو لحية فحيا بتحية الإسلام ثم ضم أطراف جبته بيده، ومضى إلى أحدهم ينفذ في عسر بين القماطر، فقال له: هل وجدت الورق؟ فقال: لا زلت أبحث عنه، وما كاد ينطق بهذا حتى صرخ الشيخ قائلا : ما هذا؟ حتى متى تسخر من ذقني هذه يا ولد؟ ونهض الأفندي مغضبا يدق القمطر بقبضته ويقول: عيب يا سيدنا الشيخ لولا أنك كوالدي ...
ودق الشيخ بقبضته قائلا: العيب أن تكذب وأن تضيع الأوراق وتستخف بمصالح الناس وأوقاتهم، وعاد الموظف يدق بيده دقات ويقول: عيب يا سيدنا الشيخ، والشيخ يعقب كل دقة منه بدقة من قبضته القوية حتى أيقنت أن القمطر لا شك متحطم؛ ولكني لم أحفل بالقمطر وإنما خشيت أن تنقلب الدقات لكلمات أو لطمات، فقد بلغ تحمس الشيخ أقصاه، وجحظت عيناه واصفر وجهه ودنا من الفتى ولولا أن سحبه إخوانه سحبا من وجه الشيخ لأهوى عليه بكلتا يديه؛ وخرج الشيخ وهو يستنزل خيبة الله عليه وعلى زملائه أجمعين!
وساد في الحجرة الصمت لحظة، ولم يفطن الموظفون إلى وجودي إلا وهم في هذه الحال من الخزي والغم، فسألني أحدهم ما طلبي، فأشرت إلى مكتب عمر أفندي، فقال: إنه لن يحضر اليوم؛ ومعنى ذلك أن أنصرف فنهضت للخروج وإني لأقسم للقارئ بمحرجات الأيمان غير متحمس، أني ذهبت إلى تلك الحجرة من أجل مسألتي أكثر من خمسين مرة في مدة سنتين، وقضاؤها والله لا يستغرق ساعة؛ ولم أستدر عند الخروج، بل خرجت بظهري مخافة أن يسروا عن صاحبهم بحركة منهم يكون فيها الزراية علي ...
وبعد فهل نعيش حتى نرى دواويننا تتميز ولو بشيء قليل من النظام والسرعة من مصاطب العمد و«وكالات» البلح والصابون، وسوق العصر و«مولد» المحمدي و«تكايا» الأوقاف؟ وحتى نراها تخلو من «تنابلة» السلطان أو مرتزقة «الميري»؟ يومئذ فقط نضع أقدامنا على أول الطريق المؤدية بنا إلى المدنية ...
حمار آخر ...!
الترام الجاهد يسير محملا ليس فيه ركن أو ممر أو مدخل أو شبر على السلم إلا ويشغله الراكبون متلاصقين متضاغطين، كأنما لم يأتهم نبأ هذه الهيضة التي خوفت الناس بعضهم من بعض ...
وأنا في مقعدي أسأل نفسي متعجبا كيف ينزل من يريد أن ينزل فضلا عن أن يركب من يريد أن يركب! ودقت باب الدرجة الأولى يد وحاولت فتحة، ولكنه لم يفتح؛ لأن شخصا كان يسند ظهره إليه، وهو لا يستطيع أن يتحرك من موضعه إلا أن يتحرك من يقف أمامه، ولن يستطيع هذا أن يفعل إلا أن يمكنه من يليه ... واشتد طرق الباب فتضاغط الواقفون، وانفتح الباب ودخل هذه الحجرة المكتظة فتاتان، عجبت وعجب الراكبون كيف خلصتا من الزحام حتى دخلتا الحجرة، وما أحسبهما إلا استحالتا هواء فنفذتا من الأرجل أو من فوق الرءوس حتى بلغتا حيث وقفتا بين الواقفين.
ووقف الترام فنزل اثنان من الواقفين، وقد شقا طريقهما في جهد من جهة السائق، ولم يركب أحد، ثم وقف ونزل ثلاثة ولم يركب أحد، وبقيت الفتاتان فاستندت إحداهما إلى باب والثانية إلى الآخر.
وكانت إحداهما على جانب عظيم من الملاحة والسحر تحدث أثرها في النفوس بنظراتها، وبما يبدو من براعة ذوقها في اختيار ألوانها وأشياء زينتها؛ وكانت الثانية كأنما تصحبها لتزيد جمالها أو لتنبه عليه، فقد كانت بحيث إن انتماءها إلى جنسها مما يجعل أحيانا نعته باللطف نوعا من السخرية ...
وصوبت الحسناء نظرة إلى شاب كان في سمت بصرها، فكأنما نفذت نظرتها إلى قلبه، وكأنما أراد أن يبرهن لها على أنه جدير منها بهذه النظرة، فنهض واقفا ودعا الفتاة إلى الجلوس في موضعه، وإنه ليتظرف ويتأنق ويستلين في إشارته وحركته، ويلطف في نبرته، حتى لقد أوشك أن يكون ما ينعت به جنسه من الخشونة ضربا من التعسف ...
ونظرت الفتاة وقد استقرت في مقعدها، إلى صاحبتها، مزهوة دون أن تشكر هذا المتلطف بكلمة، وضحكت وقالت عبارة لا هي عربية ولا فرنسية ولا إنجليزية؛ وضحكت الثانية وأظهرها ضحكها برهانا آخر على مبلغ ما يكون بين جنسها وبين اللطف من بعد الشقة ... واحمر وجه الفتى حتى كاد أن يقطر منه الدم، وأشار بيده إلى التي سحرته فتخلى لها عن مكانه، إشارة من نسي شيئا على المقعد، فلم تكد تقف حتى انفتل فعاد إلى مكانه، وجلس وهو يقول لها في غيظ: ابحثي عن حمار غيري فلست حمارا!
واصفر وجه الفتاة بقدر ما احمر وجه الفتى، ولم تكن تدري أنه يعرف الطليانية، فقد نظر الفتى الظريف الناعم إلى من حوله وهو يدق يدا بيد، ويقول: إنها تقول لصاحبتها: انتظري ريثما يقف حمار آخر فاجلسي، فيكون جزائي على إنسانيتي أن أكون عندها حمارا، وأن يكون هذا مبلغ شكرها لي!
وكان حقا أن نغضب جميعا وأن يحاول كل منا أن يتنصل من حماريته بكل ما في طاقته، فقال كهل من الجالسين يخاطب الفتى: «ليس هذا جزاءك على إنسانيتك وإنما هو جزاؤك على مصريتك، فإنا في الواقع لسنا كرماء لضيوفنا بل نحن عبيد لهم، أفهم أن تنهض لتجلس مريضة أو عجوزا أو أما بين ذراعيها طفلها أما أن تقف لهذه ... أرأيت أجنبيا ينهض لمصرية قط؟ متى نفهم هؤلاء الأجانب أننا سادة في بلادنا وإذا كنا لا نستطيع أن نفهمهم ذلك بأخذ ما في أيديهم مما بنوه في غفلتنا، فلا أقل من أن يعلموا أننا صحونا، لا أقل من أن يفهموا أننا لم نعد بعد حميرا.»
ونظر هذا الثائر الكهل إلى الفتاة المسيئة وقال لها في مثل شراسة النمر: «انزلي من هنا روحي في داهية.» وتنمرت الملعونة كأنما تذكرت أيام الامتيازات، ورأيتها بجوار الباب كالقطة وجدت نفسها في مأزق، فعولت على أن تعض بأسنانها وتخمش بمخالبها ...
ولكن النمر الغاضب جذبها من ذراعها، ونادى السائق فوقف، وصرخت القطة صرخة جمعت علينا الركاب من العربة الأخرى، وأقسم الرجل إن لم تنزل هي وصاحبتها على أرجلهما، فسوف يلقي بهما من النافذة ...
وتساءل الناس وتألموا مما علموا وأجبرت الفتاتان على النزول، وفي نظرنا أن كلا منهما تنتمي إلى اللطف ظلما، هذه بوقاحتها، وتلك بقبحها.
وخجل الشاب الذي استرد إنسانيته، حتى ما يستطيع أن ينظر طويلا في وجه ذلك النمر الغاضب ...
وضحك أحد الجالسين يريد أن يذهب عنا الغضب، وقال: أحب أن أعرف من ذا الذي يرضى بعد هذا في الترام أو في السيارة أو في المتجر أو في المصنع أو في السينما، أو في الشارع أن يكون الحمار الآخر ؟ وضحكنا وضحك حتى النمر الهائج.
في زوايا الطريق!
دقت إحدى الساعات الكبرى على مقربة مني دقات ثمان، والليل بارد الأنفاس وأنا أنقل الخطى في زحمة الناس على طوار الشارع وئيدة ثقلية، لا من كلال ولا من ضنى، ولكن مما كان يثقل قلبي من صور وقع بي عليها هذا المنظار اللعين ...
وأريد أيها القارئ أن تقاسمني بعض ما أثقل قلبي، فمما يزيده لعمرك ثقلا أن أحمله وحدي، وكثيرا ما سقت إليك ما أضحكك، فإن أنا صببت عليك اليوم بعض همي فلا تكن من الغاضبين ...
هؤلاء غلمان وبنات من أبناء الشارع وبناته، قد أقعوا على باب أحد المطاعم يطعمون بأعينهم مع الطاعمين بأسنانهم، وقد حرمهم التقمم رفع القمامة من الشوارع حذر الكوليرا، وهو منظر قد زال عنه معناه لكثرة ما ألفناه، ولكن ها هم أولاء جماعة ممن يأكلون بأسنانهم، جماعة ليسوا من أهل هذا البلد الذي آواهم فأشبعهم، يأبون إلا أن يبرزوا المعنى الذي غاب، فهم يقلون ببعض اللقم والقشور، ويلهون ضاحكين بمرأى هؤلاء الغلمان كيف يقعون عليها كما تقع الكلاب والقطط، وكيف يتزاحمون ويختصمون.
ومضيت ثقيل الخطى، ثقيل القلب، فلم أذهب غير بعيد حتى انعطفت عند زاوية فإذا رجل خشبية تمتد إلى جوار رجل من عظام ولحم، وإذا صاحب الرجلين قد أسند ظهره إلى الحائط واستراح من بعض همه بغفوة، وأمامه علب الكبريت لعله لم يبع منها بما يتبلغ به فنام؛ وابنه الهزيل النحيل يدفعه بيده دفعا رقيقا ليوقظه؛ لأنه جائع، وألقيت إلى الصبي قرشا فما وثق منه في كفه حتى اندفع يوقظ أباه في شدة وسرعة ليزف إليه البشرى ...
ومشيت ثقيل القلب وئيد الخطى، فما هي إلا خطوات حتى وقفت حيال منظر كم تمنيت لو رآه كل رجال الفن؛ فها هو ذا ضرير قد اضطجع حتى أوشك أن يتمدد على سلم دكان مغلق، وأسند ظهره إلى دركة ورفع وجهه صوب السماء فانعكس عليه نور مصباح قريب، ومد يده يستجدي في صمت، لا ينطق ولا يتحرك أية حركة، فكان منه في هذا الوضع تمثال بالغ الروعة لو وقع عليه فنان لما ساوى ذلك عنده وقوعه على كنز، فما يصور البؤس شيء أحسن مما تصوره هاتان العينان الغائرتان، وهذا الوجه الضارع وهذه اليد المعروقة المرتجفة، ونور المصباح القوي في وجهه يجعل من ذلك كله صورة ترى ولا ينهض لوصفها كلام؛ وجاء غلام فانقض على التمثال كالفرخ الجائع، وأخرج في مثل خطرة الطرف ما في جيبه من مليمات وقروش، وولى لا يلوي على شيء وانتفض التمثال انتفاضة حسبت أن قد تحرك لها رخام السلم، وأقبل بعض من شهدوا هذا السطو، فألقوا إليه من قروشهم ما أذهب روعه ...
ومشيت موجع القلب ثقيل الخطى، فلم أكد أنعطف عند زاوية أخرى حتى إذا بي تلقاء رجل يزحف على استه ويديه، وقد ثنى إحدى رجليه، أما الرجل الأخرى فلم يبق منها إلا جزء من الفخذ قد كشف عنه؛ لأنه موضع «الإعلان» وبرهان العجز عن العمل، ومر الناس به لا يتألم أحد فيما أرى؛ لأنهم ألفوا أن يروا مثل هذا كما ألفت أنا، ولكني تألمت وتألمت، وأرجو منك أيها القارئ أن تصدقني أنني تألمت، كما أتشفع عندك بكل عزيز لديك أن تتألم مثلي.
فإن لم يكن آلمك هذا فدونك شيء آخر وقعت عليه عند زاوية أخرى، دونك شيء ولا أقول رجلا، فليس ثمة إلا الجذع فقط لا يدان ولا رجلان، ومع ذلك فهذا الشيء يزحف ويقطع الطوار كله زاحفا ...
يا إله العالمين إني أستغيثك! إن لم تكن الملاجئ لمثل هذا فلمن تكون؟ وفي أي شرع يكون على هذا أن يعمل - أستغفر الله - بل أن يزحف ليكسب قوته، وحوله السيارات الفخمة تنهب الأرض باللاعبين بالذهب!
ومشيت باكي القلب بطيء الخطى، حتى كنت أمام «جروبي»، فإذا بنتان من بنات الشارع تتشاجران في عنف على أعين الناس، وقد ألقتا ما معهما من ورق اليانصيت، وأنشبت كل منهما أظفارها في عنق الأخرى؛ وذلك لأن إحداهما قطعت الطريق على صاحبتها فباعت دونها ورقة!
ونظرت فإذا معركة أخرى أشد عنفا تدور غير بعيد بين فتاتين ناهدتين من خدم المنازل، وقد شدت كل منهما شعر الأخرى وأهوت عليها بحذائها؛ وذلك لأن إحداهما، كما علمت، غلبت الأخرى على عيشها فأخرجتها من عملها واستمتعت بالأجرة دونها، وتقاطر السابلة يشهدون هذه المعركة الكبرى، وقال أجنبي من المارة لصاحبه وهو يضحك: انظر ... فهذا نذير الحرب العالمية الثالثة ...
والتفت على حرب أهلية ثالثة بين حوذي أوقف جواديه الهزيلين، ووثب من عربته التي شهدت فيما أحسب القاهرة في عهد إسماعيل، وراح يصخب في لهجة الحوذية ونغمتهم، ويطلب إلى الراكب بقية حقه، وإلا فمن أين يأكل، ومن أين تأكل الخيل، وهو يستغيث الله والمسلمين، ويخوف هذا الذي لا يريد أن يدفع عاقبة الظالمين، وقد دارت حولهما حلقة من المتفرجين، والحوذي يتدفق بلاغة، إذ يصف الغلاء وما صنع بالناس، ويصخب وكأن في فمه «ميكروفون».
ومشيت ضائق الصدر، حيران الخطى، ملء نفسي الألم مما أشهد من مخازي مجتمعنا العظيم، فإذا أنا تلقاء عتل يستوقفني قل أن رأيت مثله ضخامة وطولا، له عنق هو وحده أضخم من ذلك الجذع الذي كان يزحف على الأرض، أما بدنه فيضل البصر في ضواحيه، ومد إلي ذلك المارد يدا تتسع لحمل أو غلام، وقال في غير تلعثم أو تردد: «يا بيه ... أنا جوعان ... عاوز حق لقمة.» وحرت والله بين أن أضحك فأسري عن نفسه بعض ما بها، أو أصرخ في وجهه علي أنفس عني بعض همي، وغلبتني الثانية فقلت: اغرب عني، فلن يشبعك كل ما في جيبي، إنك تبني عمارة وحدك، وتمشي جماعة وحدك، فهل يصح أن تطلب لقمة!
وبعد، فيا حكومة ... يا وزارة الشئون الاجتماعية ... يا جماعات البر والإحسان ... يا دعاة الإصلاح ... يا من تغارون على كرامة وطنكم وسمعة عاصمتكم ... الغوث ... الغوث ... إن جميع ما رأيته في زوايا الطريق في ليلة واحدة، وعلى أبعاد متقاربة في أهم بقاع القاهرة العظيمة الجميلة، مما بينته وكثيرا مثله مما لم أبين، يصرخ صراخا عاليا لمن كان له سمع أن هذا عيب ... اجعلوها من باب الترف، فأزيلوا من الطرقات هذا الأذى، فما أطمع أن تجعلوها من الإنسانية!
شيخ وشيخ
هأنذا في الريف أضع على أنفي منظار القرية، وقد تركت فوق مكتبي في «الرسالة» منظار القاهرة حتى أعود إليه بعد حين، وكان أول ما وقع عليه في القرية منظاري الجديد بعض ما صنع هذان الشيخان في ضحى يوم من أيام رمضان.
أما أولهما فشيخ من حيث الاصطلاح والملبس، فقد لبث في الأزهر من عمره سنين، ولا يزال في القرية يضع على رأسه عمامة هي كل حجته على العلم والورع، وإن كانت بعض وسائله إلى المال والشبع، وأما ثانيهما فشيخ من حيث العمر، فقد تخطى السبعين منذ سنتين وبعض سنة كما ذكر لي حين حدثني عن سنه ...
جلست أمام داري عند مخرج القرية إلى الحقول، وأنا أعجب كيف يغدو الفلاحون إلى أعمالهم صابرين، وقد قضى الصوم والحر على كل ما كان من نشاط في بدني، فما أتحرك لكي أبقى في الظل إلا في مشقة وجهد، وبينما كنت أتفكر في أمر هؤلاء المساكين، إذا أقبل علي أحدهم فسلم وجلس القرفصاء إلى جانب كرسي وأسند إلى الحائط ظهره، ونظرت إليه فإذا هو من فرط نحوله وشحوبه أشبه شيء بعود الذرة جف، فاغتدى عودا من الحطب!
وتكلم فقال: «لن ينقذني من الشيخ فلان إلا أنت؛ فقد اضطرتني الحاجة إلى أن أقترض منه منذ شهرين جنيهين ونصف جنيه، على أن أعطيه وفاء لديني إردبا كاملا من القمح الجديد، ولما كنت أستطيع أن أبيع الإردب اليوم بخمسة جنيهات، فقد ألححت عليه أن يأخذ ثلاثة جنيهات؛ ولكنه تمسك بإردب القمح كاملا، وها هي ذي ثلاثة جنيهات ونصف أرجو منك أن تتوسط لدى الشيخ ليقبلها.» ومد الرجل إلي يده بالنقود وهي ترتعش، ولمحت في وجهه من السخط المكظوم ما زاده بؤسا على بؤس ... ولكنني أخذت منه قيمة الدين ورددت إليه جنيها، فنظر إلي دهشا وسكت.
ومضيت إلى الشيخ وفي خاطري خيال «شايلوك» يهودي شكسبير، وسلمت، وقلت: إن فلانا ذو عسرة؛ وقد توسل إلي أن أؤدي عنه ما عليه لك من دين ، ومددت إليه يدي بجنيهين ونصف جنيه فحسب، فما إن عدها حتى اصفر وجهه وتكره لي كأني أشتمه، ثم أخذته حيرة من أمره، وتمتم وعبس وتأفف، ودس المال في جيبه وهو يلعن هؤلاء الفلاحين الذين لا أمانة لهم ولا عهد ولا ذمة، وتعجبت أو تظاهرت بالتعجب وقلت متجاهلا: ها هو ذا دينه يؤدى إليك، فنظر إلي نظرة كلها لؤم وخبث يتبين ما إذا كنت أعلم شيئا عن قصة إردب القمح، ثم تركته في غيظه وألمه ينتفض انتفاضة من لدغته عقرب، ويقسم أغلظ القسم أن لن يعين أحدا من هؤلاء الفلاحين ناكري الجميل بعد اليوم ...
ومررت أثناء عودتي بدار «عم محمد» النجار، فأبصرته في مدخل الدار وبين يديه أدوات عمله وبعض أشياء من الخشب كان يصلحها؛ فسلمت على الشيخ فنهض للقائي في خفة ودعاني إلى الجلوس، فجلست بجانه على حصيره وهو يكرر في بشاشة وترحاب قوله: «رمضان كريم.» وإنه ليعلم أني أحبه كما أعلم أنه يحبني ويأنس إلي، وقلما رآه أحد من القرية يقبل على امرئ أو يهش له كما يقبل علي ويهش لي، وذلك أن هذا النجار الشيخ على فاقته الشديدة يظن الظنون بمن يراهم أكبر منه قدرا أو أكثر منه مالا؛ لأنه يكره أشد الكره أن يتكبر عليه أحد مهما بلغ من جاهه أو ثرائه، والويل كل الويل لمن يغلظ له في القول من أعيان القرية، فإنه عند ذاك ينقلب من شيخ وديع هادئ إلى نمر شرس هائج لا يخيفه شيء، وقد أحس الشيخ أني أكبره وأحب حديثه فخفض لي جناحه وبسط لي مودته.
ونظرت إلى وجهه المسنون وإلى عينيه البراقتين وهو يصلح بعض أدوات الزراعة، وكأنما يزداد هذا المحيا بشاشة ونضرة كلما علت بصاحبه السن، وأراد أن يعتذر إلي من عدم انصرافه عن العمل احفتاء بي كما كان ينبغي في رأيه، فقال إنه يصلح هذه الأشياء الزراعية الصغيرة بغير أجر في رمضان من كل عام؛ ليغنم الثواب مضاعفا على الصوم، وهو لا يحب أن يخلف الوعد، فعما قليل سيأتي أصحاب هذه الأدوات ليأخذوها، وأثنيت عليه ما وسعني الثناء، فقال إنه يحمد الله على العافية وأنه يرى أعظم أنعم الله عليه أنه لم يقف مرة واحدة موقف الحاجة من أحد، وأنه لا يذكر لأي امرئ يدا عليه حتى أولاده الأربعة الذين يعيشون كل في داره عيشة هي أوسع من عيشته، ونظر إلي مبتسما وقال: إن خير ما أدعو لك به وأنا أحبك، أن يديم الله عليك العافية وألا تحتاج يوما إلى إنسان ...
وبينما كان يتحدث إلى النجار وهو يصلح تلك الأدوات الزراعية، إذ دخل عليه رجل فسلم وقال: يا عم محمد ... علمت أنك تبيع فجلك المزروع في جهة كيت فجئت لأشتريه ... وتفكر النجار الشيخ قليلا وقال: كم تدفع ثمنا له؟ فقال الرجل: ستة جنيهات، فنظر إليه النجار وقال: انتظر قليلا، وطلب النجار إلي أحد المارة أن يرسل فاطمة بائعة الفجل، فلما حضرت قال لها: هذا الرجل يشتري الفجل بستة جنيهات وقد بعته لك، فما رأيك هل تبيعينه إياه؟ لقد صرت صاحبته وليس لي فيه شيء، وإن لم أقبض منك ثمنه بعد. فقالت المرأة: بعته إياه، وتناول النجار الجنيهات الستة، فأخذ منها أربعة هي ما اتفق مع المرأة عليه ثمنا لفجله، ودفع لها جنيهين ...
وازداد في قلبي قدر هذا النجار الشيخ، وظللت لحظة أقلب نظري في محياه الأبلج السمح، وهو منكب على أدوات الزراع يصلحها في نشاط وهمة؛ وانصرفت وأنا أدير في رأسي قصة القمح وقصة الفجل، أو قصة الشيخ الذي تعلم ويأكل الربا أضعافا مضاعفة، وقصة النجار الذي لم يعرف غير أدوات نجارته، ويتصدق بعمله على الزراع في رمضان، ويأبى أن يكون وقد أربى على السبعين كلا على إنسان.
شرف!
مشى العمدة في جلبابه النظيف المهندم وعلى رأسه طربوشه الطويل الأقتم، وفي يده عصاه الغليظة المحلاة بالذهب، ومن خلفه بعض وجوه القرية وبعض خفرائها، وإنه ليحرص أبدا أن يسير ومن ورائه عدد من الناس ليوقع الرهبة في نفوس من يمر بهم من أهل قريته، وما يلمح أحد من أهل القرية هذه «الزفة» إلا نهض محييا يتكلف أكثر ما يستطيع من التأدب والخشوع، فإن كان من ذوي المكانة جرؤ على أن يضيف إلى عبارات تحيته: «تفضل يا حضرة العمدة ... شرفنا يا سعادة البك.» وقنع من حضرة العمدة ردا على تحيته وعلى دعوته بإشارة خفيفة من يده علامة على الرضاء لا تكاد ترى، أو بتمتمة خافتة على شفتيه لا تكاد تسمع؛ وإن كان من عامة الناس فما يستطيع إلا أن ينهض خاشعا إذا أبصر العمدة من بعد، ثم يظل في خشوعه لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا يرفع رأسه حتى يمر به العمدة، فيرفع يده إلى رأسه في ضراعة، ويرد في اهتمام تلحظه في نغمته، تحية الإسلام التي يلقيها إليه أحد من في ساقة هذا الركب في صوت خافت، فما يجوز أن يلقي السلام إلى أحد غير العمدة، ثم يجلس بعد أن يمر به الركب كله؛ وفي خياله شارب العمدة وعبوس وجهه وطربوشه الأقتم الطويل، وعصاه المذهبة الغليظة، وحسبه جرأة أنه استطاع أن ينظر إلى ذلك الشارب المهيب، وإن كان ذلك بعد أن يمر به العمدة أو يكاد، فيلمح طرفي شاربيه وهو ينظر إليه من وراء ظهره.
لم يبق على أذان المغرب إلا ساعة أو بعضها، ويرى الناس وكأنهم سكارى مما فعل بأبدانهم وأرواحهم الحر والصيام، وامتداد النهار وشدة الغلاء، وطول انقطاع ماء الري حتى هلكت الذرة الوليدة أو كادت، وتفتحت بعض لوزات القطن المحترق قبل أوانها ووقفت سوقه فلا تنمو.
ووقف العمدة وركبه عند أول السكة الزراعية في مفرق الطرق بين قريته وقريتنا وبعض القرى المجاورة، وهو مكان به عدد من الدكاكين وكثير من الناس، وما إن وقع بصره على رجل من أهل قريته حتى ناداه في عنف، فخف المسكين إليه وهو يتمتم في صوت سمعه بعض الناس: «يا نهار إسود ... يا خرابي.» ويحاول أن يبلع ما أبقى الصيام والقيظ في فمه من ريق فلا يجد شيئا، ووقف المسكين بين يدي حضرة العمدة، فهل رأيت العصفور الهزيل بين يدي صقر جارح ؟ وراح العمدة ينهره في صوت كالرعد أكبر ظني أن المسكين لم يسمعه من فرط رعبه ... يا كيت وكيت يا ابن كيت وكيت ... من هاتيك الألفاظ التي تجري بها ألسنة العمد وأصحاب السلطان في القرى، وأمسك العمدة هذا المسكين بإحدى يديه وصفعه بالأخرى مرتين على وجهه المصفار في عنف وغلظة، فما تركه حتى سقط المسكين على الأرض يعفره التراب، فركله العمدة كما يفعل بكلب حقير.
ولم أدر سببا لهذا الضرب، غير أني أحسست بالدم يصعد حارا قويا إلى وجهي، وطاف برأسي في مثل لمحة الطرف طائف مما نلوكه نحن المتعلمين من ألفاظ الحرية والديمقراطية والدستور، ومجلس الأمن وأضرابها مما نخادع به أنفسنا، وهممت أن أنقض على هذا الصقر، وأبعثها حربا بين الأسرتين والقريتين، حتى ولو كان المضروب من أكبر المجرمين، وما كدت أسمع ممن حولي أنه من المساكين المسالمين، حتى انتفضت انتفاضة المحموم، وخطوت أوقد نار الحرب علي أطفئ بها نار غضبي!
ونهض المسكين يبكي ويئن ويضع يديه على وجهه مكررا قوله: «أمري إلى الله ... أمري إلى الله.» وكأنما عز هذا على أحد حاشية العمدة فنهره قائلا: «اخرس يا حمار ... بوس يد العمدة وقل له: ضربك شرف يا سعادة البك، وبذلك يصفح عنك.»
وسبقني إلى حيث يقف العمدة وحاشيته شاب يلبس جلبابا أبيض، ويضع طربوشا فوق رأسه، علمت أنه أخو المضروب، فالتفت إلى ذلك المتكلم الأخير قائلا: «بل اخرس أنت يا سافل.» ومرق مروق السهم إلى العمدة، فوقف يعترض طريقه في جرأة قائلا: لماذا تضرب أخي يا حضرة العمدة؟» ... وأخذت العمدة أول الأمر ربكة من هذه الجرأة التي لم ير مثلها قط في سنوات حكمه الثلاثين، ولكنه نظر إلى هذا المطربش في استهزاء، كما ينظر المرء إلى مجنون لا يحاسب على قوله أو فعله، وأخذ هذا المطربش يقول في عبارة فصيحة: «ما هذا الجبروت؟ إلام الظلم؟ الناس سواسية كأسنان المشط ... نحن في عهد الدستور ... قضية الحرية تعرض على مجلس الأمن ... يا ناس كفى ظلما واستعبادا لخلق الله ... فيم هذا الضرب وهذا الجبروت!»
وتقدم المضروب بدوره، فازداد الناس عجبا إذ سمعوه يتوثب أمام العمدة قائلا: «إيه الجبروت ده ... دا ظلم ... دا جبروت!» ودفعهما أعوان العمدة من طريقه، ومضى العمدة وهو يلعن الدستور والحرية، ويسخر في صوت مسموع من هذه البدع التي أفسدت الناس، ويكظم غيظه من هذا المعلم الإلزامي الثائر الذي غضب لضرب أخيه، والذي يفسد هو ونظراؤه القرى!
واستمر المعلم الجريء النبيل يرفع صوته متحديا معلنا أنه سيرفع إلى النيابة شكواه، واستشهد بي وبغيري، فقبلت أن أشهد مغتبطا، وأنا أقول لنفسي: هؤلاء هم الذين يصلحون القرى لا الذين يفسدونها، وما يفسدها إلا أمثال هذا المتجبر الطاغية الذي يعيش بجهله وجاهه في القرن الماضي ... ومشيت إلى داري قرير النفس - وقد ذهب عني الغضب - وأنا أقول: لن يكون لمصر دستور بالمعنى الصحيح، حتى يتعلم أبناؤها، ولن تقوم الديمقراطية الحق إلا على أساس من العلم!
أما الذين رفضوا أن يؤدوا الشهادة، فقد انقلبوا إلى دورهم وهم يفكرون فيما سوف يحل بهذا المعلم الإلزامي من نكال أقله تقليع زرعه أو حرقه، أو إهلاك ماشيته بالسم، ومطاردة أهله وذوي قرباه، إلا أن تعصمهم من عذاب هذا الطاغية رحمة من الله!
ولكنني كسبت القضية!
هي قضية أعرضها عليك يا قارئي العزيز بعد أن كسبتها على حد تعبير حضرات المحامين ...
وأحب أن تعلم قبل أن أحدثك عن القضية أنني رجل لا أطيق أن أرى مخلوقا في موطن من مواطن الضعف أو المذلة، ولقد يجبهني شخص بما لا أحب، فأفضل ذلك على أن أراه يستعطف ويبكي؛ ولقد أحب من أحد تلاميذي أن يكلمني في شيء من الجرأة وأن يجهر لي بالقول، ولا أحب منه أن يستخزي ويضعف ويستكين ...
ومن أراد أن يزحزحني عن شيء عقدت العزم على ألا أتزحزح عنه، ومن أراد أن يستلب مني أي شيء عزيز علي إن كان ثمة عندي ما يستلب، فليأت إلي ثم فليتصنع الضراعة وليظهر التفجع والتوجع، فإنه إذ ذاك يراني تراجعت تراجعا عجيبا، ثم ليجهش إجهاشة واحدة، فعندئذ يراني قد سلمت تسليما ...
وليغفر لي القارئ إسرافي هذا في الحديث عن نفسي، فما كنت لأفعل لولا أنه يتصل بسبب قوي من قضيتي التي أريد أن أتحدث عنها ...
دخلت على أحد ذوي قرباي في بيته، وهو ممن يشغلون أحد المناصب الكبيرة، فلمحت في وجهه من أمارات الغضب والتكره ما لم أر مثله في هذا الوجه السمح قبل، وما كاد يراني حتى ابتدرني بقوله: ادخل هذه الحجرة فستجد سيدة مع زوجتي فأخرجها وإياك أن تبطئ أو تتهاون.
فدخلت الحجرة مندهشا، فإذا بي تلقاء سيدة في حدود الأربعين غارقة في دموعها كما يقولون، يقطر منديلها الدمع وتسح عيناها سحا، وتجهش حتى لا تكاد تبين الكلام، وإلى جوارها ابنة لها في نحو الخامسة عشرة حسناء رائعة لولا ذبول وصفرة في محياها ونحول في بدنها، وطفلان أحدهما في العاشرة أو فوقها قليلا والثاني طريده في العمر، وكانت البنت تجهش لإجهاشات أمها والطفلان ينظران في دهشة وألم، ويمسح كبيرهما عينيه بمنديله.
وعلمت أن زوج السيدة مختلس، وأن التحقيق أدانه، وأن زوجته باعت حليها وأدت عنه ما اختلس، وأنها علمت أنه سيطرد من عمله، وأن قريبي هو الذي أعد مذكرة يقترح فيها هذا الطرد؛ وأخرجت السيدة صورة طفلين آخرين من أولادها وقالت: ماذا نصنع جميعا وإلى أين نذهب؛ ثم أجهشت إجهاشة طويلة استفرغت فيها كل ألمها، ووضعت بنتها وجهها بين كفيها وشهقت شهقة طويلة.
وما وقعت والله عيناي على صورة الطفلين الصغيرين، وما سمعت بكاء الأم وبنتها حتى انخلع قلبي، وأحسست بالدموع تتساتل على وجنتي ساخنة وأنا لا أدري ماذا أقول، وما أحسبك أيها القارئ إلا تحبس دمعك في جهد الآن أو لعلك تسخر مني - عفا الله عنك - وتضحك من ضعفي.
واستبطأني قريبي فناداني، فخرجت إليه وأنا على هذه الحال، ورحت أتوسل إليه أن يخفف العقاب، قائلا: ما ذنب هؤلاء وأين تذهب هذه البنت؟ وكيف تطعم الأم هؤلاء الصغار؟
ونظر إلي طويلا وهو يتفكر ثم قال: «ولكنه مختلس وإنه يسلب حق المجتمع، إنني تلقاء اختلاس محض ... ألم يكن يعلم هذا المختلس السافل أن له زوجة وبنتا وأطفالا؟»
وقلت: ناشدتك الله أن تعفيني من سماع هذا كله. ماذا يصنع هؤلاء وما جريرتهم؟
وتنهد وقال: أنت لا تصلح أن تكون قاضيا، فقلت: يرحمك الله ما سألت أحدا أن يجعلني قاضيا، ولو أعطيت أضعاف ما أعطى أجرا على عملي ما قبلت أن أكون هذا القاضي، وإلا فقد أطلقت كل مستعطف ودفعت ما أقبض من أجر لكل باك متوسل.
وضحك قريبي وقال: لم أرفع المذكرة إلى الوزير بعد، وسأقترح خصم نصف مرتبه وإنذاره بالرفت ...
وأسرعت إلى الحجرة فما كدت أفضي إليها بهذا النبأ، حتى أقبلت علي تريد أن تقبل يدي، فحلت بينها وبين ذلك في رفق، ثم سألتها كيف تعيش الشهر بنصف المرتب؟ فقالت: «وعد إخوانه إن وصل الأمر إلى هذا أن يجمعوا له إعانة ... ولكني لن أرضى بهذا، وسوف أبيع صيوان الملابس.»
وخرجت ولست أنسى أبدا نظرة الشكر في عينيها وعيني بنتها، وعدت إلى قريبي فنظر إلي يسخر من ضعفي وأعاد علي قوله: أنت لا تصلح أن تكون قاضيا ... وابتسمت وأجبته وبقية الدمع في عيني: ولكنني كسبت القضية.
وإياك أن تسخر من ضعفي أيها القارئ، وخير ما أرجوه لك أن تكون ضعيفا مثلي، وإن لم تبلغ في الضعف حد البكاء.
بين الأرقام والأحلام
كنت أذهب مساء كل يوم إلى حديقة نادي الموظفين في عاصمة من عواصم مصر العليا، فأجلس في ركن هادئ من أركان تلك الحديقة الفسيحة ساعة أشاهد قرص الشمس وهو يغيب خلف التل في إحدى عدوتي الوادي.
وكان لا يدنو مني هناك إلا رجل إنجليزي حاسر الرأس سريع الخطى، أراه كل يوم وفي إحدى يديه ساجور كلبه، وفي الأخرى عصا غليظة، يدخل من باب النادي في ساعة معينة لا يتقدم عنها ولا يتأخر، حتى لقد كنت أضبط ساعتي على مرآه كما أضبطها إذا انتبهت إلى صوت المدفع، وكان الرجل متى بلغ النادي يجري في حديقته ساعة يلاعب كلبه كما يفعل صبي في العاشرة، ثم يدع الكلب ويجلس غير بعيد مني على كرسي، ويمد رجليه على آخر، ويفتح كتابا يخرجه من جيبه فيقرأ بعض الوقت، ثم يبرح وكلبه النادي عند ساعة لا يتقدم عنها كذلك ولا يتأخر ...
وتعارفنا أنا ومستر «للي» وهذا اسمه وأنس إلي «جوي» وهذا اسم كلبه، وأحسست من الرجل ما يشبه طبيعة المصري في سرعة الألفة، وذكرت له ذلك فضحك وامتدح في كياسة هذه الطبيعة المصرية قائلا، وقد لمح على محياي ما داخلني من سرور: «هذا بعض ما أحببت من شمائل شعبكم الطيب؛ وقد عرفت الكثير منها من مخالطتي عملائي هنا في بنك بركليز.» - هالو! مستر خفيف! سعيدة ... التفت ذات مساء على تحية مستر للي هذه يلقيها إلي بالعربية ضاحكا، ثم تقدم إلي وصافحني كما نفعل نحن المصريين كلما التقيا، ولو وقع ذلك في اليوم مائة مرة. - جوي! جوي! العب وحدك اليوم فلن أشاركك مرحك ... إن في توثبك دعوة إلي ولكني لن ألبيها، إني متعب من زحمة الأرقام في رأسي طول اليوم.
