ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم يَعْنِي وَبعث فِي آخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم وَقد اخْتلف فِي هَذَا اللحاق الْمَنْفِيّ فَقيل هُوَ اللحاق فِي الزَّمَان أَي يتَأَخَّر زمانهم عَنْهُم وَقيل هُوَ اللحاق فِي الْفضل والسبق وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فامتن عَلَيْهِم سُبْحَانَهُ بَان علمهمْ بعد الْجَهْل وهداهم بعد الضَّلَالَة ويالها من منَّة عَظِيمَة فَاتَت المنن وجلت ان يقدر الْعباد لَهَا على ثمن الْوَجْه الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ ان اول سُورَة انزلها الله فِي كِتَابه سُورَة الْقَلَم فَذكر فِيهَا مَا من بِهِ على الانسان من تَعْلِيمه مَا لم يعلم فَذكر فِيهَا فَضله بتعليمه وتفضيله الْإِنْسَان بِمَا علمه اياه وَذَلِكَ يدل على شرف التَّعْلِيم وَالْعلم فَقَالَ تَعَالَى ﴿اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم﴾ فَافْتتحَ السُّورَة بالامر بِالْقِرَاءَةِ الناشئة عَن الْعلم وَذكر خلقه خُصُوصا وعموما فَقَالَ ﴿الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم﴾ وَخص الانسان من بَين الْمَخْلُوقَات لما اودعه من عجائبه وآياته الدَّالَّة على ربوبيته وَقدرته وَعلمه وحكمته وَكَمَال رَحمته وانه لَا إِلَه غَيره وَلَا رب سواهُ وَذكر هُنَا مبدا خلقه من علق لكَون الْعلقَة مبدأ الاطوار الَّتِي انْتَقَلت اليها النُّطْفَة فَهِيَ مبدأ تعلق التخليق ثمَّ اعاد الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ مخبرا عَن نَفسه بِأَنَّهُ الاكرم وَهُوَ الافعل من الْكَرم وَهُوَ كَثْرَة الْخَيْر وَلَا اُحْدُ أولى بذلك مِنْهُ سُبْحَانَهُ فَإِن الْخَيْر كُله بيدَيْهِ وَالْخَيْر كُله مِنْهُ وَالنعَم كلهَا هُوَ موليها والكمال كُله وَالْمجد كُله لَهُ فَهُوَ الاكرم حَقًا ثمَّ ذكر تَعْلِيمه عُمُوما وخصوصا فَقَالَ الَّذِي علم بالقلم فَهَذَا يدْخل فِيهِ تَعْلِيم الْمَلَائِكَة وَالنَّاس ثمَّ ذكر تَعْلِيم الانسان خُصُوصا فَقَالَ ﴿علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم﴾ فاشتملت هَذِه الْكَلِمَات على انه معطى الموجودات كلهَا بِجَمِيعِ اقسامها فان الْوُجُود لَهُ مَرَاتِب اربعة احداها مرتبتها الخارجية الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله خلق الْمرتبَة الثَّانِيَة الذهنية الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله ﴿علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم﴾ الْمرتبَة الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة اللفظية والخطية فالخطية مُصَرح بهَا فِي قَوْله الَّذِي علم بالقلم واللفظية من لَوَازِم التَّعْلِيم بالقلم فَإِن الْكِتَابَة فرع النُّطْق والنطق فرع التَّصَوُّر فاشتملت هَذِه الْكَلِمَات على مَرَاتِب الْوُجُود كلهَا وانه سُبْحَانَهُ هُوَ معطيها بخلقه وتعليمه فَهُوَ الْخَالِق الْمعلم وكل شَيْء فِي الْخَارِج فبخلقه وجد وكل علم فِي الذِّهْن فبتعليمه حصل وكل لفظ فِي اللِّسَان اَوْ خطّ فِي البنان فباقداره وخلقه وتعليمه وَهَذَا من آيَات قدرته وبراهين حكمته لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم وَالْمَقْصُود انه سُبْحَانَهُ تعرف إِلَى عباده بِمَا علمهمْ إِيَّاه بِحِكْمَتِهِ من الْخط وَاللَّفْظ وَالْمعْنَى فَكَانَ الْعلم اُحْدُ الادلة الدَّالَّة عَلَيْهِ بل من اعظمها وأظهرها وَكفى بِهَذَا شرفا وفضلا لَهُ الْوَجْه التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ انه سُبْحَانَهُ سمى الْحجَّة العلمية سُلْطَانا قَالَ ابْن عَبَّاس رضى الله عَنهُ كل سُلْطَان فِي الْقُرْآن فَهُوَ حجَّة وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الارض ان عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا اتقولون على الله
1 / 58