من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل تمثل الوافد - تنظير الموروث - الإبداع الخالص
تصانيف
على نظام الكون دليلا على الحكمة والقدرة والفضل.
8 (ج)
ويدافع ابن باجه «في السعادة المدنية أو السعادة الأخروية أو دفاع عن أبي نصر» لابن باجه عن المتقدمين ضد تهمة إنكار المعاد ونفي الوجود غير المحسوس وإرجاعه إلى قول إخوان الصفا الضالين. فصواب الوافد أفضل من خطأ الموروث. وقد أصاب المتقدمون بالرغم من خفاء الشريعة عليهم.
9
ومن الوافد لا توجد إلا إحالة واحدة إلى أرسطو من أجل إكمال السعادة الدنيوية لديه بالسعادة الأخروية. ومن الموروث يتصدر الفارابي في شرح الأخلاق، ومقالة «العقل والمعقول» ثم إخوان الصفا. ويدافع عما ينسب إلى الفارابي من إنكار المعاد. فهي خرافات عجائز مثل صدور الحيوان عن الحيوان أو عن النبات، وأقوال باطلة مكذوبة على أبي نصر. يذكر الفارابي هذا القول على جهة التوبيخ للرد عليه راويا عن الآخرين وليس معبرا عن رأيه، ويعرض آراءه البرهانية في إثبات وجود غير الوجود المحسوس. قد يكون مدسوسا عليه ومنسوبا إليه. ونسبة هذا القول إلى إخوان الصفا غير صحيحة أيضا بل إنهم يركزون على المعاد أكثر مما يجب بحيث ينسون الحياة المدنية، ويشاركون ابن باجه في النزعة الإشراقية. والبصيرة قوة إلهية فائضة عن العقل الفعال ذكرها أبو نصر في مقالة العقل والمعقول، وهي هداية تتجاوز الشرح الذي قد يفسد. ولا يخفى على الشريعة ما أتت به وهو الكمال الإنساني عن المتقدم الذي يختص بشرف الوجود من بين سائر الحيوان وهو ما خص به الإنسان وهو العقل. وتنحو الرسالة نحوا دينيا إشراقيا، وتبين أن التدبير المدني معونة عظيمة في وجود عقل الإنسان ولا سيما المدينة الفاضلة والتدبير الفاضل الذي غايته الأخيرة وجود العقل بمعلومات كثيرة أولها الله وملائكته وكتبه ورسله ومخلوقاته. ولها درجات بحسب مراتب العلم حتى يكون لكل من في المدينة قسط منه طبقا لقوته. ويستعمل ابن باجه لفظ الشريعة. كما يستعمل وسائل التعبير العربية مثل زيد أو عمرو كفاعل أو مبتدأ أو خبر في النحو أو كموضوع ومحمول في قضية في شرح صدق البصر ودور العقل. (2) ابن طفيل
وتمثل رسالة «حي بن يقظان» لابن طفيل (581ه) هذا النوع الأدبي، تنظير الموروث قبل تمثل الوافد. والعجيب أن يكون موضوعا لثلاث رسائل من ابن سينا والسهروردي وابن طفيل، فقد استطاع الموضوع المثالي أن يكون محملا بالدلائل عند ثلاثة من الفلاسفة. وتختلف الصياغات الثلاث كما، السهروردي أقصرها، وابن سينا أوسطها، وابن طفيل أطولها. وقد عرف ابن طفيل رسالة ابن سينا ونسج على منوالها كما يوحي بذلك العنوان من ألفاظها مميزا معانيها ومستخرجا موضوعها. وتدل ألقاب ابن طفيل على نزعته الصوفية مثل الكامل والعارف.