بهذه العبارة كان الرجل يخاطب كلبه بلغته الإنجليزية كما لو كان يخاطب ابنا له، ثم التفت إلي قائلا: «لينصرف كل منا إلى كتابه فبنفسي ميل إلى القراءة.» وبعد مدة ألقى كل منا كتابه ودنا مني ذلك الإنجليزي باسما، وهو يقول: «والآن فلنتحدث.»
وتبادلنا الحديث وانتقلنا من موضوع إلى موضوع حسبما اتفق؛ وكثيرا ما عدنا إلى الحرب ومآسيها وأنبائها، ثم تحدث مستر للي عن وحدته وكيف يعيش هو وكلبه، ثم استدرك قائلا: «هذا إذا لم نعتبر الكتب وما في بطونها من ناس، فهؤلاء تغص بهم الكتب أو يزدحم بهم البيت.»
وسألته عن كتابه الذي ألقاه الساعة من يده، فأجاب متهللا: «هذا مختارات من شعر تنيسون ... لشد ما تعجبني موسيقاه ومعانيه! أجل لشد ما يبهج نفسي ويؤنس وحدتي تنيسون العظيم! ... إني لأقدمه على الشعراء ما عدا شكسبير وملتن ... آه لهذا الساحر!»
وكان الرجل في كلامه عن الشعر والشعراء فياض المعاني بادي التحمس، وقد بدا وجهه الوسيم المتورد كوجه غلام في أول الشباب، وظللت أنصت إليه متعجبا من هذا الذي يقضي نهاره بين الأرقام في المصرف، ثم يختتمه باللعب وقراءة الشعر، وزادني إعجابا به أنه يقضي وقتا طويلا من ليله يقرأ ويستمع للموسيقى إلى جانب المذياع.
ولشد ما أبهج الرجل أن رآني أحب ذلك الشاعر كما يحب؛ وأنصت إلي فرحا وأنا أطري بعض قصائده، ثم قال: «لا بد من الشعر في هذه الدنيا، لا شيء يسمو بالنفس الإنسانية كما يسمو بها الشعر، لا تصاحب من لا تجد في نفسه شعرا ... إنني طول نهاري بين الأرقام فما كان أشقاني لولا الشعر والموسيقى، ثم هذه الحرب ما كان أتعسني بويلاتها لولا هذا الروح العلوي ... حقا إن القراءة أعظم متعة ... لا تصاحب من ليس في نفسه شعر.»
وكانت الشمس قد مالت لتغيب خلف التل في العدوة القريبة، وانعكست خطوط من التل على قبة السماء، وطرزت حواشي الأفق حمرة الشفق، ثم زحفت ظلال الطفل لتشرب هذه الحمرة، وتراءت القلاع البيض على صفحة النهر الأزلية يزيد بياضها خضرة الزرع على جانبيه، والتفت صديقي الإنجليزي قائلا: «مد عينيك! هذه قصيدة رائعة، فلنصل لحظة.»
وصلينا خاشعين لحظة طويلة، ونهض صاحبي وهو يقول: «إن هذا التل وهذا النهر ليملآن نفسي بخيال الماضي، فضلا عما يريانني من صور الجمال.» ونادى الرجل كلبه ثم قال وهو يشير إليه: «أحب هذا الكلب؛ لأنه شديد الإحساس بالحياة؛ ولذلك سميته جوي ... آه كم أحب أن ألعب مثله فأشعر أني صبي وأنسى أني في الرابعة والخمسين!»
ووضع الرجل عصاه على ذراعه والساجور في عنق جوي، وانصرف قائلا: «هذا برنامج كل يوم؛ ألست تحب ذلك؟»
ولكم أحببت ذلك وأحببت هذا الشاعر، وأغرمت بخياله الذي حبب إليه الحياة أو هونها على نفسه.
ذات صباح ...
أوشكت أن تنشق على الأفق الشرقي كله الصباح الوردية عن جبين الشمس، وأنا جالس في مصلى على حافة ترعة كانت تفهق بذلك الفيض الحبشي الذي حمله النيل من هضبات وادينا الحبيب؛ وكانت تحجبني عن الطريق العريض على الضفة الأخرى للترعة أغصان الصفصاف المتهدلة، التي تمس الماء فتبدو كأنما تحنو على هذا النضار الغالي، وجلست بحيث أتبين المارة في يسر من خلال الصفصاف الحاني، ولا يكاد يتبينني أحد إلا في مشقة ...
ورحت أرقب طلوع الشمس على الأفق، ولعلي إنما طلبت الفضاء في السماء حيث غطت الفضاء على الأرض عيدان الذرة، وقد استطالت واستغلظت على سوقها وأخرجت سنابلها، وعيدان القطن وقد طالت فروعها وتدلت زهراتها، فلم يبق أمام ناظري على الأرض إلا ذلك الطريق القريب على الضفة الأخرى للترعة، تتقاطر فيه أسراب الصبايا عائدات بجرارهن من الترعة الكبيرة في هذه البكرية الرخية، خفيفات تتماوج قدودهن الممشوقة الناهدة تحت الجرار الثقيلة الطافحة بالفرات العذب الذي يجري به النيل ...
وجاءت فتاتان فآثرتا أن تملآ جرتيهما على مقربة من المصلى، فكنت أراهما من حيث لا ترياني، أما إحداهما فلما لبثت أن عرفتها فهي بهيجة بعينها! بهيجة تلك البنية الريفية التي ما كنت ألقاها وهي بين العاشرة والثانية عشرة إلا استوقفتها وضاحكتها، والتي كنت أحدث نفسي يومئذ بما سوف يكون لها من فتنة وسحر ...
وها هي ذي في الثامنة عشرة أو فوقها قليلا، شمس يضيء جبينها الأبلج كما تضيء شمس الأفق، قد أفرغت فيها الطبيعة الريفية سحرها إفراغا كما يصنع الفنان بدميته، حين يريد أن يبلغ بها منتهى قدرته، وملأت ناظري من خصرها الدقيق وردفها المليء وصدرها الناهد؛ وشمرت عن ساعديها وكشفت عن ساقيها لتنزل على حجر في الماء، فما حسبت ساقيها وذراعيها لولا تحركها، وتثنيها إلا صنعة فنان بالغ في تسوية مرمره ليتحدى به الطبيعة. أما وجهها فما تغني اللغة عنه، فلن يتصور جماله إلا أن يرى ...
أما صاحبتها فسمراء لعوب في وجهها وفي هيكلها وفي حديثها ما نسميه خفة الروح، وهي لا تفتأ تضحك وتداعب رفيقتها ولا تزيد بهيجة على أن تبتسم ابتسامة طفيفة لا تلبث أن تنطفئ ...
وحيرني هذا الهم في وجه بهيجة، فعلى فمها الدقيق وفي عينيها الواسعتين الزرقاوين الطويلتي الهدب، خيال الألم والحزن الدفين وفي خديها شيء من الشحوب، لولا تلك الحمرة الشديدة التي تمتاز بها صفحة هذا الوجه ...
وقالت فاطمة - وهذا اسم صاحبتها كما تبينت - تحدث بهيجة، وهي فوق الحجر يغطي الماء ما فوق خلخالها قليلا: أأدفعك يا بهيجة في الماء فتغرقين وتلتهمك الجنية؟ وقالت بهيجة: ليتني أغرق فلن ينجيني إلا الموت! ألا ليتني أتزوج الموت نفسه!
وعجبت مما أسمع وازددت تطلعا إلى معرفة ما يحزنها، فما أشد ما يؤلم النفس مرأى الجمال الحزين، وأنصت إلى فاطمة وقد ألقي في روعي أنها سوف تكشف هذا السر ...
وقالت فاطمة، وقد خرجت صاحبتها من الماء بعد أن ملأت الجرتين، وجلست مستندة إلى جذع شجرة: فيم هذا الهم يا أختاه وغدا ليلة الحناء؟
وحاولت بهيجة أن تبتسم، فما افتر ثغرها الجميل حتى انطبق، وامتلأت مقلتاها الساحرتان بالدمع، وتساتل الدمع فجرى فوق خديها، ثم دفنت وجهها في كفيها وأجهشت إجهاشة كادت تطلق الدمع من عيني ... وما أيسر ما ينطلق دمعي فلا أمسكه إلا بجهد ...
وأمسكت فاطمة عن الضحك وراحت تهدهد صاحبتها، وتقول: لعل الخير فيما تكرهين، وما عيب حسن وهو ابن الجمل والناقة، في بيته الخير وزوجات إخوته من أحسن البيوت، وإن لم يكن جميلات، وسوف تكونين أنت زينة الدار ... وبأي شيء يمتاز إبراهيم عنه؟ وكيف تقوى الواحدة منا على مخالفة أبيها؟ رأى أبوك أن يزوجك من حسن فهل تعصينه؟ وما جدوى البكاء وقد صرت في عصمته؟
وأثار كلام فاطمة حزنها كله فاسترسلت في بكائها، وصحب هذا البكاء أنين متقطع، كأنما كان ما ألقي في سمعها من كلام طعنات خنجر شاعت في جسمها كله ففي كل موضع منه طعنة ... ونظرت في وجه فاطمة تحسب أنها من أعدائها، ورأيت في وجهها كأنها تريد أن تري فاطمة ما تعتزم من عصيان ...
ولمحتني فاطمة من خلال الصفصاف، فغمزت صاحبتها وهمست في أذنها، ومسحت بهيجة عينيها بذيل ثوبها الأبيض الذي سحبته من تحت ردائها الخارجي الأسود، وأصلحت الفتاتان حويتيهما ووضعتاهما على رأسيهما ومر رجل فأعانهما على حمل جرتيهما وانطلقتا صوب القرية ...
ولاحظت على بهيجة أنها لا تكاد تقوى على حمل جرتها، فكانت خطوتها أثقل من خطوات صاحبتها، وكان عودها اللدن يتثنى من إعياء لا من عجب تحت جرتها الثقيلة، وما زلت أتبعها بنظراتي حتى غيبتها عني في منعطف عيدان الذرة ...
وبقيت ساعة يكرب نفسي ما يحزن بهيجة، كما تكدر خاطري طيوف منكرة سوداء من السم والحريق والقتل، وإتلاف الزرع من جرائم الريف يمثلها لي هذا السبب الذي سمعته بأذني؛ وطاف برأسي الطلاق والنفقة والهجر والخصام، وبيت الطاعة والمعارك بين الأسر، بله ما روعني من صورة الخيانة والفجور وغيرها من أفعال الظلام، وما تجره في أعقابها من شر وانتقام، كل أولئك مثلته لي ثورة بهيجة ...
زهرة وزهرة ...
جلست أنتظر في حجرة مدير المكتب حتى يأتي دوري، فيؤذن لي بالدخول على كبير من أصحاب الديوان في إحدى الوزارات، وكانت الحجرة ملأى بالمنتظرين مثلي؛ وكلما رن الجرس وأسرع المدير إلى الحجرة المهيبة وخرج منها، تأهب كل امرئ يحسب أن الإذن له، فيشير المدير إلى من يعرف، وينادي اسم من لا يعرف، فيصلح الداخل حلته ويزرها ويعدل رباط رقبته، وقد ينزع طربوشه ويمسحه بمنديله أو بطرف ردنه، ويضعه على رأسه في اهتمام، ويدق الباب في احتشام، ويدخل ثم يخرج بعد حين وعلى وجهه غبرة أو ابتسامة ... وكان يقع منظاري على هؤلاء، وأنا أحمد الله أن لم تكن بي حاجة إلى هذا الكبير، فما جئت إلا لأقدم إليه «كتابي» ...
ودخل أكثر من بالحجرة وخرجوا، وبقيت سيدة على أحد المقاعد، حيث وقع نظري عليها منذ دخلت هذه الحجرة ... سيدة هي الحزن نفسه تمثل إنسية في ثياب الحداد!
كنت أنظر إلى وجهها الضارع فتغمز على قلبي وعلى كبدي هذه اللوعة الناطقة فيه، وكانت تدور طرحة سوداء بهذا الوجه، وهو في لون العاج المصفار، فتزيد بياض صفحته وتبرز معنى الثكل فيه ... وكانت هذه السيدة الحزينة تنظر دائما إلى الأرض، فلا تكاد ترفع بصرها حتى ترده إلى حيث كان في ضراعة وتخشع، وكم كان يحزن نفسي ما أراه من حمرة في جفونها، كلما التقى بصري بعينيها الواسعتين الهادئتين، اللتين أطفأ الحزن والسقم ما كان فيهما من بريق!
وكانت هذه الزهرة الذابلة رائعة الحسن على الرغم من لوعتها وضراعتها، تروعك ملاحة وجهها بقدر ما يروعك حزنها ... وهكذا جعل الحزن روعتها روعتين، وجعل ما يحسه القلب حيالها من لوعة كأنما يذوقها مرتين!
وكانت شابة لا تزيد على الثلاثين فيما أحسب، وفهمت أنها أرملة كبير من أصحاب هذا الديوان، فعجبت كيف يدعها موظفو المكتب حيث هي فلا يعينونها على ما جاءت له من أمر، ولو لم يكن زوجها من أصحاب هذا الديوان من قبل، لكان لها من هذا الحزن الضارع أكبر شفيع ... بل لكان لها من مجيئها ولم تخلع ثوب الحداد بعد، ما هو خليق أن يلين لها القلوب ولو كانت من الصخر ...
ولكن ... فيم العجب، ولو أن زوجها نفسه قد أحيل على المعاش، كما يقول أصحاب الديوان، وجاء بعد يوم واحد إلى نفس الديوان، لتنكر له من كانوا من قبل يرجون مودته، ولحياه من يحييه، وكأنما يريد أن يفهمه أنه يتفضل عليه بهذه التحية، فكيف وقد طواه الموت؟!
بهذا حدثتني نفسي وأنا أنظر إلى هذه التي يغطي السواد جسدها كله، فلا يرى إلا وجهها ويداها، والتي كنت أتخيل أن ما يطرأ على خاطري من هذه المعاني هو عين ما كان يطرأ على خاطرها في تلك اللحظة ...
ودخلت بعد حين غانية أخرى في زينتها ودلها وألوانها، تخطو خطوات رشيقة سريعة، وتتثنى وتتخلج كأنما تمشي لا برجليها وحدهما، وإنما بهيكلها كله، وقد فاح في الحجرة عطورها، وارتفع بالتحية صوتها، وهي تقول إنها تريد أن تقابل سعادة البك. ... وجلست هذه الزهرة الناضرة، وقد هش لها مدير المكتب، وأقبل عليها يحدثها حتى ما كان يعي تحيات القادمين ولا نداء الموظفين، ولا يفطن إلى ما يلقونه إليه من أوراق! ... حتى الجرس نفسه - جرس الرئيس المهيب - كان يتوانى في إجابته، ثم يهرول ليعود بعد لحظة يصور لمحدثته مبلغ ما لدى رئيسه من أوارق ينظر فيها؛ وذلك كي يجعل له عليها فضل الحصول على الإذن ...
ودخل الحجرة بعض الخبثاء من الموظفين يتظاهرون أنهم قدموا لعمل ... فكانت تناديهم بأسمائهم ، فيسرعون إليها فتسأل الواحد منهم عما تم في مسألتها ... فيحدثها في تظرف واهتمام، ويصف لها مقدار ما يبذل من جهد وعناية في هذا الأمر، وهي تخرج الكلام من فمها تارة ومن أنفها تارة، ولا تكاد تستقر في موضعها وتتهددهم ضاحكة أنها سوف تشكوهم إلى سعادة البك، وأنهم ليؤكدون لها في ميوعة وخبث أنهم «في الخدمة»، وأن «الهانم» لن تعود بعد يومين إلا وقد انتهى كل شيء ... وتنظر إلى هذا فتقول: يا لئيم! وإلى ذلك فتقول: يا نصاب! وإلى ثالثهم فتقول: يا مكير! وتغمز بعينيها وتضحك ... ويتكلمون بالأحداق، أو يتغامزون بالأيدي، وينصرفون ليقولوا خارج الحجرة ما يشاءون!
وتنظر المحزونة إليها فيتضاعف حزنها، وإن صاحب القلب المحزون ليعرف أقصى حزنه حين يجد نفسه وحده بين قوم لاهين ضاحكين! وأنظر إلى هذه الثكلى لا يعنى بها أحد، ولا يفكر في أمرها أحد، فتشمئز نفسي من لؤم هذه الحياة!
ورن الجرس، فخف المدير إلى حجرة رئيسه، ثم عاد يشير إلى صاحبته لتدخل، ومشت إلى الباب في خفة كأنما تريد أن تجري، ورائحة عطرها تملأ الخياشيم ... ونظرت إلى تلك الزهرة التي لا يفوح منها عطر، فإذا حمرة تورد هذا العاج المصفار في وجهها هي حمرة الغضب، وإذا بجفونها المقروحة تتندى، وإذا بها تمسك دموعها في جهد!
وتمشي إلى مكتب المدير في أناة وخشوع، وتقول له في صوت مختنق متهدج ... إنها تعتذر إذ لا تستطيع البقاء، فما يزيد على أن يقول لها في سماجة: «على كيفك يا ستي ... الناس لسه منتظرين كلهم أهم ... وأنا أعمل إيه؟»
وانصرفت المسكينة فما بلغت الباب حتى انهمرت دموعها، فمسحت عينيها بمنديلها، وما في الحجرة ممن ينتظرون الإذن إلا من تحرك قلبه شفقة عليها ورثاء لها!
ولا أريد أن أذكر للقارئ متى جاء دوري أنا «المؤلف الفاضل»، أحد حملة القلم المتواضعين الذي ما جئت أرجو في شيء، والذي يعرفني منذ سنوات هذا الكبير الذي لا تخلو من أمثاله وأمثال مديره أكثر الدواوين!
أيام في القرية
لن أجد إذا أردت التعبير عن مبلغ حبي لقريتي كلاما أجمل ولا أصدق من كلام أستاذنا صحاب «الرسالة»، جزاه الله أحسن الجزاء عما يسدي من صنيع، بقلمه «ورسالته» إلى الفن الرفيع، ولست أزيد عليه سوى أني أعيش في القرية أبدا إذا جئتها كواحد من فلاحيها؛ فأنا أخالط هؤلاء الفلاحين، وأتكلم بلهجتهم، وأؤدي ما أريد من المعاني بألفاظهم، وأضرب في الحديث مثالهم، وأنهج في سوق الكلام نهجهم، لا أتكلف ولا أتعسف؛ إذ لا حاجة بي إلى ذلك، وأنا قروي قبل كل شيء، ومثلي إذا عدت إلى قريتي كمثل النبات، تنقله إلى بيئته، فيبدو لك من خصائصه ما لا يبدو إلا في هذه البيئة ...
هبطت القرية وبيني وبين العيد يومان، وتركت منظاري لينظر من ورائه صاحب «الرسالة»، فيستعيذ بالله آخر الأمر منه، ويسألني في ختام حديثه البارع الممتع: أيرسله إلي أم يجربه على عين الأستاذ المبارك؟ وما درى أن لي في القرية «منظارا» غير ذلك المنظار الذي لا ينفذ فيها إلى مثل ما ينفذ إليه في المدينة، ونسي أن للمبارك عينا لا تحب المنظار؛ لأنها تنفذ وهي عارية إلى كل شيء ولو كان بينها وبينه أكثف ستار!
درت بمنظاري هذا فوقع من حياة «القرية» ومجاليها على ما لو طاوعت قلمي في سرده، لضاق عنه عشرة أمثال هذا المجال، وحسبي أن أقصر الكلام على ما كان أعمق أثرا في نفسي بين ما شاهدت ...
شاعت الخضرة في الحقول، ورف في مزارعه بين بطاح البرسيم نوار الفول، واهتزت الأرض أخيرا وزخرت بالحياة، بعد أن فعلت بها دودة البرسيم أياما طويلة ما لا يفعل الجراد، فالتهمت جموعها الخفيفة العنيدة، البراعم الطرية الوليدة، وتركت الناس حيارى لا يجدون لما أصابهم من علة، إلا أنه غضب من الله ... وأبهجت نفسي مظاهر الحياة والبشر في النبات الرفيف والشمس الصاحية، بيد أني - وا أسفاه - رأيت إلى جانبها مظاهر الموت والعبوس في الغدران الناضبة والأشجار العارية، ثم في تلك البهائم العجاف الهزيلة التي تلتهم البرسيم في نهم، ولا تنال منه إلا بقدر.
وجاء العيد فكان من أجمل معانيه وقعا في نفسي تحية أهل القرية جميعا بعضهم بعضا، وتصافحهم إذا ما التقوا لا فرق بين غني وفقير، ولا بين كبير وصغير، ثم تزاور الناس منذ خروجهم من صلاة العيد إلى متوع النهار جريا على أصول لن تعرف في المدن إلا بين من تربطهم صلة من قرابة أو من صداقة، وكثيرا ما يقوم فيها مقام الشخص ما يدفع إلى الخادم أو في صندوق البريد من بطاقة ...
وارتاحت نفسي لحظة لهذا المعنى؛ غير أني ما لبثت أن كدرني خاطر طاف بنفسي؛ وهو أن عيد هؤلاء القرويين كطبيعة حقولهم، فهذا البشر الذي يبدو على وجوههم يكاد يشف عما وراءه من هم جلبته عليهم الأزمة التي حلت بهم من هلاك الزرع، وبيع القطن بثمن بخس، ولن تغرب شمس هذا اليوم حتى يعودوا إلى ما كانوا فيه من عناء ونكد.
ورأيت العيد في دنيا الأطفال غير العيد في دنيا الكبار، فهؤلاء الصغار هم الذين ينعمون حقا بالعيد، وهم الذين ينجلي بهم معنى العيد؛ ولكم بث مرآهم من النشوة في قلبي، وبعث من جميل الذكريات في أطواء نفسي، فذقت السرور الصادق برهة في تذكري أيامي التي خلت والتي كان قصاراي فيها حلتي الجديدة وقروشي القليلة، وتمتعي ساعة بالأرجوحة التي أسمع اليوم صليل «جلاجلها» النحاسية وصرير أخشابها العالية، ولكن بأذن - وا أسفاه - غير تلك الأذن الصغيرة! وما أعجب هذا السرور الذي يجر في أعقابه الأسف والكآبة ...
وخرج الصبايا أسرابا عصر يوم العيد كعادتهن إلى الترعة البعيدة يحملن جرارهن، ويتجملن بحليهن ويخطرن في جديد ملابسهن، والشباب يأخذون عليهن الطريق جماعات جماعات، وهم مزهوون بحللهم الجديدة، وطواقيهم البيض وعصيهم الرفيعة من الخيزران ... ولكن نظرات البنات فاترة ساهمة، فليس من هؤلاء الفتية في هذا العام الباحث الخاطب والزوج المرتقب، وقد قل المال ورفعت الحب ثمن كل شيء.
وتجمعت في الأفق ظلال الغروب وراحت كدرتها تطوي نور النهار وبهجة العيد معا، وأويت إلى داري أعد في نفسي ما تصرم من أيامي في القرية، وأحصي ما بقي منها، وأعجب لسرعة انقضاء الأيام هنا على هذا النحو، وأقول: متى يقبل الصيف لأقضي في قريتي ما أقضي كل عام من شهوره، وكان آخر سؤال طرأ على خاطري: متى يعنى أدباؤنا بالريف وحياته فيصدق هذا الأدب وتتضح معالمه ويذهب عنه ما يعلق به من بهرج زائف وتقليد سخيف؟ ومتى يعنى أغنياؤنا بالريف وأهله، فيعرفون موضع الداء فيه؛ ليصلوا إلى العلاج الناجع ويستبدلوا بالكلام الذي لا غنية فيه ما يطلبه الريف وأهله من عمل نافع؟
من الفأس إلى السلاح
خففت إلى القرية منذ بضعة أيام، وقد أغراني الصحو والدفء أن أنعم بهما هناك يوما أو يومين في ملاعب صباي ومسارح هواي وجنة أحلامي؛ ورحت في رونق الضحى أثب كالفراشة من حقل إلى حق ومن غدير إلى غدير، وفي قلبي فرحة الغلام، وفي خيالي أحلام الشاعر.
وجلست أستريح ساعة في مصلى على جانب الطريق، أستند إلى جذع شجرة التوت العتيقة التي جردتها يد الشتاء العاتية من أوراقها، والتي طالما استروحت نسيم الأصيل الرخي في ظلها السابغ أثناء الصيف، وأخذت عيناي من بعد شخصا قادما في زي «الأفندية»، فلما صار بحيث أتبينه، رأيته في زي «الجند» وما لبث أن دنا مني فعرفته، ولما بلغ حيث أجلس نطق بالسلام مبتسما ورفع يده إلى رأسه محييا بالتحية التي تعلمها في الميدان ... وعجب إذ نهضت واقفا له، وإذ مددت إليه يدي أصافحه في اهتمام ثم جلس على حافة المصلى.
هذا هو حسن الفتى القروي المرح، القسيم المحيا، الذي تعرفه القرية كلها بمواويله الساحرة العذبة التي كان يمليها عليه في الأفراح ما هز قلبه من حب عف شديد، والتي ما لحق به في مضمارها أحد من منافسيه ... ولقد طالما رأيته بالأمس يخطر في ملابسه القروية في تلك البقاع، ولقد طالما سمعته من قريب أو من بعيد يبدأ أغانيه الحلوة بقوله: «آه ... ياما جرى لك يا قلبي.»
واليوم أراه في حلته العسكرية ينتعل ذلك الحذاء الضخم، ويضع على رأسه الطربوش ويمسك بيده عصا رفيعة من الخيزران، وقد زال عن وجهه سفع الشمس إلا قليلا، فبدا أكثر وضاءة وأجمل قسامة وأنضر عافية.
ولمحت في عينيه شيئا من القلق ولكن لم يغب عني سببه، فأنا أعرف أن هذا المصلى مكان انتظاره من يهواها قلبه، وهي قافلة من الترعة أو ذاهبة إليها؛ وأشرت إلى ذلك مداعبا ممازحا، فضحك ضحكة جميلة مازج الطلاقة فيها الخجل ... ولكن إشارتي إلى ما في نفسه زادت قلقه، كما تبينت في صفحة وجهه، فوجم برهة، وأدركت أنه يهم بالانصراف فأخذت أهدئ بالحديث روعه.
ولم يطل ذلك الحديث فقد رأيت الصفرة تغشى وجهه والخجل يتزايد في عينيه، فالتفت فإذا هي مقبلة تحمل جرتها، ورأيتها حينما دنت منا قد أخذتها ربكة المفاجأة فاضطرب هيكلها ثم أسرعت فأخفت وجهها بطرحتها ... وبدا لي فناديتها حين مرت، فأبطأت ولكنها لم ترد ولم تلتفت، فأكدت، فوقفت، ثم تغاضبت فأقبلت في حياء شديد، فصحت بها لتقدم وإلا نهضت فجئت بها على رغمها، فجاءت ووضعت يدها في يد خطيبها ثم انتزعتها مسرعة دون أن تتكلم، وهي تتلفت مخافة الرقيب، وأشرت إليه فحط عنها الجرة وأرغمتها على الجلوس، فجلست إلى جانب المصلى تحجب طرحتها نصف وجهها المتورد الجميل، وملء بدنها الاضطراب والنشوة والدهشة.
وانعقد لسان الجندي فلم يدر ماذا يقول، «فأنقذت الموقف» أنا بامتداحي حياة الجندية وبثنائي في عبارة سهلة يفهمانها على أولئك البواسل الذين يفتدون بلادهم بأرواحهم ... ولمعت عينا الجندي الشاب، ثم تندت بدموع الفرح مقلتاه وأنسته الحماسة خجله فقال وهو الذي كان يحمل الفأس بالأمس إنه يفدي بلاده بدمه إذا لزم الفداء ... ونظرت إليه الفتاة نظرة عاجلة لم أر فيها إلا معاني الإعجاب والارتياح، ونهضت قائلا: إني أتركهما برهة ليقولا ما بنفسيها.
وعدت إذ رأيته يضع على رأسها الجرة، وواجهتني ذاهبة صوب القرية، فإذا هي مستبشرة راضية تكتم ضحكتها وفي وجهها شيء من الحياء يخالطه شيء من التصنع؛ ودنوت من ذلك الجندي أسأله لم لا يصف ذلك في موال من مواويله، وهو ذلك الشاعر الذي ما عي لسانه في موقف ... ولكنه لم ينطق بموال حينذاك، وإنما راح يتكلم عن حب الوطن وعن معاني الفداء والبطولة، ولشد ما أعجبني قوله: «الواحد منا ما يستهلش خير بلاده إذا ما دفعش عنها بدمه، والراجل إيه فائدة عافيته وشبابه؟ يا ترى يقعد زي البنت؟» وأكد لي أنه لا يأسف على فراق قريته في سبيل وطنه، وتلعثم ثم قال: إن حب بلاده فوق كل حب!
واستأذن الجندي الفلاح فوقفت أصافحه في حماسة وشيعته بنظرات الإكبار وهو يمشي مشية متزنة سريعة، وعجبت كيف تغير الجندية عقلية هؤلاء الفلاحين بمثل هذه السرعة، وأثلج صدري أن أرى في ذلك الفتى المتحمس الدليل الحي على صحة ما يقوم أبدا في نفسي، من أن هذا الذي يجيل الفأس في تربة وادينا الوديع الهادئ كفيل بأن يدير في يده السلاح بنفس المهارة إذا هو قلد السلاح ... ومن أين جاءت جنود تحتمس ورمسيس وإبراهيم؟ وكم بين هؤلاء السذج زرق الجلابيب من قادة أمجاد وعلماء أفذاذ وشعراء فطاحل وساسه أمائل، ولكنهم تركوا في غمار الجهل والفاقة لا يعلمون إلا أن يجيلوا الفأس في ثرى الوادي في صمت وصبر جاهدين.
عرفان الجميل
نهضت للقائه وقد أقبل علي هاشا محييا، وصافحته شاكرا له تحيته مجيبا عليها بأحسن منها، وجلست وجلس وهو يحمد الظروف التي جمعت بيننا في القرية على غير انتظار.
وكان يعلم أني لا تتاح لي فرصة للمجيء إلى القرية إلا اغتنمتها، فمال بالحديث إلى ذلك المعنى، وأخذ يبدئ ويعيد في بيان مبلغ كراهته للقرية، وهو لن يرى أبلغ من أن يقول إنه يكرهها اليوم بقدر ما أحبها بالأمس، وإنما يجيء إليها مضطرا في بعض عمله ثم يغادرها أسرع ما يستطيع.
ولما كنت أفهم العلة الحقيقية لتلك الكراهية لم أشأ أن أناقشه فيما أبداه غيرها من العلل الزائفة، بل لقد ثقل علي كلامه، وأنكرت ما يفيض به من تكلف سخيف وما ينطوي عليه من خبث بغيض.
ورأيته يبالغ في الحذر على ملابسه أن يعلق بها التراب، فهو لذلك يمسحه عنها بمديله بين آونة وأخرى لا يمل ذلك ولا يفتر عنه؛ وكيف يطيق أن يرى الغبار على حلته «الإفرنجية»، وإنه ليزهى أكبر الزهو بأن يخطر فيها على أعين الناس في القرية يذكرهم بها كيف أنه أصبح ذلك «الأفندي» الوجيه الذي لا يقل في وجاهته وعظمته شأنا عن سراة القرية، ولعل هذا المظهر الذي تبتهج له نفسه هو وحده الذي يجعله يطيق البقاء يوما أو بعض يوم في تلك القرية.
وقطع علينا الحديث قدوم شيخ أربى فيما قدرت على الستين يتوكأ على عصا غليظة، ويكاد من الضغف لا تقوى على حمله رجلاه، ولم يكن ذلك الشيخ المتهدم إلا والد ذلك الأفندي الوجيه، ونهضت أستقبله مظهرا له حفاوتي به، وعجبت أن أرى ابنه يقف متثاقلا متباطئا، وأسند الرجل عصاه إلى أحد المقاعد وأراد أن يجلس على الأرض، فأمسكت بيده وأجلسته بعد إلحاح على المقعد.
وأطرق الرجل لحظة، ولكني تبينت في عينيه كلاما؛ وفطنت إلى أنه يرتاح لوجود ابنه معي في تلك الآونة إذ يستطيع أن يسمعه ما يريد ويشهدني على قوله ويبثني شكواه؛ وزدت وثوقا من ذلك بما رأيته من اضطراب وغيظ على ملامح ابنه الوجيه.
وتنهد الرجل تنهدة طويلة ثم انطلق يتحدث ولم يكن حديثه إلى شكاة مرة موجعة من هذا الذي أنفق عليه الرجل ماله جميعا، حتى صار إلى ما صار إليه، وذكر لي فيما ذكر والدموع تبلل لحيته البيضاء، أنه ذهب إلى بيت ابنه في المدينة، فأنكر الابن وجوده هناك، فذهب أبوه يطلبه في مقر عمله فدله عليه بعض الخدم، فانتحى به الابن جانبا هو يحاول كتمان غيظه ثم صرفه بعد دقائق، فما كان الرجل يبلغ عتبة الحجرة حتى سمع ابنه يقول لزملائه ضاحكا: إن هذا الرجل كان فيما قبل زارعا أجيرا عند أسرته، وإنه يطلب إحسانا ... وخنقته العبرات لحظة ثم عاد إلى حديثه يسألني. هل يكون ذلك نتيجة التربية؟ وهل يكون جزاؤه على بيع ما كان يملك في تعليم ابنه أن يقابله بما بقابله به؟ والتفت أطلب الجواب من الوجيه المتعلم الذي يكره القرية وحياة القرية، فهالني ما سمعته من عبارات فاجرة أخذ يوجهها إلى الذي كان سببا في نعمته، دون أن يستحي، وكانت أقل تهمة ألصقها بأبيه أنه قد صار شيخا خرفا لا يؤاخذ.
وبلغ بي الغيظ كل مبلغ ولولا أدب الضيافة لصرفت هذا المتبجح السمج من مجلسي في غلظة، ونصحت للرجل من فرط غضبي، وليتخذني شاهدا، أن يرفع إلى القضاء دعواه، فنظر إلي نظرة شكر ولكنه قال: «يا بني نضحك علينا البلد ونسمع بنا الناس؟ لا، أنا عندي أموت من الجوع ولا يقول الناس إن ابني ناكر للجميل.»
وأخذت أسري عن الرجل بما أستطيع من الكلام وقد عزني في هذا الموقف الكلام، كل ذلك وابنه صامت كأنه جماد لا يتكلم ولا ينصرف على الرغم من عنفي عليه، ثم وعدت الشيخ أني سأبذل قصارى جهدي من أجل راحته وودعته مواسيا مشفقا.
وهم ابنه بالانصراف بعده فمددت إليه يدي على كره مني، وجلست وأنا أقول: أيكون بعد ذلك غريبا أن نجهل القرى وحياة ساكني القرى، وأن نظل وكأننا بما بيننا وبين هؤلاء المساكين من قطيعة شعبان يعيش أحدهما من كد الآخر؟ وإذا كان هذا شأن بعض الأبناء مع الآباء، فكيف تكون الحال فيمن لا تربطهم بأولئك المساكين بنوة أو قرابة؟
آدمي ...!
كان يوم رأيته آخر مرة في الحقل يبدو مصفارا مضعوفا، لم تبق العلة في وجهه غير أثر ضئيل مما كان يترقرق فيه من نضرة العافية، ولم يدع السقم في بدنه إلا بقية طفيفة مما كان يكمن فيه من فتوة الشباب؛ وكان يجيل الفأس في حركة أشبه بحركة الآلة البخارية نفد وقودها أو كاد، فبدت كأنما أوهنها طول العمل.
وألح عليه الداء فلم يبرح داره أياما، وساورتني رغبة قوية أن أذهب لأعوده، ولم أكن أعرف موضع بيته من القرية فاستصحبت من يدلني عليه.
مشيت دقيقتين أو ثلاثا فيما يسمى في القرية شارع «داير الناحية»، ثم قادني صاحبي إلى حارة لا يزيد اتساعها على ثلاثة أمتار أخذت تلتوي، فأنعطف تارة نحو اليمين وطورا صوب اليسار وأنا أمر على الجانبين بهاتيك المباني المتلاصقة التي تتشابه في كل شيء، في صغر منافذها وقلتها، وفي حجم أبوابها ووضاعة مظهرها، ثم في هذه الأقراض الجافة المتخذة من روث الماشية والمرصوصة فوق هامتها كأنها الأكاليل!
ولم أكن دخلت من قبل دارا من هاتيك الدور البائسة، ولم أر إحداها من الداخل إلا بالنظرة العابرة حين أمر بباب مفتوح من تلك الأبواب القبيحة، التي تزين صدر كل منها ضبة أشد قبحا منه.
ووجدتني في فناء دار ذلك المريض الذي جئت لأعوده، وهو فناء لا يزيد اتساعه كثيرا على ثلاثة أمتار في مثلها، في ناحية منه مصطبة عليها جرة من تلك الجرار التي يحمل فيها الماء من الترعة؛ وإلى جانب المصطبة موقت من الطين أحسب أنه لم توقد فيه نار من زمن طويل، فلا أثر للرماد فيه، وفي ناحية أخرى من الفناء وقفت جاموسة هي أثمن ما في الدار من متاع، بل هي أصل ما في الدار من متاع، وعليها وحدها يتوقف ما فيها من معيشة، وكانت أرض الفناء إلا مساحة قليلة مبللة بالماء الذي ينساب إليها من فوق المصطبة حينا، ومن تحت الجاموسة أحيانا!
ودهشت زوجة المريض إذ رأتنا، أخذتها ربكة حتى ما تجد كلاما تقوله، وبدت الدهشة في عينيها وفي وجهها وفي ارتعاش أطرافها، وتعثر خطواتها وهي تشير إلى القاعة التي يرقد فيها زوجها ... وما كنا لنخطئ تلك القاعة لو لم تدلنا عليها، فلم يك أمامنا غير باب تحكم إغلاقه ضبة عتيقة، وآخر انفرج قليلا؛ وليس مما يجوز في العقل أن تلك الضبة العتيقة تغلق الباب دون المريض، فليس مما يدعو إلى حبسه سبب ظاهر أو خفي فيما نعلم ...
