قال وقيل هما فعلان والمعنى أن منتهى ما يرتفع إليه نظر من يشتغل به نادرا هو النقل عن شخص معين أو مجهول من غير التفات إلى دراية واستبصار في رواية فوجب علينا أن نرغب طلبة زماننا في طلب التدقيق ونسلك بهم في ذلك العلم مسالك التحقيق وإني قد طالعت ما وقع إلي من الكتب المصنفة في هذا الفن فلم أر فيها ما فيه شفاء لعليل بأمراض الأهواء في الآراء أو رواء أي ري أو إرواء لغليل لحرارة العطش بفقدان المطالب الاعتقادية والشوق إليها وفي الصحاح أن الرواء بالمد وفتح الراء هو الماء العذب وبكسرها جمع ريان وبضمها المنظر الحسن سيما حذف منه كلمة لا لكثرة الاستعمال والجملة الحالية أعني قوله والهمم قاصرة مؤولة بالظرف نظرا إلى قرب الحال من ظرف الزمان فصح وقوعها صلة لما وهذا من قبيل الميل إلى المعنى والإعراض عما يقتضيه اللفظ بظاهره أي انتفى حصول الشفاء والإرواء عن تلك الكتب في كل زمان لا مثل انتفائه في زمان قصور الهمم فإن هذا الانتفاء أقوى والرغبات في تعلمه فاترة والدواعي إليه قليلة والصوارف عنه متكاثرة ثم أنه بين ما أجمله من حال تلك الكتب بقوله فمختصراتها قاصرة عن إفادة المرام باختصارها المخل ومطولاتها مع الإسام بما فيها من الإسهاب الممل مدهشة للأفهام في الوصول إلى حقائق المسائل ثم زاد في ذلك البيان بذكر أحوال المصنفين في تصانيفهم الكلامية فقال فمنهم من كشف عن مقاصده أي مقاصد علم الكلام القناع بإزالة أستارها عنها ولكنه قنع من دلائله بالإقناع بما يفيد الظن ويقنع ومنهم من سلك المسلك السديد في الدلائل لكن يلحظ المقاصد ينظر إليهاا بمؤخرة عينه من مكان بعيد فلم يكشفها ولم يحررها ومنهم من غرضه نقل المذاهب التي ذهبت إليها طوائف من الناس واستقروا عليها والأقوال التي صدرت عمن قبله والتصرف بالرفع عطفا على نقل في وجوه الاستدلال وتكثير السؤال والجواب ولا يبالي إلام المآل إلى أي شيء مرجع نقله وتصرفه وتكثيره هل يترتب عليها ثمرة أو يزداد بها حيرة ومنهم من يلفق يجمع ويضم مغالط شبها يغلط فيها لترويج رأيه ولا يدري أن النقاد من ورائه فيزيفها ويفضحها ومنهم من ينظر في مقدمة مقدمة ويختار منها من المقدمات التي نظر فيها ما يؤدي إليه بادئ رأيه أي أوله بلا إمعان وتأمل ويبني عليها مطالبه وربما يكر يرجع ويحمل بعضها بعض تلك المقدمات على بعض بالإبطال ويتطرق إلى المقاصد بسبب الاختلال ومنهم من يكبر حجم الكتاب بالبسط في العبارة والتكرار في المعنى ليظن به أنه بحر زخار كثير الماء مواج من زخر البحر امتد وارتفع ومنهم من هو كحاطب ليل كمن يجمع الحطب في الليل فلا يميز بين الرطب واليابس والضار والنافع وجالب رجل وخيل الرجل جمع الراجل وهو خلاف الفارس والخيل الفرسان يعني كجالب العسكر بأسره ضعيفة وقوية ثم أشار إلى وجه الشبه في جانب المشبه في كلا التشبيهين بقوله يجمع ما يجده من كلام القوم ينقله نقلا ولا يستعمل عقلا ليعرف أغث ما أخذه أم ثمين وسخيف أي رقيق ركيك ما ألفاه ما وجده أم متين أي قوي فصار جميع ما ذكره باعثا له على تأليف الكتاب كما أشار إليه بقوله فحداني ساقني وبعثني الحدب العطف والشفقة على أهل الطلب لهذا العلم ومن له في تحقيق الحق فيه إرب حاجة إلى أن كتبت هذا إشارة إلى كتابه كتابا مقتصدا متوسطا لا مطولا مملا بتطويله ولا مختصرا مخلا بإيجازه أودعته أوردت فيه لب الألباب خلاصة العقول وميزت فيه القشر من اللباب ولم آل أي لم أترك جهدا سعيا وطاقة في تحرير المطالب الكلامية وتقرير المذاهب الاعتقادية وتركت الحجج تتبختر تتمايل في مشيها كالمتدلل بجماله اتضاحا مفعول له والشبه تتضاءل تتصاغر وتتحاقر افتضاحا كالذي ظهرت قبائحه وانكشفت سوآته ونبهت في النقد والتزييف للدلائل والهدم والترصيف أي الإحكام للمقاصد على نكت هي ينابيع التحقيق وفقر تهدي إلى مظان التدقيق النكتة طائفة من الكلام منقحة مشتملة على لطيفة مؤثرة في القلوب والينبوع عين الماء والفقرة بالسكون فقارة الظهر وتطلق على أجود بيت في القصيدة تشبيها له بها وعلى قرينة الاسجاع أيضا وأنا أنظر من الموارد مواضع الورود جمع مورد من ورد الماء إلى المصادر مواضع الرجوع من صدر إذا رجع وأتأمل في المخارج قبل أن أضع قدمي في المداخل ثم أرجع القهقري أي الرجوع إلى خلف أتأمل فيما قدمت هل فيه من قصور فأزيله وأتمه وأرجع البصر كرة بعد أخرى هل أرى من فطور أي شق فأسده وأصلحه حافظا حال من فاعل كتبت وما في حيزه من أودعته وما عطف عليه أي فعلت كل ذلك حافظا للأوضاع التي ينبغي أن يحافظ عليها رامزا مشيرا بإيجاز العبارة مشبعا موضحا بأطنابها في مقام الرمز والإشباع ولقد بالغ في تحرير كتابه ونصح طالبيه حتى جاء متعلق بتلك الأفعال المذكورة كما أردت ووفق الله وسدد في إتمام ما قصدت ثم بين مجيئه على وفق إرادته بقوله جاء كلاما لا عوج فيه ولا إرتياب ولا لجلجة أي ولا تردد ولا اضطراب متناسبا صدوره أوائله وروادفه أواخره متعانقا سوابقه ولو احقه
صفحة ٢٥