من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
تصانيف
11
ومن الوافد يتصدر أرسطو وحده. ومن الموروث ابن سينا ثم ابن باجه ثم الغزالي ثم الفارابي والمسعودي والجنيد. ويتصدر القرآن ثم الحديث. ومن أسماء المؤلفات تتصدر مؤلفات الغزالي ثم الفارابي ثم ابن سينا. ولا يذكر أرسطو مباشرة من الوافد بل من خلال كتبه أو من خلال عرض الفارابي أو ابن سينا له، الوافد من خلال الموروث.
12
لم تعد مؤلفات أرسطو ولا شروحها وتلخيصها وعرضها والتأليف فيها وافية بالغرض في مرحلة التحول إلى الإبداع الخالص. «الشفاء» مجرد عرض لأرسطو وأحيانا يتم تجاوزه كما لأن فيه أشياء ليست عند أرسطو. أما تجاوزه كيفا ففي «منطق المشرقيين» الذي به أسرار الحكمة لأن كتب أرسطو والشفاء ما زالت على مستوى الظاهر. فهل الفلسفة المشرقية هي منطق المشرقيين؟ إذا كانت كذلك فهي نية عبر عنها ابن سينا في المقدمة ولكنها لم تتحقق في الكتاب نفسه الذي أتى أقرب إلى عرض منطق أرسطو منه إلى تجاوزه. وهنا يأتي ابن طفيل لإبراز أسرار الحكمة المشرقية متجاوزا أرسطو وابن سينا معا، وتكتمل الحقيقة على يديه كما اكتملت عند أرسطو في الفلسفة اليونانية . وما زال لفظ «أسطقس» المعرب مفردا وجمعا شائع الاستعمال.
13
ويبدو تاريخ الفلسفة في بداية القصة، أسماء أعلام ومؤلفات مما يدل على بداية الوعي التاريخي وبزوغه في علوم الحكمة، وهو يؤرخ لنفسه. لقد حدث التراكم التاريخي الكافي في القرن السادس بحيث تبلور الوعي التاريخي، يرصد مساره، ويكمل تطوره، ويحقق بنيته. لقد تحول التاريخ إلى مشكلة فلسفية مستقلة عنه، وهي المشكلة الجوهرية، الصلة بين العقل والنقل أو العقل والسمع بلغة المتكلمين أو بين الفلسفة والدين أو الحكمة والشريعة بلغة الحكماء.
14
لقد حدث التراكم في المشرق الإسلامي من الفارابي وابن سينا والغزالي أكثر مما حدث في المغرب الإسلامي عند ابن باجه. لم يذكر ابن طفيل من المشرق الكندي والرازي والعامري والبيروني وأبا حيان، ربما لندرة كتبهم في المغرب، وربما لغلبة التيار العقلي العلمي الذي تمت إزاحته من التيار الصوفي الإشراقي. فقد وضع التيار العقلاني العلمي الوحي معادلا للعقل والطبيعة بينما جعله التيار الإشراقي الصوفي معادلا للقلب ولما بعد الطبيعة. والعجيب ألا يذكر ابن طفيل ابن رشد وقد كان معاصرا له وهو الذي قدمه لأبي يعقوب، ربما لأنه الإشراقي الذي لم يعجب بشارح أرسطو. ذكر ابن طفيل الحكماء بين الفلسفة والتصوف نظرا لأنه من النزعة الإشراقية الصوفية والمؤرخ لحكمة الإشراق، ولا يذكر إلا ممثليها مثل ابن سينا والغزالي وابن باجه مادحا وليس ناقدا. يقدم ابن طفيل قراءة لتاريخ الفكر من وجهة نظر حكمة الإشراق. ولا يقدم وصفا موضوعيا بل ابتسارا لأحد مكوناته وهي حكمة الإشراق، ربما على سبيل التشويق. كما يظهر الوعي التاريخي كأداة ربط بين أجزاء الخط الروائي، انتقالا من الذات إلى الموضوع، ومن العقل إلى التاريخ. ففي وصف حالات الصوفية ومقامات حي يخرج ابن طفيل إلى التاريخ ويحيل إلى الجنيد.
15
صحيح أن الفلسفة في المغرب ظهرت متأخرة عنها في المشرق لأسباب مادية، عدم وصول الكتب من المشرق إلى المغرب أو وصولها متأخرة أو لسطوة الفقهاء وسيطرتهم في نظم سياسية تستمد شرعيتها من الدين، وربما لظروف الحرب والجهاد والفتح والدفاع عن الدولة ضد هجمات الشمال، وربما البعد الجغرافي عن المناطق الحضارية في المشرق التي تم فيها نقل الوافد من اليونان وفارس والهند. ويعترف ابن طفيل أنه في الأندلس لم تصل كثير من كتب الغزالي، وما وصل ظنه الناس أنه من المضنون به على غير أهله.
صفحة غير معروفة