وهو تأليف يجمع بين الموروث والوافد في موضوع جوهري هو الصلة بين الدين والفلسفة، بين الوحي والعقل، بين أصل الموروث وأصل الوافد، والانتهاء إلى التوحيد بينهما من خلال الفطرة. الفطرة عالمة خيرة بطبيعتها، لا فرق بين العقل والطبيعة. والوحي كمال للفطرة من احتمال فسادها. الطريق الأول للخاصة والثاني للعامة. لذلك كانت الدلالة العامة للقصة أن الفيلسوف مؤمن وأن المؤمن فيلسوف. ولا فرق بين طريق الحكمة وطريق الوحي ضد سطوة الفقهاء الذين يهاجمون الفلسفة باسم الشريعة. وبهذا المعنى يكون ابن رشد وريث ابن طفيل في التوحيد بين الحكمة والشريعة بالرغم من الإشراقيات السينوية عند ابن طفيل. ولا يعتبر ذلك يأسا من العامة بل دفعا لها على أن تتحول إلى خاصة طلبا للرقي والكمال. فالعمل العقلي لا يقوى عليه إلا أهله سواء كان متكلما أو فيلسوفا أو فقيها، وهو العمل القلبي عند الصوفي وليس عمل الجوارح عند العامة. والتراكم على هذا النحو مستمد من الواقع مباشرة وليس من الكتاب، ترجمة وتعليقا أو شرحا وتلخيصا وجامعا أو عرضا وتأليفا وتراكما. هو أقرب إلى التراكم الصوفي الذي يصل إليه الصوفي بنفسه عن طريق الكشف، المضنون به على غير أهله، مخالفة لطريق السلف الصالح في هتك الستر. الغاية منه نقد الآراء الفاسدة لمتفلسفة العصر والدفاع عن العامة الذين طرحوا تقليد الأنبياء إلى تقليد السفهاء، ومساعدتهم على اكتشاف الحقيقة بفطرتهم. وقد توحي بعض الألفاظ بالاتجاه الشيعي مثل الأسرار والحجاب والدعوة والدعاة والإمام وأثر الغزالي في المضنون به على غير أهله. يكشف ابن طفيل الأسرار بحساب حتى لا يزيد الناس إيهاما بها والإبقاء على البعض الآخر لمن هو أهل لها. ترك الباب مواربا دون فتح أو غلق، ترهيبا وترغيبا.
10
والعجيب ألا تكون لابن طفيل مؤلفات معروفة إلا هذه الرواية، وتكون كافية ليصبح صاحب مشروع فلسفي لأنه بدأ من نقطة أصيلة هي الصلة بين الدين والفلسفة أي الموروث والوافد، والتي نشأت بعد عصر الترجمة وظهور مصدرين للمعرفة. قد تكون له مؤلفات أخرى ضاعت من أجل تدعيم رؤيته بأسلوب برهاني وليس فقط بأسلوب روائي. ربما كان عازفا عن التأليف مكتفيا بهذه الرواية بالرغم من نسبة بعض الاكتشافات في علم الفلك له. ومع ذلك يتضح التراكم الفلسفي لديه، ويظهر الوعي التاريخي من ثنايا الوعي الفلسفي. ربما كان صوفيا لا يحب التدوين ويعتمد على التجربة والمشاهدة دون البحث في المصادر والشروح والحواشي على المتون.
ويطرح موضوع الوافد سؤالا عاما: هل هناك مصدر وافد لحي بن يقظان؟ المشهور أن قصة «سلامان وأبسال» التي نقلها حنين بن إسحاق كانت النموذج الوافد السابق. ثم تحول سلامان وأبسال إلى الظاهر والباطن، الفقه والتصوف، ثنائية صوفية وتاريخية في آن واحد، الصراع بين الفقهاء والصوفية في الأندلس بيئة محلية صرفة، وليست أفلاطونية محدثة. ويصرح ابن طفيل في الخاتمة بأن هذه القصة هي قصة حي بن يقظان وسلامان وأبسال، ضاما الموروث والوافد في رؤية واحدة. ويستعمل ابن طفيل اسمي سلامان وأبسال من ابن سينا، الوافد من خلال الموروث. فابن طفيل وريث تصوف ابن سينا والغزالي في الفلسفة المشرقية مع أن القصة موضوعها الفطرة التي تجمع بين العقل والطبيعة قبل المعارف اللدنية. وهناك أيضا النموذج الإسلامي في القصص القرآني، قصة موسى وإلقائه في اليم وتربيته في منزل فرعون ثم اكتشاف الحقيقة بوحي من الله. ويشير ابن طفيل إلى الرواية عن السلف الصالح.
صفحة غير معروفة