وأسرعت المرأة أمامنا فدخلت قاعة المريض تخبره بمجيئنا، وتألمت إذ أدركت أنه سيحاول القيام، فأسرعت في إثرها لأقسم عليه ألا يفعل، ودخلت ولكني لم أره أول الأمر، فالقاعة مظلمة لا يدخلها نور النهار إلا من كوة صغيرة قرب السقف.
وسمعت صوتا يئن ويقول في إعياء وهمود بالغين: «كتر خيرك يا سيدي ... الحمد لله ... الله يخليك يا رب، ولا يريك اللي أنا فيه.»
وحركت نبرات ذلك الصوت نفسي من أعماقها، وخيل إلي أني داخل قبر أستمع إلى صوت آدمي عادت إليه الحياة منذ لحظة، فهو لطول عهده بالصمت لا يستطيع إخراج الألفاط إلا في عسر شديد ... وكاد يغلب الخيال يقيني، فرحت أستمع إلى ذلك الأنين المؤلم، وفي وهمي أنه يخلص إلي من تحت الأرض.
ولكني رأيت الرجل حينما اعتادت النظر في الظلمة عيناي، فسألته عما به فأشار إلى فخذه واسترسل في أنينه، وقالت امرأته وهي تحبس دمعها: «بعيد عنك، طالع له طلوع في فخذه وجسمه سخن زي النار.»
ونظرت فرأيت الرجل ممددا على التراب، فليس تحت جسده فرش ما ولا تحت رأسه وسادة اللهم إلا خرقة قديمة كورتها له امرأته، وعاد الخيال يغريني أنه ميت بعث، وأنه برز من جوف الأرض، حتى لقد توهمت أني أرى خضرة الكفن فيما تهدل على جسده الهزيل من ثياب!
ونظرت حولي في القاعة، فلم أجد غير بعض الحبال ومنجل وفأس في زاوية، فوثبت إلى ذهني صورة أخرى من صور الموت، فقد كان آباؤنا الأقدمون يضعون مع الميت في قبره متاع دنياه!
وخرجت أستدعي الطبيب وخلفي زوجة المريض تقول في نبرات حزينة: «حصلت البركة، مستعجل ليه يا سيدي، خليك نذبح لك خروف.»
أيها التعساء البائسون! إن بهائم سادتكم الذين يسخرون مثلكم في فلاحة الأرض لأسعد حالا منكم، ومع ذلك فأنتم آدميون كما أن هؤلاء السادة آدميون!
القاهرة ليلة الجمعة!
أحب الطواف بأنحاء العاصمة ليلة الجمعة من كل أسبوع، فأسير أينما اتجهت بي قدماي لا أدري متى أقف ولا من أي طريق أعود، ولقد أقصد أحيانا إلي حيث تقوم دور الملاهي، وأنا لسوء حظي أو لحسنه - حسبما يرى القارئ - أجدني أبدا غريبا في ذلك الحي، بل إني في الواقع غريب في المدينة كلها على الرغم من أني قضيت فيها من عمري سنين!
وعين الغريب كثيرا ما ترى ما لا تراه الأعين التي ألفت ما تقع عليه، ولعل هذا هو الذي يحبب إلي ذلك الطواف الطويل ، ولقد كانت آخر مرة طفت فيها بذلك الحي ليلة الجمعة الماضية ... على أني وددت ليلتئذ لو أن قدمي سارتا بي إلى مكان غير ذلك المكان، فلقد كنت أحس شيئا من الهم على الرغم من أن جيبي كان لا يزال عامرا بمرتبي الذي تناولته قبلها بيوم، وخشيت أن يؤثر ذلك الهم في تصوير ما تقع عليه عيناي.
ووقع ما خشيته فأنا أرى كل شيء بقلبي لا بعيني، فها هي ذي مناظر شاهدت مثلها كثيرا، ولكنها تزيدني هما على هم.
هذه «شلة» من الرفاق أنستهم جيوبهم التي أحسب أنها كانت لا تزال عامرة مثل جيبي، وأنساهم شبابهم ما يجدر من الاحتشام بأمثالهم من «الأفندية»، فأخذوا يتصايحون ويهوشون وينادي الواحد منهم صاحبه بأفظع ما يتصور من عبارات السباب، كأنما راحوا يتنافسون في فحش القول ... ولمحني أحدهم وهو يعرفني، وقد عرفته من قبل وقورا هادئا فاندس من الخجل واختفى في أصحابه.
ودرت بعيني، ولكنهما وقعتا على قوم آخرين أراهم أجدر من سالفيهم بالوقار والتحشم، فإن ذلك مما تقضي به على الأقل طرابيشهم «الميري» وسراويلهم التي تزينها الأشرطة الحمر المهيبة، ولكنهم كانوا أكثر من السابقين تهريجا وتبذلا، ولا عجب فهم فرحون مزهوون بهذه الملابس التي باتوا يخطرون فيها على أعين الناس.
ولكم كنت أضيق بهم حينما كانوا يزحمون الغادين والرائحين، وعلى الأخص الغاديات والرائحات ...
والتفت على صوت هرج شديد، فرأيت في مقهى قريب معركة حامية وعلمت من أمرها أن أحد «اللاعبين» هجم بسكين المائدة على صاحب له؛ لأنه أخذ منه آخر قرش بقي معه، ولم يشأ أن يقرضه من تلك القروش شيئا يعود به إلى عياله.
ورأيت في مطعم حول بعض موائده الممدودة رهطا من أولئك الغلمان الذين يلقطون بقايا الدخائن، ويترامون على ما يلقى إليهم من فتات تلك الموائد، ينازع بعضهم عليها بعضا كما تفعل الكلاب، فيزيدون المنظر بذلك سوءا وقبحا، ومضيت أخرج من هذا الحي فلم يعد لي في تلك الليلة جلد على رؤيته، فما كدت أنعطف في أول شارع حتى ألفيت في المنعطف «لقاء» تكتفه الريبة، ف «هو» يضحك مرتبكا و«هي» لا تكاد تضحك حتى يطفئ الخوف والقلق ضحكها ... ومررت بهما وأنا أسائل نفسي: أله زوجة ولها زوج؟
وكأنما تأبى المكاره إلا أن تأتي في وقت معا! فهذا مترنح متخلج يمسك أصحابه بذراعية مخافة أن يقع، وهو شاب بادي الوجاهة، ولقد سقط طربوشه حينما قربت منه ولست أدري لم قصدني أنا، فالتفت إلي ضاحكا وقال: «من فضلك ناولني البلغة يا أفندي.»
وألفيت عند محطة الترام أنماطا من الشباب فرادى وجماعات، ورأيت منهم من مرت بهم جميع المركبات وهم مع ذلك وقوف في أماكنهم يمدون أعينهم إلى كل مركبة في مكان معين منها، وعلام يستعجل هؤلاء العودة إلى منازلهم ولا تزال بينهم وبين امتحاناتهم شهور؟
وأراد نكد طالعي أن يكون آخر ما يقع منظاري عليه جماعة من أولئك الغلمان في إحدى الطرق ينبشون صندوق القمامة، يبحثون فيه عما يقتاتون به ... وكثيرا ما رأيت مثل هذا المنظر - وا أسفاه ... فرفعت بصري إلى أعلى وقد ضاق بالأرض وما عليها، فوجدت القمر من فرجة بين بيتين عاليين، وأحسست أنه في تلك المدينة غريب مثلي، ولست أدري لماذا فسرت ابتسامته في تلك الساعة بأنها سخرية من حياة المدينة ومفارقاتها؟ ... وأشد ما أمضني أني لم أر شيئا مما كرهت من أحد غير بني قومنا الأعزاء، على كثرة ما بين ظهرانينا من النزلاء!
قطط وكلاب وناس!
منظر كم رأيته وكم تمنيت بعده لو لم تقع عليه عيناي! ومع ذلك فقد لبثت دقائق كثيرة أحملق فيه وأطيل النظر، كأنما وقعت منه على فرجة تبتهج لها النفس!
في شارع كبير من شوارع هذه المدينة العظيمة - القاهرة عين أفريقية وملتقى الحضارتين الشرقية والغربية - وقفت على مقربة من صندوق القمامة، فإذا بي أرى في ناحية قططا ثلاثة، وفي ناحية أخرى كلبين، وعلى قيد خطوة من هذه المخلوقات بنتين وصبيين وعجوزا.
وقفت أنظر ... فيا لشناعة ما رأيت من منظر، ويا لهول ما جاشت به نفسي من المعاني تلقاءه! وإني أعيذك أيها القارئ أن تستكثر علي استشعار الهول فيما رأيت، وأن ترده إلى استغراق في العاطفة يلحق بالضعف، وإلا رميتك أنا بالقسوة، وعندي أن القسوة هنا - على أي حال - إنما هي شر مما تزعم من ضعف.
راحت هذه المخلوقات، الآدمي منها وغير الآدمي، تنبش القمامة فتمد الكلاب والقطط أرجلها الأمامية ويمد الآدميون أكفهم، حتى لتكاد تلتقي تلك الأرجل وهاتيك الأيدي كأن لا فرق بينها في شيء.
وجعلت أنقل البصر من القطط إلى الكلاب، ومن هذه إلى البنتين والغلامين والعجوز، وأول ما برز لي من المعاني هو صورة من تنازع البقاء في هذه الدنيا لاحت بين أفراد كل فريق من جهة، ثم بين كل فريق وفريق من جهة أخرى.
كانت القطط تقوس ظهورها وتنفش شعورها وتخطف العظام إحداها من الأخرى، فإذا أرادت أن تختطف شيئا من الكلبين دارت معركة قصيرة بين الفريقين، فإذا زجر الصبيان الكلبين والقطط في حذر وخوف، جرت القطط فتربصت على خطوتين لتعود بعد لحظة، واستعلن الشر في وجهي الكلبين، فتركهما الزاجرون من الآدميين ومضى كل إلى ما كان فيه من عمل، وكان يفرح هؤلاء التعساء من الآدميين إذا دارت المعركة بين الكلاب والقطط، واستمرت لحظة طويلة، فيكبون إذ ذاك في عجلة ونشاط في التقاط ما تنكشف عنه القمامة من بقايا العظام، ولقيمات الخبز، وقشور الفاكهة، وما إليها قبل أن يعود فيشاركهم في التقاطها أفراد الفريقين الآخرين.
وكان كل من الصبيين والبنتين والعجوز يزحم الآخر، ويسابقه في نبش كومة جديدة من الكناسة، فإذا عثر أحدهم على لقمة كبيرة نوعا لاح في وجهه، مثل ما يلوح في وجه الباحث عن الذهب في أرض الذهب إذا التمع في عينيه عرق من المعدن النفيس، ويقذف الصبي باللقمة في حجره، وقد زادها قيمة عنده أنها خلصت له من قرنائه ومن القطط الثلاثة ومن الكلبين.
ومرت بي أثناء ذلك بعض السيارات الفخمة تحمل أنماطا من سراة القوم، ومن هؤلاء من لاحظت أن عيونهم رأت ما رأت عيناي إلى جوار صندوق القمامة، ولكني لم أتبين في وجه من هاتيك الوجوه الناعمة الراضية أية اختلاجة من أسف أو من رثاء، أجل لم أتبين في هؤلاء السادة «عبيطا» مثلي يرى في ذلك المنظر ما يستوقف بصره، وإذ ذاك ازداد رثائي ضعفين على أولئك التعساء الذين يشاركون الكلاب والقطط في نبش الكناسة، وليس يملك مثلي لهؤلاء إلا العطف والرثاء.
ألا ليت أولئك السادة انتبهوا ففطنوا إلى أن هؤلاء الذين نزلوا إلى مستوى الكلاب، ينتمون إليهم في «آدميتهم»، وأنهم في هذا الوضع يشينون الجنس كله، ثم ألا ليت أولئك السادة تذكروا أن القليل مما ينفقون في شهواتهم كفيل بأن يقضي على أمثال هذه المناظر، إن كان يهمهم القضاء على تلك المناظر ...
آه ... ليت أولئك السادة حين تقع أعينهم على بنيهم وبناتهم، إذ يلقونهم فرحين بما يتقلبون فيه من نعمة، يذكرون أنهم رأوا بنين وبنات من تعساء الإنسانية تلتقي أيديهم الهزيلة بأرجل الكلاب والقطط في نبش صندوق القمامة.
ساع في الدرجة الخامسة!
بلغها بدماثة خلقه، لا ريب عندي في ذلك، ومن كان في ريب مما أقول فليعرفه من كثب كما أعرفه، ثم لينظر فإن لم يمح اليقين من نفسه الريبة فأنا المخطئ وهو المصيب ...
وإن أنداده ليعجبون كيف يتخطى أكثرهم إلى تلك الدرجة التي باتت عندهم حلما من الأحلام، وإنهم ليقسمون أنه دونهم في الكفاية، ويستدلون على ذلك، إذا لم يغن القسم، بأخطائه الجسيمة التي لم يسأل قط عن شيء منها، وذلك ما يزيد دهشتهم وحيرتهم.
ولكني أنا أعجب كيف فاتتهم دماثة خلقه، ورقة شمائله ولطف معاشرته، وإليها مرد ما نال من حظوة! ومتى كانت تقدر الأعمال بالكفاية فحسب؟ وإن من الكفاية لما يلحق بصاحبه الأذى، وإن منها لما يقف بينه وبين ما يشتهي.
رأيته أول مرة فرحب بمقدمي ترحيبا ملك قلبي، وأقبل علي يحدثني ويجود علي من الألقاب بما كاد يعتريني الزهو، ويداخلني الغرور من أجله، وما هي إلا دقائق حتى كنت منه كما لو كان يعرفني من زمن بعيد، وآية ذلك أنه صار يعرفني إلى أقرانه وهو يشير إلى فطنتي وسعة اطلاعي، ويثني على كرم خلقي، كل ذلك في طلاقة أدهشتني وإن كادت تضحكني ضحكات لست أدري ماذا كنت أسميها!
وتاقت نفسي إلى رؤيته أمام رئيسه، ولم يطل تطلعي فقد أقبل الرئيس فرأيته يثب من موضعه، فينظم وضع طربوشه على رأسه ويزر حلته ويهرول تجاه القادم مبتسما، حتى إذا دنا منه أقبل على يده في لهفة ولسانه يلهج بالسؤال عن صحة «سعادة البك» وأنجال «سعادة البك» ويجيب في سرعة ونشاط على سؤال وجه إليه بقوله: «نعم كما أرمت سعادتك يا سعادة البك.» وأعجبني لعمر الحق دماثة خلقه هذه واستيقنت نفسي من أدبه وظرفه.
وانقضى يوم فازددت اطلاعا على حسن شمائله وجميل تواضعه، فهو يعزو كل شيء إلى همة سعادة البك، وهو لا يفعل شيئا إلا «بأنفاس سعادته»، وهو لا يكتم خبرا ولا يضن بحديث سمعه على رئيسه، وإن كان منها ما لا يصح ذكره، فذلك عنده من الأمانة والإخلاص، وإن عبارات الإجلال والتعظيم لهذا الرئيس لتثب إلى ذهنه في سرعة عجيبة ولباقة مدهشة، أعجب معهما لمن ينكرون عليه الكفاية حتى لا يسعني إلا أن أنكرها عليهم هم؛ وإن كنت في ذلك مثلهم، إلا أنني لا تحركني الغيرة للعيب عليه.
ورأيته لا يقع بصره على رئيسه مبارحا إلا خف إليه مودعا، ولكنه يمشي على قيد خطوة أو خطوتين وراءه، وذلك لا شك تأدب منه، وإن تقول عليه خلاف ذلك المبطلون، الذين يحقدون عليه لبلوغه دونهم الدرجة التي يتحرقون شوقا إليها.
وهو مرب على رغم ما سماه به بعض المغيظين منه؛ وإنه ليشعر أن من واجبات مهنته أن يوحي إلى تلاميذه دماثته وأدبه، وأن يلهمهم الصدق ويعودهم احترام النفس، وإنه ليعتقد أنه يفيد طلابه من هذه الناحية أكثر مما يفيدهم غيره من أقرانه، وإلا فمن بلغ منهم مبلغه من الدماثة وكرم الطبع؟
ولن تفوته فرصة لإظاهر دماثته تلك التي أصبحت مضرب المثل بين عارفيه، وهو لا يرمي من وراء ذلك إلى شيء سوى أن يكون فيه لأبنائه أسوة حسنة، ولن يبتغي عليه جزاء ولا شكورا، ومن أروع مواقفه التي لست أشك أنها من خير ما يقتدى به، أنه التقط ذات مرة على مرأى من الطلاب دخينة سقطت على الأرض من يد رئيسه فأعادها إليه، ولكن ما كان أعظم دهشة الطلاب أن يروا ذلك الرئيس يقذف بها بعيدا بعد أن يأخذها منه، وهو عابس الوجه وعلى شفتيه ما يشبه الازدراء، وما لا يكون إلا استنكارا، ولقد قارن الطلاب لا شك بين رقة الأستاذ وغلظة الرئيس، ولست أدري أيهما كانت أقرب إلى نفوسهم البريئة.
وشاعت الحادثة في الزملاء الحاقدين منهم والمسالمين، فقال أحدهم: «ما أراه إلا ساعيا في الدرجة الخامسة.» فقلت: وكيف يكون ساعيا من كان في الدرجة الخامسة؟ فنظر إلي نظرة غاضبة كأنما ضايقه جهلي وقال: وإنك لترى من هؤلاء من هم في الرابعة وإن شئت ففي الثالثة ... والطريق إليها جميعا سهل معبد، ولكن لمن يرضى أن يكون ساعيا.
في حجرة البك الناظر!
«البك الناظر» هي كلمة الإجلال التي يجري بها العرف على ألسنة الطلاب والموظفين والأساتذة في مدارسنا طول العام، وعلى ألسنة آباء التلاميذ وأولياء أمورهم في الأسبوع الأول من العام الدراسي فحسب ...
وافتتحت المدارس أول الأسبوع الماضي، وجلس البك الناظر في كل مدرسة على كرسيه المحترم، أمام مكتبه الموقر، وتأهب للقاء طالبي الإذن عليه، وقد استجمع أكثر ما يطيق من الجد حتى لينقلب هذا الجد في كثير من الحالات عنفا، وأقصى ما يستطيع من الحزم حتى ليستحيل هذا الحزم شططا، ولا يسعك إلا أن تلتمس العذر لأكثرهم من فرط ما يتوسل المتوسلون ويلحف الملحفون ...
ودخلت حجرة البك الناظر في مدرستنا وهو رجل طويل التجرية حازم عن أصالة، تهز كريما إذ تهزه، ولكنك على طيبة قلبه مهما بذلت من جهد ومهما اصطنعت من حيلة لا تستطيع أن تزحزحه قيد شعرة عن رأي اقتنع به، وبخاصة فيما يتصل بسلوك طلابه ...
واستأذن والد أحد التلاميذ وهو موظف في أحد الدواوين، وطرق الباب طرقة خفيفة، ودخل يظهر التخشع والاحتشام وسلم وتلعثم، ثم أخذ يتوسل إلى الناظر أن يقبل ابنه المفصول رحمة به؛ وقطع عليه الناظر حديث توسله بقوله: مثلت هذا الدور أول العام الماضي، وقلت هذا الكلام وقبلت ابنك يومها على مضض فما كاد يدخل المدرسة حتى عاد إلى رذالته واستهتاره وطيشه، وكان هذا سبب رسوبه فكيف تعود إلى الرجاء، وكيف يتسنى لي أن أقبله؟
وقال الرجل: وما ذنبي وكيف تأخذني بجريرة ابني؟ وتعجب البك الناظر وأوشك أن يغضب، ثم قال: لم أفصلك ولكني فصلت ابنك، وما ذنب المدرسة وذنب أبناء الناس حتى أضع بينهم تليمذا كهذا يفسد مدرسة وحده؟ وعاد الرجل إلى التوسل والتضرع والتخشع، واستنفد عبارات الاسترحام من مثل قوله: المسامح كريم ... المعروف لن يضيع عند الله ... اعمل معروف! وحياة أولادك ... وهكذا، حتى استحال الرجاء إلى نوع غريب من التنطع، وضاق صدر الناظر وضاق صدري، ولكني والله قد أخذتني الشفقة وأحسبني لو كنت البك الناظر ما كنت إلا مفسد المدرسة بنصف هذا التوسل بل بثلثه ... ولكن ناظرنا لم يشأ أن يستجيب له وخرج الرجل وهو يكاد يبكي ...
وما كدت أرثي لحال الناظر مما يلاقي من ضيق حتى طرق الباب قادم آخر، ودخل فإذا برجل يدلف للسبعين فيما يبدو لعيني، حسن الهندام بادي الوجاهة، يتوكأ على عصا ولكنه يخطو في نشاط وإن كان في مشيته عرج، وقال قبل أن يصل إلى المكتب: اعذرني يا سعادة البك إذ أدخل بعصاي فساقي مكسورة في حادث سيارة ... وجلس وهو يتنفس في عسر ويحاول أن يجد ريقا في فمه؛ ليبتلعه فلا يكاد يجد إلا في مشقة؛ ولمحت في عينيه الألم الممض، وتعرفت في وجهه حيرة ذي الكبرياء بين كبرياء نفسه وبين ما تفرضه ظروف الحياة؛ واختلجت شفتا الرجل كأنما يجد عسرا في إخراج الكلام، ثم تنهد تنهدة طويلة، وقال وإن كلامه ليتقطع بتقطع نفسه: أنا والد فلان وما جئت لأدافع عنه فابني بطال. بطال ... وإنما أردت أن أسألكم وأنتم أطباء الأرواح ماذا أصنع لعلاجه؟ لقد ضربته الآن حتى بكيت وبكى؛ وليست لي حيلة فيه، وهو ابن هذه المدرسة طيلة خمس سنوات ... وتوقف الرجل ومد يدا معروقة ناحلة شاحبة وهو يحك سبابتها بوسطاها إذ يشير بهما، وبلع شيئا من ريقه في عسر وتنهد يستجمع نفسه، وقال: أريد أن أقول شيئا آخر وإن لم يكن في الموضوع ... ليس لي ولد غير هذا ولكن لي بنات ستا ... وهذا موضع أملي وأنا رجل أودع الدنيا، وخدمت الأمة مهندسا عشرات السنين ...
ونظرت فإذا الرجل يحبس دمعه جاهدا وإذا العرق يلمح في جبينه، وقد أزاح بيده طربوشه عنه وصار يدق بكفه على قبضة عصاه دقات، ويتأوه في صوت خافت، وتدلت شفته السفلى فكشفت عن ثناياه الذهبية التي لاءمت صفرتها صفرة خديه الذابلين الغائرين، والتفت إلى البك الناظر فإذا وجهه رثاء كله لحال الرجل حتى لقد ظننته قبل ابنه؛ ولكنه أشار إلي وقال للرجل: هذا أستاذه فاسمع رأيه فيه ... وحرت والله ماذا أصنع وما أستطيع الكذب ... وفطن الرجل إلى حيرتي وإنه لذو فطنة وكياسة فقال: أنا أعرف كل شيء وما جئت مدافعا كما ذكرت، وإنما عدمت الحيلة فأعينوني على أمري؛ وكدت لعمر الله أبكي وأعود فأقول: لو أنني البك الناظر لغفرت لهذا التلميذ ذنوبه الماضية وذنوب عام قادم معا، أقول ذلك على علم بأنه خروج على ما يسمونه قواعد التربية، ولكن ما الحيلة وأنا رجل ضعيف، وإني أحذر وزارة المعارف أن تجعلني ناظرا أبدا، وإلا أفسدت لها الدنيا ... وإن كنت لأزعم أن ما أصنعه من مغفرة إنما هو إصلاح، وإن خفي ذلك على فحول التربية الذين يسألون التلاميذ وحدهم عن الفساد.
وقال البك الناظر يوجه الكلام إلى الرجل وهو يدق مقبض عصاه ويتأوه: لو كان الأمر أمر ابنك وحده لقبلته من أجل خاطرك، ولكني أبعدت سبعة غيره، وارتاح الرجل لهذه الكلمة، وقال: هذا كلام طيب أشكرك عليه وهو من كرم خلقك، ثم نهض يبتلع ريقه في عسر، ويستجمع نفسه المتقطع وسلم والألم والحسرة في عينيه وملامحه، وخرج من الحجرة يتكئ على عصاه ويكرر عبارات الشكر والتحية ...
وبعد، أفلم يأن لمدارسنا أن تغير أسلوبها، فلا تجعل المسألة يوما يبدأ وينتهي على أية صورة وبرامج تقطع تأهبا لامتحانات فاسدة لا تدل على شيء، ثم لا يبقى بعد ذلك التفات إلى خلق، ولا عناية بتربية، ولا رعاية لمستقبل أمة؟ إن على مدارسنا التبعة قبل الآباء في فساد من تطرد من الفاسدين، وإن علينا أن نصلحهم أجمعين، وإلا فبأي وجه نكون من المربين؟!
صنع في إنجلترة ...
جلسنا نتحدث فمال بنا الحديث فيما مال عن مبلغ شعورنا بقوميتنا، ومبلغ حرصنا على مظهرها، ورحنا نتساءل هل نحن كرماء لضيوفنا حقا، أم أن في الأمر شيئا غير الكرم؟ واحتدم الجدل كالمعتاد وعلت الأصوات، وتشعب الكلام واضطرب نظامه، وضاعت الحجج جميعا سليمها وسقيمها في ذلك الضجيج المتصل، وكانت أشد الدعاوى إيلاما لنفوسنا أننا قوم نتلاشى في غيرنا، ويسهل على أي قوة أن تسوقنا حسبما تريد.
وقطع هذا الضجيج دخول صديق لنا في رفقته شاب أخذ يقدمه إلينا، فحيا وحيينا، ثم جلسنا برهة صامتين، واتجهت أنظارنا إلى هذا الشاب الذي بدأت معرفتنا به، وما هي إلا برهة حتى فطنت إلى أن منظاري قد وقع منه على شخصية أضيفها إلى ما عرفت من أشباهها من الشخصيات، التي لا تكاد تفترق إحداها عن بقيتها في شيء.
وفي نفسي عن هذه الشخصيات التي عرفت معان استيقنتها فما أشك فيها أبدا، بيد أني أميل إلى تبينها في كل شخصية منها، فقد جرى الأمر في ذلك عندي مجرى التسلية، إن جاز أن فيما يؤلم ما يسلي، كما جاز أن في المصائب ما يضحك!
ونظرت فإذا صاحبنا يضطجع في مقعده ويشمخ بأنفه، ورأيته يضع إحدى رجليه على الأخرى أولا، ثم يمدهما معا إلى حيث تستقر قدماه على مقعد خال ونعلاه قبالة الجالسين في غير تحرج ولا استحياء ...
وأدخل يده في جيبه فأخرج «بيبته» وحشاها وأشعلها، وراح ينفخ في الجو من دخانها، دون أن يشاطرنا ما أخذنا فيه من الحديث. وشعرت وشعر أصحابي جميعا بهذا التكبر السخيف، كأننا لم نكن أهلا لمحادثته، ولكن كيف نكون عنده أهلا لذلك، وليس فينا من خرج من مصر، كما تبين له من كلامنا؟
وكانت تختلج على شفتيه ابتسامة ليس فيها إلا معاني السخرية من عقولنا أو قل: من جهلنا، وفي نفسه أننا لا زلنا على عقليتنا الشرقية جامدين ضيقي المعرفة، وتمنيت أن يتكلم لأرى شيئا من عقليته الغربية التي عاد بها من إنجلترة ...
ولم يطل تطلعي فلقد أخذ يجيب على سؤال وجه إليه، فسمعت وأنا أجهد في كتمان ضحكي عبارة بين العربية والإنجليزية، فهي عربية الحروف إنجليزية النطق، الأمر الذي جعلها في جملتها قردية اللهجة والجرس ...
وكانت لا تسعفه ذاكرته أو كان يتكلف أن ذاكرته لا تسعفه ببعض الألفاظ العربية، فكان ينطق بها إنجليزية ثم يشرحها لنا كأنما يثق أننا لا نفهم تلك اللغة فهمه؛ وكان يكرر قوله: «لما كنت في إنجلترة ...»
كأنما يخشى أن ننسى أنه كان هناك، وهو يقدم تلك الحقيقة بين يدي حججه؛ ليجعلها بذلك قاطعة صادعة.
وليته ظل ساكتا فلقد حمدت الله بعد كلامه الطويل على عقليتي الشرقية ... وحيا الشاب تحية نصفها شرقي ونصفها غربي، وانطلق هو وصاحبه، والتفت إلى أحد أقراني، وقال: أرأيت الدليل المادي على صحة ما أقول؟ وقال آخر: ما لهؤلاء لا يتكبرون ولا يزهون، وقد افترضت الدولة فيهم الكفاية لمجرد ذهابهم إلى أوروبا وإن بدا لها من أكثرهم تقصيرهم في أعمالهم، وافترضت في كثير غيرهم ممن لم ينالوا شرف الاغتراب الجهل، وإن بدا لها فطنتهم وكفايتهم فيما يناط بهم؟
وقلت في نفسي: متى يفهم هؤلاء أن ليس بين التكلف والصعلكة كبير فرق؟ وأن في المصريين من سافروا مثلهم فتلقوا العلم في أوروبا، ثم عادوا إلى وطنهم محتفظين بمظاهر قوميتهم فإن قلدوا غيرهم قلدوهم في العظائم، وأخذوا عنهم ما يشرفهم أخذه، ونبذوا ما يشينهم من سخيف المحاكاة ...
وساورني خيال غريب عن أولئك المتكلفين، وذلك أنهم يضعون أنفسهم موضع السلعة في السوق، والسلع الإنجليزية يكتب عليها عادة «صنع في إنجلترة» لتزحم غيرها في الأسواق، وهؤلاء يباهي الواحد منهم بأنه - على حد تعبيره -
England man .
كرنفال!
أبدا لا تقع عيناي أو لا يقع منظاري على هذا الذي أحدثك عنه، إلا اعتلج في نفسي شعور من الهم والخزي يلازمني فترة طويلة بعد فوات المنظر، ويتجدد كلما تجدد في خاطري طيفه، وأنا أكتب هذا على أثر رؤية جديدة لذلك المنظر الذي أنكره أشد الإنكار، وما أزال أزداد إنكارا له في كل مرة عني في سابقتها.
وإنما أكتب لأدعو القارئ إلى أن يغضب معي، فإن لم يغضب، ومر على هذا الذي أقول مر الكرام، فلا شك عندي أنه قوي الأعصاب جدا ولا أستطيع أن أقول أكثر من هذا، قوة لا أدري أيحمد عليها أم يذم من أجلها؟!
على أني لا أشك في أن كثيرا من القراء غضبوا مثلما غضبت، وسيغضبون كلما وقعت أعينهم على ذلك المنظر البغيض، منظر جنائزنا «البلدية» في أجمل وأعظم أحياء القاهرة العظيمة مهبط السائحين في الشتاء من أنحاء الغرب والشرق!
وللقارئ أن يخطر باله صورة لجنازة من هاتيك الجنائز ... فهناك في الطليعة أنماط من الناس منهم من يرتدون هلاهيل من القماش كانت من قبل جببا وقفاطين، ويضعون فوق رءوسهم ما يشبه العمائم، أو ما يصح أن يكون أبلغ صورة هزيلة للعمامة، وكأنما يقول الواحد منهم: «متى أضع العمامة تعرفوني.» فهو كما أتخيل بل كما أكاد أعتقد يتخذ هذه الهيئة عن عمد؛ ليكون جديرا بأن يظهر في الطليعة! وإني لأرى أبدا هذا الصنف من الخلائق على أشكال متقاربة في صورها.
ويندس بين هؤلاء «الفقهاء» الحمقى من «الجدعان» من أهل الحي الذي خرج منه الميت، وهم يخطرون جميعا في جلابيبهم «البلدية»، وإنما تتميز رءوسهم بأشكال من الطواقي و«اللاسات» وما شئت من أنواع «الكلبوش» وألوانه ...
وينطلق هؤلاء وهؤلاء في نشاط عجيب، وقد تأبط كل منهم ذراع جاره، ويطلقون حناجرهم بأفظع الأصوات وأنكرها، يستجمعون لها كل قواتهم، ويمضون في ترديد عبارة حفظوها، أو يتغنون بورد من الأوراد، لا يفترون ولا تكل حناجرهم أبدا، كل أولئك وهم يتمايلون ويتسابقون في النعيق على صورة أجدر أن تكون فرحا في موت هذا الذي يحملونه من أن تكون حزنا عليه، وإلا فكيف يكون هذا الزعيق، وهذا التهريج حزنا في أي وضع من الأوضاع؟!
ولو أن مفتنا في التهريج أراد أن يحشد «كرنفالا» من المهرجين، لما تعلق خياله بأبلغ وأروع من ذلك الكرنڨال الجنائزي.
وتأتي بعد ذلك الآلة الحدباء يحف بها من رهبة الموت وجلاله ما لا يتفق مع هذا التهريج المنكر أمامها ... ومن ورائها ذيل أسود طويل بغيض، لعله أشد نكرا من الطليعة؛ ويتألف من هؤالاء النسوة الماشيات أو الراكبات عربات «الكارو» ومنهن من تدور طرحتها حول عنقها كالحبل، ومنهن المصفقة كفا بكف، والمشيرة بمنديلها إشارات عجيبة مزعجة معا، والمولولة المترنحة ذات اليمين وذات الشمال؛ وأفظع من هؤلاء الصابغات وجوههن «بالنيلة» في شكل لا يمكن أن يتخيل معه أنهن ينتمين إلى بنات حواء ... ولا أريد أن أزعج خاطرك - أيها القارئ - بوصف أصواتهن التي تجيء مع ذلك الزعيق في المقدمة نشازا على نشاز، وشناعة على شناعة ...
وبعد، فهل في هذا شيء يتفق مع الدين أو يجوز في عرف معقول أو يليق بسمعة أمة؟ ... ولشد ما يوجع نفسي أن أذكر - وا أسفاه - أني رأيت مثل هذا المنظر مرتين في أسبوع واحد أمام دار الآثار مرة، وأمام دار البريد الكبرى مرة؛ فسألت نفسي والألم والخزي يحزان في صدري: ماذا عسى أن يقول نزلاء مصر عن حياتنا الاجتماعية إذا رجعوا إلى قومهم؟ وهل هم يرون «الأنتيكة» في مصر داخل «الأنتيكخانه» حقا؟ أم أنهم يرون ما هو أبلغ في معناه منها في شوارع العاصمة الكبيرة؟!
يا وزراة الشئون الاجتماعية ... هذا والله في صميم الشئون الاجتماعية ... «شيعي» هذا المنظر إلى حيث لا يعود، فهذا لعمري وعمرك خير من نشر ألف صحيفة من صحف الدعاية عن مصر والمصريين.
بين «دغف» وصعلوك ومغفل ...!
أبدا يظل الترام لمنظاري موضع فرجة لا تنفد، وذلك أنه من ناحية ملتقى ضيق يحشر فيه كل ساعة أنماط من الناس من هذا المضطرب الواسع الذي ندعوه المجتمع، ثم هو من ناحية أخرى المركب الوحيد الذي أتخذه في ذهابي إلى مقر عملي وفي أوبتي من هناك، فما كان لي وقد ضممت الفخر من أطرافه كما يقول مهيار وجمعت بين الحسنيين: وظيفة التدريس وحرفة الأدب، أن تكون لي سيارة، وبحسبي أن أركب كل شهر أو شهرين مع صديق في سيارته أو أن أزحم الناس لأتخذ لي موضعا بشق النفس في سيارة عامة هي والترام شيء واحد!
كان الترام الجاهد بما يحمل من الخلق يجري جري من تقطعت أنفاسه ذات صباح، وكان بيني وبين موعد الدرس الأول دقائق معدودات، وكنت لا أفتأ أنظر إلى ساعتي وإني لضائق بسرعة عقربها بقدر ما أنا ضائق ببطء الترام، أخشى أن أتأخر فلا أدري بماذا أعتذر لتلاميذي، ولا كيف أخفي عنهم خجلي، دع عنك «البك الناظر» ونظراته على رأس السلم وغيظه المكظوم الذي لا آمن أن يظل مكظوما ...
وظللت أدعو الله ألا تفسد الزمارة أو تخرج «السنجة» عن خيوط الكهرباء، أو تتدلى عجوز لتنزل فتزل قدمها، أو يمر رتل من سيارات الجيش فيقف المرور، أو يدفع القدر أحد الناس إلى حيث يلتهمه الترام، وقضيت لحظة أليمة على هذه الحال، أسأل الله وأستعجل الكمساري وأرهف أذني إلى زمارته، وأتلفت نحوه كلما أبطأ في النفخ فيها.
وأبطأ الكمساري، والتفت فإذا شاب «أفندي» يقف على سلم المركبة، والكمساري يرجوه ويتوسل إليه أن ينزل، فلا يجود عليه ولو بنظرة؛ ويغلظ له الكمساري شيئا فشيئا، ولكنه يظل ثبت الجنان منتصب القامة مرفوع الهامة؛ وأنظر وقد كاد يخنقني الغيظ، وينظر الراكبون جميعا نحو ذلك الأفندي عسى أن يستحي، فلا يشاء أن يرد أو يلتفت إلى أحد، ويعود الكمساري فيلين ويستعطف مبتسما ابتسامة فيها معنى ذلك الصفاء الذي يسبق العاصفة، ويذكر الأفندي بأن منع الوقوف على السلم قد بات أمرا معلوما لكل الناس، ولا حيلة له في ذلك فهي مشيئة مجلس الإدارة والحكومة، وعليه وحده الغرم إن تهاون ... كان ذلك وصاحبنا لا يلتفت إليه، ثم إنه ييأس أخيرا فيقابل العناد بالعناد، ويقسم أن لن يسير الترام إلا إذا نزل ذلك الأفندي «المتشعبط»، كل ذلك وهذا الأفندي لا يزداد إلا إصرارا واستكبارا!
ويضج الراكبون، ويتقدم أحدهم بالرجاء في رفق إلى ذلك الظريف المتعلق بالترام فيرد عليه بقوله: «موش شغلك يا أفندي.» وتجري على الألسن عبارات الاستنكار والتقريع والتوبيخ ... وهو برغم ذلك مصر كأنه يجاهد في قضية من قضايا الأوطان، فلا يعرف فيها معنى الهوان أو الخذلان!
