[جزء 1]
[أول الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحات من تقدست سبحان جماله عن سمة الحدوث والزوال وتنزهت سرادقات جلاله عن وصمة التغير والانتقال تلألأت على صفحات الموجودات أنوار جبروته وسلطانه وتهللت على وجنات الكائنات آثار ملكوته وإحسانه تحيرت العقول والأفهام في كبرياء ذاته وتولهت الأذهان والأوهام في بيداء عظمة صفاته يا من دل على ذاته بذاته وشهد بوحدانيته نظام مصنوعاته صل على نبيك المصطفى ورسولك المجتبي محمد المبعوث بالهدى إلى كافة الورى وعلى آله البررة الأتقياء وأصحابه الخيرة الأصفياء ما تعاقبت الظلم والضياء
صفحة ٥
وبعد فإن أنفع المطالب حالا ومالا وأرفع المآرب منقبة وكمالا وأكمل المناصب مرتبة وجلالا وأفضل الرغائب أبهة وجمالا هو المعارف الدينية والمعالم اليقينية إذ يدور عليها الفوز بالسعادة العظمى والكرامة الكبرى في الآخرة والأولى وعلم الكلام في عقائد الإسلام من بينها شأنا وأقواها برهانا وأوثقها بنيانا وأوضحها تبيانا فإنه مأخذها وأساسها وإليه يستند اقتناصها واقتباسها بل هو كما وصف به رئيسها ورأسها ومما صنف فيه من الكتب المنقحة المعتبرة وألف فيه من الزبر المهذبة المحررة كتاب المواقف الذي إحتوى من أصوله وقواعده على أهمها وأولاها ومن شعبه وفوائده على ألطفها وأسناها ومن دلائله العقلية على أعمدها وأجلاها ومن شواهده النقلية على أفيدها وأجداها كيف لا وقد انطوى على خلاصة أبكار الأفكار وزبدة نهاية العقول والأنظار ومحصل ما لخصه لسان التحقيق وملخص ما حرره بنان التدقيق في ضمن عبارات رائقة معجزة وإشارات شائقة موجزة فصار بذلك في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار واستمال إليه بصائر أولي الأبصار من أذكياء الأمصار والأقطار فاستهتروا بكنوز عباراته الجامعة ولم يجدوا عليها دليلا واستهيموا برموز إشاراته اللامعة ولم يهتدوا إليها سبيلا فاجتمع إلي نفر من أجلة الأحباب المتطلعين إلى سرائر الكتاب واقترحوا علي أن أكشف لهم عن مخدراته الأستار وأبرز لهم من نقاب الحجاب هاتيك الأسرار ليجتلوها بأعينهم متبرجات بزينتها متبخترات بمحاسن فطرتها فأسعفتهم إلى ذلك متمسكا بحبل التوفيق ومستهديا إلى الطريق وشرحته بحمد الله سبحانه شرحا يذلل من شوارده صعابها ويميط عن خرائده نقابها يهتدي به السادي إلى لب الألباب ويطلع به الناشي على التعجب العجاب وضمنته جميع ما يحتاج إليه من بيان ما فيه وما له وما عليه مراعيا في ذلك شريطة الإنصاف مجانبا عن طريقة الاعتساف ولما تيسر لي إتمامه وختم بالخير اختتامه خبرت بالدعاء لمن أيده الله بالسلطنة العظمى والخلافة الكبرى وزاده بسطة في الفضل والندى وشيد ملكه بجنود لا قبل لها من العدى وأمده بمعقبات من السموات العلى يحفظونه من بين يديه ومن خلفه بأمر ربه الأعلى وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ليحق به الحق ويقطع دابر الكافرين ويبطل به الباطل ويشفي غيظ صدور قوم مؤمنين ويجعل له لسان صدق في الآخرين ويرفع مكانه يوم الدين في أعلى عليين وما هو إلا حضرة المولى السلطان الأعظم والخاقان الأعلم الأكرم مالك رقاب الأمم من طوائف العرب والعجم المختص من لدن حكيم عليم بفضل جسيم وخلق عظيم ولطف عميم شمل الورى ألطافه وعمهم أعطافه وصانهم أكنافه من كل ما لا يرتضي مكارمه لا تحصى ومآثره لا تستقصى
مولى عطاياه سمت فوق المدى ... وتباعدت عن رتبة الإدراك
