23
إن القول بالطبائع ليس إنكارا للصفات عامة وللكلام خاصة، أو إنكارا للشرع وإسقاطا للتكليف؛ فهذا إرهاب باسم الذات والصفات للعلم وللحرية.
وإن تم التسليم بأن فاعل المعجزة هو الله، فلم يفعلها من أجل التصديق وأفعال الله غير معللة بعلة أو بفرض أو بغاية؟ ولماذا لا تكون المعجزات ابتداء وهو أقرب إلى نفي العلية والغائية. وقد تكون المعجزة تكرارا لعادة متطاولة، أو كرامة لولي، أو إرهاصا لنبي آخر، أو امتحانا لعقول المكلفين وليس بالضرورة للتصديق. وما حاجة الله إلى المعجزة وبقدرته مشافهة الخلق أو خلق التصديق فيهم بلا وسيلة أو ذريعة أو مناسبة؟ وهل المعجزة دليل صدق؟ وهل الصدق خارجي ضد العقل والطبيعة أم داخلي باتفاقه مع بداهة العقل وقوانين الطبيعة ومصالح الناس؟ وقد يقع التصديق بالإيهام أو بالاجتهاد أو بالتأويل، كما هو الحال في المتشابهات، فيكون للمصدق نعم الثواب، بل إن التصديق على هذا النحو متعذر؛ فإما أن يتم التصديق بنفس دعوى النبي وخبره فيه احتمال الصدق والكذب، وإما أن يتم بأمر خارجي، إما بمشافهة مع الله، أو باقتران قول يدل على صدق الرسول، ويكون هذا القول المقترن إما في مقدوره، وبالتالي يكون في مقدورنا، أو في مقدور الله وحده، معتادا وبالتالي يكون في مقدورنا، أو على غير المعتاد فيكون فعلا لله وحده يثبت قدرته ولا يثبت صدق النبي. وطالما سأل نبي معجزة في وقت معين أو مكان معين، فلم تحدث لأنها مخصصة بمشيئة الله وإرادته. إن اقتران بعض المعجزات بدعوات الأنبياء إنما كانت من قبيل الاتفاق وبمحض المصادفات، كما أن وقوعها قبل دعوته أو بعدها لا يكون دليلا على صدقه إن لم يكن دليلا على كذبه.
24
وما العمل إذا شك الناس حتى بعد وقوع المعجزات ولم يحدث التصديق بها؟ هل من الضروري وجود معجزة خاصة لكل مصدق، وإلا فليس أمامنا إلا التقليد أو الخبر أو الإيمان بلا دليل؟ وماذا تفعل الأجيال التي لم تلحق بالأنبياء وتشاهد معجزاتهم؟ هل تستمر المعجزات لهم وتتكرر جيلا بعد جيل، وبالتالي لا تصبح معجزات فريدة بواقع التكرار، أم تتوقف المعجزات وتصبح الأجيال اللاحقة بلا دليل على صدق النبوة؟ ليس أمام الأجيال الحالية إلا التصديق بالأنبياء السابقين بناء على روايات المعجزات إن كانت متواترة، وبالتالي يكون الخبر المتواتر بالنسبة لها هو الدليل على وقوع المعجزة. وإذا كان الخبر المتواتر دليلا فالأولى أن يكون كذلك مباشرة على صدق النبوة، بتواتر الكتاب مباشرة ووصوله بلا تحريف أو تبديل، بلا زيادة أو نقصان، خاصة وأن النبوة هي علاقة المرسل إليه بالمرسل إليهم، وهي الرسالة وليست علاقة المرسل بالمرسل إليه وهي النبوة.
25
وإن تم التسليم بأن الله فعلها من أجل تصديق المدعي، فلماذا يكون كل من صدق الله فهو صادق؟ يحدث هذا إذا ثبت أن الكذب على الله محال، وهذا لا يتأتى إلا بإثبات الحسن والقبح العقليين في أفعال الله، وإلا لاستحالت معرفة امتناع الكذب عليه. إن ارتباط العجز بصدق الله يوجب على الله الصدق، وهو مخالف لأصل عدم وجوب شيء عليه، وإن عدم وجوب الصدق يجوز الإضلال على الله؛ وبالتالي يجوز إظهار المعجزات على يد كاذب، ولا يظهرها على يد صادق، دون أن يكون في ذلك نقض للألوهية وإضرار بالربوبية ، وإن كثيرا من الأنبياء لم تربط دعوتهم بالآيات والمعجزات أو بتصديقها؛ مما يدل على ارتباط صدق الرسول بالمعجزات، حتى ولو أمكن التمييز بين المعجزات والكرامات من ناحية، وبين السحر والطلسمات من ناحية أخرى، فكيف يتم التصديق بالأولى وتكذيب الثانية، والكذب والإضلال والغواية وكل القبائح تجوز على الله، ما دام الله لا يجب عليه شيء؟
26
وكيف يجيز الله أمثال هذه المعجزات على أيدي الكذبة لإضلالهم دون أن يوقفهم أو ينهيهم أو يحذرهم أو يخبر الناس بها؟ وهل يجوز على الله الإضلال والله لا يفعل القبيح؟ شرط النبوة أنها من الله صدقا، وأن الله لا يفعل الكذب شرط أساسي به يمكن التفرقة بين المعجزة على يد صادق والمعجزة على يد كاذب، وأن ظهور المعجزات على أيدي الكذابين مدعي النبوة إنما يدل على أن المعجزة ليست دليلا على صحة النبوة، وإذا كانت المعجزة تقع من غير الأنبياء فما الدليل على أن كل من تقع منه المعجزة ليس نبيا؟ وإذا وقعت المعجزة على أيدي الكذبة فما الدليل على صدق النبي حتى ولو أتى بمئات المعجزات؟ وما الفرق بين المعجزة التي تقع على يد النبي الصادق وتلك التي تقع على يد النبي الكاذب؟ وما الفرق بينهما لو كان كلاهما خرقا لقوانين الطبيعة، وجريانا على غير المألوف، وسريانا على نقيض العادة؟ وحرصا على الصدق الإلهي وصدق النبي، فإن الأقرب هو عدم ظهور المعجزة على أيدي الكذابين، حتى ولو كان في ذلك عدم إعطاء الأولية المطلقة للقدرة الإلهية على صدق النبي. أما ظهور المعجزة أو الكرامة على أيدي أعداء النبي، مثل «إبليس» أو فرعون، فإنه ممكن لاستدراجهم ثم عقوبتهم، وهي في هذه الحالة تسمى قضاء حاجات ليزدادوا طغيانا وليزدادوا عقابا. وكيف يجوز ذلك على الله؛ استدراج الأعداء لزيادة العقاب، تكذيبهم وإبطال المعجزات والكرامات لهم؟ ألا يعود الأمر من جديد كما كان، ظهور المعجزة على أيدي الكذابين وأعداء النبي، فيبطل الصدق الإلهي، كما يبطل صدق النبوة، وتعجز الإرادة الإلهية، وتقوى إرادة الأعداء؟
27
صفحة غير معروفة