ويأتي صعلوك حافي القدمين، حاسر الرأس، في يده عود ضخم من قصب السكر، كأنه مدفع لمطاردة طائرات العدو، وفي جلبابه آثار تمزيق، كأنه قادم لساعته من معركة، ويتعلق هو أيضا بالترام، فلا يتمالك الناس أنفسهم أن يضحكوا، على رغم ما كانوا يعانون من ضيق وغيظ!
ويحار الكمساري بين الصعلوك والأفندي، فقد أعلن أولهما أنه لن ينزل حتى ينزل الأفندي، ولم يدر أنه بذلك قد علق الأمر على المستحيل وأصبحت المصيبة مصيبتين؛ وراح يتساءل ذلك الصعلوك في حدة: لم يطلب إليه وحده النزول؟ أذلك لأنه «غلبان»؟ ويصرخ الكمساري في وجه الأفندي ضجرا، فيرد عليه أخيرا بقوله: «أما مغفل صحيح.» ويوقن الكمساري أن الحرب واقعة لا محاولة فيرد عليه بقوله: «إذا كنت أنا مغفل تبقى حضرتك دغف.» ويكتفي الصعلوك بذلك فينزل معتذرا، وقد كان كفيلا أن يحطم رأس الكمساري بذلك «المترليوز» في يده، لو دعت الحال إلى ذلك.
وينفد صبر المغفل فيجذب «الدغف» من كتفيه ويطول النزال ويعظم هول القتال، ويتزاحم المتفرجون من السابلة ويتعطل الطريق، ويضيع نصف الدرس وتنجلي المعركة أخيرا عن هزيمة «الدغف» ... ويمضي الترام وأنا أسأل نفسي أيهما المغفل حقا، وأيهما «الدغف» حقا، وأيهما الاثنان معا؟ ولكني لا أحتاج إلى طويل فكر لأقول: إن المغفل لم يفعل ما يستحق من أجله أن ينعت بهذا اللقب، وإن نعته به من جانب ذلك الأفندي المهذب لهو الغفلة بعينها؛ ثم أسأل نفسي كذلك أي الرجلين كان أفضل وأكبر في أعين الناس أهو الصعلوك أم الأفندي؟ وأيهما إذا هو الصعلوك حقا؟
أولى بنا والله أن نتساءل متى نتعلم النظام، وأن ندرك أن هناك آدابا اجتماعية عامة لا بد منها ليكون الإنسان إنسانا؛ أولى بنا أن نعترف بعيوبنا لنصلحها قبل أن نلوك عبارات الكرامة والمدنية والاستقلال، ألا متى نرى شيئا ولو ضئيلا من روح المسئولية يسري إلى نفوسنا.
عفوا يا قارئي العزيز، أو فاغضب ما شاء لك الغضب، فأنا بنجوة من غضبك، لا أتلقى لكمتك ولا أسمع لعنتك.
مجلس ظريف
شهدت من كثب ذلك المجلس في مقهى، ومن عجب أن تقع عيناي على مجلس ظريف في مثل ذلك المكان الصاخب الذي يضج بدقات أحجار النرد، وقهقهات اللاعبين وزعيق المتحدثين، أقول ذلك وإن عجب القارئ لقولي؛ على أني أرجو منه المعذرة، فأنا أكره المقاهي حتى ما أطيق الجلوس فيها إلا لضرورة، ولئن أنكرت وجود مجلس ظريف في أحدها، فقد يكون مرد ذلك إلى جهلي بها وأنا جاهل بها لا ريب في ذلك ... ولست أدري لم أسأل نفسي أبدا كلما مررت بمقهى: أيتفرج الجالسون فيه على السابلة، أم هم أنفسهم صنف من المعروضات يتفرج المارة برؤيتهم فيما يتفرجون به من معروضات الشارع؟ أما عن نفسي فأنا أتفرج دائما برؤية هؤلاء الجلوس ضاحكا؛ وكم يذهب خيالي في تصويرهم مذاهب لن أطاوع قلمي في ذكرها.
ذهبت في المساء أطلب الهدوء في أحد أطراف المدينة، فملت إلى مقهى هناك كاد يكون خاليا، وقد اجتذبني ما بدا لي من هدوئه. وجلست وحدي في ركن من أركانه أمني النفس بجلسة تعيد لي خيال منعزلي في القرية؛ ولكني لم أكد أستشعر الهدوء حتى أقبل جماعة لم أشك أنهم من طالبي الهدوء مثلي، وآية ذلك أنهم كانوا يضحكون في جلبة شديدة، ويقطع بعضهم على بعض الحديث قبل أن يأخذوا أماكنهم! ألا ما أسوأ حظي وما أشد نكدي! ورأيتهم جلسوا في نصف دائرة أمام واحد منهم جعلوا له الصدارة، وقد دل مظهره على أنه جدير بهذه الصدارة، والحق لقد كان في مجموع شكله يخيل إلي أنه نكتة تمثلت بشرا!
وبدأ الحديث، أو قل استمر، فهم لم يمسكوا منذ رأيتهم مقبلين. وكأنما اعتزم هؤلاء أن يضحكوا أكثر ما يستطيعون من الضحك، كما لو كانوا واثقين أن هذه آخر فرصة للضحك في حياتهم!
كانوا إلا واحدا أو اثنين قد جاوزا الأربعين بقليل كما تراءى لي. وأما كبيرهم فأحسبه كان يحبو للخمسين من عمره المبارك، وكانوا جميعا يشتركون في صفة واحدة؛ وذلك أن عليهم طابع الديوان، فما تلبث العين - ولو بعين منظار - أن ترى فيهم نفرا من هؤلاء الذين يتربعون أمام المكاتب أثناء النهار، وقد ارتسمت على وجوههم أمارات الجاه واتضحت دلائل الحكومة.
ودار حديثهم أول ما دار حول «عزومة» كانوا خارجين منها لتوهم، فلم أسمع إلا النكتة تلو النكتة، ولقد غابت عني لسوء حظي أكثر هاتيك النكات فيما كان ينطلق من أفواههم من قهقهات عالية متواصلة! ورأيتهم يرسلون ضحكاتهم العريضة قبل النكتة وبعدها، فما تنفرج شفتا زعيمهم حتى تنبعث الضحكات مجلجلة من بين شفاههم، وإن لم يسمعوا ما يقول! فلقد كان يضحك الواحد منهم أحيانا ملء شدقيه، ثم يميل على جاره يسأله: ماذا كانت النكتة؟ وكانت تسمج بعض النكات، ولكن الضحك يظل على حاله من الشدة والتحمس، حتى لا أدري أيحمل هنا على المجاملة أم أن سخف النكتبة أحيانا إذا اشتد قد يكون في ذاته باعثا من أكبر بواعث الضحك منها؟ على أنني رأيت للمجاملة هنا شأنا كبيرا، فكل من هؤلاء يضحك لكي يضحك لقوله الآخرون بدورهم، وإن كان أحيانا ليجاوز في الخف أبعد حدوده ...
ومن غريب أمر هؤلاء الظرفاء أنهم لم يتورعوا عن ذكر اسم مضيفهم المسكين أكثر من مرة، ولم يتركوا شيئا مما قدم لهم من الطعام، ولا مما رأوه من متاع بيته إلى جعلوه موضعا لظرفهم، وقلبوه على أوضاعه جميعا، فهذا زفت مجسم سمي «بالكفتة»، وهذه «الفتة» كان ينقص أن تقدم في طست الغسيل؛ وهذا الصنف جيء به من «المسمط»، وهذا الخبز سيسأل عن تقديمه لهم بين يدي الله، وذلك البرتقال من «سوق الكانتو»، وتلك الأطباق والملاعق لا شك وقف عزيز من أوقاف المرحوم جده ... وإنه إذا أراد أن ينتقم غدا من الرئيس فلان، فليس أبلغ في الانتقام منه من أن يدعوه إلى أكلة كهذه الأكلة ...
وليتهم استمروا فيما هم فيه، ولم يخرجوا منه إلى استعراض الكثير غيره من أعراض الناس في مجلسهم الظريف، وللحديث شجون كما يقولون، وليس يبالي هؤلاء القوم في ساعة «حظهم» والعياذ بالله من هذا الحظ إلى من يتطرق الحديث، ولا أي موضوع يتناول.
وشبعت نفسي مما طلبت من هدوء وأي هدوء هو أجمل من هذا، وانصرفت مسرورا برؤيتي هذا المجلس أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ وأنا أقول في نفسي: كم يوجد من أشباه هذا المجلس الظريف ونظائره في الطبقات الأخرى من المجتمع، وفي غير أركان المقاهي من النواحي، فما تلك المجالس إلا براهين قاطعة على أننا قد بدأنا نأخذ أنفسنا بالجد من الأمور، وأننا إذا لهونا فإنما نحسن اللهو كما نحسن الجد في هذه الحياة.
دب في الترام
أرى الناس في هذه المركبة أبدا مرهفي الأعصاب، وقل من رأيته فيهما مطمئنا هادئا، وعلى الأخص في الصباح وعند الظهيرة، وليس الأمر قاصرا على الراكبين، فقاطع التذاكر عصبي اللفتة عصبي الكلمة عصبي الزمارة؛ والسائق من فرط يقظته، أو فرط توجسه مما يخبئه له القدر، زائع البصر، مذعور الوجه والعينين؛ يغضب لأي بادرة، وينفد صبره - إن كان ثمة لديه من صبر - لأقل سبب أو لغير سبب!
وأمر قاطع التذاكر وصاحبه يمكن أن نرده إلى أسبابه في غير مشقة ... ولكنني من أمر الراكبين في حيرة! ممن تضيق صدورهم وتنقبض نفوسهم، حتى لتقع العين منهم على قوم كأنما يساقون على رغمهم إلا ما لا يحبون؟
أيكون مرد ذلك إلى أنهم في الصباح مقبلون على عبء اليوم من العمل، فهم متبرمون عابسون، وأنهم في الظهيرة خارجون من أعمالهم، فهم مكدودون ساهمون؟ أم يكون ذلك لأنهم يستبطئون هذه المركبة وليس لهم عنها منتدح؟
ومهما يكن من سبب، فتلك ظاهرة أشاهدها في معظم الوجوه كل يوم، ولم أخل أنا منها، ولكنني لا أتبرم من العمل أو يئودني حمله، وليصدقني القارئ في ذلك أو فليكذبني إذا شاء فليس هذا ما أردته بهذه الكلمة.
وإنما أردت أن أصور له منظرا رأيته جديرا بأن يغضب الراكبين جميعا، ولو كانوا كلهم هادئين، فهذا شاب آخر غير ذلك الذي سبق الحديث عنه والذي لم يجد قاطع التذاكر يومها بدا من نعته بأنه «دغف» أقول: هذا شاب من شبابنا المثقفين، أو ممن يدعون من الوجهة الرسمية «مثقفين» انتهت المسافة التي تبلغه إلى نهايتها تذكرته؛ فطلب إليه قاطع التذاكر أن يدفع أجرا جديدا إذا شاء أن يستمر راكبا، ولكن صاحبنا أبى ذلك دون أن يبدي أية علة، ثم استكبر أن يجادل الرجل فاتجه ببصره إلى الأمام، ورفع رأسه إلى آخر ما يستطيع حتى كادت تتدلى إلى الخلف!
ونفخ الرجل في زمارته، فوقف الترام وانتزع السائق مفتاحه، وجاء إلى حيث وقف صاحبه، ووقف خلف هذا الترام خمسة غيره أو ستة، وأخرج معظم الراكبين ساعاتهم، وشاعت في وجوههم أمارات الغضب والقلق والاستنكار ...
وجاء نفر من هؤلاء العمال، ووقفوا جميعا ينظرون إلى هذا الذي كان سببا في التوقف: فرأوا فتى بادي الفتوة، عبل الساعدين، عريض المنكبين، غليظ العنق، ورأوه لا يلتفت إليهم، بل لا يعبأ بتلك النظرات التي رشقته من كل ناحية من نواحي العربة، وهو في جلسته شامخ الرأس، هادئ المحيا كأن لم يجر حوله شيء!
وحار هؤلاء العمال - أول الأمر - ماذا يصنعون، وليس فيهم من عابث من قبل دبا أو قرب منه.
ثم استجمع أحدهم قوته وقرب من هذا الدب وهو على أهبة أن يقفز إلى الخلف عند أية بادرة، ثم رجا منه أن يدفع الأجر حتى لا يتعطل الناس، فرماه الدب بنظرة كانت وحدها كافية لأن ينكمش ويتراجع من فوره!
وازداد الناس ضيقا وسخطا وقلقا، وبلغ حنقي غايته ... ثم جرؤ أحد الراكبين فاقترب من الدب في هيئة لم يسعني معها إلا أن أضحك على الرغم من غيظي، فقد أخذ هذا الراكب يتلطف ويتظرف، ويحاول أن يبتسم، ثم يربت على كتف الدب في رفق ويقول وهو يلوي عنقه مبالغة منه في التواضع: «ألا ترى أنك بهذا تسبب عطلا لنا جميعا؟» وكأن الدب لم يعبأ به لضعفه، فلم يزد على أن قال له في هدوء: «أنت حضرتك عاوز تتفلسف؟» ... وما سمعها الرجل حتى وثب متراجعا لا يلوي على شيء.
وكان في العربة بعض الأجانب، فتخاطبوا بالأحداق، وعلقوا على المنظر بالإيماء والابتسام ... وكان قاطع التذاكر المسكين قد ذهب ليحضر الشرطي، فعاد وهو في صحبته، وقد بلغ قلق الناس أقصاه! وسمع الشرطي القصة ... فما كان أشد عجب الناس أن يسمعوه يعنف «الكمساري»، ويلومه قائلا له: «ياعني يا سيدي هم الستة مليم دول اللي حايزودوها؟ اطلع يا شيخ بلا عطلة دي محطة أو تلاتة وينزل!»
وكان خزيي أمام الأجانب وخزي الراكبين جميعا مما فعل الشرطي أعظم من خزينا مما فعل ذلك الفتى المدل بقوته، ولعله خاف أن يقرب من الدب كما خاف غيره، وأمره في ذلك أدهى وأمر ...
وعدت أقول لنفسي كما قلت في موضع سابق: متى تشيع فينا الآداب الاجتماعية؟ ومتى نحس بالوسط الاجتماعي؟ ... ورجوت أن ينسى هؤلاء الأجانب هذا الحادث وأشباهه إذا حدثوا قومهم عن مبلغ ما وصلنا إليه من المدنية، فبهذا الذي تقع عليه أعينهم بيننا تقاس المدنية، كما رجوت ألا يحكموا على شرطتنا جميعا بما رأوا من هذا الشرطي الهمام الذي لن يوجد ند له في لندن ذاتها فيما أعتقد، في سرعة خاطره وحسن تصرفه وسعة حيلته ... اللهم إني أستغيثك ... اصرف عنا الأذى يا أرحم الراحمين ...
حلاقو القاهرة ...!
لا تفهم يا قارئي العزيز أني أعقد لك فصلا تاريخيا عن منظر من مناظر القاهرة العظيمة في زمن ابن طولون، أو في زمن الحاكم بأمر الله أو في زمن قلاوون عليهم رحمة الله، فإني لا أكتب إلا عما يقع عليه منظاري، وإنما أنا محدثك عن منظر من مناظر هذه العاصمة الكبيرة قبيل منتصف القرن العشرين.
ولا تتوهم أني فيما أصف لك أذهب بك إلى تلال زينهم، أو إلى أعلى الدراسة أو إلى جوار المحمدي أو إلى ما وراء سيدي الحلي؛ فإنك قد تنكر علي ما أقول لجهلك فيما أظن بمظاهر العيش في هاتيك البقاع ... على أنه قد لا يكون جهلك بها أكثر من جهلي.
وإن لك في أقرب شوارع المدينة غنية عن الذهاب إلى أطرافها، فسر في شارع ماسبيرو على ضفة النيل أو في شارع شبرا، حيث المدرسة التوفيقية أو في شارع الملكة نازلي أو حول حديقة الأزبكية، وانظر ماذا ترى.
لا شك أنك رأيت هؤلاء الحلاقين الذين يتربعون على الأرض أو على الأسوار، ويأخذون في حلق رءوس زبائنهم ولحاهم في صورة تدعو إلى الاشمئزاز والأسف والضحك جميعا.
وقفت على مقربة من أحدهم ورأيته وقد شمر عن ساعديه وأمسك بالموسى ودعا إليه من زبائنه الجالسين حوله من جاء دوره، ومثل الرجل بين يديه وله لحية ما أحسبه أجرى عليها الموسى منذ مثل هذا اليوم من العام الماضي، ووضع الحلاق كفه في إناء بجواره، فاغترف غرفة من الماء بيده ورشها على تلك الأشواك الكثيفة في وجه صاحبنا وأجرى عليها قطعة من الصابون، ثم شحذ الموسى على ذراعه بأن حكها عدة مرات في سرعة عجيبة، ولما استيقن مضيها راح يقطع هذه الأشواك، ثم يمسح ما تجمع منها على حافة سلاحه، في ظهر يساره، أو يأخذها على سبابته، ويقذف بها في الجو لا يبالي أين تقع ولا من تصيب برشاشها من عباد الله!
ونظرت إلى الحلاق وزبائنه أتبين ما إذا كان يخالجهم شيء من المبالاة، فلم أصب في وجوههم إلا مثل ما يرى في وجوه الحيوانات من عدم المبالاة فيما تأتيه من أعمالها جميعا على أعين الناس؛ وكأن هؤلاء جلوس في دكان لا تقتحمهم فيه الأعين!
وهممت أن أدور بمنظاري عن هذا المنظر الذي لست أدري لم وقفت إليه تلك اللحظة، وقد كنت أبدا أمر به مسرعا، وإني لأضيق به أشد الضيق، وكأن الظروف أرادت أن تكيد لي أشد الكيد، فلا تقلع عن معاندتي حتى في مثل هذا الموقف التافه، فهذا أجنبي مقبل ومعه سيدة وفي يده آلة تصوير، وإنه ليضحك ملء شدقيه كأنما يقع من الحلاق وزبائنه على بغية طالما تمناها.
وأعد الإفرنجي آلته للتصوير، ولشد ما غاظني أن أرى الحلاق ومن حوله يضحكون ضحكة البلهاء، كأنما يفرحهم أن «الخواجة» يصورهم، وسمعت ذلك «الخواجة» يقول لصاحبته بالإنجليزية ما ترجمته: «انظري فسنحصل على صورة ظريفة لحلاقي القاهرة.» ودنوت منهما فسلمت وتكلفت الابتسام أولا، ثم عبست وبالغت في العبوس لأعبر عن احتجاجي الشديد، وتكلمت في لهجة استخزى لها ذلك الغريب، وحار ماذا يقول وأشارت إليه صاحبته فطوى آلة التصوير، وكأنما أملى عليه إحساسه بالغربة أمام احتجاجي أن يتلطف فاعتذر، ولكنه أعقب اعتذاره بقوله: «جميل منك أن تغضب لسمعة شعبك، ولكن أجمل من ذلك أن تزيحوا عن الأعين ما يشوه هذه السمعة.»
وجميل من الرجل قوله هذا لا ريب؛ ولكن ما حيلتي وما أملك إلا القرطاس والقلم؟
ليس يهمني من هذا المنظر وأشباهه ما عسى أن يقول عنا الأجانب بسببه فحسب، وإنما أراه بصرف النظر عن ذلك شيئا تتأذى به العيون وتشمئز منه النفوس، ولئن لم تقع عليه وعلى أمثاله أعين غير أعيننا، ففيه مما يشعرنا بالضعة والهمجية.
وأعجب من عدم مبالاة هؤلاء الحلاقين «العصريين»، وأدعى إلى الاشمئزاز والألم من همجيتهم إغفال المسئولين أمرهم إلى هذا الحد ... ولكن كيف أطمع من هؤلاء المسئولين أن يلتفتوا إلى ما هو أفظع عيبا من هذا في عاصمتنا الكبرى، وأدعى إلى الخزي والعار، وإنه لكثير في أنحائها، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
على أن هؤلاء جميعا أهون شرا وأقل خطورة من ذلك الذي جلس في طرف المقعد إلى اليسار، وأخذ يبصق كل بضع ثوان بصقة لا يبالي على أنف من، ولا على عين من وقع رشاشها العذب الذي ينثره الهواء على من خلفه، كأنما يتحتم على راكب الترام أن يلبس قناعا من الأقنعة الواقية!
ومثل ذلك الظريف يتحرك لينزل فيطأ بنعله وجه نعلك، أو يفزع بيده طربوشك فما تدري إلا وقد طار عن رأسك، أو يتحاشى الانزلاق إذ يقرب من السلم فتستقر لطمة منه على عينيك أو خدك أو أنفك، بحيث لو سددها إليك من يتعمد ذلك - لا قدر الله - ما جاءت محمكة كما تجيء من يد ذلك الذي يمر بك أثناء نزوله من الترام، وإنه ليقع منه ذلك فلا يلتفت إليك بكلمة اعتذار أو بنظرة أسف! وسبحان الذي سوى الجبلات، اللطف، اللطف، يا لطيف!
ودع عنك غير من ذكرت «المتشعبطين» على السلم والمتحاربين مع «الكمساري» من أجل مليم مشكوك في أمره، أو على الأكثر من أجل قرش زائف، دع عنك هؤلاء فالأمر بينهم وبين «الكمساري» إلا إذا نفخ في زمارته، فأوقف الترام وأخذ الجميع بذنب صفيق أو صفيقين.
أقسم لك أن ذلك كله حدث في الترام في وقت معا، فإن لم تصدقني بعد هذا القسم فليس لدي شك في أنك لم تركب هذه المركبة قط.
صاحب السلطان
حملني من لا أطيق مخالفته من ذوي قرباي على مصاحبته لزيارة ذلك الذي أنعته بصاحب السلطان، فبلغنا داره وقد متع النهار أول أيام العيد ...
واستقبلنا صاحب السلطان لدى مدخل حجرته، ونظرت - وهو يمد يده للسلام - إلى وجهه المنتفخ المتورد، فإذا الذي يكون ابتساما على غير وجهه من الوجوه لم يكن على وجهه هو إلا شبه ابتسام، وطاف برأسي خيال؛ ذلك أنه لا يبتسم قط إلا حين يضطره العيد إلى مثل ذلك النوع من الابتسام، الذي بدا على وجهه كما يبدو الشيء في غير موضعه.
وجلسنا فأتممنا حلقة من الزائرين كانوا بين يدي صاحب السلطان قبل مقدمنا، ودرت بعيني أو على الأصح درت بمنظاري في نوحي الحجرة الفسيحة، فعجبت لأول وهلة أن رأيت كل شيء حولي تشيع فيه الحمرة، فالبسط حمراء لا أثر فيها لنقش، والأرائك حمراء، والستائر حمراء، ونقوش الجدر حمراء.
واستقرت عيناي على وجه صاحب الدار، ونظرت إلى شاربيه الغليظين المرهفين فوق شفته الضخمة وتحت أنفه الذي حرت فيه، والذي لا أزال منه في حيرة أهو الذي زاد الشاربين رهبة، أم هما اللذان زاداه غلظا وفخامة!
ولست أدري لم قرنت وأنا أنظر إليه، تلك الحمرة التي شاعت حولي في كل شيء بلون الدم، وكان الأحرى ونحن في العيد أن أقرنها بلون الورد ، ولكن هيهات أن يتعلق خيالي بالورد وأنا أنظر إلى تلك السحنة، والأحاديث التي سمعتها عن صاحبها تتواثب إلى ذاكرتي في نشاط عجيب، وتتداعى صورة إلى صورة كلما بدت منه حركة أو ارتسم على محياه معنى ... ولو أن الورد الجني كان في تلك الحجرة ساعتئذ لما رأيت في الورد نفسه إلى لون الدم!
وأسند صاحب السلطان ظهره إلى المقعد، فظهر بطنه المتكرش أعظم ضخامة، ونزل بذقنه حتى مست صدره فبدت لغاديده أعظم هولا، وتكلم فإذا صوت كصوت الطبل إذا نقر ينبعث في الحجرة وفيه على نكره صلف، فهو يتضخم مرة في الحنجرة، ويبدو مرة أخرى كأنه ينبعث من الأنف وتسبقه في كل مرة غمغمة يربد معها وجهه، ويبدو الشر في عينيه كأنما يتهيأ لما اعتاده في غير ذلك الوقت من سباب.
وينصت من في الحلقة وكأن أكثرهم من فرط اهتمامهم يستمعون إلى من يتلو عليهم حكم الإعدام، اللهم إلا حين كان يشرق وجهه قليلا إذ يزهى بما يتلو عليهم من غالي الحكم، فيبتسمون ابتسامات عريضة، ويتنافسون في عبارات الموافقة والإطراء والإعجاب، وإن لم يفقهوا شيئا من حكمه الغوالي.
وتقاطر الزارعون والفلاحون للسلام على «البك»، فكان يخلع الرجل منهم نعليه عند عتبة الحجرة، ويسير حافيا على البساط الأحمر كأنما يخطو على نطع ليضرب عنه؛ ففي وجهه من معاني الفزع ما لم يخفف منه إلا تذكره أن اليوم يوم عيد، فإذا بلغ إلى حيث يتكئ البك، ومد إليه البك أطراف أصابعه تناولها وانكب عليها فلثمها ورجع خطوتين دون أن يدير ظهره، ومشى إلى الباب فلبس حذاءه، وكأنه ألقى عن كاهله عبئا أي عبء.
وكان البك ينظر إلى كثيرين منهم نظرات ذات معنى، فكأنما يذكر هذا بما بقي عليه من الإيجار، وكأنما يتوعد هذا حتى ينتهي العيد، وكأنما يستنجز غيره ما وعد، وكأنما يقول بعينيه لآخر: إنه لولا العيد لما سمح له بالدخول عليه؛ إلى غير ذلك من المعاني التي كانت توحيها إلي نظرات هذا المتجبر المتكبر.
وازدادت الحلقة واتسعت إذ انضم إليها من يجرءون على مجالسة البك، أو من يستطيعون ذلك في العيد على الأقل؛ وكان يسلم على كل قادم بمقدار ما له من مكانة ولو في عرف الناس، فهو مقتنع بما تنطوي عليه تحياته من معاني الشرف؛ ولذلك فهو ضنين بها عن الابتذال، فلا يجود منها حتى في العيد إلا بمقدار.
وأدار صاحب السلطان الحديث إلى الحرب، كأنه وقد رأى في زائريه بعض المطربشين، يريد أن يبرهن للجميع على أنه وإن كان من غير أبناء المدارس على حد قوله، إلا أنه يعلم من أمور الدنيا ما يغيب أكثره عن الكاتبين القارئين.
وبدأ بألمانيا وانطلق يتحدث وأنا أعاني في كتمان الضحك ما أعاني، وأتمنى أن يجود البك بنكتة من سخيف نكاته لأفرغ في جلبة الحلقة ما بنفسي من ضحك مكتوم كم خشيت أن ينطلق على رغمي، فأكون موضع استنكار الجالسين.
وما لي حيلة في أن أصور للقارئ كلامه، وحسبك مما أذكره أنه كان يتحدث عن «هتلر» كما يسميه، كما لو كان يتحدث عن أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة وعنترة بن شداد وأضرابهم من المغاوير.
ويحرص البك أشد الحرص ويتوخى الدقة إذا تحدث عن أقطار الأرض، وإن كانت سويسرا وسوريا عنده شيئا واحدا، وإن كانت كندا لتاخم الهند، وإن كانت دولة البلقان لمن أعظم دول الأرض، إن كانت أستراليا لتقع جهة السودان، وإن كان جبل طارق لذات ثروة عظيمة وبخاصة في القمح والقطن، وذات خطر يحسب له ألف حساب، إلى غير ذلك من الأدلة على سعة علمه بجغرافية هذا الكوكب.
ولن يقل علمه بالتاريخ عن علمه بالجغرافية، يتجلى ذلك في سبب تفضيله هتلر على نابليون، فنابليون كان يحارب منذ أكثر من خمسمائة سنة، فكانت أمامه أمم ضعيفة، أما «هتلر» فإنه يحارب إنجلترة التي ملكت العالم وسادت البحار.
ويحاول البك أن يتكلم العربية كما يفعل المتعلمون، فيأتي بضروب من القافات لم يسبقه فيها سابق، ولن يلحقه لاحق إن شاء الله، فالقسطول الإنجليزي قسطول هائل، وقيران دولة صديقة لنا، وحدث كيت في زمن بني قمية ... إلى غيرها مما أخشى إن ذكرته أن يحمل على المبالغة.
وينتقل صاحب السلطان إلى المباهاة بجاهه فيما يذهب فيه من ضروب الحديث؛ فيصف كيف يقف له سعادة المدير إذا دخل عليه، وكيف يقدم له القهوة والسكائر، ويذكر من شملهم بعطفه فعينهم في وظائف، مشيرا إلى أنه إنما فعل ذلك لا يقصد غير البر والإحسان، ويفخر بمن يزور داره من الحكام ومن وجوه البلاد، ويقص الأقاصيص عن خوف رجال الشرطة منه، وآخر ما حدث له معهم أنهم ما كادوا يعلمون أن الحمير «المسلوخة»، التي قبضوا عليها منذ يومين ملك له حتى أطلقوا سراحها معتذرين! وأنهم عاجزون عن أن يقبضوا على رجل من رجال عزبته إلا بأمره، وبدهي أنهم متى عجزوا عن الحمير كانوا عن الرجال أعجز.
وتكلم عن الفلاحين، وناهيك بحديثه عن الفلاحين، فله في ذلك من جوامع الكلم ومن أصول الاجتماع ما يعجب ويطرب، خذ مثالا لذلك قوله: «اضرب الفلاح على رأسه تأكل خيره.» وقوله: «الفلاح جنس ما يستهلش النعمة.» و«الفلاح يخاف ولا يختشي.» ولقد كان يذكر هذه العبارات في لهجة الخبير الواثق الذي لا يقبل فيها جدلا، وهل كان في الجالسين من يجرؤ على جداله؟!
وتداعت الصور في ذهني وهو يتحدث عن الفلاحين، فتذكرت منظره وهو بين المزارع تركض به دابته وخلفه فلاح يجري والعرق يقطر من جبينه، وإنه ليلهث كما يلهث الكلب، وتذكرت أني رأيته يركل رجلا توسل إليه أن يترك له بضعة قروش بقية إيجار لضيق ذات يده، ركلة قلبته على ظهره، وتذكرت أنه أمر بجماعة من الفلاحين فطاف بهم أعوانه في القرية عراة بعد أن ألقيت ملابسهم في النار؛ لأنهم اعترضوا سيارة قريب له على غير علم كانت قد دهمت جاموسة لأحدهم، وتذكرت أنه ما من فلاح يستطيع أن يحجز الماء ليصرفه إلى حقله حتى تروى أرض البك كلها، وإن تركت أرضه هو قاحلة جرداء.
وحمل البك حملة قاسية على ما يسمونه الحرية ورد إليها أسباب جميع الجرائم، ولعن العصر وسخافاته وترحم على الأيام الماضية أيام لم يكن يسمع أحد بحرية وانتخاب «ولا كلام فارغ زي ده»، ونسي البك الهمام أنه كان نائبا مرتين!
وانصرفنا من لدنه وأنا أقول في نفسي: إذا كان مثل هذا يتصدى للنيابة عن أولئك الفلاحين، وإذا كان يفكر هذا التفكير في هذا العصر، فيا ضيعة العلم ويا خيبة الآمال في الدستور والحرية، فكم من أمثال هذا من يظفرون بالجلوس في برلماننا، وقد قدموا من بلادهم فلم يغيروا إلا حللهم ...
صاحب السلطان الزائل
أقبل فسلم في صوت كأنه الهمس، وأحسست ولم أكن عرفت بعد شيئا من أمره روح المذلة في صوته؛ ومد إلى من نهض لتحيته يدا معروفة كأن بها استخزاء من أن تصافح الأيدي الممدودة إليه، ونهضت فيمن نهضوا فسلمت وأنا في حيرة من عبارات التحية تزجى إليه مشفوعة بلقب «البك».
وأخذت نعته بهذا اللقب على أنه من المزاح، فكثيرا ما رأيت بعض المازحين في القرية ينادون بهذا اللقب رجلا عندنا بلغت به الفاقة حدا جعله مضرب المثل في البؤس، وجعل لقب «البك» مضافا إليه رائع البلاغة فيما يتضمن من تهكم، وفيما يثير من ضحك باستعماله هذا الاستعمال.
ولكني لم أر للمزاح أثرا في وجوه الجالسين، بل لم أر فيها إلا التزام الجد والحرص على مظهر الاحتشام والسكون، وفهمت أن الابتسام يتقى بين الجلوس فيما يدور بينهم من حديث، وبخاصة إذا خوطب صاحبنا على أنه البك، فما تكاد تنفرج الشفاه حتى تنضم في استدراك سريع.
واتجه منظاري إلى هذا البك الجديد، وأخذت أختلس النظر إليه وكان كلما زدته نظرا، زادني دهشة ذلك اللقب، الذي يسبغ عليه في جد لا أثر للعبث فيه، وظللت أنظر إلى معطفه الذي تراكم عليه ما تراكم من آثار الزمن، وإلى جلبابه الذي لم أعرف ماذا كان لونه قبل أن يعلق به ما علق من تشويه، والذي راح يستر خروقه بأطراف ذلك المعطف الذي يعد تسميته بالمعطف، وهو على تلك الحال من قبيل تسمية صاحبه بالبك! أما طربوشه، فقد اتسق في هذا النظام اتساقا بليغا، إذ كانت أسطوانته من لون وقرصه من لون آخر، غير أن أحد جانبيه أكثر كدرة من الجانب الثاني، وإن كانت تلك الألوان جميعا بقايا حمرة زائلة.
وعرفه إلي وعرفني إليه أحد الخبثاء الذي أخذ ينظر إلى منظاري، وكأنه كان يرى فيه - كما حدثني بذلك بعد - آلة تصوير، وما كاد يذكر لي اسمه حتى ذهب اللغز من ذلك اللقب الذي لقب به، وقلت في نفسي: أهذا هو الذي سمعت من أخباره ما سمعت؟
وتزاحمت في ذهني صور ما علمت من أنبائه، وبرزت من بينها صورة كانت بين غيرها من الصور، كما يكون المارد بين الأقزام، فهذا الرجل الذي أراه أمامي، هو بعينه الذي أشعل ذات ليلة دخينة لإحدى المغنيات في بندر قريب، لا بعود من الكبريت كما يفعل عامة الناس، ولكن بإحراق رقعة من الورق تركها حتى أتت عليها النار بعد أن أشعل بلهيبها تلك الدخينة، ولم تك هاتيك الورقة بذات قيمة كبيرة، فهي من فئة الخمسة جنيهات فحسب!
واضطجع صاحب السلطان الزائل اضطجاعة فيها بقايا الكبرياء، ونظرت إلى وجهه فرأيت في سحنته خيال تعاظمه الماضي واستكباره، يحيط به خيال استخزائه الحالي ومسكنته، والحق لقد كانت نظراته مزيجا عجيبا من العظمة والمذلة والرضاء والضجر والخجل والتبجح، ثم كان وجهه الشاحب يذكرني بتلك الصورة التي كانت تعلق على الجدران لمحاربة «الكوكايين»!
ووجهت إليه بعض عبارات التحية فرد في هدوء واتزان، وهو ينظر إلي نظرات من يريد أن يستوثق من صدق تحياتي، كأنه لا يصدق أنه اليوم أهل للتكريم بعد أن هلك عنه سلطانه، على أنه ينتمي إلى أسرة معرقة لا يزال لبعض أفرادها جاه عظيم وثراء، وإن كان ثراؤها لا يبلغ اليوم في مجموعه عشر ما كان لها منه بالأمس، ولعل خيال ذلك الجاه الباقي في أسرته هو الذي يجعل الكبرياء تتغلب في وجهه أحيانا على الاستخزاء، وإن كان الاستخزاء قد بات طابعه الجديد.
وقدم إليه أحد الجلوس دخينة فتناولها في صورة عجيبة، وفي وجهه أمارات توحي بأنه يفهم من هذه التحية أنها ضرب من إعطاء المحروم، وعلى شفتيه ابتسامة تصور هذا المعنى وتبرز ما في قرارة نفسه منه، وأيد ذلك لي إسراعه بإخراج علبة الدخائن من جيبه وتقديمه دخينة إلى من سبق فقدم إليه مثلها، ثم إنه تقدم في خفة وظرف فيهما طيف أريحيته الماضية، فأشعل الدخينة لصاحبه ولكن بعود من «الكبريت».
وأردت أن يتكلم لعل الحديث يميل به إلى الإفضاء ببعض ما يقوم في نفسه من هذه الحال التي تدلى إليها بعد عزة، ولكنه لزم الصمت، وكان صمته أيضا يجمع بين الحياء والاستعلاء.
ودخل علينا شيخ من أهل القرية فما وقعت عيناه على ذلك البك حتى أقبل عليه في اهتمام شديد، وهو لا يفتأ يكرر قوله: «شرفت بلدنا يا بك! أهلا وسهلا بابن الأكابر، دي البلد كلها منورة بوجودك فيها! الله يرحم والدك البك الكبير.»
وأخذ ذلك الشيخ يفيض في وصف سجايا البك الكبير وأبهته وجاهه، ويحكي في ذلك الحكايات الطويلة، ويذكر الضياع التي عمل فيها عنده بأسمائها، ويقارن بين ما كانت تخرجه من خيرات هاتيك الضياع، مستشهدا برأي البك الصغير كأنها لا تزال ملك يديه يتمتع بخيراتها جميعا؛ ثم تنهد ذلك الشيخ وختم حديثه في سذاجة محبوبة قائلا: «هيه سبحان من له الدوام! يا ابني ما تزعلش أنت ابن الأكابر على كل حال، وعندنا إحنا يا فلاحين نقول: إن دبلت الوردة ريحتها فيها.»
