وأعد الإفرنجي آلته للتصوير، ولشد ما غاظني أن أرى الحلاق ومن حوله يضحكون ضحكة البلهاء، كأنما يفرحهم أن «الخواجة» يصورهم، وسمعت ذلك «الخواجة» يقول لصاحبته بالإنجليزية ما ترجمته: «انظري فسنحصل على صورة ظريفة لحلاقي القاهرة.» ودنوت منهما فسلمت وتكلفت الابتسام أولا، ثم عبست وبالغت في العبوس لأعبر عن احتجاجي الشديد، وتكلمت في لهجة استخزى لها ذلك الغريب، وحار ماذا يقول وأشارت إليه صاحبته فطوى آلة التصوير، وكأنما أملى عليه إحساسه بالغربة أمام احتجاجي أن يتلطف فاعتذر، ولكنه أعقب اعتذاره بقوله: «جميل منك أن تغضب لسمعة شعبك، ولكن أجمل من ذلك أن تزيحوا عن الأعين ما يشوه هذه السمعة.»
وجميل من الرجل قوله هذا لا ريب؛ ولكن ما حيلتي وما أملك إلا القرطاس والقلم؟
ليس يهمني من هذا المنظر وأشباهه ما عسى أن يقول عنا الأجانب بسببه فحسب، وإنما أراه بصرف النظر عن ذلك شيئا تتأذى به العيون وتشمئز منه النفوس، ولئن لم تقع عليه وعلى أمثاله أعين غير أعيننا، ففيه مما يشعرنا بالضعة والهمجية.
وأعجب من عدم مبالاة هؤلاء الحلاقين «العصريين»، وأدعى إلى الاشمئزاز والألم من همجيتهم إغفال المسئولين أمرهم إلى هذا الحد ... ولكن كيف أطمع من هؤلاء المسئولين أن يلتفتوا إلى ما هو أفظع عيبا من هذا في عاصمتنا الكبرى، وأدعى إلى الخزي والعار، وإنه لكثير في أنحائها، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
على أن هؤلاء جميعا أهون شرا وأقل خطورة من ذلك الذي جلس في طرف المقعد إلى اليسار، وأخذ يبصق كل بضع ثوان بصقة لا يبالي على أنف من، ولا على عين من وقع رشاشها العذب الذي ينثره الهواء على من خلفه، كأنما يتحتم على راكب الترام أن يلبس قناعا من الأقنعة الواقية!
ومثل ذلك الظريف يتحرك لينزل فيطأ بنعله وجه نعلك، أو يفزع بيده طربوشك فما تدري إلا وقد طار عن رأسك، أو يتحاشى الانزلاق إذ يقرب من السلم فتستقر لطمة منه على عينيك أو خدك أو أنفك، بحيث لو سددها إليك من يتعمد ذلك - لا قدر الله - ما جاءت محمكة كما تجيء من يد ذلك الذي يمر بك أثناء نزوله من الترام، وإنه ليقع منه ذلك فلا يلتفت إليك بكلمة اعتذار أو بنظرة أسف! وسبحان الذي سوى الجبلات، اللطف، اللطف، يا لطيف!
ودع عنك غير من ذكرت «المتشعبطين» على السلم والمتحاربين مع «الكمساري» من أجل مليم مشكوك في أمره، أو على الأكثر من أجل قرش زائف، دع عنك هؤلاء فالأمر بينهم وبين «الكمساري» إلا إذا نفخ في زمارته، فأوقف الترام وأخذ الجميع بذنب صفيق أو صفيقين.
أقسم لك أن ذلك كله حدث في الترام في وقت معا، فإن لم تصدقني بعد هذا القسم فليس لدي شك في أنك لم تركب هذه المركبة قط.
صاحب السلطان
حملني من لا أطيق مخالفته من ذوي قرباي على مصاحبته لزيارة ذلك الذي أنعته بصاحب السلطان، فبلغنا داره وقد متع النهار أول أيام العيد ...
صفحة غير معروفة