الدر والدرى خافا جوده ... فتحصنا في البحر والأفلاك
من التجأ إلى جنابه يجد له مكانا عليا ومن أعرض عن بابه لم يجد له نصيرا ولا وليا إذا هم بمنقبة أمضى وإذا عن له مكرمة أسرع إليها ومضى
عزماته مثل السيوف صوارما ... لو لم يكن للصارمات فلول
ناشر العدل والإحسان على الأنام وباسط الأمن والأمان في الأيام هو الذي رفع رايات العلم والكمال بعد انتكاسها وعمر رباع الفضل والإفضال بعد اندراسها فعادت رياض العلوم إلى روائها مخضرة الأطراف وآضت حدائقها إلى بهائها مزهرة الجوانب والأكناف ملجأ سلاطين العالم بالاستحقاق ومفخر أساطين بني آدم في الآفاق السلطان المؤيد المنصور المظفر غياث الحق والدولة والدين بير محمد اسكندر خلد الله ملكه وسلطانه وأفاض على العالمين بره وإحسانه
وهذا دعاء لا يرد لأنه ... صلاح لأصناف البرية شامل
صفحة ٧
وها أنا أفيض في المقصود متوكلا على الصمد المعبود فأقول قال المص 8 - بسم الله الرحمن الرحيم
ضمن خطبة كتابه الإشارة إلى مقاصد علم الكلام رعاية لبراعة الاستهلال فبسمل أولا تيمنا ثم قال الحمد لله العلي شأنه أمره وحاله في ذاته وصفاته وأفعاله فإنه تعالى جامع لجهات علو الشأن لا يتطرق إلى سرادقات قدسه شائبة النقصان الجلي برهانه حجته القاطعة التي نصبها دالة على وجود ذاته واتصافه بكمالاته وهي آياته المنبثة في الآفاق والأنفس تجتليها بصائر أولي الأبصار وتشاهد بها أسرارا يضيق عن تصويرها نطاق الإظهار القوي سلطانه سلطنته ونفاذ حكمه إذ لا يستعصى على إرادته شيء من الأشياء ولا يجري في ملكوته إلا ما يشاء الكامل حوله قوته المحولة للممكنات من حال إلى حال إيجادا وإفناء إعادة وابداء الشامل طوله فضله ونواله فإن رحمته وسعت كل شيء على حسب حاله ثم أنه قرر جميع ما ذكر بما اقتبس من قوله تعالى الذي خلق سبع سموات
هي أفلاك الكواكب السبعة السيارة فإن الفلكين الآخرين يسميان كرسيا وعرشا
ومن الأرض مثلهن
مثل السموات في العدد كما ورد في الأثر من أن الأرض أيضا سبع طبقات وفي كل طبقة منها مخلوقات وما يعلم جنود ربك إلا هو
صفحة ٨
وقد تؤول تارة بالأقاليم السبعة وأخرى بطبقات العناصر الأربعة حيث سبعا بكمال قدرته متعلق بخلق وجعل الأمر أي حكمه أو تدبيره يتنزل بينهن من السماء السابعة إلى الأرض السفلى ببالغ حكمته التي هي إتقانه وإحكامه في علمه وفعله وكرم بني آدم نوع الإنسان على غيره بالعقل الغريزي أي بالقوة المستعدة لإدراك المعقولات التي جبلت عليها فطرتهم ويسمى عقلا هيولانيا والعلم الضروري الحاصل لهم بلا اكتساب المسمى عقلا بالملكة وأهلهم جعلهم أهلا وفي نسخة الأصل وأهله بتأويل الإنسان للنظر والاستدلال بالعلوم الضرورية والارتقاء في مدارج الكمال وذلك بأن يرتقي أولا من الضروريات إلى مشاهدة النظريات ويسمى عقلا مستفادا ثم تتكرر مشاهدتها مرة بعد أخرى حتى تحصل له ملكة استحضارها متى أريد بلا تجشم كسب جديد ويسمى عقلا بالفعل وهو وإن كان متأخرا عن المستفاد في الحدوث لكنه وسيلة إليه متقدمة عليه في البقاء وقد يقال العقل المستفاد هو أن تصير النفس الناطقة بحيث تشاهد معقولاتها بأسرها دفعة واحدة فلا يغيب عنها شيء منها أصلا وهذا هو الغاية القصوى في الارتقاء في الكمالات العلمية ومستقره الدار الآخرة وأما في الدار الدنيا فقد يرتجى لمحات منه للنفوس المجردة عن العلائق البشرية ثم أمرهم عطف على كرم مع ما عطف