ومضى الشيخ وأنا أفكر فيما ضرب من مثل، وأنظر إلى الوردة الذابلة فلا أحس من سابق رائحتها شيئا فيها، ويتملكني الإشفاق حينا، ولكني أذكر الورقة ذات الجنيهات الخمسة، وأتصورها مشتعلة في يده فينفي الإشفاق من قلبي شعور يكاد يقرب من الشماتة لولا أني أكره الشماتة، شعور هو في الواقع إحساس خفي بعدالة الجزاء، وتطابق الجريمة والعقاب ...
ولما ذكر أمامي اسم البك الكبير وذكرت ثروته الهائلة التي انتهت إليه هو كذلك من والده، وموطن هؤلاء وأسرتهم الكبيرة قرية تقع غير بعيد من قريتنا، عجبت كيف بدد هذا البك الصغير الماثل أمامي أو هذا الشيطان الكبير ثروة أبيه على هذا النحو حتى لم يبق له منها إلا الذكرى.
وتكلم أخيرا صاحب ذلك السلطان الضائع، وكأن حديث ذلك الشيخ أثار شجونه، وأخذ يصف لنا كيف كان يعيش، وهو لا يدري أنه يسرد علينا قصة سفهه! ... ولعله كان يحس أن لم يبق له من الثروة إلا فخاره بما كان له من ثروة، إن كان ذلك من دواعي الفخار، ونسي سكونه الأول فأطنب وأفاض في غير تحفظ أو استحياء، ومن درر حديثه قوله: «ياما شوفنا عز! دا الواحد كان يأخذ معه ألف جنيه إلى الإسكندرية أو مصر فيعود بعد أسبوع سالف أجرة الوابور ... دا أنا كنت هارون الرشيدي اللي بيقولوا عليه.»
وقلت: وكان ذلك المال من إيراد أملاكك طبعا، فتلعثم قليلا وقال: لو كان ذلك المال من إيراد أملاكي ما ضاعت أملاكي؛ إنما كان بعضه من الإيراد وبعضه من البنك، وآه من البنك ... آه من البنك!
وإذ ذكر لي البنك ذهب من نفسي كل عجب، فكم استدرج البنك من أمثال هذا الذي ورث فلم يشعر بقيمة ملكه حتى ذهب عنه كما جاء إليه، ثم سألته عن مصير هذه الضياع فقال: الخواجه خريستو تاجر القطن، وأحزنني أن يمتلك مثل خريستو من ثرى هذا الوادي أرضا أولى بها بنوه، أرضا كانت تكفي لأن يعيش عليها أكثر من مائتي أسرة من تلك الأسر التي تكدح صابرة في وهج الشمس، وتسقي بعرق جباهها تربة وادينا ولا تمتلك الواحدة أكثر من فدانين أو ثلاثة فدادين.
وسألته عن شعورده إذا مر اليوم بهاتيك الضياع، ولشد ما أدهشني قوله إنه لم يرها كلها، وإنه لا يعلم إلا موضع ما كان يحيط بقصره منها؛ فلقط كان أمر زراعتها وتعهدها مفوضا إلى نظاره الثلاثة الذين يمتلك الواحد منهم اليوم ما لا يقل عن ثلاثين فدانا، من أرض أجداده.
وكان مجلسنا هذا في دكان بدال، ولما هم البك بالانصراف طلب من التاجر أشياء، ولكن التاجر نفى وجودها عنده، فلمحت عينا البك بعض الأصناف المطلوبة على رف من الرفوف، فأشار إليها قائلا: «أمال إيه ده !» وأجاب التاجر بأن غيره دفع ثمنها وسيرسل في طلبها، وضحك صاحب السلطان ضحكة مرة وهو يهز رأسه قائلا: «هيه ... طيب! السلام عليكم.» ثم خرج، وتنفس التاجر الصعداء.
واتجه إلينا ذلك التاجر وقال في لهجة اعتذار: إن قريبه فلان بك الذي ينفق عليه أمره ألا يعطيه شيئا إلا بإذن كتابي قال: «دا مسكين ضيع كل ما يمتلك في المكيفات اللهم احفظنا، وباع عفش بيته، وهل تاب بعد كده؟ لا، دا صنف لا يستحق النعمة.»
ومضيت وفي نفسي كلمة التاجر الأخيرة، وأنا أحدث النفس قائلا: كم ذا بمصر من هذا الصنف الذي لا يستحق النعمة!
صاحب السطان الزائف
ليس لديه من دواعي السلطان غير رتبة البك، أما المال فحظه الحقيقي منه قد لا يسلكه حتى في أمثالنا من عباد الله القانعين المتواضعين، ومع ذلك، فقد توافى له من البأس والسلطان ما يندر أن يتوافى لغيره من ذوي الثراء العميم والحسب القديم؛ واتفق له في غير مشقة من وسائل جمع المال ما لو اتفق لسواه من أهل الكدح والجد، لعد عندهم من أنعم الله التي ينسى معها كل عنت ويهون في سبيلها كل نصب ... وهو والحق يقال أحد أفراد أسرة فيها من رزق حظا عظيما من الثراء، وإن لم تكن كغيرها من الأسر الكبيرة القائمة حولها معرقة في الفضل والحسب.
كان يتداخلني العجب كلما ترامى إلي شيء من أنبائه، حتى لقد تاقت نفسي آخر الأمر إلى رؤيته كما كانت تتوق وهي غريرة إلى رؤية الغول مثلا، ولكن على بعد وفي مأمن من أظفاره وأنيابه وكما كانت تتوق قبل اليوم إلى رؤية الدتشي مثلا وغيره من غيلان الإنسانية، رؤية آمنة من غير الورق أو السينما! ولقد تميل النفس إلى رؤية ما تكره كما تميل إلى رؤية ما تحب وهذا من عجائب غرائزها!
وتحققت لي رؤيته أخيرا في قريتنا وهي ملتقى عدد من القرى، بينها قرية ذلك الآمر الناهي، وكان ساعة رأيته يجلس في حاشية من «محاسيبه» أمام مقهى من المقاهي على الطريق العام ، وهو لا يحلو له الجلوس إلا حيث يراه الغادون والرائحون، فما يراه أحد من ذوي المكانة إلا أقبل عليه مرحبا مسلما، وما من صاحب حاجة إلا ويشكو إليه حاجته، ويلتمس عنده طلبته.
وجلست غير بعيد أنظر إليه في جلبابه الفياض، وقد دفع طربوشه إلى مؤخر رأسه، واتكأ على عصاه تحت إبطه، وشمخ بأنفه، ورفعه رأسه إلى آخر ما يسمح به وضع طربوشه الذي ظللت أتوقع من حين إلى حين سقوطه وراء ظهره، حتى رأيته يهوي فعلا ولكن ليرفعه أحد الجالسين في أقل من ارتداد الطرف، وقد تزاحم عليه نفر منهم يطمع كل واحد أن يحظى بشرف إزالة ما علق به من التراب بكم جلبابه.
وجاء الندل مذ رأوه فأحنوا جباههم ورفعوا أيديهم يحيون «سعادة البك» في ابتسام واحتشام، ودارت أقداح الشاي والقهوة على الجالسين، وكان لا يني البك عن طلبها لكل قادم في لهجة كريمة حازمة.
وشكا البك من غبار الطريق، وسأل محنقا: ماذا يصنع المجلس القروي إذا؟ ووعد أن يتحدث في ذلك إلى المأمور فسيلقاه في المركز غدا، وإذا جاء ذكر المأمور تقدم رجل في يده عريضة، وهو يقول: «يا سعادة البك الله يخليك ...» وقطع عليه سعادة البك كلامه متسائلا: ألم تنته مسألته بعد؟ ثم تناول منه ورقته ودسها في جيبه، وصرفه طالبا إليه أن يقابله عند باب المركز صباح الغد، وما لبثت العرائض أن تزاحمت على جيب البك ... فهذا يرجو أن يكون خفيرا، وذلك يطمع أن يعين فراشا، وفلان يرجو نقل ابنه إلى بلد قريب، وآخر يستعجله ما وعد في أمره، وهو يكرر لهم جميعا وعوده مؤكدا مستمهلا إلى أمد قريب ...
وتسلل أحد جلسائه إلى هؤلاء، فتحدث إلى كل منهم على انفراد برهة، ثم عاد إلى حيث يجلس سيده وفي جيبه هو أيضا ورق ولكن من نوع آخر!
ولاح ضابط الشرطة مقبلا فأفسح الجالسون له مكانا قبل وصوله، وأقبل فسلم على البك في اهتمام عظيم، لا تفلته عبارة من عبارات الترحيب ولا يفوته شيء مما يحفظ من التحيات ، يشفعها جميعا بألقاب التعظيم والتبجيل وبدا لي أنه ضابط ذكي إذ كان يزيد في ترحابه وتحياته كلما رأى أثرها الطيب على قسمات البك، وقل في الضباط من لا يتقن هذا التهويل في مناسبة كهذه، فهو لا يكلفهم شيئا، أما ما يعود عليهم منه فأقل ما يرجونه أن يكف عنهم أمثال صاحب السلطان هذا ألسنتهم عند أولي الأمر؛ إن لم يجودوا عليهم بالثناء والإطراء بل وبالشفاعة والرجاء، إذا اقتضى الحال شفاعة أو رجاء.
وارتاح البك إلى حضور الضابط، فانطلق يتحدث عن مقابلاته التي ضاق بها ذرعا، فحسبه أن قابل فلانا وفلانا من الوزراء في أسبوع أكثر من ثلاث مرات، أما مقابلاته للمدير فأكثر من أن يحصرها عد؛ ثم يمسك البك قليلا ويعود فيقسم بحياة أبيه، وقد تصنع الغضب، أنه لولا ابتغاء وجه الله لما رضي بأن يسود وجهه من أجل الناس على مثل تلك الحال الأليمة.
وتعلق منظاري بمرآه فما يكاد يتحول عنه؛ وذكرت ما ترامى إلي قبل من أنبائه، وصدقت ما كنت أحمله قبل رؤيته على المبالغة؛ فهذا الرجل جدير حقا أن يذهب بنفسه كما علمت، وقد توسلت به بغي معروفة فراح يرجو لها من بيدهم الأمر ألا يحول الشرطة بينها وبين ما تأتيه من الفجور في أحد الموالد، لا لشيء إلا ليثبت جاهه في ساحة المولد ... وهذا الرجل جدير بأن يوهم أغرار الناس بأنه قادر حتى على أن يحول بينهم وبين يد العدالة، وإلا فكيف ذهب يتوسل إليه ليشفع لهم، كما قد علمت علما لا يداخله شك، من كانت تهمتهم جريمة القتل؟ وهذا الرجل جدير حقا بأن يفهم كل من له به صلة بأن جاهه لا يقف عند الخفراء والفراشين، وإنما يتعدى هؤلاء إلى العمد وإلى من هم أكبر خطرا من العمد من جماعة الموظفين، وهذا الرجل جدير بأن يحتجز سيارات النقل عند مدخل قنطرة على حدود قريته، فلا تمر إلا أن تدفع قدرا معينا من المال، وأخيرا هذا الرجل جدير بأن يصب نقمته على من يشاء، وأن يختص بنعمته من يشاء، وله في مجال النقم حديث طويل أراه نقمة بالغة أن أوذي به أنفس القراء.
أما زرعه إذا حان وقت الزرع، وأما حصاده إذا أراد الحصاد، فحدث عنهما ولا حرج، فأهل قريته جميعا لا يسألونه على جهودهم أجرا إلا الرضا ...
على أن حظه من الزرع والحصاد لا يتطلب عظيم مشقة لقلة ما يمتلك من الأرض، إلا إذا شاء له جاهه فاستأجر أرضا من أصحابها وزرعها في نظير أجر لا يحظى بمثله في قلته غيره من الناس.
وحمدت الله أن لم تقع علي عين البك، فلقد كنت منه كالجن أراه من حيث لا يراني، فما لي طاقة بأن أتلقى منه نظرات الكبرياء والاحتقار التي رأيته يشيع بها كل فرد ممن يسميهم المتعلمين، سواء من سلم عليه منهم أو من أعرض عنه، وكان لا يفوته أن يسأل عمن يعرض عنه ثم يذكر آباءهم متسائلا - وإنه ليعلم - تساؤل الساخر المستطيل، وهو يرد إلى هذا الصنف ممن يسمون المتعلمين في القرى كل أسباب الفساد والرذيلة، ولست أدري ماذا كان عسيا أن يحدث بيني وبينه إذا أخذتني عيناه فنظر إلي وهو لا يعرفني، مثل هاتيك النظرات؟ على أنه لم يفطن إلى مكاني وكفى الله المؤمنين القتال!
وأرسل البك في طلب سيارة فحضرت، ووقف السائق حتى نهض البك للركوب فخف به جلساؤه، ونادى أحد الندل ووضع يديه في جيبه، ولكن النادل أسرع قائلا: «الحساب خالص يا سعادة البك.» وأشار إلى أحد الحاضرين، وتظاهر هذا بالحياء، وشكره البك واتخذ مكانه في السيارة بعد أن سلم على مودعيه، وركب معه من يستصحبهم من أهل قريته.
وانطلقت السيارة تحمل ذلك الوجيه العظيم، ومن عجيب أمره أنه على عظمته التي رأيت لا يملك سيارة، ولكن كل سيارة في هذه الجهة ملك له، فهي جميعا رهن إشارته، ولن يعدم أن يجد «الحساب خالص» إذا اتخذ إحداها، على يد رجل ممن يصحبونه، وهو غالبا لا يتخذ سيارة إلا إذا أحضرها له صاحب حاجة يرجو قضاءها على يديه، فإن اتخذ سيارة في أمر خاص به وركبها وحده، فهو لا يمسك الأجر عن صاحبها إلا إذا سها، وقليلا ما يسهو؛ لأنه قل أن يتخذ سيارة وحده.
وبعد، فأمثال هذا العظيم الجلف في الريف غير قليلين، ولكنا نقول على رغم ذلك: إننا في عهد العرفان والنور، وليت شعري إذا كان هذا في عهد النور، فكيف كانت الحال في عهد الظلام، وكيف تكون حالنا غدا إذا نحن أغمضنا العيون عما يشين، ولم نتلمس السبل للخلاص منه؟
صاحب السلطان الحقيقي
1
وهذا صاحب سلطان آخر لم أدر بادئ الرأي ماذا أسميه، وترددت بين أن أنعته بصاحب السلطان الثعلبان، وأن أسميه صاحب السلطان المهرج أو المشعوذ أو النصاب، حتى رأيتني أدعوه آخر الأمر على رغمي صاحب السلطان الحقيقي، ولعلها بعد كرامة من كراماته! والحق أني لم أر حتى اليوم من أصحاب السلطان من بلغ من الجاه نصف ما بلغه هذا الألعبان الثعلبان.
دخل الحجرة في نفر من حاشيته، فسلم مسبل العينين خافض الجناح مطأطئ الرأس يكاد يتهدم من الضعف، ويبدو كأنما ينوء بعمامته الحمراء الضخمة التي تعلو جبينه العريض، والتي زاد في حمرتها شدة بياض لحيته وشعر عارضيه وفوديه؛ وجلس وهو يلملم هلاهيله ويضمها بحيث لا تخفي مسبحته العظيمة التي تدور بعنقه، وتتدلى إلى منتصف بطنه، وما برح يتمتم ويحرك شفتيه وهو يخلع نعليه حتى تربع على الكنبة وأسند عصاه إلى جانبه.
وأحسست - وقد استوى على الأريكة - جوا من الهيبة يشيع في المكان كله، فقد سكت الجلوس سكوتا لم تتخلله إلا عبارات الترحيب والتحيات تزجى إلى الشيخ من كل ناحية، وهو لا يرد إلا همسا كأنما يحدث نفسه؛ وما دخل إنسان من أهل القرية تلك «المنظرة» التي جلس فيها الشيخ، والتي اتخذها العمدة مكان سهره وموضعا للفصل بين المتخاصمين، إلا أقبل على الشيخ فتناول يده من فوق المتكأ، فلثمها وردها إلى مكانها في خشوع ورهبة، وفي نفسه من الغبطة من لثم يد الشيخ ما ينسيه قضيته إن كان صاحب قضية أو يذهب كربته إن كان ذا كربة ، وما رأيت قط من جرؤ على الإفضاء بما جاء من أجله في حضرة الشيخ، فليس من اللائق أن ينشغل المجلس عن الشيخ بقضية من القضايا مهما بلغ من خطرها، وإن كان الشيخ ليبدو وكأنه في شغل عمن حوله بما هو فيه من تمتمته وإطراقه.
ولبث الشيخ على تلك الحال إلى أن رأيته ورآه من في الحجرة يهز رأسه هزا عنيفا ذات اليمين وذات الشمال، ثم يدق كفا بكف قائلا في صوت مرتفع وعيناه مغمضتان: «الله: الله لطيف بعباده ... يا حي يا قيوم اصرف عنا الأذى، اصرف عنا الأذى يا الله.»
ونهض الشيخ فراح يمشي في الحجرة جيئة وذهابا وفي وجهه عبوس وضجر وخوف، وقد فتح عينيه ولكنه لم يرفعهما عن الأرض كما أنه لم يفتر عن هز رأسه تلك الهزة السريعة العجيبة، ودخل الحجرة فتى يلبس جلبابا أبيض فضفاضا واسع الردنين والطوق إلى درجة غير مألوفة، وتبينت أنه من حاشية الشيخ فقد جلس بين أصحابه دون أن يسلم على أحد، حتى على أهل المنزل، وهذه أمور يتقنها هؤلاء «المجاذيب» وينفردون بها من دون الناس إلا من المجانين.
ورأيت الشيخ يلمحه عند دخوله لمحة خاطفة ما أحسب أحدا لاحظها لفرط سرعتها؛ وبعد أن قطع الشيخ الحجرة في ذهابه ومجيئه بضع مرات عاد إلى مكانه، وجلس فأطرق قليلا ثم هب واقفا في حركة «بهلوانية» عجيبة كأنما أطلقه لولب خفي وصاح قائلا: «يا خفي الألطاف.» وعاد فجلس والعيون ترمقه في دهشة وحيرة، ودخل الخادم يقدم القهوة فبدأ بالشيخ ولكن الشيخ أشار إليه بيده إشارة عصبية، ونهض اثنان من دراويشه فصرفا الخادم عنه؛ لأنهما يعلمان من حال شيخهما ما لا يعلمه ذلك الخادم الذي التقت الدهشة في وجهه بالرهبة والاحتشام، ثم إن الشيخ عاد فوثب من موضعه وثبة من لدغته عقرب لدغة أطارت صوابه، وصاح في صوت مزعج: «يا لطيف، حوش يا رب حوش بحق جاه سيد المرسلين، الطف يا لطيف سقت عليك النبي، سليمة إن شاء الله، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما .»
ولم يكد يتم كلامه حتى سمع الجالسون صفير الخفراء من أطراف القرية البعيدة، وخف العمدة ومعه بعض الرجال، ثم عادوا بعد حين يعلنون أن الحرائق الثلاث أخمدت سريعا والحمد لله، ونهض الشيخ يريد الخروج فقد رأى في وجه العمدة ما لا يخفى معناه عليه، وخرج الناس وراءه وما منهم إلا من يتمسح به، ويزحم غيره ليحظى بلثم يديه فإن لم يستطع قنع بلثم ردائه، وقد ازداد الشيخ عظمة في نفوسهم بما أظهر من كرامة لا تنكر؛ ولما كانوا عند الباب الخارجي سمع لغط شديد وجلبة تتخللها الأيمان بالله وبالطلاق، وتبينا أن كلا من هؤلاء يتمسك بأن ينال شرف مبيت الشيخ عنده؛ وفصل الشيخ في الأمر بإشارة منه أذعن لها الجميع، فقد اختار من بينهم من يضيفه، وأنعم عليه بهذا الشرف العظيم.
ودارت الأيام ورأيت الشيخ في مواطن كثيرة، أرجو أن أسوق إلى قارئي العزيز بعض ما التقطه منظاري منها؛ ليؤمن معي إن لم يكن قد آمن بعد بأن الشيخ هو على رغم الشانئين المنكرين من أمثالي صاحب السلطان الحقيقي.
2
قدمت صاحب السلطان الحقيقي إلى قرائي في المرة السالفة، أو بالأحرى قدمتهم إليه! فهو من يقدم إليه الناس جميعا ولا يقدم قط إلى أحد، ومن كان يماري في ذلك فليشهد مجلسا من مجالسه، ثم لينظر هل يقدم هو مهما كان من خطره إلى صاحب السلطان أم يقدم صاحب السلطان إليه.
حرصت بعد المرة الأولى على رؤيته حرصا أنساني كل متعة، وحقر في نفسي كل فرجة، فأعددت منظاري وظللت أنتظر بصبر فارغ وشوق نازع، حتى حانت الفرصة فدعاني إلى داره رجل من أطراف القرية رأيت وجهه يقطر السرور، وهو يفضي إلي بما نال من شرف ضيافته الشيخ في تلك الليلة.
وتفضل الرجل فدعا شابا من ذوي قرباي كان معي، فقبل كما قبلت واشترط مثلما اشترطت ألا نمكث حتى العشاء، فما كان كلانا يتطلع إلا إلى رؤية الشيخ، وكان رفيقي الشاب قد تشوق إلى رؤيته بعد ما سمعه عنه، وكان وقد ظفر بالأمس القريب بإحدى الإجازات العليا تمتلئ رأسه بفلسفة الفلاسفة، ولعله كان يرغب أن يعد لنفسه منظارا مثل منظاري، أو لعله كان يريد أن يطبق على الشيخ ما في رأسه من فلسفة، فقد حدثني أنه يعلم من أمر هؤلاء الأشياخ أنهم جد أذكياء، وأنهم يسيرون على قواعد «سيكولوجية» دقيقة تغيب عن الأغفال من العامة.
وكان صاحبي ونحن في الطريق إلى تلك الدار التي احتوت الشيخ وحاشيته، يحدثني ضاحكا أنه كف يده في الصباح بعد أن هم بالتصدق على مسكين بنصف ريال، وأنه يخشى أن يظهر الشيخ كرامته، فيفضح بخله في المجلس.
وبلغنا الدرا فإذا حشد من أنماط الناس من رجال ونساء قرب الباب، وإذا الشارع أمامها مكنوس مرشوش، وإذا وفود المدعوين يدخلون الدار قبلنا؛ وإذا الدخان يتصاعد من النوافذ، ولما كنا في وسط الدار لم يفت منظاري ذلك النشاط الذي ملأها، فهؤلاء النسوة مشتغلات كل منهن بعمل يتصل بإعداد الطعام، وفتيان الدار يدخلون ويخرجون من المنظرة التي جلس فيها الشيخ، وفي أيديهم «صينيات» القهوة والقرفة والشاي، ووجوههم جميعا متهللة مستبشرة.
ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعا وقوفا لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب، ورفع الشيخ عينيه وهو متكئ على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها، وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل، ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة ولأن أبكيهم جميعا أسهل عندي من أن ألثم تلك اليد الكريمة؟
وأرادوا أن يفسحوا لنا مكانا في صدر الحجرة، ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه، وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب؛ لنستريح في جلستنا في ملابسنا الإفرنجية، وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه ، فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيفانه، ثم قلت: إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فشرفني بنظرة مستريبة، ثم ردها سريعا وفي وجهه الراحة والضيق معا، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي وبحضوري وصاحبي في تلك الساعة.
واتجهت الأنظار إلى الشيخ وكان صاحبي من الدهشة كأنه ذهل عن نفسه؛ وساد السكوت لحظة فما يتكلم أحد حتى يتكلم الشيخ، وكنت قبل دخولنا الحجرة تبينت صوته وهو يتحدث عن المال وأنه عرض زائل، وعن الجود والبخل، وفطنت إلى أنه كان في سيرة أحد البخلاء، ولم يفطن صاحبي إلى شيء لدهشته؛ ولأنه لا يعرف صوت الشيخ، وغمغم الشيخ ثم عاد إلى ما كان فيه من حديث، ولحديث البخل عنده قيمته فقال: «هيه ... سبحان من يرث الأرض ومن عليها ... هو حد منا رايح يأخذ حاجة معاه ... إيه نصف ريال ولا نصف جنيه ولا حاجة فارغة زي دي، ياما فلوس بتورح في المسخرة.»
وتشعب الحديث، وأديرت علينا أقداح القرفة أكثر من مرة ونحن لما نسمع من الأيمان لا نستطيع لها ردا، ثم سمعت صاحب الدار يسأل عن شخص اسمه عمر ورأيت الشيخ ينهض واقفا ثم يجلس بعد بضعة ثوان؛ ولكنه لا يلبث حتى ينهض مرة ثانية، فعجبت وخفت أن يكون ذلك منه نذيرا بحريق جديد، وما جلس للمرة الثانية حتى صاح صاحب الدار بمن يدعى عمر كرة أخرى فهب الشيخ واقفا من فوره، وعلمت أنه لن يطيق أن يسمع اسما من أسماء الخلفاء الراشدين وهو جالس، وتتبعته أنظر مبلغ ما في هذا الذي ألقي إلي من صحة فاتسق لي القياس كل مرة.
وكان ذلك قد ألهاني لحظة عن صاحبي الذي سرت الدهشة في وجهه لذكر نصف الريال، والذي أخذ إجلاله للشيخ وإيمانه به يتغلب شيئا فشيئا على مظاهر النكران والجحود في وجهه وخوافي العلم والفلسفة في نفسه ورأسه!
ودخل رجل فشكا إلى الشيخ أن ابنه لا ينام ليله مستريحا، وتناول الشيخ ورقا وقلما وخط له حجابا وصرفه فخرج الرجل فرحا مطمئنا، ودخل ثان فشكا إليه أنه محروم من البنين، وأنه يتحرق شوقا إلى غلام يؤنسه وللشيخ ما يطلب. وضحك الشيخ من سذاجته إذ يصرح أمام الناس أو يظن أن الشيخ يطلب شيئا، وطلب الشيخ منه منديلا فلم يجد معه شيئا فأخذ طاقيته ووضعها في حجره، وقرأ ثم قرأ وردها إليه وبشره بغلام؛ ونهض الرجل وكأنه يحمل بين يديه ذلك الغلام ...
ودخلت امراة ملففة في ثيابها وطرحتها ترجو من الشيخ رقية لوحيدها كي يعيش، فجاد عليها الشيخ برقية وخرجت المرأة مزهوة، ودخلت بعدها أخرى تستجير ببركة الشيخ، فإن ابنتها يرتعد جسدها الملتهب، وتمسكها «الملعونة» حتى ما تفارقها، وفهمت أنا أن المسكينة مريضة بحمى ربما كانت الملاريا، وأمرها الشيخ أن تحضر وعاء به ماء، فذهبت فأحضرته، وتناوله الشيخ فقرأ ثم قرأ، وصاحبي ينظر دهشا، وبصق فيه الشيخ والعياذ بالله، بصقة على رغم علم صاحبي وفلسفته، وناوله المرأة لتشرب ابنتها من ذلك الماء أثناء الليل وكم تمنيت لو قفزت من مكاني، فحطمت ذلك الوعاء وأسلت بركته على رأس الشيخ!
ودخل شاب قوي البنية، بادي الجرأة، فما دنا من الشيخ حتى صرخ الشيخ في وجهه يطرده ويصيح به: أيها العاصي، ابعد عني، وتوسل الشاب إليه حتى سمح له بالجلوس، وأمر الشيخ دراويشه، فطرحوا ذلك الفتى ورفعوا رجليه على نحو ما يفعل معلم الصبيان في المكتب، وتناول الشيخ عصاه وهم بضربه، فاستجار الفتى بالنبي، فما كاد يسمع الشيخ لفظ النبي حتى ألقى العصا وهم واقفا، ثم أمر أعوانه فأطلقوه، وأخذ عليه الشيخ العهود والمواثيق ويده على المصحف، ثم صرفه والناس يعجبون كيف عرف الشيخ أنه شقي، ونسوا أن للشيخ دراويش هم مصدر علمه اللدني العجيب.
وجاء بعد ذلك أمر حيرنا معا أنا وصاحبي، وحار منظاري حتى كدت أظن أن الشيخ أفسد ما له من سحر بكراماته، فقد جيء للشيخ بأربعة فتيان متهمين في سرقة، فجلسوا أمامه يرتعدون فرقا وكلهم ينكر ما نسب إليه، ولما يئس منهم الشيخ طلب بيضة بطة أو إوزة فذهب صاحب الدار ليحضرها، ولما عاد بها قابله أحد الدراويش عند الباب وأخذها منه، ثم وضعها في جيبه حتى طلبها الشيخ فأخرجها وأعطاها إياه أمام أعيننا ووضعها الشيخ تحت يسراه، ثم قرأ وقرأ وقال إنه سيرفع يده فتتجه البيضة إلى السارق، ونظر في وجوه الفتية فأصروا على إنكارهم، وما كان أشد عجبي وعجب الجالسين جميعا أن رأينا الشيخ يرفع يده فتظل البيضة في مكانها بضع ثوان، ثم تبدأ تتدحرج وتقف، ثم تتدحرج وتقف، وعظم خوف السارق بطبيعة الحال، وقبل أن تنحرف البيضة إلى من سرق أخذها الشيخ وقد بعدت عنه نحو ثلاثة أذرع، وأمر الفتية أن يخرجوا فيفضي من سرق منهم بسره إلى من يرسله معهم من الدراويش، وعاد ذلك الدرويش بعد قليل يحمل الحلي المسروقة!
وأقبل من في الحجرة على الشيخ يقبلون يديه، ونظر إلي صاحبي وقال في لهجة عجيبة: «وما قولك؟ بل ماذا يرى منظارك في هذه المعجزة؟» ونهض الشيخ واقفا، فدعا دراويشه ومن جلس معه إلى «حلقة ذكر» وبدأ ذلك الذكر في حماسة شديدة، واشتدت الحركات وارتفعت الأصوات، ونسي الناس أنفسم حول الشيخ وعظمت الرهبة في وجه صاحبي الشاب، فأمسكت بذراعه مخافة أن يثب فينضم إلى الحلقة!
وكان موعد تقديم الطعام قد قرب فانتظرنا وصاحبي حتى انتهت لحظة التجلي، وخرجنا بعد أن سلمنا من بعد على الشيخ ومن معه، وسرنا وصاحبي يسألني في لهجة كلهجة طفل خارج من ملعب يستوضح أباه حركة «بهلوان»؛ ولم نكد نبعد حتى سمعنا من يشاركنا الحديث، فإذا هو أحد دراويش الشيخ السالفين وهو اليوم من الخارجين عليه، وقال ضاحكا: طول ما في البلد مغفلين، وأكل العيش سهل يا سيدنا الأفندي البيضة كانت مجودة في جيب صاحبنا الشيخ غير البيضة الثانية، وهي فارغة وفي جوفها خنفسة ... دا شغل إحنا عارفينه، وبكرة ياما يشيل الشيخ من الطيور والسمن والخرفان وهو خارج من البلد ...
وضحك صاحبي وأخذ يعود إلى جحوده ونكرانه.
مصري من الخارج
عرفته قبل أن يسافر ولقيته بعد عودته من الخارج ، وأشهد لقد آمنت إيمانا لن يكون بعده جحود بما للخارج من عظمة، وتعاظمني ما بيننا نحن الشرقيين من بون في الحضارة وبين سادتنا الغربيين، حتى لقد أوشك يتملكني اليأس من أي إصلاح لحالنا، إلا أن نرتل جميعا عالمنا قبل جاهلنا وكبيرنا قبل صغيرنا - اللهم خلا من سلف له أن سافر - بعثة واحدة في وقت معا إلى بلاد الغرب لنعود بعدها كأهل تلك البلاد لنا ثقافتهم، ولنا ذوقهم ولنا أسلوبهم فيما يأتون من ضروب التفكير والأعمال، ما جل منها وما هان.
ولا يحملن القارئ كلامي على اللهو والمبالغة، فالأمر أجل وأخطر من أن يسمح بشيء من هذا، ولو أنه رأى ذلك الذي أتحدث عنه، كما رأيته قبل سفره وبعد أوبته، لأيقن أني جاد كل الجد، مقتصد غاية القصد فيما أقول، وحسبك أنه اغترب زمنا ثم عاد إلى وطنه العزيز، وهو شخص آخر قد تغير تغيرا جوهريا من جميع نواحيه إلا ناحية واحدة ستعلم نبأها بعد حين، وقد تم له ذلك على صورة أرى من الميسور معها علي أن أصدق أن لماء التاميز وغيره من أنهار إنجلترة فعلا سحريا، فما هو إلا أن ينزل المرء فيه أو أن يغترف منه غرفة فحسب، حتى يصبح مهما كانت جنسيته، بل إنه ليصبح وإن لم تك جنسيته إلا تلك الحلقة المفقودة التي لفقها خيال العلماء، إنجليزي المظهر والجوهر والخلق!
ما ذهب صاحبنا هذا مذهبا في حديث له إلا جعل غايته تلميحا أو تصريحا، أن يلقي في روع السامع أنه كان في إنجلترة، وأنه بذلك فوق مستوى من لم يتواف له مثل حظه مهما تكن مكانته؛ وكيف يكون لمن لم يحظ بذلك مكانة في نفسه على أية صورة من الصور؟ كذلك يعتقد ذلك الأستاذ الذي يتندر تلاميذه، فيما أعلم من عبثهم، أنهم يحصون عليه إشاراته إلى ذلك الشرف في دروسه، وإن أحدهم ليراهن صاحبه على درس يأمل أن ينسى فيه الأستاذ ذكر ذلك، ولكنه يخسر كل مرة، حتى لتحدثه نفسه أخيرا أن يذهب إلى أستاذه فيتوسل إليه أن ينسى مرة واحدة، وله ما شاء بعدها من الإذعان والمودة!
وكيف ينسى الأستاذ، وإن هذا الأمر ليجري في نفسه مجرى النفس في رئتيه لا يكاد يتسغني عنه لحظة؟ وأول ما يستطيل به عليك - إذا اغتررت بنفسك فطاولته - وأول ما يشتكي به إليك - إذا اطمأن إليك فأفضى إليك بهمه على الرغم مما يتقلب فيه من نعمة - أنه رجل
qualified ، وليعذرني القارئ إذا ذكرت عبارته كما يوردها، فإني لأخشى ألا يؤدي تعريبها ما يريد من معنى، فيضيف بذلك إلى أدلة جهلي عنده دليلا آخر، ولا تنس أن من لم يذهبوا إلى الخارج هم عنده جميعا جهلاء أدعياء!
وهو لا يسمح أن تكون كفايته موضع شبهة من أحد رئيسا كان أو مرءوسا، وإنه ليخطئ الخطأ في جدله لا يختلف اثنان في أنه خطأ، ومع ذلك فإنك لتزحزح الجبل الراسخ عن موضعه ولا تزحزحه هو عن موقفه بأية وسيلة من الوسائل؛ ويظل في مكانه لا ينحرف قيد شعرة، ولن تزداد أنت بمحاولتك عنده إلا أنك تمعن في المكابرة، وتسرف في الحمق، وتبالغ في الغفلة، وإنه لن يؤمن أنه يخطئ إلا إذا كان يجادل أحدا ممن اغتربوا ولو إلى قبرص!
وليته يقف عند هذا الحد، فإنه ليقحم نفسه في كل جدال، فيستمع لحظة حتى إذا قرر أحد المتكلمين أمرا جابهه بأنه يقرر الخطأ قائلا: «لا، هذا خطأ.» يقولها في غير مراعاة منه لأي وضع من أوضاع الذوق، ثم يزيدك نكدا بأن يسمعك نصف عباراته بالإنجليزية ونصفها بالعربية، ولقد يستكثر النصف على العربية أحيانا، فلا يأتي منها إلا ببعض ألفاظ، ويمعن في الكيد لك فيستدل على رأيه بما قرأ من كتب يذكر أسماءها، والله يعلم نصيب كل منها من الوجود، ولن يذكر فيما يستدل به من الكتب اسم كتاب عربي، وكيف يفعل هذا وهو لا يتورع أن يقول في صراحة إنه يضن بريال من ماله على شراء أي كتاب عربي، بينما يدفع جنيها كاملا أو أكثر، ثمنا لأي كتاب إفرنجي؟!
إذا صرفت النظر عن طربوشه وسحنته فأنت منه - إذا تبقى بعد ذلك شيء - حيال إنجليزي لا حيال مصري؛ فسرواله وحلته وحذاؤه، كلها إنجليزية اللون والتفصيل، وغليونه إنجليزي الوضع والهيئة والحجم، وأسلوبه في تفريغ ذلك الغليون بدقة على كعب حذائه وفي حشوه وإشعاله أسلوب إنجليزي على رغمي ورغم غيري من الذين ينكرون عليه كفايته؛ لأن الغيرة تملأ نفوسهم والحقد يوغر صدورهم.
وإنه ليدق الأرض دقا بحذائه الغليظ إذا مشى، ويومئ برأسه مع كل دقة إيماءة الكبرياء، فيكون في ذلك إنجليزيا أكثر من الإنجليز أنفسهم؛ وهو يكمل بذلك أدلته على أنه قد صار أحد هؤلاء الإنجليز الذين أخذ عنهم؛ وإني لن يسعني مع هذا إلا أن أسلم له بأنه
Qualified
حقا، وإلا فهل ثمة من فرق بينه وبين من يتشبه بهم؟
ويسيطر على سلوكه خيال إنجليزيته سيطرة عظيمة عند علماء النفس تأويلها فيما يسمونه مركب النقص؛ أما أنا فعملي عمل المصور الخبيث، فأراه حين يتكلم الإنجليزية مثلا - وقل أن يتكلم غيرها - يلعب بفكيه لعبا لن أستطيع أن أنكر ما فيه من مهارة، وإلا كنت مكابرا حقا، وأراه يلعب دور الملحن أيضا، فهو لا يقنع بالمبالغة في إمالة ما يتطلب الإمالة من الحروف، ولا بتفخيم بعض الألفاظ وترقيق البعض، ولا بمد أواخر كلمات واختطاف أواخر كلمات غيرها، ولا بالإتيان بغنة وشنشنة هناك، ولا بقلقلة لسانه فيما يقابل «الراء» عندنا من الحروف الإنجليزية؛ ليخرجه بعد حشره بين وسط اللسان وسقف الفم ... لا يقنع بذلك كله وإنما يحاول أن يكون صوته كصوت الإنجليز، فلا يتسق له - وا أسفاه - إلا خليط من اللغط والمواء يحمل أشد المحتشمين على الضحك، ولقد رأيت أحد الإنجليز يستمع إليه وهم، أراحنا الله منهم، أهل كياسة ودماثة، فلم يتمالك نفسه من الضحك فحجب وجهه بورقة في يده، وضحك ملء نفسه ثم عاد يحاول في جهد الاحتشام والوقار ...
