أما بالنسبة لمقارنة المعجزة بالتحدي وعدم المعارضة، فقد لا يبلغ التحدي كل القادرين على المعارضة، ولعل القادرين تركوا المعارضة تواضعا، إعلاء لكلمة الله، أو خوفا من السيف، أو انشغالا عنها بشئون المعاش، وقد تتم المعارضة ولا تظهر؛ لإخفائها وطمس آثارها. وإن كان البعض قد عجز عن المعارضة فلربما لا يعجز البعض الآخر، بل إن عجز البعض الأول لا يدل على صدق النبي، بل على تفاوت القدرات في الفاعلية والأثر. وشرط التحدي أن يكون المتحدى بمثله داخلا تحت القدرة حتى يصح التحدي، وإلا لو طلب من الإنسان زحزحة الجبال أو إحداث زلزال فلا يكون تحديا بل تعجيزا. وإن كان التصديق يتم ضرورة، فإن الضرورة أيضا ليست بأولى بالتصديق من التكذيب، ورؤية المعجزة على أنها سحر أو رؤيتها على أنها معجزة يظهر دافع العناد.
28
فإذا كانت المعجزة دليل الصدق الوحيد على النبوة، واستحالت المعجزة استحالت النبوة بدورها، وإن لم يكن للناس طريق آخر لإثبات النبوة غير طريق المعجزات الخارقة للعادات وبطلت المعجزات بطلت النبوات، وحوصر الطريق إلى الله. وما الذي جعل المعجزة هي الطريق الوحيد لإثبات النبوة وأولى بالدلالة عليها من غيرها؟ وهي لا تصدق النبوة إلا بهذا الطريق القائم على وجود المحال الممتنع في العقل والطبيعة؟ إن المعجزة إنكار لمبادئ العقل الثابتة ولقوانين الطبيعة المطردة، فكيف تكون دليلا على وحي يستند أساسا إلى مبادئ العقل وقوانين الطبيعة؟ وكيف تكون الأعراض دليلا على وجود الله. إذا كانت المعجزة تغيرات في الأعراض وجريانها على نحو غير مألوف على الأجسام، فكيف تكون الأعراض، وهي مشروطة بالأجسام ولا تستقل بذاتها، دليلا على وجود الجواهر المفارقة؟ إن العرض لا يؤدي إلى جوهر، والمشروط لا يؤدي إلى الشارط، كما أن الفرع لا يثبت الأصل، والمعجزة فرع والنبوة أصل.
29
وما الفائدة من إثبات النبوة بالمعجزة الآن، والنبوة واقعة مسلم بها في حين أن التسليم بالمعجزة أقل؟ لقد كان الزمن الماضي زمن نشر الرسالة والرد على منكريها وليس الأمر كذلك الآن. إن التحدي الآن هو تحويل الوحي إلى علم يقوم على العقل، ويستند إلى الطبيعة ، ويحقق مصالح الناس، أو بلغة العصر تحويل الوحي الذي أتت به النبوة إلى أيديولوجية تملأ في الناس فراغهم النظري، وتقضي على فتورهم ولامبالاتهم وتجندهم؛ لاسترداد حقوقهم، والدفاع عن استقلالهم وحرياتهم، والمحافظة على أراضيهم وثرواتهم.
لقد لاحظ القدماء خاصة الحكماء أيضا التفسير النفسي للمعجزات؛ فإذا كانت المعجزات إما تركا أو فعلا أو قولا، فإن الترك يحدث بانجذاب النفس إلى عالم القدس واشتغالها عن البدن زهدا في الحياة، وعلى ما هو معروف من سير كبار القادة والزعماء. والفعل تعبير عن القدرة المطلقة الناتجة عن الإحساس بالحق وضرورة بلوغ الهدف، والقدرة على الخيال؛ صعود الجبال، قطع الفيافي والقفار، عبور المحيطات، ركوب الهواء والصعود إلى القمر والكواكب. أما القول فإنه يعبر عن القدرة على التنبؤ بناء على إحساس بالتاريخ وشعور بمساره، وإدراك لقوانينه، ومعرفة بالمراحل الماضية، وبالمرحلة الحالية، وبالمرحلة المستقبلية. فالوعي النبوي هو وعي تاريخي، يعي دروس الماضي من تاريخ النبوة، ويعرف بنية الحاضر، ولديه رؤية واضحة للمستقبل.
30
وقد يتضخم البناء النفسي فيتحول من قدرة فعلية إلى وهم، ومن صورة إلى حقيقة، ومن باعث إلى شيء، ومن إيجاب إلى سلب، ومن عبقرية إلى جنون. هنا يتم الفصل بين الذات والموضوع، فتتضخم الذات على حساب الموضوع حتى تبلغ الذات الموضوع ويضيع الموضوع المتضخم، فينشأ الوهم وخداع الحواس، وينتهي العقل وتختفي الطبيعة. وهنا تغضب الطبيعة لموت المسيح، وينشق القمر وتنكسف الشمس لموت إبراهيم، ويسبح العصا بين يدي الرسول، ويحن الجذع إليه، ويشبع المئات بل والآلاف من لقمتين وسمكتين. وقد يتحول التفسير إلى تفسير اجتماعي سياسي، ويصبح الأنبياء زعماء سياسيين مهمتهم تسييس العامة وتجنيدها وتعبئة مقدرات الأمة وشحذ إمكانياتها؛ فالأنبياء في التاريخ القديم هم كبار المصلحين والمعلمين، بل والقادة، لنشر مثل ومبادئ تتجاوز عصورهم من أجل نقل الوعي الإنساني إلى درجة أرقى، ومرحلة تالية في طريق اكتمال النبوة، وإعلان استقلال الوعي الإنساني عقلا وإرادة.
31
وكرد فعل على إثبات النبوة بالمعجزة كبرهان خارجي، يكفي سماع الخبر من الرسول وتصديقه بلا حجة أو برهان أو دليل، أو حتى التأكد من صحة الخبر ما دام المطلوب هو التصديق بصرف النظر عن صورة الدليل.
صفحة غير معروفة