عليه وكلمة ثم على معناها الأصلي الذي هو المهلة والمراد أنه تعالى أمرهم على ألسنة الرسل بالتفكر في مخلوقاته وأحوالها والتدبر لمصنوعاته وأطوارها وفي قوله ليؤديهم أي التفكر والتدبر فيها مع ما في حيزه نوع تفصيل لما أجمله من مباحث الإلهيات والاستدلال عليها بالممكنات في قوله العلي شأنه وما يعقبه إلى العلم بوجود صانع لأن المخلوقات حادثة ولا بد للحادث من صانع قديم لا أول لوجوده إذ لو كان أيضا حادثا لاحتاج إلى صانع آخر فتسلسل أو دار قيوم قائم بنفسه مقيم لغيره فإن ذلك لازم لكونه صانعا حقيقيا
حكيم لظهور إتقانه في آثاره الصادرة عنه واحد في صفات الألوهية لا شريك له فيها وإلا لاختل النظام المشاهد في العالم
أحد في حد ذاته لا تركيب فيه وإلا لكان ممكنا وحادثا
فرد لا شفع له من صاحبة أو ولد لعدم مجانسته غيره
صمد سيد يقصد في الحوائج من صمده يصمده صمدا أي قصده منزه عن الأشباه المشاركة له في صفاته والأمثال الموافقة إياه في حقيقة ذاته
متصف بصفات الجلال أي العظمة يقال جل فلان إذا عظم قدره وجلال الله عظمته
صفحة ١٠
مبرأ عن شوائب النقص جامع لجهات الكمال أي في الذات والصفات والأفعال غني في جميع ذلك عما سواه فلا يحتاج إلى شيء من الأشياء فيما ذكرناه
عالم بجميع المعلومات لما سيأتي من أن المقتضى لعلمه خصوصية ذاته والمصحح للمعلومية ذوات المفهومات ولا شك أن نسبة ذاته إلى جميعها على السواء فوجب عموم علمه إياها فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء أي لا يبعد ولا يغيب عنه أقل قليل هو مثل في القلة فكيف بالزائد المشتمل عليه
قادر على جميع الممكنات لأن مقتضى القدرة ذاته ومصحح المقدورية هو الإمكان المشترك بينها فوجب شمول قدرته أياها على سبيل الاختراع والإنشاء أي بلا احتذاء مثال يقال اخترعه أي ابتدعه وأصل الخرع هو الشق وأنشأ يفعل كذا أي ابتدأ يفعل كذا
مريد لجميع الكائنات خيرها وشرها لأن وقوع ما لا يريده بل يكرهه كما زعمت المعتزلة يستلزم عجزه المنافي للألوهية
صفحة ١١
تفرد بمتقنات الأفعال بالأفعال المتقنة المحكمة الخالية عن الاختلال وأحاسن الأسماء وإنما اختار صيغة الفعل أعني تفرد على متفرد تنبيها على أنه استئناف يدل على اتصاف ذاته بما ذكر من الصفات فإن الإتقان المشير إليه قوله تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء يدل على ذلك علمه وقدرته وإرادته كما أن أسماءه الحسنى تنبىء عن اتصاف المسمى بالكمالات والتبرؤ من النقائص
أزلي هو أعم من القديم لأن إعدام الحوادث أزلية وليست بقديمة وإنما ذكره مع الاستغناء عنه بقديم ليقارنه لفظ أب دي فإنهما يذكران غالبا معا
توحد بالقدم والبقاء ربط بالأزلي على طريق الاستئناف بصيغة الفعل توحده بالقدم وذلك لا ينافي كون صفاته الزائدة على ذاته قديمة لأنها ليست مغايرة له وربط بالأبدي توحده بالبقاء فإنه الباقي بذاته وما سواه إنما هو باق به وبإرادته وقضى أي حكم على ما عداه بالعدم والفناء هو العدم الطارىء على الوجود فهو أخص من العدم مطلقا له الملك توطئة لما يذكره من صفاته الفعلية وما يتعلق بها وإنما ذكرها بصيغ الأفعال لمناسبتها إياها يحيي ويبيد من الإبادة بمعنى الإهلاك ويبديء ويعيد وينقص من خلقه ويزيد كل ذلك على وفق مشيئته لا يجب عليه شيء من الأفعال كما يزعمه أهل الاعتزال إذ لا حاكم فوقه يوجبه عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكون العقل حاكما باطلا كما ستعرفه له الخلق والأمر له الإيجاد والحكم يفعل ما يشاء بقدرته ويحكم ما يريد بحكمته لا مانع لمشيئته ولا راد لحكمه لا تعلل أفعاله بالأغراض والعلل لأن ثبوت الغرض للفاعل من فعل يستلزم استكماله بغيره وثبوت علة لفعله يستلزم نقصانه في فاعليته وليس من يلزم من ذلك عبث في أفعاله تعالى لأنها مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى إلا أنها ليست عللا لأفعاله ولا أغراضا له منها