وإذا اضطره إلى العربية جانب من عمله جاءك بها في ثوب إنجليزي، وتسمعها على لسانه غربية أكثر عوجا ولكنة في جرسها وإخراجها، مما لو جرت على لسان أحد أساتذة إكستر أو لفربول تعلمها منذ أسبوعين.
وهو برم بمجتمعنا وتقاليده، فكل شيء فيه سخيف عنده؛ وإنه ليعترف لديك في غير تحرج أو استحياء أنه لا يزور ذوي قرباه إلا كل عامين أو ثلاثة؛ لأن صدره يضيق بما يرى بينهم من تقاليد وعادات بالية عتيقة.
رجا منه مرة أحد أصدقائه ألا ينسى أمرا من الأمور، فهال الصديق أن يراه يغضب أشد الغضب، ثم يصعر خده ويشمخ بأنفه قائلا: «أنا أنسى؟
no it is you who forgets .»
وليس للفن المصري في رأيه أثر في الوجود، ولا للموسيقى المصرية وقع في النفس، ولا للأدب نصيب من الحياة، ولا للحياة المصرية كلها وضع من أوضاع الذوق ... لا ولا للشرق جميعا تراث يصح أن يسمى مدنية!
وبعد فليت هذا الذي يتشبه بالإنجليز هذا التشبه يحاكيهم في غير الحلة والحذاء والغليون واللهجة! نعم ليته ينقل عنهم بعض ما بهروا به العالم من خلقهم، بل ليته علم أن الإنجليز أبعد الناس عن التقليد السخيف؛ لأنهم لا يرون بينه وبين الانحلال والتبذل كبير فرق!
ليته نقل علمهم وأتقن أسلوب تفكيرهم، ثم اقتنع بهذا الجد وحافظ على مظهر قوميته وروح وطنيته، وإن بعض إخوانه ليعود إلى وطنه، وما أغناه ماء التايمز عن ماء النيل، وما إن يرضى بأن يقيم من نفسه دليلا على شعوره بحقارته!
وما حاجة هذا المتكلف إلى العلم وبيده «رخصة» بأنه كفء على الدوام أحسن أو أساء، وما به حاجة إلى أن يعمل فهو سابق غيره إن جد وإن أهمل وإن ظهر من جهله ما يضحك، مهما يبلغ من كفاية هذا الغير، وذلك بحكم هذه الوثيقة بل هذه الحجة الدامغة التي تغني عن كل شيء! وإن وثيقته هذه لتذكرني «بصكوك الغفران» التي كانت تبيعها الكنيسة للناس في العصور الوسطى، فتغفر لهم ما تقدم ما ذنوبهم وما تأخر.
وإن إكبار المجتمع لأمثال هذا المصري الآتي من الخارج ليجري على أسلوب كأسلوب العلوم الذي تراه في مثل قولهم: «فلان متربي في بلاد بره.» أو كأسلوب بعض جهلاء الذوات في الجيل المنصرم عندما كانوا يقولون : «فلان جي من إستنبول.»
لقد ذهب الزمن الذي كان يراد فيه لغاية مرسومة وضع هؤلاء القادمين من الخارج مهما يكن من عجزهم موضع التفوق، ومات الغرض من ذلك بتيقظ قوميتنا وانبعاث نهضتنا، فحتام نشهد على أنفسنا بالضعة ونقدح في كفاية معاهدنا وأساتذتنا؟ ... حتام يا أولي أمرنا ... حتام؟!
رئيس ...!
عدت إلى منظاري فوضعته على أنفي، وقد أزلت عنه ما علق به من الغبار والصدأ؛ وما زال لهذا المنظار سحره العجيب، فهو يريني من دنيا الناس ما لا تريني العين المجردة، فلولاه مثلا ما استوقف بصري هذا الذي أحدثك عنه، والذي أضيف إليه لقب الرياسة العظيم، وما هو من ذوي الجاه ولا العظمة، إذ ما زاد على أنه كبير الخدم بالمدرسة التوفيقية الثانوية!
وأنا يا قارئي العزيز رجل ساذج أو عبيط إذا شئت، فقد لا أرى شيئا من العظمة ولا من الرياسة في بعض من تواضع الناس على أنهم عظماء ورؤساء، وقد أرى العظمة كل العظمة والرياسة حق الرياسة في رجل كالذي أحدثك عنه، ولست بالضرورة أدعوك إلى أن ترى ما أرى، فأنت وشأنك، وإنما أدعوك لأن تقرأ هذه في غير سخرية مني ...
إن «عم أحمد حسين» كما يسيمه الطلاب «والريس أحمد العهدة» كما يدعوه زملاؤه، أو على الأصح مرءوسوه، هو رجل يريني منظاري من خلقه وسمته ما يحملني على أن أرى فيه رئيسا، بل ورئيسا محبوبا إن أردت الحق.
أول ما حببه إلي وقاره إذا تكلم أو مشى، ووفرة شعوره بشخصيته والأنفة ممن كان في مثل موضعه تحمل على الإعجاب والمحبة، فكم نسي الأنفة كثيرون هم أرفع درجات منه بحكم العمل، وليس في أنفته شيء مما يرى في غيره من ذوي الرياسات من صلف أو غرور، وإنما هي الكرامة تلمحها في وجه «عم أحمد حسين» حين يؤمر في صلف أو ينهر في غير موجب، فتراه عندئذ يرشق آمره أو ناهره بنظرة ثائرة فيها التمرد الصامت والعتاب الذي يشبه الازدراء، وبين يديه ثمانية وثلاثون عاما قضاها بين جدران ذلك المعهد العتيق، فمثله ليس بالشخص الذي يرهب سطان متسلط، وقد درج تحت بصره في هذا المعهد مئات من رجالات هذا البلد فما أساء إليه أحد بكلمة.
وحببه إلي كذلك حيويته وأدبه وإخلاصه في عمله، وعظيم تأثيره في مرءوسيه وقد علت به السن؛ فما تدور بعينيك في ركن من أركان الدار إلا طالعك منه «عم أحمد» في جلبابه الجيد النظيف، وقد تجعد شعر فوديه الأبيض تحت طربوشه القاتم الطويل الذي يدفعه دائما إلى الخلف قليلا، بحيث تتدلى خيوطه فوق أذنه اليمنى، وكأنما يكسبه هذا الوضع مهابة إلى جانب ما يكسبه منها شعره الأبيض، وطول أعوام خدمته، أو هكذا خيل إلي منظاري ...
ويعجبني منه ذكاؤه وسرعة خاطره وخفة روحه، فهو سريع الفطنة إلى ما يسرك من ألوان الحديث وكيفية الخطاب، فيحدثك وهو ينظر بعينيه اللامعتين إذ تسمع، فإن لمح أثر ارتياحك عى محياك استرسل، وإن آنس فيه كدرة أدار الحديث في لباقة وسرعة حتى يقع على ما تحب.
وأجمل حديثه ما كان عن تاريخ المدرسة وتلاميذها القدماء، فيسمعك أسماءهم كما كانت تسمع في فناء الدار، خالية من ألقاب العزة والسعادة والمعالي وما إليها، وكأنه يريد أن يلقي في روع الطلاب اليوم أن هؤلاء كانوا بالأمس مثل ما هم عليه الآن، وهو إيحاء يحبه الطلاب، ومن يدري فلعل فيهم من يحمل في غد أكبر الألقاب، أو من يستغني بنباهة اسمه عن جميع الألقاب.
على أن أكرم خلال ذلك الرئيس هي وفاؤه لكل من يعمل معهم، وغيرته على سمعة ذلك المعهد الذي يعمل فيه، وإن جميع من عرفوه ليلمسون فيه هذا الوفاء.
وإذا شئت دليلا على وفاء هذا الرجل، فاعلم أنه يرسل كل عام في عيد الميلاد كتابا إلى مستر إليوت بإنجلترة، ومستر إليوت هذا كان ناظرا للمدرسة التوفيقية منذ ربع قرن، وهو لا يملك له اليوم ضرا ولا نفعا؛ ولذلك فوفاؤه لا تعلق به شائبة من تلك الشوائب التي قلما خلا منها «وفاء» في هذه الأيام، وقل في الناس من يوادك إلا لعلة.
ولقد رد عليه مستر إليوت هذا العام بكتاب يخاطبه فيه محاطبة الصديق: أرأيت معي أن «عم أحمد حسين» خيلق بأن يدعى الرئيس، وبأن رياسته خليقة بأن تحب؟ إن كنت في ريب من هذا فأخطر ببالك من تطمئن إلى الاعتراف لهم بالرياسة، وانظر إن كنت تجد فرقا بينه وبينهم، ومرد الأمر فيما تحكم إلى ذمتك، أما أنا فلست أشك في أنه أكرم عندي من كثيرين، وإذا كان هذا الكتاب الذي أشرت إليه دليلا على ديمقراطية الناظر القديم، فإن فيه لك شهادة على أن كبير الخدم أحمد حسين جدير بأن يذكر وبأن يحب.
وإليك نص الكتاب كما عربته بقلمي «للرئيس» عن الأصل الإنجليزي:
من ناظر إلى فراش
عزيزي أحمد حسين:
لك جزيل شكري على كتابك الذي تسلمته الساعة، وما يبعث كتاب في قلبي من دواعي السرور أكثر مما تبعثه كتبك التي تصلني في نظام أول كل عام، وإنه لعجيب بعد تلك الأعوام الطويلة التي مرت منذ أن تعارفنا، وهي الآن خمسة وعشرون أن تظل محتفظا نحوي ونحو أسرتي بذكريات مودة وصداقة، وإن ذلك لدليل على وفائك حقا، ولا أزال أتلو كتبك مرة ومرة في سرور بالغ، ولا ينقصني إلا أن نلتقي كما كنا نفعل في الأيام الماضية فأصافحك، ولكن هذا بالضرورة مستحيل فليس لدي إلا أن أصافحك بكتابي وهذا ما أفعله الآن ... وكذلك أصافح ذلك الشيخ الكبير عزيزي الحاج عبد القادر، وكم تتوق نفسي إلى رؤية ذلك الرجل الطيب العجوز: وأكبر ظني أنه قد علت به السن جدا الآن كما علت بي، ولكن من دواعي الغبطة الشديدة أنه لا يزال حيا، وأنك لا تزال على صلة به ولو أنك لا تراه، وأنك تبلغه رسالاتي التي أبعثها إليه عن طريقك، بلغه أني كثيرا ما أذكره كلما أذكرك، وأذكر جميع الأخيار من الأصدقاء الذين عاشرتهم بالمدرسة التوفيقية في تلك الأيام الطيبة الخالية، ولقد رغبت إلى زوجي أن أقول لك: إنها كذلك لا تزال تذكركم جميعا في عطف ومودة، وإنها جد فرحة بأنك لم تنسها.
وبعد فإني أسرد عليك شيئا عن حال أسرتي كما طلبت، وعلى الأخص حال ولدي، إنها والحمد لله بخير، وإننا في أيام الحرب هذه لنشكر الله على أنهما لا يزالان كذلك، وإنه ليؤسفني أنك كنت غائبا حينما زار أصغر الأخوين المدرسة التوفيقية سائلا عنك وكذلك يشعر هو بالأسف، ولم يكن لديه متسع ليعاود الزيارة كما ذكرت أنت مع أنه رغب في تلك؛ كان جيمس أصغرهما هو الذي زار المدرسة لا وليم، وهو الآن «ليفتنانت كيرنل» في فرقة المدفعية وهو يحارب على رأس رجاله في جبال إيطاليا. ولقد كان وليم على مقربة من القاهرة حديثا إذ كان يصحب مستر ونستون تشرشل أثناء المؤتمر الذي عقد في ديسمبر الماضي في مينا هوس، ولم يكن ليستطيع أن يتغيب طرفة عين عن مكانه قرب الأهرام، وعلى ذلك فلم يتمكن من زيارة المدرسة كما كان يحب أن يفعل، ولقد رقي الآن إلى مرتبة نائب مارشال الطيران، وسيذهب لقيادة قوة الطيران الملكية في جبل طارق وهو عمل شائق يتطلع إليه في شغف، وقد يكون ممكنا أن يطير من جبل طارق يوما ما إلى القاهرة، فإذا تم ذلك فمن المؤكد أنه يحب أن يراك وأنه لذلك سيزور المدرسة، وآمل أن تكون وقتئذ حاضرا، ولكني لا أستطيع طبعا أن أذكر متى يفعل ذلك إن كان ثمة ذلك في طوقة، ولوليم الآن طفلان هما حفيداي الحبيبان: بنت في السادسة وصبي في الرابعة، ولقد قضيا هنا عندنا أسبوعين، وكان جميلا أن نراهما وعلى الأخص ذلك الصبي، فقد ولد في بدء الحرب ولم نره قبل اليوم أبدا، وهو ولد جميل قوي البنية لن يتعب من اللعب؛ ولذلك تراني أتعب قبل أن يتعب هو إذا ما لعبنا معا ولما تنته اللعبة، فإن جسمه الصغير أكبر قوة من جسمي الذي هده الكبر.
ليست زوجي على خير ما أحب لها من العافية، أما أنا فعلى خير ما أرجو إذا ذكرت أني أدلف إلى الثمانين من عمري، فلا زلت أستطيع أن أصعد في تل قريب حيث أطل منه على منظر بهيج، وإن كنت بالضرورة لا أستطيع أن أفعل ذلك في مثل ما كنت عليه سالفا من السرعة، كما أني لا أبلغ من التل ما كنت أبلغه من قبل.
أشكرك ثانيا على كتابك الكريم وما جاء فيه من عبارات طيبة، وأرسل إليك أطيب تمنياتي وتشاركني في ذلك زوجتي، كما نرسل حبنا ومودتنا لكل من لا يزال يذكرنا، وبخاصة أنت والحاج عبد القادر العزيز.
المخلص
ج. إليوت
فتوات ميري!
ما أحسبك أيها القارئ إلا قد اتجه ذهنك إلى ما أريد لأول وهلة، فاستحضرت صورة نفر من شرطتنا الأبطال والعياذ بالله تعالى، وإلا فمن غير هؤلاء يصدق عليهم هذا النعت وهو مصدر وحيه إلي كما يوحي الشيء الرائع بالمعنى الرائع؟
ولست أكتم عنك أيها القارئ أني بهؤلاء الأبطال ضائق أبدا، يغيظني مجرد مرآهم، وأكدر الأصباح عندي صباح يطالعني فيه بطل من هؤلاء قبل أن تقع عيناي على سواه من عباد الله، وإنه والله بعدها ليوم أسود، أظل أسأل الله فيه العافية.
ولست أتبين في نفسي على وجه اليقين ماذا دس فيها الحفيظة على هؤلاء حتى لأطيق كل صنف غيرهم من الأرذال، ولا أكاد أطيق حتى مجرد ذكرهم، ولو تمثلت لي الشياطين وتراقصت حولي بأشكالها وألوانها عن يمين وشمال لأنست إليها، ولألفتها قبل أن أستطيع أن أصبر عل مرأى واحد من هؤلاء «الفتوات الميري».
وأرجع بالذاكرة القهقرى ربع قرن فأراني على سور نادي «سيروس» أتدلى لأهبط في حديقته، وأنا صبي في الرابعة عشرة وفي يدي كتبي جئت بها من المدرسة مضربا؛ لأستمع إلى سعد يخطب بعد أوبته من جبل طارق، وقد حال العساكر عند الباب بيني وبين آلاف غيري من الدخول، فما أدري إلا وعصا شديدة تهوي على وسطي، فأقع على ظهري صارخا وتتناثر كتبي ولا ينقذني من الرعب والهلاك إلا أحد الضباط، وأنسى الألم لفرحتي بالدخول إلى حيث أسمع سعدا ... أيكون مرد بغضي هذه الطائفة إلى ذلك الحادث؟ ولكني بيني وبينه ربع قرن.
وتثب ذاكرتي إلى الأمس القريب فأجدني أتهيأ للنزول من الترام ذات يوم، فإذا بعملاق من هؤلاء يتحمس وهو على السلم في تحية أحد ضباطه، ولكن يده الهابطة عن جبينه تقع في عنف على منظاري، فإذا به يطير عن أنفي، ولولا أنه استقر على ذراع أحد الواقفين على السلم لما وقفت له على أثر، على أنني وجدته قد تحطمت إحدى زجاجتيه، ولا تسل عن مبلغ ما نال أنفي من الألم وما ركبه من ورم بضعة أيام، فهل كان هذا اللعين يثأر لنفسه ولطائفته مقدما من هذا المنظار؟ لست أدري ... وهل يرجع شيء من حفيظتي على هذه الطائفة إلى ذلك الحادث أيضا؟ ولكني ضائق بهم من قبل ذلك ضيقا شديدا ...
ولقد زادني غيظا من هؤلاء وسخطا عليهم مناظر تتابعت منذ أيام بعضها في إثر بعض، كأنما تآمرت بها الظروف على كيدي.
هذا رجل ملقى على الأرض ذات مساء على الطوار أمام الغرفة التجارية يقيء من فوق ومن تحت، وقد أقيم على هذا الطوار ثلاثة من الشرطة غلاظ شداد؛ ليمنعوا السابلة أن تطأ أقدامهم القيء حذر الموت وانتشار الوباء، وكان أحدهم في وسط الطوار، والثاني في طرفه الشرقي والثالث في طرفه الغربي، وكان ما كلفوا به من أمر جد خطير، ولكنهم اجتمعوا ثلاثتهم يتحدثون وظهورهم إلى المريض والسابلة يطئون القيء، ويحملون منه ما يكفي لإبادة القاهرة كلها، ولست أدري أين ذهب وقتذاك الأطباء والمسعفون، وانزعج أحد المارة لتحذير الناس إياه وهو شاب كان يتأبه ويتنبل بمشيته وملابسه، ولكنه وطيء القيء ونظرت فإذا به جن جنونه وراح يشتم هؤلاء ما وسعه الشتم، ثم دخل صيدلية قريبة فطهر حذاءه وعاد يستأنف الشتم ويتم المعركة ... أتظن بعد ذلك يا قارئي العزيز أنهم - أعني هؤلاء العساكر الأماثل - عادوا كل إلى موقفه فلبث فيه؟ كلا والله، فما لبثوا أن تجمعوا ثانية يتحدثون ويضحكون والسابلة يطئون القيء، وهم لا يعلمون مبلغ ما يخوضون من هول، وكان يكتفي أحد الشرطة البواسل بأن يدير وجهه بين حين وحين فيقول لأحد المارة: «ما قلنا يا سيدي ألف مرة: بلاش مرور من هنا .»
ورأيت مرة أخرى عددا من هؤلاء وعلى رءوسهم خوذات الحديد المهيبة، وقد جلسوا على مقاعد جلبوها من أحد المقاهي عند أول شارع قصر العيني في مدخل ميدان الإسماعيلية، وراحوا يمصون وعلى رءوسهم تلك الخوذات عيدان قصب السكر، يا لطيف ... يا دافع البلاء يا رب! هل يرى نزلاؤنا مسخرة في مصر أروح من هذه المسخرة؟
ورأيت مرة ثالثة، فريقا من هؤلاء - والعياذ بالله مما رأيت - كانوا يضربون بعض المتظاهرين بهراواتهم، فهل رأيت «الفتوات» ذات مرة في أحد أحيائنا البلدية يتهيئون لمعركة، ثم يمعنون في الحي كله تحطيما وضربا لا يبالون ماذا يحطمون ولا من يصيبون؟ على هذا النحو انطلق «الفتوات الميري» يضربون كل مار فيصيبون طبيبا أو مهندسا أو شيخا أو أستاذا، وكان آلم ما شاهدت ضربة فظيعة تهوي على ظهر تلميذ في نحو الثانية عشرة، فما يكاد يصرخ المسكين حتى تنحبس صرخته في صدره فلا يستطيع إطلاقها من فرط ألمه، وذقت معه الألم مرتين فقد ذكرت العصا التي «أكلتها» على سور نادي سيروس.
وتشاء المصادفات الأليمة أن أصطبح منذ يومين باثنين من هؤلاء الشجعان ينظران في أقفال الدكاكين، في الصباح الباكر وقد ألفيت نفسي حيالهما فجأة عند منعطف في أحد الشوارع ... يا حفيظ ... قل أعوذ برب الفلق! لقد كان يكفيني من الهم مجرد رؤيتهما، فما بالك أيها القارئ وقد سمعت أحدهما يغني ...! إي والله يغني وفي يديه هراوته قائلا: «أنا من ضيع في الأوهام عمره.» ولست أدري كيف يكون لهذا الحيوان عمر؟ وكيف يضيع في الأوهام عمره وما ضيعه إلا في الجهل والإجرام ...
وبعد فلو أني مضيت أسرد ما يغيظني ويحفظني على هؤلاء لضاق عنه أضعاف هذا المجال، فبحسبي تفكهة للقارئ ودرءا لما قد يكون ناله من سيرة هؤلاء البواسل من ضيق، أن أقص عليهم تلك القصة ... أمر أحد شرطتنا في حفلة من الحفلات منعا للتزاحم أن يدخل الناس، اثنين اثنين، ووقف الشرطي الهمام النبيه، فجاء أحد الباشوات ومشى وحده في غير زحمة، ولكن الشرطي منعه من الدخول فهو لا يدخل حسب الأمر إلا اثنين، وضحك الباشا وعاد فاستصحب سائق سيارته، فما أسرع ما أفسح الجندي لهما الطريق ودخل الباشا يضحك ملء نفسه، ويدق كفا بكف ويقص النكتة على المحتفلين قائلا: «دخلت بنفس هذا السائق.»
وهنيئا لحكومتنا «فتواتها الميري»، فأنا على يقين أنها تتنازل عن متاحفنا جميعا في يسر، ولا تتنازل عن هذا الطراز العجيب النادر من شرطتها الذين يحق أن تباهي بهم العالم، وتبلغ في مباهاتها حد الإعجاز.
صاحب الديوان
إياك أن تظنه «ديوان شعر» فمثل هذا أهون من أن يحفل به إلا من كانوا مثله من ذوي الأحلام والأوهام، في هذه الدنيا التي باتت لا تحفل بالأحلام ولا بذوي الأحلام.
ولعلك فطنت بعد هذا ما أعنيه بهذا اللقب؛ ثم لعلك فهمت لم أسميه «صاحب الديوان»، فما كان لفظ «الموظف» أو «المستخدم» وما يجري مجراهما مما يفي بالغرض في معرض الحديث عن ذلك الذي توافى له من أسباب الجاه والسلطان ما يسمو به على الناس، رضوا بذلك أو لم يرضوا؛ وما أرى نعته بمثل تلك الألقاب المتواضعة إلا ضربا من الخطأ أسبق مجمع اللغة في تلافيه، فأضع له هذا الاسم الجديد، وبودي لو وقعت له على اسم آخر أكثر فخامة وأضخم جرسا وأبلغ رهبة.
ولست أدري وقد وقع منظاري على أنماط وأشكال من أصحاب الديوان من منهم أدير إليه الحديث أولا، فأجعله في طليعة أصحابه فإني لست بمعفيهم جميعا من حديثي، ولو لحقني بعدها من سطوتهم ما أعض أصبع الندم عليه.
أأبدأ بالحديث عن ذلك الشاب الماجن المتظرف الذي لا تساوي الدنيا في نظره شيئا؟ أم أبدأ بصاحبه المتزمت المتبرم الذي يحمل الدنيا كلها على رأسه؟ أم أدعهما إلى ذلك الكهل الذي أخلق برد الشباب على مقعده وهو يلتفت إلى الماضي في حسرة، ويحتمل الحاضر في ملل، وينظر إلى المستقبل في يأس، ولا يني عن احتقار من هم دونه والحقد على من خلفوه وراءهم وكانوا وإياه في صف واحد عند بدء الشوط؟ أم أبدأ من عل غير متهيب ، فأتحدث عن ذلك الذي يخضع له هؤلاء جميعا، ويتملقه أكثرهم وليس فيهم من لا يكره أن يودع كرسيه في أقرب فرصة؟
الحق أني حائر، ولا مخرج لي من هذه الحيرة إلا بأن أعرض عليك صورة لفريق أصحاب الديوان في قاعة من قاعاتهم قد وقفت منهم، بل جلست جلسة المتفرج ساعة.
دخلت تلك القاعة في شأن من الشئون، فوجدت نحو خسمة عشر من هؤلاء ينصتون إلى من يتلو عليهم حديثا وهم على مكاتبهم يرنون إليه حتى إذا فرغ من قصته انطلقوا يضحكون في صخب عظيم، ثم أخذ كل منهم يسابق الآخر في التعقيب عليها بما يسعه من نكتة أو قصة مشابهة، ومضى على ذلك وقت ليس بالقصير، وأنا واقف في ركن عند مدخل القاعة لا أدري من أقصد، ولا أجد من يلتفت إلي كما لو كنت «صاحب ديوان» مثلهم لا حرج علي ولا غرابة في أن أكون معهم في حجرتهم.
وكان قد مضى على بدء العمل أكثر من ساعة، ولكن أغلب المكاتب كان لا يزال خاليا من الأوراق، وبعضها كانت خالية حتى من أصحابها، ونظرت إلى الباب فإذا فريق من الصبية يدخلون وفي أيديهم أصناف «الصينيات»، فهذا يحمل «الفول»، وذلك يقبل «بالطعمية»، وثالث لا يحمل غير القهوة.
وأخذ أصحاب الديوان في تناول طعام فطورهم أو في شرب القهوة، اللهم خلا ثلاثة أو أربعة، راح أحدهم يقرأ في جريدة الصباح وراح الآخر ينظر إلى السقف كأنما كان يفكر في حل معضلة، ولعله كان ينتظر أن يفرغ صاحبه من جريدته ليتناولها بعده، وأخذ الثالث يفتح قمطرات مكتبه ويغلقها ولا يخرج منها شيئا، أما الرابع فقد تناول بعد «الدوسيهات» وصار ينظر فيها واحدا بعد الآخر، ثم فتح أحدها أمامه، وأخذ يصفر بشفتيه لحنا جميلا.
وكنت قد جلست على مقعد خال بجانبي، وليس ما يمنع - وإن لم يكن في يدي عمل - أن أكون أحدهم، ولعلهم ظنوا - إن كان فيهم من عني بأن يظن - أني أنتظر أحد الغائبين بناء على موعد سالف؛ وكان علي في الواقع أن أنتظر، ولكني كنت أنتظر الحاضرين حتى يفرغوا من طعامهم وشرابهم، أو قراءة صحفهم لأستطيع أن أعرف من بينهم من يوجد لديه حل مسألتي.
ودنوت من أحدهم فسألته فسرعان ما أحالني على موظف سماه في «قلم» من الأقلام، ورأيت في وجوه إخوانه كأنهم رأوا في فريسة جديدة لعبثهم، وتبينت فيها ضحكات مكتومة، فقد أحالني على موظف غائب وعلمت أنها حيلتهم في صرف كل قادم أو في «زحلقته» على اصطلاحهم.
صاحب الديوان أيضا
مضيت إلى الديوان للمرة الثانية، وأنا أمني النفس أن أحظى هذه المرة بما لم أحظ به في المرة السالفة من حل لمسألتي؛ ولقد حرصت على أن يكون حضوري إلى الديوان في ساعة بحيث لا يدع مجيئي مجالا للشك في بدء العمل به؛ فكنت هناك في نحو الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام.
ورأيت في إحدى الردهات من توسمت فيه أنه صاحب ديوان، فاتجهت إليه مبتسما محييا، ورجوت منه أن يدلني أين أذهب للسؤال عن كيت وكيت، فأجاب دون أن يقف، وأنا أسرع الخطو لألحق به، كأنما كان في سبيله لتلافي خطر من الأخطار الداهمة: «عند حسني أفندي في الشطب هناك على شمالك وراء السلم.»
وذهبت إلى «الشطب»، فإذا هو قاعة كبيرة، فيها نحو عشرين من أصحاب الديوان، ورأيتهم جميعا لأول نظرة، والحق يقال، منكبين على أوراقهم، فقصدت أقربهم إلى الباب، فحييت وقلت: «حضرتك حسني أفندي؟» فلم يزد على أن أشار بإصبعه إلى من أردت دون أن تنفرج شفتاه ولو برد التحية، ولعله كان في شغل بعملية حسابية معضلة، أو بتدبير حل لمشكلة من مشاكل عمله الخطير.
ونظرت إلى حسني أفندي وأنا أخطو إليه، أحاول أن أتبين شيئا عن خلقه من مظهره، فخانتني فراستي إما لقصر المدة؛ وإما لأني رأيت منظره يدل على ألف معنى فلا يدل من أجل ذلك على معنى! ووقفت أمام مكتبه فحييت في هدوء مبتسما متظرفا أحرص الحرص كله على أن أكون خفيفا ظريفا على نفسه ما وسعني الظرف ... ولكن ظرفي أو قل تظرفي ذهب عبثا ، فإنه لم يرفع رأسه من بين أوراقه ليراه، ولمحت دلائل الغضب على محياه فتهيبت! ولكني استعنت ثانية بابتسامة عريضة أطرح بها ثقلي، وألبس ما استطعت من الظرف، وكررت التحية فرفع رأسه هذه المرة ونظر إلي قائلا: «أهلا وسهلا يا فندم.» ثم عاد إلى أوراقه كأني ما جئت إلا لأتبادل وإياه عبارة التحية على هذه الصورة الجميلة، ثم أنصرف!
وانتظرت برهة، وهو ينقل عينيه من هذا الدفتر إلى ذاك، ويكتب هنا كلمة وهنا سطرين، دون أن يخطر على باله أن هناك أحدا يريد التحدث إليه، ولعله قد تعود ذلك فما يأبه لمن يقف أمام مكتبه، ولو ظل هناك إلى موعد الانصراف.
وطال انتظاري حتى أوشك أن ينفد صبري، والمرء على أي حال لا يطيق مهما بلغ من حلمه ألا يأبه به الناس في غير داع إلى ذلك ... على أني عدت فتلطفت، وإن كرهت من نفسي هذا التلطف الذي أخذ يسمج كسماجة ذلك الذي لا يريد أن يلتفت إلي، وناديته باسمه في صوت مسموع، ونفسي تحدثني أنه قد يكون بانكبابه هذا على العمل من ذوي النشاط فعسى أن أفيد من نشاطه في إنجاز ما جئت له.
وأخيرا بدا له أن يستجيب إلي؛ فقال في كثير من التؤدة وعدم المبالاة: «نعم يا أفندي.» فأخذت أشرح له أمري، ولكنه ظهر كمن لا يعي مما أقول حرفا وبدا في وجهه التململ والامتعاض ثم مد يده إلى أوراق كنت أعددتها في يدي، فنظر فيها نظرة ثم قال: «لا، دا هناك في المستخدمين عند عزت أفندي.» وعاد بعدها قبل أن أدير ظهري إلى ما كان فيه من جسيمات المشاكل، كان الله في عونه.
وانطلقت أبحث في «المستخدمين» عن عزت أفندي هذا لأخبره بما قال حسني أفندي الذي في «الشطب»، فكان حالي معه كما كان من سلفه: تشاغل عني وصلف في الرد علي، وما كان جوابه سوى أن قال هو أيضا: «يا فندم موضوعك ده في الحسابات عند مراد أفندي.» وخرجت من لدنه أسأل نفسي أأخرج من الديوان إلى غير عودة، فقد آلمني ما ألاقيه وليس في مسلكي ولا في مظهري ما يستأهل هذه المعاملة، أم أعتصم بالصبر فأحظى بالمثول بين يدي مراد أفندي أيضا؟ وملت بعد تردد إلى الرأي الثاني، ولكن مراد أفندي أكد لي أن مسألتي عند حسني أفندي في الشطب، وإلا فهو لا يعرف في الديوان شيئا.
ولعله كان بين مراد وحسني ما جعل أولهما ينهض ليذهب معي إلى الثاني، وعدت إلى حسني أفندي في الشطب، وبين يدي هذه المرة صاحب ديوان مثله، وبعد نظرات كريهة رماني بها حسني وبعد مشادة ليست بالهينة بين صاحبي الديوان، تبين أن المسألة عند هذا الذي أحالني من أول الأمر على غيره! ولكنه لم ينظر فيها بل استمهلني إلى غد، ولم يسمعني، وقد رأيت ما رأيت إلا أن أخرج وأمري لله!
ولعله في غد يحيلني على أحد الغائبين من أصحاب الديوان، فقد ثبت لدي أن هؤلاء يعرفون الغائب من إخوانهم في أية حجرة، فيحيلون كل قادم عليه، وبهذا يفرغون لحل معضلاتهم الجسيمة كان الله معهم وجزاهم عن عباده الحائرين أحسن الجزاء.
صاحب الديوان الظريف
أما إنه ظريف حقا فذلك ما يتبين من هذا الحديث الذي أسوقه عنه، ولكم تمنيت لو كان أصحاب الديوان جميعا على شاكلة هذا الشاب الذي ساقتني الظروف السعيدة إليه ...
ولن يتسع المجال إذا أردت أن ألم بنواحي ظرفه جميعها؛ ولذلك فحسبي أن أقصر الحديث على آخر لقاء كان بيني وبينه.
دخلت حجرة عمله فما رآني مقبلا عليه حتى خف للقائي ضاحكا مرحبا يمد لمصافحتي يمناه، ويقدم إلي كرسيا بيسراه على صورة لفتت أنظار الكثيرين ممن حوله من أصحاب الديوان، وأمثال هؤلاء لن يلفت أنظارهم الرصينة المنكبة على حل المعضلات إلا أمر غير مألوف.
وجلست ترمقني العيون برهة وحرت أول الأمر كيف أبدأ الكلام وما جئت زائرا، ولا أنا بصديق لهذا الذي أسرني ظرفه، وما كانت معرفتي به إلا من كثرة ترددي عليه من أمر لي عنده.
وبدأ هو الكلام فقال: «قهوة ولا قرفة ولا شاي يا سعادة البيه؟» واعتذرت شاكرا فما زاده اعتذاري إلا إلحاحا، بل وتوسلا أن أتنازل فآخذ شيئا مما ذكر، ولست أدري ماذا كان بلغ من قوة إلحاحه، بل قوة تراجعه لو تبين على وجهي أمارة القبول، على أني - والحق يقال - لم أر في وجهه إلا أنه جاد، وإلا فبما يفسر هذا التوسل الذي ما فتر والذي لم ينته في الوقت نفسه آخر الأمر إلى شيء؟
وابتسمت وتواضعت وتصنعت الحياء وقلت في رفق يتناسب مع ما لقيت من ظرف: «لعلك انتهيت من مسألتي.» فقال: «أيوه يا فندم قربنا ... حالا إن شاء الله، الحكاية كثرة عمل والمدير كل ساعة يطلبنا، وكل عام وأنت بخير إجازة المولد ... على كل حال كن مطمئنا إحنا محاسيب يا فندم ...»
وجاء أحد السعاة فاستدعاه لمقابلة المدير، فنظر إلي كأنما يقول هكذا لا يني المدير عن طلبه، وأخذ في يده مجموعة من الأوراق كان ينظر إليها في اهتمام، واستأذنني وهو يرجو أن يعود فلا يجدني.
وجلست أنا متعجبا حائرا كيف يكون هذا الذي أرجو منه حل مسألتي محسوبا لي، وهو لا يعرفني كما ذكرت إلا من ترددي عليه؟ وتنازعني الضحك والغضب، فأما الضحك فمن هذه الحركات «البهلوانية» المحكمة؛ وأما الغضب فلأنه يظن أني لست أفهم أنه يسخر مني، دع عنك إهمال أمري الذي استمهلني آخر مرة جئته فيها من أجله ثلاثة أيام، فما عدت إليه منذ ذلك اليوم إلا بعد ثلاثة أسابيع، ومع ذلك يقول: «قربنا» والمسألة في غير مبالغة لا تستغرق منه أكثر من ربع الساعة!
وعاد فوجدني لا أزال في موضعي، فتلاقى في وجه التجهم والابتسام في وقت واحد، وهو من كثرة مرانه يعرف كيف يبتسم بأحد صدغيه، ويتجهم بالصدغ الآخر ... ثم غلبت ابتسامته تجهمه في أسرع من ارتداد الطرف، ونظر إلى من ابتسم إليه من أصحاب الديوان ابتسامة فهمت منها أنهم يضحكون منه؛ لأنه لم يستطع أن يصرفني أو يضحكون من أني على الرغم من ألاعيبه بقيت ثابتا لا أتحول.
وجاء شخص غيري رقيق الحال يلبس جلبابا عليه معطف يسأله هو أيضا عن مسألته، فقال في نفس ظرفه وأدبه: «حاضر يا عم - إن شاء الله - تجينا بعد يومين تكون مبسوط.» ولما شكا الرجل وغضب قال له باسما: «حلمك يا بويا إن الله مع الصابرين قلت لك: إن شاء الله تكون مسرور.» ولما أدار الرجل ظهره لينصرف نظرت إلى صاحب الديوان، فإذا به يخرج له لسانه، وابتسم ابتسامة عريضة وضحك من رآه من أصحاب الديوان، وكثيرا ما أضحكهم بمثل هذه الأمور كما قرأت ذلك على وجوههم.
واتجه إلي قائلا: «شرفت يا بيه.» وفهمت معناها فليست إلا مطالبة بالجلاء، وهممت أن أنصرف، وقد تأكد لي ما سبق أن عرفته من أن الأوراق عند أصحاب الدواوين قسمان، قسم يعلم به المدير أو الرئيس، وهذا هو الذي ينجز ويعد، وقسم لا علم للرئيس به، وهذا لا يتناوله أصحاب الديوان، ولو بمجرد القراءة، وعلى مصالح الناس ألف سلام!
