ودخل بعد لحظة شيخ معمم ذو لحية فحيا بتحية الإسلام ثم ضم أطراف جبته بيده، ومضى إلى أحدهم ينفذ في عسر بين القماطر، فقال له: هل وجدت الورق؟ فقال: لا زلت أبحث عنه، وما كاد ينطق بهذا حتى صرخ الشيخ قائلا : ما هذا؟ حتى متى تسخر من ذقني هذه يا ولد؟ ونهض الأفندي مغضبا يدق القمطر بقبضته ويقول: عيب يا سيدنا الشيخ لولا أنك كوالدي ...
ودق الشيخ بقبضته قائلا: العيب أن تكذب وأن تضيع الأوراق وتستخف بمصالح الناس وأوقاتهم، وعاد الموظف يدق بيده دقات ويقول: عيب يا سيدنا الشيخ، والشيخ يعقب كل دقة منه بدقة من قبضته القوية حتى أيقنت أن القمطر لا شك متحطم؛ ولكني لم أحفل بالقمطر وإنما خشيت أن تنقلب الدقات لكلمات أو لطمات، فقد بلغ تحمس الشيخ أقصاه، وجحظت عيناه واصفر وجهه ودنا من الفتى ولولا أن سحبه إخوانه سحبا من وجه الشيخ لأهوى عليه بكلتا يديه؛ وخرج الشيخ وهو يستنزل خيبة الله عليه وعلى زملائه أجمعين!
وساد في الحجرة الصمت لحظة، ولم يفطن الموظفون إلى وجودي إلا وهم في هذه الحال من الخزي والغم، فسألني أحدهم ما طلبي، فأشرت إلى مكتب عمر أفندي، فقال: إنه لن يحضر اليوم؛ ومعنى ذلك أن أنصرف فنهضت للخروج وإني لأقسم للقارئ بمحرجات الأيمان غير متحمس، أني ذهبت إلى تلك الحجرة من أجل مسألتي أكثر من خمسين مرة في مدة سنتين، وقضاؤها والله لا يستغرق ساعة؛ ولم أستدر عند الخروج، بل خرجت بظهري مخافة أن يسروا عن صاحبهم بحركة منهم يكون فيها الزراية علي ...
وبعد فهل نعيش حتى نرى دواويننا تتميز ولو بشيء قليل من النظام والسرعة من مصاطب العمد و«وكالات» البلح والصابون، وسوق العصر و«مولد» المحمدي و«تكايا» الأوقاف؟ وحتى نراها تخلو من «تنابلة» السلطان أو مرتزقة «الميري»؟ يومئذ فقط نضع أقدامنا على أول الطريق المؤدية بنا إلى المدنية ...
حمار آخر ...!
الترام الجاهد يسير محملا ليس فيه ركن أو ممر أو مدخل أو شبر على السلم إلا ويشغله الراكبون متلاصقين متضاغطين، كأنما لم يأتهم نبأ هذه الهيضة التي خوفت الناس بعضهم من بعض ...
وأنا في مقعدي أسأل نفسي متعجبا كيف ينزل من يريد أن ينزل فضلا عن أن يركب من يريد أن يركب! ودقت باب الدرجة الأولى يد وحاولت فتحة، ولكنه لم يفتح؛ لأن شخصا كان يسند ظهره إليه، وهو لا يستطيع أن يتحرك من موضعه إلا أن يتحرك من يقف أمامه، ولن يستطيع هذا أن يفعل إلا أن يمكنه من يليه ... واشتد طرق الباب فتضاغط الواقفون، وانفتح الباب ودخل هذه الحجرة المكتظة فتاتان، عجبت وعجب الراكبون كيف خلصتا من الزحام حتى دخلتا الحجرة، وما أحسبهما إلا استحالتا هواء فنفذتا من الأرجل أو من فوق الرءوس حتى بلغتا حيث وقفتا بين الواقفين.
ووقف الترام فنزل اثنان من الواقفين، وقد شقا طريقهما في جهد من جهة السائق، ولم يركب أحد، ثم وقف ونزل ثلاثة ولم يركب أحد، وبقيت الفتاتان فاستندت إحداهما إلى باب والثانية إلى الآخر.
وكانت إحداهما على جانب عظيم من الملاحة والسحر تحدث أثرها في النفوس بنظراتها، وبما يبدو من براعة ذوقها في اختيار ألوانها وأشياء زينتها؛ وكانت الثانية كأنما تصحبها لتزيد جمالها أو لتنبه عليه، فقد كانت بحيث إن انتماءها إلى جنسها مما يجعل أحيانا نعته باللطف نوعا من السخرية ...
وصوبت الحسناء نظرة إلى شاب كان في سمت بصرها، فكأنما نفذت نظرتها إلى قلبه، وكأنما أراد أن يبرهن لها على أنه جدير منها بهذه النظرة، فنهض واقفا ودعا الفتاة إلى الجلوس في موضعه، وإنه ليتظرف ويتأنق ويستلين في إشارته وحركته، ويلطف في نبرته، حتى لقد أوشك أن يكون ما ينعت به جنسه من الخشونة ضربا من التعسف ...
صفحة غير معروفة