وقدر الأرزاق والآجال في الأزل أشار به إلى القضاء الذي يتبعه القدر والرزق عندنا ما ينتفع به حلالا كان أو حراما والأجل يطلق على جميع مدة الشيء كالعمر وعلى آخره الذي ينقرض فيه كوقت الموت
صفحة ١٢
وقوله ثم أنه بعث إليهم الأنبياء والرسل إشارة إلى مباحث النبوات وكلمة ثم للتراخي في الرتبة فإن البعثة مشتملة على أحكام كثيرة أشار إليها ههنا سوى الأمر بالتفكر الذي ذكره فيما سبق ولا يجوز حملها على المهلة بناء على أن ذلك الأمر يعرف بالعقل فإنه باطل عند المصنف والرسول نبي معه كتاب والنبي غير الرسول من لا كتاب معه بل أمر بمتابعة شرع من قبله كيوشع عليه السلام مثلا مصدقا لهم للأنبياء والرسل بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة فإن ما يصدق الله به أنبياءه في دعوى النبوة يسمى معجزة لإعجازه الناس عن الإتيان بمثله وآية أيضا لكونه علامة دالة على تصديقه إياهم والباهرة الغالبة من بهر القمر إذا أضاء حتى غلب ضوءه ضوء الكواكب ليدعوهم بتسكين الواو إلى تنزيهه عن النقائص وتوحيده عن الشركاء وخص التوحيد بالذكر مع اندراجه في التنزيه لمزيد اهتمام بشأنه ويأمروهم بمعرفته بمعرفة وجوده وتعظيمه بإثبات الكمالات الوصفية الذاتية وتمجيده بإثبات الكمالات الفعلية تكميلا للمبعوث إليهم في قوتهم النظرية ويبلغوا أحكامه المتعلقة بأفعالهم إليهم تكميلا لهم في قوتهم العملية مبشرين ومنذرين بوعده بنعيمه المقيم ووعيده بنار الجحيم فأقام بهم على المكلفين الحجة وأوضح المحجة فانقطعت بذلك أعذارهم بالكلية قال الله تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
صفحة ١٣
وأما من نشأ على شاهق جبل ولم تبلغه دعوة نبي أصلا فإنه معذور عند الإشاعرة في ترك الأعمال والإيمان أيضا ثم ختمهم بأجلهم قدرا مرتبة وشرفا وأتمهم بدرا شرعا يهتدى به في ظلمات الهوى وأشرفهم نسبا فإن الله اصطفاه من أشرف القبائل كما نطق به الحديث المشهور وأزكاهم مغرسا مكان غرس وأطيبهم منبتا موضع نبات وأكرمهم محتدا مكان إقامة من حتد بالمكان يحتد إذا أقام به والمراد بهذه الثلاثة مكة شرفها الله فإن الأماكن لها مدخل في زكاء الأخلاق وطهارتها وطيب الأوصاف ووسامتها وحسن الأفعال وكرامتها وهي أزكى البلاد عند المشركين الذين هم نجس قد طردوا عنها بقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام به عامهم هذا
وأطيبها وأحبها إلى رسول الله لقوله عليه السلام ما أطيبك من بلد وأحبك إلي
وأكرمها عند الله لقوله عليه السلام إنك لخير أرض وأحب أرض الله إلى الله
صفحة ١٤
وأقوامهم دينا وأعدلهم ملة الدين والملة يتحدان بالذات ويختلفان بالاعتبار فإن الشريعة من حيث أنها تطاع تسمى دينا ومن حيث أنها يجتمع عليها تسمى ملة وإنما كان شرعه أقوم وأعدل لخلوه عن الآصار والتكاليف الشاقة التي كانت على اليهود من وجوب قطع موضع النجاسة وحرمة البيتوتة مع الحائض في بيت واحد وتعين القود وعن التخفيف المفرط المفوت لمحاسن الآداب الذي كان في دين النصارى من مخامرة النجاسات ومباضعة الحيض وتعين العفو في القصاص إلى غير ذلك
