فقال الفيلسوف: لا تكلف نفسك تلك المشقة، فهم يجدون في العمل على هلاك أنفسهم، ولن تمضي عشرة أعوام حتى لا يبقى نزر قليل من أولئك البائسين؛ فالجوع والأتعاب والطمع نذير ينذرهم بالهلاك إذا لم ينذرهم السيف، والواقع أن الذين يستحقون العقاب ليسوا هؤلاء، بل هم أولئك البرابرة القاعدون، الذين يصدرون من داخل دواوينهم وفي أويقات الهضم أوامرهم بقتل مليون رجل، ثم يحمدون الله علنا على ما فعلوا.
فشعر الرحالة بدافع يدفعه إلى الشفقة على الجنس البشري، الذي اكتشف فيه ذلك القدر من المتناقضات المدهشة، فقال لأولئك السادة: بما أنكم في جملة ذلك العدد الصغير من العقلاء لا تظلمون على ما يظهر، ولا تقتلون طمعا في المال، فأسألكم أن تطلعوني على نوع الأعمال التي تقومون بها.
فقال الفيلسوف: إننا نشرح ذبابا ونقيس خطوطا، ونجمع أعدادا، فنتفق على نقطتين أو ثلاث نقاط نفهمها، ونختلف على ألفين أو ثلاثة آلاف لا نفهمها.
فحلا للشعروي وللزحلي أن يستنطقا تلك الذرات المفكرة؛ ليعرفا الأشياء التي تتفق عليها، فقال هذا الأخير: كم تعدون من الشعرى إلى برج الجوزاء؟ فأجابوا كلهم بصوت واحد: اثنتين وثلاثين درجة ونصف درجة. كم تعدون من هنا إلى القمر؟ ستين نصف قطر من الأرض. كم يبلغ ثقل الهواء الذي تعيشون فيه؟ وكان يعتقد أنهم يجهلون، ولكنهم أجابوا جميعا أن الهواء يزن نحوا من تسعمائة مرة أقل من مثل هذا الجرم من أخف ماء، وتسعة عشر ألف مرة أقل من ذهب البدرة.
فدهش القزمة الزحلي من أجوبتهم حتى كاد يحسبهم من السحرة، وكان لربع ساعة خلا أبى أن يعترف بوجود نفس فيهم.
وأخيرا قال لهم ميكروميغاس: بما أنكم تحسنون معرفة ما يخرج عنكم، فلا شك أنكم أحسن معرفة بما يدخل فيكم، فما هي نفسكم؟ وكيف تكونون أفكاركم؟
فتكلم جميع الفلاسفة دفعة واحدة شأنهم في البداية، ولكنهم جاءوا بآراء مختلفة؛ فأكبرهم سنا أورد أرسطاطاليس، ومنهم من ذكر اسم ديكارت أو لبنيتز أو لوك؛ أما التابع لمذهب أرسطاطاليس فقال بصوت مرتفع وبلهجة الواثق من نفسه: إن النفس هي الكمال في الذات، وهي علة تملك على يدها القدرة على أن تكون كما هي، هذا ما صرح به أريسطو في الصفحة ال 633 من طبعة اللوفر.
وأورد الفيلسوف استشهادا باللغة اليونانية، فقال المارد: أنا لا أحسن اللغة اليونانية. فقالت الحشرة الفلسفية: ولا أنا كذلك. فاستطرد الشعروي قائلا: فيم إذن تستشهد بذلك الأريسطو باللغة اليونانية؟ فأجاب العالم : لأنه يجب أن نستشهد بما لا نفهم باللغة التي نحن أقل فهما لها من سواها.
وقال التابع لمذهب ديكارت: النفس هي روح طاهرة، اكتسبت في أحشاء أمها جميع الأفكار الميتافيزية، وعند خروجها من أحشاء الأم ذهبت توا إلى المدرسة، فتلقنت من جديد كل ما كانت تدركه تمام الإدراك، وظلت جاهلة إياه تمام الجهل.
فأجاب الحيوان البالغ من الطول ثمانية فراسخ: كان الأحرى بنفسك ألا تكون عالمة في بطن أمك من أن تكون جاهلة، وأنت صاحب لحية، ولكن ماذا تفهم بالروح؟
صفحة غير معروفة