وسلمت فنهض يصافحني في ظرفه ولباقته، وهو يقول: «ما تأخذناش يا بيه، والله الواحد خجلان ... حالا إن شاء الله.» ومضيت ولكني التفت عند الباب أنظر إليه، فلست أدري لم ألقي في روعي أنه ظل يخرج لي لسانه منذ ودعته.
صاحب الديوان المجد
مجد في عمله، لا يعرف في جده هوادة؛ فإذا رأيته يقرأ جريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات، فمن أعظم التجني عليه أن تحمل عمله على أنه مضيعة للوقت في غير جدوى، فما هو إلا استجمام لا بد منه لمن يعاني مثل عنائه المتصل؛ وإذا رأيته يبدأ عمله عند العاشرة أو في منتصف الحادية عشرة، فاعلم أن ذلك من أثر إجهاده نفسه وتحامله على أعصابه في اليوم السالف، لا شيء غير ذلك، وإذا رأيته يتزاور عن مكتبه، فيحرق دخينة في أثر دخينة، أو يرتشف القهوة في هدوء وسكون، ويقضي في ذلك ساعة أو بعض ساعة، فترفق بهذا الجسم الذي أنهكه الجهد، ولا تأثم فتظن بصاحبه الظنون.
وصاحب الديوان هذا لا يطيق أن يرى وجوه الناس، فإذا أبصر أحدهم مقبلا، أحس كأنما يقبل عليه مكروه من مكاره الزمن، فيلقاه متأففا، متبرما، وإنه ليتمتم حين يراه بألفاظ لا أدري أيسوقها ضد القادم الكريم، أم ضد المزمن اللئيم الذي وضعه حيث يستقبل هؤلاء، الذين يصرفونه عما هو فيه من جد لا يعرف معه هوادة؟!
دخلت عليه ذات يوم قبيل العاشرة، فرأيته لسوء حظي أو لحسن حظي - لست أدري أيهما الصواب - يترك مكتبه ليغادر الحجرة إلى حيث لا أعلم من الحجرات أو من الجهات، فحاولت أن أستوقفه مترفقا، فاستمهلني دقيقة واحدة وهو عابس، ثم ازور عني في حركة سريعة خيل إلي معها أنه يخشى أن أرجعه بالقوة إلى مكتبه.
ولبثت أنتظره في مقعد تفضل به علي أحد زملائه، مرت اللحظات ثقالا طوالا ولم يعد، حتى إذا يئست من رجوعه وهممت بالانصراف رأيته مقبلا، وجاء وفتح بعض أدراج مكتبه وأغلقها، ولكنه لم يأخذ منها شيئا ولا وضع شيئا، وفعل ذلك دون أن يجود بنظرة علي أو أن يخطر بباله أن أحدا من عباد الله ينتظره لأمر متصل بعمله ولن يؤديه سواه.
واعترضت طريقه إذ رأيته يتأهب للخروج مرة ثانية، وما التقت أعيننا وانفرجت شفتاي في ابتسامة هادئة عن قولي: من فضلك ... حتى أشاح بوجهه عني مقطبا قائلا في تبرم وضيق: «عن إذنك يا أفندم.» ومضى وإنه لضائق بثقلي وثباتي في موضعي، وخيل إلي بل لقد أيقنت أنه عقد النية على ألا يكلمني ما دمت هناك، كأنه لا مفاوضة عنده هو أيضا إلا بعد الجلاء!
وصممت من جانبي ألا أنصرف أو يكلمني، وإن أخذتني الحيرة كيف أحمله ولو على أن يلتف إلي فضلا عن أن يحادثني، ولقد كنت أرجح عودته إلا إذا غادر الديوان إلى داره، وترك طربوشه حيث كان على مكتبه يحدث كل سائل عنه أنه هنا وأنه قادم بعد دقيقة، وإن تتابعت في غيابه الدقائق بل والساعات!
وجاء أخيرا فاستوى على كرسيه وفتح دفترا كبيرا، وراح ينظر فيه وعلى وجهه أمارات الجد وأمارات تجاهله وجودي في وقت واحد، ثم قطع عليه جده المصمم زميل له فأخبره بأن فلانا من الرؤساء استفهم عنه، فأجاب متكلفا عدم المبالاة، أنه ما كان يلعب وأنه هلك من الجري هنا وهناك في الأرشيف والمستخدمين وتحت وفوق باحثا عن أوراق تتصل بما في يده من المسائل.
وظللت ساكتا لحظة، فأقبل شخص بادي الوجاهة، يطأ أرض الحجرة في صلف وينظر نظرة ذي جاه، وفرحت إذ رأيته يتجه إلى صاحب الديوان المجد، فيسأله في لهجة الآمر عن مسألة طال به انتظار الإجابة عنها؛ وتجهم له صاحب الديوان ولم يأبه، ولما تهدده الرجل أن يرفع الأمر إلى رئيسه، انطلق صاحب الديوان مزمجرا، ونهض واقفا يخبط المكتب بقبضة يده عدة مرات حتى لقد أشفق ذلك الرجل أن تمتد واحدة منها إلى صدره أو إلى بطنه فتراجع قليلا، وقد تطايرت الأقلام من مكانها، وسال المداد من المحابر، وتناثرت الأوراق، وزلزت الدفاتر وخشعت الأصوات في جوانب الحجرة، والتفت أصحاب الديوان يتفرجون على عاصفة جديدة كم رأوا قبلها من عواصف؛ وانطلق لسان المجد الثائر بعباراته المألوفة «يافندي أنت بتهددني؟ من فضلك ما تعطلنيش يافندي ... أما شيء غريب والله، روح اشتكي زي ما أنت عاوز ... هو أنا فراش عندك؟ الواحد طول النهار هلكان من العمل وجاي حضرت تفلقنا؟»
ولم يكن لي بعد هذا الذي رأيته إلا الجلاء بلا قيد ولا شرط، ولقد أصابني من دوار العاصفة ما زعزع إيماني بقوتي، ولم لا أقرر الحق فأقول: إني منذ رأيت أهاويل الشر في وجه صاحب الديوان هذا قد رضيت من الغنيمة بالإياب؟
وأرجو ألا يظلمه القارئ فيرميه بالإهمال وأكل العيش من طريق غير حلال، فما هو إلا مجد أحسن ما يكون الجد، وإن كنت أيها القارئ في ريب مما أقول فابحث عن رئيسه، فلعلك تجده قد طلب ترقيته مكافأة على جده.
صاحب الديوان المتمرد
لست أدري أثورة روحه أعظم من ذكاء عقله، أم أن ذكاء عقله أرجح من ثورة روحه؟ فهو إن أردت فيه كلمة الحق ذكي ملتمع الذكاء، ثائر ملتهب الثورة، وهو فتى في ربيع الحياة لم يعد فيما أظن الثالثة والعشرين من عمره.
رأيته أول ما رأيته هادئا كالطفل الذي يحلم أحلام نفسه الغريرة، ولكني لم ألبث أن وقعت منه على ثائر تأكل ثورته أعصابه، وتحرق دمه في غير هوادة ولا إبطاء، على أنني رأيت من عذوبة روحه مع ذلك ما جعلني أعجب كيف يجتمع مثل هذا التمرد الصاخب، ومثل هذا الظرف الفكه في نفس واحدة، وإن أسارير وجهه لتتشكل بما يجري في نفسه، فتكون صفحة محياه كسماء أمشير لا تصفو حتى تتجهم، ولا تتجهم حتى تنقشع من رقعتها الغيوم، دنوت منه ألتمس حل مسألة عنده، وما أكثر ما تدفعني المسائل دفعا إلى أصحاب الديوان، وما يثقل شيء على نفسي مثل أن ألتمس معروفا عند صاحب ديوان كبيرا كان أو صغيرا، صديقا كان أو كان لا يربطني به سبب من معرفة، وأنا وإن كتبت عن أصحاب الديوان وأنا مطمئن في حجرتي ولدي مكتبي، ليركبني الخوف ويتملكني الحياء وتأخذني الربكة من جميع أقطاري كلما دخلت حجرة أحدهم لأحادثه في أمر جل أو هان، حتى ولو كان لتحية، وسبب ذلك لا يزال مجهولا عندي، ولن يزداد على الأيام إلا غموضا وخفاء!
وأقبل علي صاحب الديوان هاشا مرحبا، وترك أوراقه كلها جانبا، وأخذ يستمع إلي، ولم أكد أستعيد توازني أو أسترد مواقف دفاعي كما يقول المتحدثون عن الحرب في هذه الأيام، حتى قطع علي الكلام ومال بالحديث عن مجراه ودفعه في شئون كثيرة لا علاقة لها ألبتة بما جئت من أجله، وأخذ يتحدث ثم يتحدث، وكل حديثه شكوى، وهو لا يكاد يقع على أمر حتى يطير عنه إلى غيره - لا يعني متى يطير ولا أين يقع - فللمحسوبية نصيب من حملاته، ولعدم إخلاص الناس في أعمالهم بعض سهام لومه، وللحرب القائمة والمسئولين عنها جانب من غضبه، ولفوضى الأخلاق قدر كبير من صخبه، ولتقلب الجو قسط من تهكمه تجلت فيه براعة مقارنته بين أخلاقنا وطبيعة جونا، وللفن والأدب والتعليم وغيرها من الأمور مما لا يسعني حصره، كثير من غمزاته والتفاتات ذهنه ... كل أولئك وأنا مصغ أسلم على طول الخط بكل ما يقول، لا أخالفه ولا أراجعه عله يفرغ فألتمس السبيل إلى موضوعي من جديد، ولكن ثورته كانت كالسيل الجارف لا يلوي على شيء، وكان يدخل أثناء الحديث كثير من الخدم، فيقدمون إليه أوراقا، فيأخذها ويضعها على غيرها من الأضابير دون أن ينظر فيها، فإذا أشار أحدهم إلى أن فيها ما تستعجل الإجابة عنه صرفه بقوله: «قل له حالا ... دقيقة واحدة.» ثم عاد إلى حديثه، فجرى فيه على غير تحبس أو ملل.
وجاء بعض زملائه يستعجلونه أوراقا، وكان يلتف بعضهم إلي قائلا: «لا مؤاخذة يا بيه.» كأنما كنت أنا سبب ما يشكون من عطلة، وهو منصرف عنهم بحديثه لا يزيد على أن يستمهل من يستعجله منهم دقيقة، ثم يستأنف حديثه وهو أنشط وأهدأ بالا مما كان، وانتهزت فرصة فعبرت له عن اعتذاري، وقد غالطت نفسي ونسبت إلي أنا السبب في ضياع هذا الوقت كله، وفهم صاحب الديوان إشارتي، فابتسم وقال: «لا ... العفو يا أخي، لازم كلامي لم يتشرف برضاك.» ونفيت ذلك بكل ما أملك من معاني التأكيد، ومضيت أثني على حديثه بكل ما وسعني من عبارات الثناء، فاطمأن قليلا، وسكت هنيهة ثم قال: «إنت عاوز الحق؟ الواحد أهو بيشتغل على قدر القرشين بتوعهم.» ولم أستطع أن أرد على ذلك القول الذي يتضمن السكوت عليه نوعا من الاشتراك في الأخذ بما يدعو إليه، وما كان سكوتي إلا لأعود إلى موضوعي، وقد عقدت العزم على أن أعود إليه بأي ثمن.
وبلغت ثورته أقصاها إذ تداعت إليه من هذا الكلام قصة الأقدمية، فراح يشكو في ألم واضطراب من أن الترقي بالأقدمية معناه أن يتساوى المجد والمتكاسل والذكي والغبي والكفء والعاجز، فالمسألة مسألة زمن فحسب، ومتى مرت الأيام صار الموظف بحكم الزمن وحده كفؤا مهما كان من عجزه وتقصيره فما معنى أن يجهد المرء نفسه إلا أن يكون «عبيطا»، وهو لا يدري «عبطه»؟ وضرب المثل بنفسه: فهو يحمل شهادة عالية ورئيسه من حملة الابتدائية، وضحك صاحب الديوان وقال : «أبدأ جحشا ثم يمر الزمن فأصبح حمارا، وعند ذلك أصير أهلا للرقي ... وعلى هذا القياس كم من حمار في هذا الديوان!
وتكلم في هذا الأمر وحده ضعف كلامه منذ أن دخلت عليه!
وكان موعد انصراف أصحاب الديوان قد حان، فنهض ومد إلي يده ضاحكا وهو يعبر عن أسفه؛ لأن الوقت لم يتسع لموضوعي، ويدعوني إلى الحضور مرة أخرى.
ولست أدري أي قصة يريد أن يقصها علي في المرة الأخرى، وأي مسألة ستكون موضع شكواه وما ترك مسألة إلا شكا منها ... ولكن هل أعود إليه مرة أخرى؟
في حجرة صاحب ديوان ...!
استأذنت فسرعان ما أذن لي بالدخول عليه، ولقيني بترحاب وبشاشة يعرفهما فيه كل من دخل حجرته، وقل في أصحاب الديوان من كان له مثل أريحيته ونبله على رفعة منصبه وسعة نفوذه، فإن أكثرهم - وا أسفاه - لتسفل نفوسهم بارتفاع مناصبهم، وإنهم ليتأبهون على الناس، ويتكرهون لهم حتى لكأنهم يحيون ويميتون ... وليس لهم في الواقع من الأمر شيء ...
وإنه لينزلني منه منزلة الصديق وأنا تلميذه، ويرفع مكانتي عنده، ويحب «منظاري» ولا يفتأ يحدثني عنه.
ومن أعظم ما حببه إلي على كثرة ما أحببت من صفاته، أنه يستمع في أناة عجيبة إلى كل شاك، لا يتبرم ولا يقاطع ولا ينفد صبره، ثم يقول ما له وما عليه، لا يلتوي ولا يغالط ولا يتحفظ.
كان على مقعد قريب من مكتبه وكيله في العمل، وهو يكبر رئيسه فيما أعلم بنحو سبعة أعوام، ويسبقه في التخرج بمثل هذه السنوات، ولم يخف على منظاري أن بنفسه من ذلك شيئا بل أشياء ...
واستبقاني الرئيس بعد أن أفضيت إليه بما جئت من أجله، ودخل شاب بعد أن أذن له فسلم وظل واقفا، وقرأت في وجهه أنه يكتم غضبه، وأذن لقادم آخر فدخل وهو كهل في أول الكهولة فيما قدرت، وأشار إليه الرئيس فجلس على مقعد ينتظر دوره في الكلام ... ولمحت كذلك في وجهه أنه يمتلئ حفيظة وغضبا ...
وقال الرئيس للشاب: أظن أنه ينبغي أن تسافر، فإن فلانا بك مصر على ألا يقبلك بعد اليوم عنده؛ ومشت في هيكل الشاب رعدة وقال في عبارة مضطربة وفي لهجة تصور مرارة نفسه: معنى ذلك أن الموظف بهيم لا إرادة ولا رأي ولا كرامة له؟ ... لم لا يفهم فلان بك أنه أخطأ حتى لا يعود ثانية إلى الخطأ، وإلا فما وجه خطئي أنا كيلا أقع فيه من بعد؟ ينبغي إذا أن أصانع كل رئيس على حساب الحق والكرامة والصالح العام ... لا ... لا ... هذا كثير ...
وظلت في وجه الرئيس بشاشته على الرغم مما كان يرتسم على محياه من علامات الألم لما يقول الشاب، وقبل أن يتكلم الرئيس، انطلق ذلك الكهل الذي كان ينتظر دوره، وقد نهض كالخطيب فقال يخاطب الشاب: اسمح لي أن أنصح لك نصيحة مجرب: طلق الكرامة والذمة والحق والأمانة ما دمت قبلت الوظيفة، كرامة؟ رأي؟ إرادة؟ إنك يا بني تحلم ... أنت في مصر. إنك تكلف نفسك رهقا شديدا إذا تمسكت منذ الآن برأيك، وحكمت ضميرك وأرضيت خلقك ... أنت يا بني عبد ... لا تغضب فأنا عبد مثلك ... وكل موظف عبد من أكبر كبير إلى أصغر صغير وإنما يستعبد بعضنا بعضا. كرامة؟ رأي؟ ضمير؟ ... أنت فين؟ ... المسألة أكل عيش بأي شكل، وكل واحد لا يهمه إلا نفسه ... الصالح العام؟ أين هو؟ ... إحنا فين؟ ... داحنا في مصر ...
وظل صاحب الديوان على هدوئه وبشاشته، وجلس الخطيب الكهل بعد كلام طويل من هذا القبيل؛ وأخرج الشاب ورقة من جيبه فدفعها إلى الرئيس، فإذا هي استقالته، وراجعه الرئيس متلطفا ثم استمهله يومين لينظر في الأمر؛ وخرج الشاب، والتفت إلى الكهل فإذا قضيته هي قضية ذلك الشاب ولكنه كما قال: لا يستقيل؛ لأن له بنين وبنات ينفق على تعليمهم وليس يملك غير مرتبه. ووعد الرئيس كذلك أن ينظر في أمره من أجل أولاده، فانصرف وهو يقول: حسبي الله ...
ونظر إلى الرئيس وقال باسما: كأني أراك تكتب «منظارك»؛ وما كاد يلتفت حتى طلب الإذن مستأذن فأدخل، فإذا بشاب في نحو الخامسة والثلاثين دمث مهذب فيما يبدو، في وجهه من الهم والكدرة أكثر مما فيه من غضب، وسلم وقال: أنا فلان، وسرد تاريخ حياته، ثم ذكر أن فلانا من فرقته رقي وهو ثاني الفرقة، وأنه هو لم يرق وهو الأول، ويحب أن يعلم لم تخطاه الثاني، فإن كانت له عيوب فمما يشفي نفسه أن يعرفها، أما أن يقال له: إنك «ممتاز» وأما أن يثني عليه رؤساؤه جميعا ثم يترك، ويرقى من هو دونه فذلك ما لا يستطيع أن يسيغه ولا أن يحمل على قبوله عقله، وهو ما لا تطيقه كرامته ...
وعند ذلك انطلق الوكيل الذي ظل صامتا منذ أن دخلت، فأخذ دور ذلك الكهل الخطيب، وقال في اتزان ولكن في كثير من التحمس: اسمع يا أستاذ ألا زلت من السذاجة، لا تؤاخذني ... ألا زلت من الطيبة بحيث تفهم أن الأمر أمر كفاية واستحقاق ...؟! ابحث تجد صاحبك تزوج حديثا فترقى، أو جرى في ركاب عظيم فنال الأجر، أو هو قريب فلان باشا أو علان بك، أو غير ذلك مما أستحي أن أذكره، فإن استطعت أن تفعل مثله أو يكون لك مثل ظروفه فستظفر بالرقي، وإلا فستبقى حيث أنت إلى أن يشاء الله، أنت في مصر على رأي صاحبنا الذي خرج ... أنت في مصر يا بني ... انظر فهأنذا بيني وبين الستين أربعة أعوام، وقد تخطاني من لا أحسبهم جاهدوا في الحياة جهادي، وخدموا البلد خدمتي ... ثم ضحك ضحكة مرة ونظرت فإذا في وجه الرئيس شيء من الحرج، وفي عينيه ما لا يخفى معناه من اختلاج، وفطن الوكيل فتدارك الأمر قائلا ... لا مؤاخذة يا بك فأنت ذو فضل وما عنيتك بما أقول ... معاذ الله، ثم ضحك ضحكة أخرى لم أدر أقصد بها التبسط، أم قصد إظهار ما في نفسه من غضاضة ...
وقال الرئيس لهذا الأستاذ: اترك لي مذكرة فسأنظر في أمرك، وقال الأستاذ وهو يهم بالانصراف: إني سأقبل على عملي غير متأثر بشيء وإن كان الألم ملء نفسي، ولكني أخشى أن يأتي الوقت الذي أصبح فيه كالحصان تدفعه العربة إن لم يجرها ... وضحك الوكيل قائلا: ... لست أول عبيط ولن تكون الأخير ... أتظن أن في الرؤساء واحدا يعنى بأن يفكر في هذا؟ حسبه التفكير في نفسه!
ونظر الرئيس إلي ضاحكا وقال: وأنت ما شكواك؟ فقلت: إني أستكبر أن أشكو ... قال: هل تكتب هذا الذي رأيت وسمعت؟ قلت: لست أصبر إلا بجهد حتى أكتبه.
وقال الوكيل: وما جدوى كتابتك؟ يظهر أنك عبيط آخر ...
لا تؤاخذني ... اكتب ما شئت إنك لا تسمع من في القبور ... أتحسب هذه أمورا مجهولة تكشف عنها بما تكتب فتنبه ذا غفلة؟ كلا إن ذلك كله معلوم، وقد شاع الفساد حتى شمل الدولاب كله فماذا تقول؟ وماذا تريد بكتابتك ... أأنت صاحب معجزة؟ والله لو جاءتك معجزة ما استطعت أن تغير ما نحن فيه ... يا شيخ الله يفتح عليك ... أنت في مصر ... ها ... ها ... ها ... غير الجيل كله وابدأ من جديد!
وتنهد الرئيس وقال: لا أخفي عنكما وأحدكما زميلي والآخر تلميذي، أني كرهت العمل وأني أتمنى لو استطعت أن أفعل فعل ذلك الشاب الذي دفع إلي استقالته ... أتدرون ماذا يقول؟ يقول إنه يريد أن يهاجر إلى الأرجنتين لينسى أنه مصري! ... إني أريد أن أعمل شيئا فلا أستطيع.
لقد فسد الدولاب من فوق فنزل الفساد إلى كل جزء ... هأنذا أسمع الشكايات طول يومي، ثم أرفع الأمر إلى من هم فوقي فلا أظفر بشيء، وأحمل الأوراق المكدسة إلى منزلي، فأسهر الليل في تصريفها وعملي لا يعدو أن يكون في الغالب تنفيذ ما أومر به.
الفارس الجديد
له أريحية الفارس ونزعاته وإن لم يكن له جواده ولا درعه؛ ولا تنس يا قارئي أن الدفاع عن الضعيف وإغاثة اللهيف، ومحاربة الرذيلة، وكف عدوان المعتدين ودفعهم عن الناس، كانت كلها في عصور الفروسية صفات لا يكون الفتى فارسا إذا هو لم يجعلها في مقدمة ما يتحلى به.
وصاحبنا الذي شاءت الظروف أن يكون أول من يستوقف منظاري، وقد وضعته على أنفي بعد أن تركته زمنا حتى كاد يأكله الصدأ، فارس لا يتكلف ولا يقلد، وإنما تجري الفروسية في نفسه مجرى الدم في عروقه، ولو قد سلف به الزمن وعاش في عهد الفروسية ورزق بسطة في جسمه، لكان في الفرسان واحدهم المعلم وكميهم الذي تعنو لرمحه الرماح.
لقيته في بلد كنا غريبين فيه إن جاز أن يكون المصري غريبا في بلد من بلدان مصر، ولست أدري لماذا أحسست لأول وهلة أني وقعت منه على أحد هؤلاء، الذين ينجذب إليهم منظاري حتى ما يريد أن يتحول عنهم.
هو فتى في نحو الثلاثين من عمره، صغير الجرم نحيف الجسم، لا يلبس فوق رأسه شيئا، أو على الأصح لم يكن فوق رأسه غطاء ساعة رأيته، أما ملابسه فهي إنجليزية المظهر والسمت واللون؛ تتألف من سروال واسع رمادي فوقه حلة بظهرها حزام، ولونها مزيج من الأزرق والأخضر، ويتدلى من فوق كتفه اليسرى شريط من الجلد، يمر طرف منه بصدره والآخر بظهره، ويلتقيان تحت ذراعه اليمنى فينتهيان بآلة للتصوير في كيس من الجلد نظيف، فيخيل لمن يراه بعد أن يتبين فروسيته، كأنه يريد أن يصور بتلك الآلة ما يرى من عيوب المجتمع؛ ليجعل منها مادة لدرسه، أو على الأقل كان هذا خيالي.
وهو إذ يتكلم تراه يغمض عينه اليمنى ويفتحها، كأنما يتكلم بعينه وفمه معا، وتراه يصعر خده ولكنك لا ترى فيه أثر الكبرياء، وتسمع له نبرة هادئة، إذا أنت أضفت إليها حركة عينه ونحافة عنقه وسعة جبهته، ودقة ذقنه ونتوء وجنتيه، وذبول محياه، خيل إليك أنه شيخ يدلف إلى الستين.
وفارسنا هذا ظريف الحديث، له مقدرة عجيبة على تناول كل شيء مما يدور في المجلس، وله كذلك مقدرة عظيمة على خلق الألفة بينه وبين من يحيطون به، فتراه ولم يرهم إلا منذ دقائق، وكأنه يعرفهم منذ سنين، وهو طيب القلب يكاد يصل في ذلك إلى السذاجة، ولعل طيبة قلبه هي التي مكنته من عقد أواصر الألفة بينه وبين الناس، ثم إن فيه شيئا آخر لا أدري ما هو، يجعلني لا أتمالك نفسي من الضحك لكل ما يبدر منه من إشارة أو حديث، والحق أنه في مجموع شكله يدعو إلى نوع من الضحك، سمه ما شئت إلا أن تربطه بالسخرية بسبب من الأسباب.
ضمتني وإياه حلقة من الرفاق في مقهى، فسرعان ما ظهرت لنا ناحية من فروسيته، فلقد كان أحدنا يتلو صحيفة ونحن نستمع فجاء أحد الباعة وصرخ في حلقتنا صرخة وهو يعلن عما معه، فوثب إليه الفارس وعنفه في لهجة عجبت معها كيف صبر عليها ذلك البائع، وقد كان من الطول والعرض بحيث لو لطم صاحبنا لطمة ما استطعنا أن نقفه من التدحرج مجتمعين؛ وراح الفارس يسمعه درسا في الأدب، وكيف أنه يكون بغيضا بصوته الغليظ، فضلا عن قلة ذوقه، إذ هو يرى الجالسين منصتين إلى من يقرأ لهم، ثم يصرخ فيهم مثل هذه الصرخة المفزعة.
وانصرف الرجل وهو يبتسم، ولكنه لم يكد يبتعد حتى جاء ماسح الأحذية، فما انفك يدق صندوقه بممسحته دقا مزعجا وهو يردد في صوت أشد إزعاجا قوله: «بويه»، «ورنيش»، وشاء له سوء حظه أن يقف أمام الفارس، وينظر إلى حذائه ويدق له الصندوق، وإذ ذاك هب الفارس مغضبا وراح يرجه من كتفه ويقول له: لست بالأصم ولست أنت بالأعمى، وإذا كنت ترى حذائي أنظف من وجهك، ففيم هذا الزعيق البغيض؟ ومضى الرجل وهو يتمتم، ولست أدري مم خاف، ولعله ظن أن جرأة الفارس هذه على نحافته مردها إلى أن ما يحمل تحت إبطه شيء آخر غير آلة التصوير.
ومضى الفارس على هذا النحو يزجر باعة الصحف، وباعة اللب وباعة اليانصيب، إلى أن رأيناه يقفز إلى جماعة من أهل الريف على مقربة من حلقتنا، ولم نتبين أول الأمر ماذا ارتكبوا من ذنب، وقد كانوا خافتي الأصوات إلى أن سمعناه يقول لهم مغضبا: المجلس بكسر اللام هو الصحيح فلم تقولون: المجلس؟ هذا عيب يا ناس، أتموت لغتنا في بلادنا؟ واعتذر أحدهم مندهشا باسما، وعاد الفارس إلى موضعه حيث أخرج دفترا صغيرا وقلما، أظنه أضاف فيه هذا الخطأ إلى ما يضايقه من أخطاء.
ووثب الفارس إلى جماعة كانوا يلعبون النرد، ويضحكون في جلبة ويدقون الصندوق دقات عنيفة بأحجار اللعب، فعنفهم قائلا: ما ذنب الجالسين حتى يعذبوهم بهذا العجيج وهذا الضجيج ... ونظروا إليه وتخاطبوا بأحداقهم ورفع أحدهم سبابته إلى فوده خلسة، وهز الآخرون رءوسهم وتظاهروا بالطاعة، فما استدار الفارس حتى أخرج له أحدهم لسانه في حركة بين الضحك والغضب، وانطلقت ضحكاتهم ولكنهم قطعوها وأخرج الفارس دفتره وأخذ يكتب في غيظ.
ودنوت من الفارس وقلت له إنه يكلف نفسه شططا بما يفعل، فلامني بنظرة وقال: نحن المتعلمين مسئولون عن هذه العيوب الشائعة في المجتمع، ولو أننا حاربناها لما استشرت فيه على هذا النحو المنكر، وهكذا يأبى الفارس إلا أن يقاوم ما يرى من عيوب بيده ولسانه وقلبه جميعا، لا يقنع إلا بأقوى الإيمان، وهذه ناحية كما ترى يا قارئي العزيز من أهم نواحي فروسيته.
وكنا قد تواعدنا عند انصرافنا أن نشهد تمثيل رواية في أحد مسارح المدينة، وجاء المساء فالتقينا في المسرح، وجلس وسطنا الفارس، وسرعان ما اكتظ المكان على سعته؛ ورأيت الفارس قبل بدء التمثيل يدور بعينيه هنا وهناك، وهو لا يفتأ يتوثب في مكانه، ولا تني يده عن الكتابة في دفتره ما يكاد يرده إلى جيبه حتى يخرجه فيكتب، ثم يعيده ليخرجه، وكم وددت لو رأيت ما كتبه، وبلغ به الغيظ أن كان يحدث نفسه بين حين وحين قائلا: «شوف السافل ... شوف المنحط.» وما أشك أنه ما كان يحجم - لو أنه استطاع - أن يذهب إلى هؤلاء السفلة والمنحطين، الذين يراهم من حيث لا يرونه، فيذيقهم بأسه.
وراعنا أن نرى الفارس في فترة الاستراحة يحاول أن يقفز من فوق المقاعد، وهو يصيح بأحد الأفندنة على مقربة منه قائلا: «يا منحط، يا سافل يا وقح.» والأفندي يرد عليه تحياته بأحسن منها! ... وخفنا أن يفلت منا الفارس أثناء التمثيل، فظللنا ممسكين به، وكانت الرواية مضحكة، وكان ما يصنع الفارس الهمام أشد إثارة للضحك حتى لقد آثرته على التمثيل، وظل الناس جميعا يضحكون من القصة إلا فارسنا، فقد كان الدم يغلي في عروقه من الغيظ ، وهو يقول: «مثل هذا الوقح لا يليق به أن يحضر المجتمعات، ألا يرى أن من خلفة سيدات يجلسن؟ ... دعوني من فضلكم، أين البوليس، اتركوني أؤدب هذا السافل ...»
ورأينا ذلك الأفندي يلطم شابا من الباعة مر به لطمة على وجهه دوت في أرجاء القاعة، وتبينا أن ذنبه لم يعد أنه وطئ بقدمه الحافية على غير قصد نعل هذا الأفندي ولم يعتذر، وانهال الأفندي على البائع المسكين وشد شعر رأسه في عنف حتى لوى عنقه، وجعله يصرخ مستغيثا، ولا تسل عن الفارس فقد أخذ يحاول الإفلات منا بكل ما في وسعه، وهو يعض على يديه من الغيظ.
وما إن انتهى التمثيل حتى رأينا الفارس يثب إلى ذلك البائع، وكان طبيعيا أن يجد فيه حليفا يستعينه على الأفندي وتحمس البائع، فأطلق في الأفندي لسانه بالشتم المقذع، ولكن الناس رأوا اثنين من الشرطة يشدان الوثاق على البائع، ويوسعانه ضربا وتبين للناس أن هذا الأفندي المتجبر الباطش من ذوي الجاه والسلطان الذين يجب على الجمهور الإذعان لهم طوعا أو كرها، فقد كان حضرته «كونستبل» البندر، وما أدراك ما كونسابل البندر، وإن كان في غير لباسه الرسمي.
على أن الفارس لم يحجم، وهل كان لمثله أن يحجم؟! فتقدم من الكونستبل وسط الزحمة يسمعه كلمات القانون والحرية الشخصية والمساواة بين الأفراد، ويسأله ألم يكفه ما كان من استهتاره بالآداب العامة، وما خلق مثله إلا لحماية الآداب؟ ولم يفرغ من هذا حتى كان «الكونستبل» قد أشار إلى الجنديين إشارة خفية، فانهالت لكماتهما على رأس الفارس في غير توان أو توقف، وقد أمسكا بخناقه في غلظة وقسوة على ضآلة جرمه ونحافة جسمه، وإن كان لقوي الروح، لا يطيش في الملمات صوابه وشققت في جهد طريقي إلى الشرطيين، وكانا قد أبصراني نهارا في زيارة رئيسهما الضابط في غرفته، فصرخت فيهما مهوشا عليهما أعلمهما أن هذا الفارس يشغل وظيفة لها خطرها في الحكومة، فأجفلا وتركاه وإنه ليلهث إذ يخاطبني: أترى جرحا في عيني؟ إني أحس مثل لهب النار فيها، انظر هذه أخلاق البوليس عندنا، لولا خوفي على الفوتغرافية أن تضيع في الزحام لعلمت هذين السافلين ومن أمرهما كيف يحترمون القانون؛ وأخرج الفارس منديله ووضعه على عينه وهو يكتم ما يحس من ألم شديد؛ ثم دس الفارس منديله في جيبه وأخرج دفتره وقلمه، فكتب وكان ينظر إلى ساعته في ظهر يده، ولعله كان يثبت اللحظة التي وقع له فيها هذا الحادث الخطير.
وصحبنا الفارس إلى مقر الشرطة، وجاء «الكونستبل» يعتذر إليه اعتذارا فيه كل معاني الذلة والمسكنة، وقد انخلع عنه جاهه أمام رئيسه، وعجبنا أن نرى الفارس وقد أبت عليه أريحيته إلا أن يغفر «للكونستبل» اعتداءه على الرغم مما كان يقاسيه في عينه من ألم، وعلى الرغم مما أصابه على أعين الناس، ففعل ما تقضي به الفروسية، وتنازل عن شكواه، وهل كان وهو فارس يستطيع أن يفعل غير ذلك؟ وتشفع الفارس الهمام للبائع فأطلق سراحه وكان الشرطة قد أدخلوه «الحجز»؛ ليكيلوا له الضرب كيلا في ظلمة الليل، وخرج المسكين ورجال الشرطة يمنون عليه بأنهم أطلقوه، ولقد ناله في الطريق وفي المسرح من الصفع واللكم والوكز ما لو نزل على ثور لهده.
ومضى الفارس إلى داره ومنديله على عينه وفوتغرافيته تحت إبطه، ودفتره المزدحم بالملاحظات والمخاطرات في جيبه، وإنه لفرح بما أحرز طول يومه من انتصار، فخور بما قاوم من منكر، رضي النفس بما قدم بين يديه من اعتذار.
شاعر عبقري
رأيت هذا العبقري، أستغفر الله، بل حظيت بشرف لقائه والاستمتاع مرة بسماع بعض درره الغوالي، وليس بالأمر الهين لقاء مثل هذا الشاعر في زمن قل فيه العباقرة، وحط فيه من قدر الشعر، حتى اعتبره بعض الناس شيئا لا غناء فيه ولا متعة من ورائه؛ وذهبوا في ذلك إلى أنه لن تمضي سنوات معدودات، ثم لا يتصل الشعر بحياة هذا الزمن بسبب من الأسباب ...
ولئن سعد جدك فمثلت ساعة كما مثلت بين يدي هذا الشاعر، لوقعت منه على شاب تتوزع الظنون فيه عقلك وخيالك، فإن كنت ممن يجهلون سمات العبقرية، ظللت في حيرتك ودهشتك بل لقد يذهب بك جهلك إلى أن تعزو ما يبدو لك منه إلى الحماقة والبله، فتلحد بذلك في الفن من حيث لا تدري، إلحادا شديدا.
والحق أني حرت في أمره برهة حين رأيته ... فهو يطيل النظر في وجوه جلسائه في صمت عميق، فيحسبونه معهم وما هو معهم ... ثم هو يرفع عينيه في بطء إلى السقف، ويظل كذلك برهة غير قصيرة كمن أخذته عن نفسه حال من غم أو ذهول، على أني لم ألبث أن رددت أمره إلى ما علمت عن العباقرة، فهم كثيرا ما يذهلون عن أنفسهم بما تعرج فيه أرواحهم من معارج علوية، وكيف يكون عبقريا ولا تسبح روحه وتعرج إلى السموات كما تسبح أرواح العباقرة وتعرج؟
ورأيت الشاعر قد أطال شعر رأسه، ثم تركه دون ترتيب، حتى تهدل على فوديه، فغطت خصلات منه أذنيه، وتدلت خصلات فوق عنقه؛ بنيما تراكم بعضه على بعض، حتى كان منه ما يشبه الأكمة فوق جبينه ... وهو لا يحرص على شيء من مظهره حرصه على أن يكون شعره هكذا كشعر أقرانه من كبار الفلاسفة ونوابغ أصحاب الفنون دليلا فوق رءوسهم لا يكذب على النبوغ، وبرهانا لا يخطئ على الفن. وتكلم الشاعر الشاب في نبرات الشيوخ ولهجتهم، فأخذ يشكو من قلة فهم أهل زمانه لشعره وعدم تفطنهم إلى فنه، ولكنه ما لبث أن أشرقت أسارير وجهه حينما ذكر بعض من يفهمونه وقولهم إنه جاء قبل أوانه، وإنه لا بد أن تعرف قيمة فنه يوم تنجاب عن العقول حجب الغفلة ... أولم يشك المتنبي بأنه كان في أمته غريبا كصالح في ثمود؟ ... ولكم سر الشاعر بهذه المقارنة البارعة بينه وبين عبقري آخر كالمتنبي على شاكلته.
وأفاض شاعرنا العبقري في أنه يسير على نهجه رضي الناس أو لم يرضوا، فإنه إنما يغني خلجات وجدانه، وعرض للمادة والحياة الدنيا وزينتها، فأكد أنه ليس من ذلك كله في شيء، ولست أدري لم وثبت إلى رأسي حينذاك قصائده الطويلة - وكنت نسيتها - في مدح فلان وفلان ممن لا يكون مدحهم إلا وجها من الزلفى؟! ولكن لفرط هيبتي من الشاعر، أو قل لفرط إيماني بعبقريته لم أستطع أن أشير إلى شيء من هذا، وهل أرضى أن أضع نفسي عنده موضع الأغرار والحمقى؟ ولعل فعله كان سرا من أسرار العبقرية لا ينهض له اليوم خيالي.
وأشار أحد أصحابه إشارة خفية إلى تلك «الروح السامية» التي ألهمته أغانيه، فبدت على وجهه مثل أمارات الخجل وضحك ضحكة غريبة، ثم رمى صاحبه بنظرة غاضبة، كأنما خيل إليه أن ذلك الصديق يشك وجود تلك الروح، أو يظن أنها بعض ما يجوز أن يجري فيه الكلام في مجالس بني الطين، وما كان شعره فيها إلا صلوات قدسية تتنزل عليه من عليين، وهي كعبقريته، أمر لا يعلق به شك إلا في رءوس الجاحدين والهازلين.
وألح عليه صاحب آخر أن يطربنا ببعض ترانيمه، فتفرس في وجهي يتبين أأنا ممن تبدو عليهم مخايل الفطنة! أم أنا من الذين لا يفهمون ... ولعله كان أقرب إلى الأولى، إذ قد أخذ يسمعنا من شعره ... وأشهد لقد وقعت منه على كلام من السحر الحلال تتقطع دون بلاغته الأوهام ... ولكم وددت لو أني استطعت أن أحفظ شيئا منه، على أني أذكر من أوصافه ما لست أشك لو ذكرتها لك أنك ترى معي أنها آيات من الفن تقصر عنها بدائع ابن هانئ وروائع بشار، ويتخاذل دونها فن الطائي وسحر الوليد ومعجز أحمد وبدع ابن الرومي، وافتنان شيخ المعرة ... دع عنك شوقي وجيل شوقي ومن خلا من قبله في مصر، ومن خلف من بعده من الشعراء ... وليس يهمه أن الأغفال في هذا الجيل لم يفطنوا إلى أسلوبه ومعانيه، فليس عليه أن يفهم من لا يفهمون.
وإنه لينكر على شوقي ما توافى له من ذهاب الصيت، ويستكثر عليه لقبه الذي عرف به، ويعزو ذلك أيضا إلى غفلة هذا الجيل، وتتحرك في نفسه العبقرية، فيتساءل: ماذا يجد الإنسان لشوقي من الشعر الحق، ولقد كان كلامه مرثيات ومدائح لا روح فيما؟ ولعله لم يقرأ فيها أرى شعر شوقي، ولست أدري ، فلعل هذا كذلك سر من أسرار العبقرية. وتوسلنا إلى الشاعر أن يجود على الناس بنشر ما أسمعنا فرفض قائلا إنه يضيق بهؤلاء الناس حتى ليود ألا ينظم بعد اليوم بيتا من الشعر ... فتوسلنا إليه ألا يفعل حرصا على دولة الشعر، وإشفاقا على مكانة العربية.
وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكى
المتعاظمون
هذا الفريق من بني آدم أو هذا الصنف كثير شائع، ولكني أقصر الحديث هنا على بعض أصحاب السلطان منهم؛ ولسوء حظك أو لسوء حظي أنا - على أقرب الرأيين إلى الصحة - أن يرى هؤلاء في كثير من المجالس، ولست بحاجة إلى منظار، بل ولا إلى عينين - لا قدر الله - لترى هؤلاء الناس، أو تحس سلطانهم إن صح عندهم أنهم ناس من الناس ... فهم يأبون إلا أن يكونوا فوق الناس.
ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم وإن كانوا على رغم أنوفهم الشم ناسا يجري عليهم ما يجري على سائر الخلق، لا يؤمنون إلا بأنهم فوق مستوى البشر، وعسير عليك أشد العسر أن تقنعهم من بعيد أو من قريب بأن لهم مثلك يدين ورجلين وحواس، وما إليها من جوارح وأحشاء، وأنهم يأكلون كما تأكل، وإن لم يكن مما تأكل، وأنهم يشربون وينامون ويفرحون ويغضبون ويمرضون ويموتون، كما يجري عليك من أحكام الطبيعة سواء بسواء.
هذا الفريق الذي أتحدث عنهم هم أصحاب السلطان من أصحاب الديوان، ولعلك لم تنس بعد أحاديثي عن أصحاب الديوان، وإن كنت وقفت بك عند صغارهم لا خوفا من كبارهم علم الله، وما لي أقسم وهأنذا أعرضهم عليك جملة، وأحشرهم أمام المنظار في غير تهيب ولا رفق: ترى الشخص منهم - وهو شخص رضي أو لم يرض - في ردهة من ردهات دور للهو، أو في سيارة عامة، وإن لم تكن له سيارة خاصة، أو في عرض الطريق، فتحييه تأدبا منك وعملا بما يوجبه الذوق وتفرضه الإنسانية، فيدهشك أنه يبدو عليه كأنه يلقى منك إهانة؛ وإلا فما باله وقد كان منبسط الأسارير: يتجهم لك ويشمخ بأنفه ويرميك بنظرة كريهة كأنه يريد أن يخيفك في غير داع لذلك ولا مناسبة، ثم يرد تحيتك الحارة برفع سبابته قليلا تجاه رأسه العالي، أو بإيماءة بسيطة، ويمضي وكأنه لم يكن يرد تحية، وإنما كان يرد على توسل سائل بإلقاء مليمين في كفه المبسوطة!
ولقد تعجب لذلك، ولكن عجبك دليل بساطتك أو طيبة قلبك، والحق أني أريد أن أقول: دليل «عبطك» فاقبلها مني ولا تدعني أموه فأتحايل على الألفاظ، ولخير لك على أي حال أن تكون كما أذكر، وتكون لطيفا، من أن تكون فظا غليظ القلب، وإلا فلك الخيار، ولكن على شرط أن يتوافى لك السلطان قبل كل شيء.
وفيم تعجب وعنده أن التحية توجه إلى مقامه ممن هم دونه، إنما هي ضرب من عدم الاحتشام بين يديه، فهي لذلك ضرب من عدم اللياقة، أو هي جرأة تلحق بقلة الأدب عند بعضهم، وما أردت أنت إلا أن تكون مؤدبا، ولقد يصور له كبرياؤه وغروره أن ذلك منك تحد لذاته الخطيرة والعياذ بالله، وفي ذلك سر تجهمه وتعاظمه وكريه نظراته وتفسيره تأدبك بأنه قلة أدب، وكأني بك، أيها القارئ، تضحك مني وتقول في نفسك: إنما يصور بما يكتب ما وقع له، وأريد أن أكون صادقا، فأسلم لك بصحة هذا، ولكن قل لي بربك: ما ذنبي لتضحك مني يا أخي - سامحك الله - وأينا أجدر بضحكاتك، أنا أم ذلك المتعاظم المتكبر؟ ثم اعلم أني لم أغضب ولن أغضب لما يكون بيني وبين هؤلاء المتعاظمين، لم أغضب؛ لأن ما حدث هو ما كنت أتوقعه، بل إني لأضحك إذ أقع من ذلك على صورة لمنظاري، ثم إني لن أغضب؛ لأني أعرف كيف أكيل لهم بكيلهم متى أردت فأزيدهم غيظا وأزداد منهم ضحكا، ولو علمت الحق لرأيت أني دائما ألقاهم بالعصيان المدني، وهو سلاحي السلبي الوحيد الذي لا سبيل لي إلى غيره.
جمعني بفريق من هؤلاء مجلس من المجالس، أو قل: قادتني الظروف على رغمي إلى المجلس، فما كان لي أن أغشى مجالس أصحاب السلطان مختارا، فانتحيت ناحية وجلست، وقادت الظروف كذلك بعض أصدقائي ممن هم في مثل سني، وفي مثل مركزي الصغير، فحمدت الله وزال عني القلق، فلقد كنت أحس نفسي غريبا قبل مجيء هؤلاء الذين لا جاه لهم ولا سلطان، وانفرجت شفتاي لأول مرة منذ جلست أرد على تحيات هؤلاء الأصدقاء، فما وجه إلي أحد من أصحاب السلطان تحية تنفرج لها الشفاه، فلم تك ثمة إلا إيماءات متكلفة لاذعة قصيرة، أو إشارات باليد آلية لا روح فيها، اللهم خلا رجل منهم تلطف فجاد علي بتحية مناديا إياي باسمي، ولكن بعد أن فعل ذلك من هم على شاكلتي من الخلان.
وجلست صامتا أترقب وأنا أخفي ضحكي مما رأيت على وجوه أصحاب السلطان من معاني الازدراء عند دخول أصحابي، ولقد حياهم هؤلاء السذج في أصوات طلقة، وفي إشارات وانحناءات دمثة جميلة، فما عادوا إلا بإشارات وإيماءات أرستقراطية، فيها تعاظم أصحابها وسماجتهم وتناسيهم نشأتهم الأولى!
واستأنف أصحاب السلطان ما كانوا فيه من حديث، واحتدم النقاش بين هؤلاء السادة، فهذا يعترض على ذاك، وذاك يرى ما يرى جاره وثالث لا يرى الصواب في رأيه، وفي وجوه الجميع بشر أو تحمس أو ضحك من دعابة أو نكتة، يطرد من هاتيك الوجوه شبح الكهولة أو يستمهل الشيخوخة لحظات.
وبدا لأحد السذج من الرفاق - رفاقي أنا - فحشر نفسه في الحديث كما يفعل إذ يكلمني أو يكلم أحد أقرانه، فما أسرع ما بدت الدهشة على وجوه الجميع! ثم تغافلوا عنه بإطراقهم، وقطع عليه أحدهم كلامه فساق الحديث إلى رأي جديد، وذهبت كلمات المسكين هباء أو أقل من الهباء.
ثم تكلم شاب آخر لم يتعظ بما جرى لسالفه، فكان من أحب المناظر عندي - ولا أقول من أبغضها - أن أرى على وجوه أولئك السادة ذلك الاتفاق الذي لم يقصدوا إليه؛ لأنهم اعتادوه كلما تطفل على حديثهم العالي متطفل لم تصل بعد مداركه إليه، ولا هيأه مركزه حتى لمجرد الاستماع له، وهو اتفاق على المقاطعة أو الإغفال لأمر المتكلم، وأحسب أنهم لو نظروا ساعتئذ إلى ذلك الساذج الثاني لأخذتهم الشفقة لحمرة الخجل تتوقد في محياه، فما تقسو قلوبهم مهما بلغ من غلظها إلى حد أن يعرضوا عنه وهو على تلك الحال.
على أن اثنين منهما رمياه بنظرة ولكن بعد أن خفت في وجهه حمرة الخجل، ورأيتهما يزدريانه في صمت، فهو مرءوسهما في الديوان، ولا يجمل به أن يجرؤ مثل هذه الجرأة فيناقش رؤساءه، وكم أتمنى لو يتاح لي من البيان ما أصور به ما ارتسم على محياهما الكريمين من اشمئزاز، وكم يؤلمني ألا تسعفني الألفاظ بما أريد!
وأتى أحدهم بنكتة تصلح لأن تكون نكتة، ولكنه أتى بها لسوء حظه في ضجيج النقاش فلم يفطن إليها غيري فضحكت بصوت يسمع، فالتفت نحوي ضاحكا مسرورا، وصاحب النكتة يبحث دائما عن الضاحكين من نكتته ويسر إذ يجدهم ... على أن هذا ما لبث أن قطع ضحكته بغتة، كأنما أزعجه أن يتبادل وإياي الضحكات، ثم تكلف العبوس ونظر إلي، ولكني لم أقطع ضحكتي، فقد كانت هذه الحركة منه أدخل في معنى النكتة من عبارته وأدعى إلى الضحك.
وما يريد أصحاب السلطان ممن هم أصغر منهم إلا أن يتزلفوا إليهم، فينهضوا وقوفا إذا أقبل أحدهم ويشيعوه إذا انصرف، فإذا تقدم أحد هؤلاء الصغار ففتح باب السيارة حتى يركب «سعادة البك» أو حمل له معطفه حتى يلبسه، فذلك ما يكبر به في عين سعادته؛ ولذلك دخل كبير في قياس كفايته في علمه، وإن لم يكن لعمله صلة بما يعمل «الجرسونات» وكثيرا ما شهدت مثل هذا من وراء منظاري، والعجيب أنك ترى الرجل من هؤلاء يتصاغر، وينكمش كأنما يدخل بعضه في بعض إذا كان أمام من هم أكبر منه، وذلك بقدر ما يتعاظم وينتفخ إذا نظر إلى من هم دونه.
وبعد فقد أفهم أن أرى أصحاب السلطان في دواوينهم متعاظمين وإن عد ذلك مرذولا منهم أينما كانوا، فإن الرجل منهم يكون هناك في «منطقة نفوذه»، وما يذهب إليه في الغالب حيث مقر سلطانه إلا طالب حاجة عنده.
ولكن كيف أفهم لعمري أي يتعاظم عليك هؤلاء خارج دواوينهم، ولقد تكون بحيث لا تربطك بهم صلة من عمل أو من حاجة؛ بل كيف يتعاظمون، وإن كان يصلك بهم العمل أكبر صلة؛ وإن منهم من لا يفضلك إلا بما ساقته إليه الظروف من منصب، بحيث لو رجع القهقرى إلى مثل سنك لكنت أحسن منه عقلا، وأقوى تفكيرا وأكثر اطلاعا، ولقد تكون اليوم أكثر منه ذكاء على رغم جاهه، بل ولقد يكون من الغباء بحيث لا يصح أن تقيس عقلك إلى عقله، إلا إذا أردت أن تمتهن نفسك.
وبعد فنحن أمة تكثر الكلام في الديموقراطية، وتبالغ في السخرية أحيانا من حيث لا تدري، فتطيل الكلام في المقارنة بينها وبين الأمم التي اعترفت قولا وعملا بحق الفرد مهما كان، في الحياة الحرة الكريمة.
في عيد الفسيخ
أرجو ألا يحمل القارئ تسميتي هذه على المزاح، فلست لعمر الحق مازحا، وما أستطيع أن أسمي الأشياء بغير أسمائها حتى في هذا الزمن الذي يسمى كل شيء فيه بغير اسمه.
وإنما تسمى الأعياد بأبرز خصائصها، على هذا النحو كان عيد الأضحى وعيد الميلاد، وليس في القراء من يستطيع أن يجادلني في أن الفسيخ قد أصبح أبرز خصائص ذلك اليوم الذي نسميه شم النسيم؛ فليت شعري وهذا هو شأن الفسيخ فيه لم لا نسميه عيد الفسيخ، وقد تلاشى في جمال الفسيخ كل جمال؟
الأصل في هذا اليوم أنه عيد الربيع، عيد الورد، عيد النسيم الذي ينفح بالعطر ويزخر بصور الحسن، ولست أشك في أصله؛ ولكني لست أدري ماذا جعل الفسيخ فيه يطغى على الزهر؟ ولعمري ما أرى أي رابطة بين هذا وذاك، وليس من ينازعني حتى المولعون بالفسيخ أنفسهم أن هذا شيء وذاك شيء آخر أبعد ما يكون عنه عنصرا ومعنى؛ وإن كان في الناس من يقول: «يخلق من الفسيخ شربات.»
درت بمنظاري فحار المنظار أو حارت عيناي من وراء المنظار، ماذا تسجل وماذا تدع؟ أأستطيع أن أمر، دون أن أضحك، بهؤلاء الذين جلسوا للطعام على بسط الربيع، فما كان أمام الكثرة المطلقة منهم إلا هذا الصنف من الطعام الذي يجب أن يكون آخر ما يؤكل خارج المنزل، إن جاز أن يؤكل في أي مكان قط؟ وكان مبعث ضحكي من هؤلاء أنهم يعانون رهقا شديدا في تناوله، ومع ذلك فهم يقبلون عليه في شراهة جلعتني أعتقد أن أسمى الجمال عندهم في هذا اليوم هو في ذلك «السلخ»، وذلك «النتش» وما يصحبهما من تلويث الأيدي والملابس فضلا عن تلويث الجو كله رائحة احتبست منها أنفاس الزهر، دع عنك مخلفاته الثمينة التي تزيد بتناثرها هنا وهناك هاتيك البساتين جمالا على جمال!
وما كان هذا المنظر وحده هو الذي انقبضت له نفسي، فلقد كان ما رأيت في النهار كله دليلا لا يكذب على أن الناس ما خرجوا من دورهم لاجتلاء جمال الربيع، والاستمتاع بصفاء الربيع، وإنما جاءوا ليشوهوا جمال الربيع عامدين بكل ما في وسعهم من أسباب التشويه.
على أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء «الأفندية»، الذين تحلقوا على الحشائش فما خفت لهم صوت منذ جلسوا، وما جرت ألسنتهم إلا بكل عوراء مخزية من النكات والحكايات، حتى لعبت برءوسهم بنت زجاجاتهم فازدادوا نكرا وقحة وعلى جوانبهم أسر فيها أوانس وسيدات؟
وعلى أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء الشباب المتعلمين، الذين يأخذون السبيل على كل غادية ورائحة، ولا يتنادون إلا بأشنع السباب وأوقح الأسماء والذين لا يطربهم أكثر من عبارات السب توجه إليهم ممن يغازلن «ويعاكسن»؟ ثم ما هذه «الشلل البلدي» الذين اصطحبوا من اصطحبوا ممن كن وإياهم على موعد في هذا اليوم الجميل، فجاءوا وجئن يضيفون إلى معاني جماله هذا المنظر المخزي البغيض؟
بل ما هذا الأفندي الوجيه الذي خلع سترته، وألقى بطربوشه ووقف يرقص في حركات بهلوانية وحوله من يصفق له ممن يعرفونه ومن لا يعرفونه، وهو لا يزداد على التصفيق إلا جنونا وانتشاء، ثم لا يفتأ يعاود حركاته كلما استخفه التصفيق ممن أولعوا باستخفافه؟ وما هؤلاء الشحاذون الذين انتشروا هنا وهناك، فكانوا أثقل على الهادئين من المهرجين، ومن الذباب ومن رائحة الفسيخ؟ ما هذا الضجيج، وما هذه الفوضى التي تلاشى فيها جمال الربيع وصفو الربيع، واستخزى لها وجه الربيع، حتى لو استطاع ربيعنا لبحث له عن أرض غير هذه الأرض، وناس غير هؤلاء الناس؟!
رأيت هذا، فذكرت يوم شم النسيم في القرية، وطاف برأسي عذارى الريف يسبقن الفجر زرافات إلى الترع، فيستحممن ويملأن جرارهن ويغطينها بالريحان والنوار، ويعدن مغنيات ضاحكات تنفحهن أنفاس الفجر الندية الرخية، وترمقهن باحتشام عيون الشبان في طريقهم إلى شجر التوت، وفي أيديهم الريحان والسعد والنعناع والورد، فلا يكون بين هؤلاء وأوليائكن إلا الابتسامة الحلوة أو التحية العفة، ويكون نهارهم ونهارهن فيضا من الجمال والهدوء والانبساط، ومما شاءوا وشئن من هوى عذري تبقى ذكراه وذكرى يومه سحر العام كله.
محمد أفندي ...!
قيل وما أكثر ما قيل: إن قلة الذوق في مجتمعاتنا مردها في الغالب إلى خلوها من المرأة، وإلى هذا أشار صاحب «الرسالة» في أكثر من مناسبة، وعنده أن الشباب إذا ازدانت مجتمعاتهم بالأوانس شدوا الشكيمة وكبحوا الجماح، وحرص كل امرئ منهم على أن يظهر على خير ما يحب من دماثة الخلق، ورقة الحاشية، ولطف الحديث.
ولكن منظاري - قاتله الله بل عافاه الله وصرف عنه كل غشاوة - يأبى إلا أن يكشف لي عن موقف لا تتحقق فيه هذه الفكرة بل لقد نقضت فيه من أصولها، وجاء الأمر على عكس ما تفاءل المتفائلون وتمنى الكاتبون.
كنت مسافرا إلى الريف الحبيب في قطار فالتقيت في ممر من ممراته بثلاثة من الشبان تقاربت أعمارهم، وكان كل منهم بادي العافية حسن البزة متهلل القسمات؛ ونادى أحدهم رابعا لهم كان في اتجاهي يسبقني بخطوات فقال له: أمامك في هذه العربة قبل الآخر بديوان تجد محمد أفندي إلا جانب الشباك الأيمن، وقد حجزنا أمكنة فانتظرنا هناك.
ودخل «رابعهم» هذا الديوان المشار إليه، وأحسست كأني أنجذب إلى هذا الديوان نفسه فدخلت واتخذت مكاني، ولكني لم أجد إلى جانب الشباك الأيمن غير آنسة أجنبية لم تقع عيني في نهاري كله على أجمل منها صورة وأملح منها محيا، وبدت لي في منتصف العقد الثالث من عمرها، كالوردة في زمن الورد بلغت أقصى تفتحها ومنتهى ريعانها.
وكانت متجهة ببصرها إلى النافذة، لا تلتفت إلا ريثما ترمق الداخل، ثم تعود فتتجه اتجاهها الأول، وكان على محياها الجميل ما يشبه الهم من فرط سكونها واحتشامها.
وتحرك القطار وجاء الشبان الثلاثة، وجلسوا في ضوضاء بعد أن نظر كل منهم إلى هيئته في المرآة، فأصلح ما تشعث منها، وتشاغلت عنهم بكتاب في يدي، ولكن منظاري لم يغفل عنهم، فرأيتهم يتخاطبون بالأحداق لحظة، وعلى فم كل منهم ابتسامة خبيثة، وكلهم يومئ لصاحبه برأسه نحو النافذة اليمني.
وقطع أحدهم فترة هذه الإشارات اللاسلكية بقوله: «محمد أفندي تقلان علينا يعني قوي.» وضحك الآخرون ضحكات ماجنة مائعة ... وفطنت أن محمد أفندي لم يكن غير تلك الآنسة التي تتجه بنظرها إلى الفضاء الممتد خارج القطار! وليغفر القارئ لي بطء فهمي إلى هذا الحد.
وأيقن أربعتهم أنها لا تعرف العربية، فانطلقت ألسنتهم بألوان من القحة، عجبت ولن أزال في عجب، أن لم يبد على وجه أحدهم أي شيء من الخجل، وقد كان من ألفاظهم ما أخجل الآن لمجرد أن أتذكرها! ثم ذهب كل منهم يتظرف بما وسعته سماجته، فهذا يأتي بضروب من النكات لا يسيغها إلا ذوقه وذوق أصحابه، وذلك يداعب خاتمه الماسي وساعته الذهبية، وآخر يخرج حافظة نقوده فيقلب الأوراق المالية ثم يردها إلى جيبه، هذا فضلا عما تنافسوا في سرده من المغامرات التي صرف فيها ما صرف من الأموال، وكلها بالضرورة من نسج الخيال - كل أولئك و«محمد أفندي» في شغل عن ظرفهم، ولطف حديثهم بالنظر إلى فضاء الأرض.
ولما أفرغوا ما في جعبهم من بارد النكات وسخيف الحكايات، انتظرت أن يتطرق إليهم اليأس أو يمسهم شيء من برودة الموقف فيخجلوا؛ ولكنهم انتقلوا إلى ما هو أدهى وأمر مما كانوا فيه، فراحوا يصفون في طريقة بهيمية جمال تلك الآنسة وهي ساكنة لا يبدو على قسماتها إلا ما يبدو على قسمات تمثال من التماثيل من الثبات على حال واحدة ، ثم شاءت لهم دماثتهم أن يجعلوها موضعا لنكاتهم، فهي ابنة بائع إسفنج في الريف أو هي لا تكلف أكثر من نصف ريال يدفع لخريمي، إلى غير ذلك مما أمسك القلم عن ذكره من عبارات هؤلاء الظرفاء المهذبين!
ودنا القطار أخيرا من إحدى المدن فنهضت الفتاة لتنزل، ومدت يدها إلى الرف لتأخذ حقيبة صغيرة فتقدم أحد هؤلاء الظرفاء، وأنزلها لها فتناولتها، وهي تقول له في عبارة فصيحة: «أشكرك جدا يا أفندي.» ثم خرجت من الديوان.
ونظرت إلى وجوههم وحمرة الخجل تلهب وجنتي، وأشهد لقد شاع في تلك الوجوه الصفيقة شيء من هذه الحمرة، ولكن لعل مرد ذلك إلى وجودي، ولعلهم لو كانوا وحدهم لأجابوها بضحكة من ضحكاتهم، أو بنكتة من ظريف نكاتهم.
من خوف الكوليرا في كوليرا!
دخلت أزور ابن عم لي في داره فلقيتني زوجه في الدهليز وما وقع بصرها علي حتى قالت وهي تضحك: هلم فهذا منظر خليق بأن تراه من وراء منظارك، ولقد خطرت ببالي الساعة وأنت على السلم، وقادتني إلى حجرة الطعام حيث كان زوجها يتهيأ لتناول عشائه.
ودخلت في سكون ولم أحي فلم ينتبه إلي، ونظرت فإذا بالمسكين يجلس إلى المائدة وقد وضع رجله اليمنى في «حلة» على الأرض عن يمين مقعده تبينت فيها سائلا ما، ورجله اليسرى في «حلة» أخرى عن شماله، وهو يغسل يديه في وعاء على خوان قريب منه، وعلى صفحة وجهه سحابة مركومة من الهم، وضحكت وضحكت زوجته فرفع رأسه، وابتسم ابتسامة ضئيلة لم تلبث أن غرقت في هذا السحاب المركوم، وأراد أن ينهض فلم يستطع لبعد ما بين الحلتين، ثم قال في إشارة حازمة وفي لهجة جازمة: لا تؤاخذني أرجو أن تغسل يديك في هذا الوعاء، ونظر إلى زوجته نظرة عتب وسألها لم لم تطلب إلي أن أغسل يدي في الوعاء الخارجي لدى الباب، وكأنه لم يعجبه ضحكها في هذا الموطن، موطن الجد الرهيب، فطلب إليها في شيء من العنف أن تغسل يدها، وفهمت أن ذلك؛ لأنها سلمت علي، فمشت حمرة خفيفة في محياها الأبلج، ولم تجد بدا من إطاعته إشفاقا عليه، كما قالت مداعبة إياه في رفق ...
وراحت ربة البيت تشرح لي هذه السوائل التي يغمس فيها رجليه ويديه، وتضحك إذ تقص علي كيف يغسل يديه كلما لمس شيئا، وكيف يدعو بائع اللبن وبائع الصحف وغيرهما إلى غسل أيديهم قبل أن يناولوه شيئا، وكيف لا يفوته كلما نقص وعاء الغسيل لدى الباب أن يملأه بالمحلول.
وينظر إليها زوجها إذ تضحك فيمتلئ غيظا، ويسألها كيف لا تدرك وهي المثقفة المهذبة أن الأمر جد لا هزل، وفيم هذا الضحك الذي ينطوي على عدم المبالاة، والذي يفهم منه أنها لن تعمل في غيبته شيئا مما يدعوها إليه من وقاية؟
ولم تغب عن منظاري بقية «الاستحكامات» في الحجرة، فهذه مضخة قريبة، بها من السائل كيت وكيت، وتلك أخرى بها من المساحيق كيت وكيت، وثالثة ينطلق منها إذا فتحت غبار كثيف لمطاردة الذباب، وكم ذكرتني بشبيهاتها من المدافع التي كانت تنصب لمطاردة الطائرات زمن الحرب ...
ونظر رب الدار فإذا أحد الأطباق يظهر جانب منه من تحت الغطاء القماشي، فتأفف ونظر في وجه امرأته نظرة حنق وسحب القماش فغطى الطبق، وسألته فيم هذا الغطاء؟ فنظر إلي وكأنه ينظر إلى معتوه ثم قال: ألا ترى أن ذبابة واحدة كفيلة بأن تقبل من في المنزل جميعا، بل من في الحي كله بل المدينة كلها إذا قعت على الطعام؟ فقلت: إذا كان هذا مبلغ خوفك من الذباب في الليل، وهذه المدافع من حولك فليلطف بك الله في النهار.
وضحكت زوجته ضحكة عالية، ثم نظرت إليه معاتبة وما تريد إلا أن تسري عنه، وقالت: أتذكر الحرب؟ صور لنفسك إحدى طوائر الألمان المنقضة، وقد هبطت من السماء على دارك، فهذا هو شأنه تلقاء ذبابة مسكينة من الذباب.
وما أتمت كلامها حتى نظر إليها وراح يقلد لهجتها ونطقها مستهزئا وهو يقول: ذبابة مسكينة من الذباب! المسكين أنت! لقد كان من المخابئ عاصم من الطائرات، والآن ما الذي يعصمنا من ذبابتك المسكينة؟
وقلت له : ما الذبابة بمسكينة ولا زوجتك بمسكينة، وإنما أنت المسكين فهذا عذاب ليس مثله عذاب، وضحكنا جميعا وكشف الغطاء عن الطعام ليأكل، وقمنا نداعبه فوقفت عن يمينه، وفي يدي إحدى المضختين وقامت زوجته عن يساره وفي يديها المضخة الأخرى، وكلما ابتلع لقمة حمد الله ونحن ندعوه إلى الطمأنينة، فلن نسمح لذبابة أن تقرب من المائدة حتى يفرغ من طعامه ...
وانصرفت، وفي نفسي أني لن أرى من هو أشد من ابن عمي وهما، ولكن منظاري وقف بي في صباح اليوم التالي على منظر أنقله للقارئ في غير نقص أو زيادة:
انحنت عجوز أمام باب إحدى جرائدنا الكبرى، وراحت تقيء وفزع الناس بالضرورة وابتعدوا عنها واقترح بعضهم طلب الإسعاف، ومر شاب وجيه المنظر بادي الفتوة كثير الأناقة، وقد فرغت العجوز من قيئها فخيل إليه أنه مس بحذائه هذا القيء، بعد أن فطن إلى أنها كانت تقيء، فكأنما نزلت به صاعقة من السماء، ونظرت فإذا صفرة كصفرة الموت تمشي في محياه، وإذا العرق يلتمع في جبينه، ونظر إلى الناس لهفان كأنما يستنجدهم، ولبث في مكانه لحظة لا يدري ماذا يفعل، ثم مر قريبا منه «تاكسي»، فاستوقفه ومد يده فخلع حذاءه وجوربه في حذر بحيث لا يمس إلا وجهه، ثم مشى حافيا ودخل السيارة وانطلق، وترك الحذاء الجميل والجورب الثمين حيث كان يقف، ولم يلتفت إليه لفتة كأنما كان يخشى حتى مجرد منظره!
وكم كان يبعث على الضحك منظر السابلة بعد ذلك، إذ يلقون نظراتهم على هذا الحذاء في تعجب، وهم لا يعلمون لم ألقي به هناك، وبماذا يفسر وجوده، وكان يمشي بعضهم في سكون ودهشة، بينما كان يستفهم البعض أحد الواقفين، واجتمع عدد من الخلق فمنهم من ينظر إلى العجوز، ومنهم من ينظر إلى الحذاء، واختلط الأمر على الناس حتى لقد سمعت من كانوا في مؤخرة الزحمة يقول: إنها قنبلة! ووثق بعضهم من الأمر فراح يصف طولها وحجمها وشكلها! وهكذا ينقلب الحذاء الجميل الهادئ إلى نوع مفزع من المفرقعات!
وذكرت ليلة الأمس ومبلغ خوف ابن عمي، وحرت بين البطلين أيهما أولى بالرثاء، أهو ابن العم أم هو صاحب الحذاء؟
القرآن في شارع فؤاد!
إن عجبت من هذا الذي يطالعك به العنوان، فإني أزيدك عجبا إذ أضيف إليه أن ذلك كان في نحو الساعة العاشرة من مساء يوم الأحد! ... حيث يمتلئ هذا الشارع، وما تفرع منه بطلاب اللهو من الأجانب والمصريين في عطلة الأسبوع ...
انعطفت وصديقاي من شارع عماد الدين إلى شارع فؤاد، فإذا بميكروفون عظيم يملأ الشارع كله بكلام الله في صوت كان على شدة علوه من أحلى الأصوات وأبعثها للطرب.
وعجبت وعجب صاحباي وقلنا: ما هذا؟ إنه والله للقرآن! ونظرنا فإذا متجر جديد جميل، تزين الأنوار المتوهجة المتلألئة واجهته وجوانبه، ومنه ينبعث هذا الصوت القوي الساحر بقول الله - سبحانه:
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها .
وأسرعنا الخطى صوب النور الذي نرى، والنور الذي استشعرته نفوسنا فيما يشرق في السمع من كلام الله، ووجدنا أنفسنا وسط أصناف من خلق الله يذهب البصر فيهم هنا وهناك، وهم حائمون على هذا النور كالفراش يقعون عليه من كل صوب، وأرواحهم مستشرفة إلى هذا الصوت الجميل القوي يسترسل في تنغيمه وتطريبه، وآذانهم مرهفة وقلوبهم خاشعة وكأن عليهم الطير مما سكنوا؛ وما إن يقف صاحب هذا اللحن العلوي عند قول الله:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها
حتى تنبعث بالتصفيق أكفهم، وتنطلق بعبارات الاستحسان حناجرهم.
وأجلت منظاري في الجمع المحتشد فإذا به خلق من كل طبقة ومن كل نمط، ففيه المقبعون والمقبعات، والمعممون والمطربشون، وفيه العلية يقفون إلى جوار سياراتهم الفخمة، وفيه المتواضعون مثلي من عباد الله ممن يدبون على أقدامهم، وفيه عدد من العمال والخدم والحوذية، وسائقي سيارات الأجرة وغيرهم، بيض وسود من كل سن وفي كل زي، وفيه المسلمون وفيه لا ريب النصارى واليهود، والجميع ينصتون إلى الشيخ مصطفى إسماعيل يتلو آيات الله، وينظرون إلى اسم الطرابيشي المصري تلألئه الأنوار القوية على واجهة متجره الجميل الجديد ...
وامتلأ طوار الشارع حتى لم يبق فيه موضع، وغص الشارع نفسه بالسيارات والعربات من كل نوع، حتى الترام نفسه يبطئ سائقوه إذ ينصتون ويقفون على مقربة من المتجر، فلا يحبون أن ينطلقوا فيبتعدوا عن هذا الصوت الندي الحلو الذي سحر الناس جميعا، والذي يرسله الميكروفون قويا صافيا لا حشرجة فيه ولا تسلخ ولا كدرة، فيملأ به الشارع. «الله أكبر ... بسم الله الرحمن الرحيم
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها .»
بهذا التنزيل المجيد كان يصلصل حلق القارئ البارع، في صوت يرتفع إلى عنان السماء ثم يهبط إلى قرار قريب، فتحس فيه تموج الشعاع وتأود الجدول وترسل الكروان وتنغيم البلبل، وتجد نفسك مسحورا بهذا الصوت اللين الحلو، وهذا الإيقاع العبقري الجميل، في إمالة سائغة لأواخر هذه الآيات الكريمة، يهفو لها السمع وتترشفها النفس، وكانت ترتفع مع اللحن نفوس السامعين وتهبط وهم صامتون خاشعون حتى يفرغ ذلك النفس الطويل، نفس القارئ المفتن، فتضج أصوات السامعين بلفظ الجلالة.
كان المسلمون يطربون للتنزيل الحكيم، وقد وجلت قلوبهم لذكر الله وزادتهم آياته إيمانا، وكانوا يعجبون بذلك الصوت العبقري القادر، وهذا الترتيل الشجي الساحر؛ وكان غير المسلمين مأخوذين بهذا التطريب العجيب الذين يحسون أثره ولا يتبينون سره؛ وكان الأجانب مذهولين بهذا المتجر الذي ينبثق منه النور، والذي جاء يزحم متاجرهم ويبدأ بهذا التحدي، فيفتح أبوابه يوم الأحد ويذيع كلام الله في شارع فؤاد ...!
ودخلنا على الرغم من الزحمة فناء المتجر، فإذا به ممتلئ بالناس، وإذا باقات كبيرة من الزهر تبلغ الواحدة منها قامة الرجل طولا تزين جوانب الفناء، وكلها مهداة إلى المتجر الجديد من أصحاب المتاجر الكبيرة، كما دل على ذلك ما علق عليها من بطاقات.
وكان كل ما في المتجر يملأ النفوس سحرا وشعرا، فهذه الأنوار المتألقة، وهذه الزهور الناضرة وهذه التلاوة العذبة، ثم هذه البضائع الجديدة المنسقة على الرفوف اللامعة النظيفة في أناقة وحسن ذوق، كل أولئك كان يبعث البهجة في النفوس ويلقي السحر في الخواطر. «الله أكبر ... بسم الله الرحمن الرحيم
ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك .» أخذ الشيخ إسماعيل يرتل هذه السورة ويرددها وقد أفرغ فيها كل فنه، وبلغ صوته فيها غاية حلاوته، والناس يهزون رءوسهم في تخشع ونشوة معا، ويودون لو ظلوا وقوفا يستمعون حتى ينصدع على الأفق عامود الصباح ... «الله أكبر ... بسم الله الرحمن الرحيم
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى .»
ما كاد الشيخ يقف عند هذا الوقف حتى انتزع الناس الزهور من الباقات، وأمطروه بها من كل جانب وهو في الطابق الأوسط، وتشققت حناجرهم بالهتاف، حتى كأنما طاف بهم طائف من الجنون وقال أحدهم: «والله هذا رجل انسرق من الجنة.»
وختم الشيخ تلاوته وأخذ الناس ينصرفون وملء نفوسهم البهجة من هذا الافتتاح الموفق، فنظرت إلى المتاجر الأخرى فطاف برأسي معنى لعله طاف برءوس غيري من الناس، وذلك أن المتاجر الأخرى على طوار الشارع باتت تحس هذه الليلة ذل الغريب، وكأنما كان هذا القرآن فتحا في هذا الحي الإفرنجي الذي ما شهدنا فيه مثل هذا من قبل، وكأنما كان متجر الطرابيشي غزوا يباركه كتاب الله ... وشعرت بالعزة الوطنية حق العزة، وأحسست لأول مرة في هذا الشارع أن الدار داري والأهل أهلي والوطن وطني ... واغتلى خيالي وأنا الشاعر الذي يطير به الخيال كل مطير، فخيل إلي أن الغافقي لم يرتد عن بواتييه، وأني أسمع القرآن لا في شارع فؤاد ولا في القاهرة ولكن في ضفة السين!
صفحة غير معروفة