وأوسطهم أمة الأوسط كالوسط بمعنى الأفضل وكذلك جعلناكم أمة وسطا
وأسدهم أصوبهم قبلة فإن الكعبة أول بيت وضع للناس مباركا وأسد ما استقبل إليه وأشدهم عصمة فإن الأنبياء معصومون وكان عليه الصلاة والسلام أشدهم وأقواهم في العصمة لأن الله تعالى أعانه على قرينه من الجن فلم يأمره إلا بخير
وأكثرهم حكمة علمية وعملية كما تشهد به سيرته لمن تتبعها وأعزهم نصرة فإنه خص بالرعب مسيرة شهر قال تعالى وينصرك الله نصرا عزيزا بالغا في العز والغلبة
سيد البشر كما اشتهر في الخبر
المبعوث إلى الأسود والأحمر إلى العرب والعجم وقيل إلى الأنس والجن
الشفيع المشفع المقبول الشفاعة يقال شفعته أي قبلت شفاعته يوم المحشر بكسر الشين من حشر يحشر ويحشر حبيب الله
صفحة ١٥
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم كني عليه السلام بأبي القاسم إما لأن القاسم أكبر أولاده وإما لأنه يقسم للناس حظوظهم في دينهم ودنياهم وذكر الأب حينئذ مبالغة في مباشرة القسمة
وأنزل معه عطف على ختمهم وأشار إلى أظهر معجزاته الدالة على نبوته فإن الباقي على وجه كل زمان والدائر على كل لسان بكل مكان كتابا عربيا مبينا أي ظاهرا إعجازه أو مظهرا للأحكام من أبان بمعنى ظهر أو أظهر فأكمل لعباده دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا مأخوذ من قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية
كتابا بدل من كتابا عربيا
كريما مرضيا جامعا لمنافع لا تستقصى
صفحة ١٦
وقرآنا مقروءا قديما لأن كلامه تعالى من صفاته الحقيقية التي لا مجال للحدوث فيها ذا غايات هي أواخر السور ومواقف هي فواصل الآيات محفوظا في القلوب ويروى في الصدور مقروءا بالألسن مكتوبا في المصاحف وصف القرآن بالقدم ثم صرح بما يدل على أن هذه العبارات المنظومة كما هو مذهب السلف حيث قالوا إن الحفظ والقراءة والكتابة حادثة لكن متعلقها أعني المحفوظ والمقروء والمكتوب قديم وما يتوهم من أن ترتب الكلمات والحروف وعروض الانتهاء والوقوف مما يدل على الحدوث فباطل لأن ذلك لقصور في آلات القراءة وأما ما اشتهر عن الشيخ أبي الحسن الأشعري من أن القديم معنى قائم بذاته تعالى قد عبر عنه بهذه العبارات الحادثة فقد قيل إنه غلط من الناقل منشأة اشتراك لفظ المعنى بين ما يقابل اللفظ وبين ما يقوم بغيره وسيزداد ذلك وضوحا فيما بعد إن شاء الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا يجد إليه الباطل سبيلا من جهة من الجهات إلا أنه خص هاتين الجهتين لأن من يأتي شيئا يأتيه غالبا من قدامه أو من خلفه ولا يتطرق إليه نسخ أي لا ينتهي حكمه بعد زمانه عليه السلام وذلك لانقطاع الوحي وتقرر أحكامه إلى يوم القيامة
ولا تحريف في أصله بأن تبدل كلماته عن مواضعها كما فعلت اليهود بكلم التوراة أو وصفه بأن يغير مثلا إعرابه أو تشديده كما غيرت النصارى تشديد ما أنزل إليهم في الإنجيل من قوله ولد الله عيسى من جارية عذراء أي جعله متولدا منها وإنما لم يتطرق إلى القرآن تحريف أصلا لقوله تعالى وإنا له لحافظون
ولما توفاه إشارة إلى مباحث الإمامة فإنها وإن كانت من فروع الدين إلا أنها ألحقت بأصوله دفعا لخرافات أهل البدع والأهواء وصوتا للأئمة المهديين عن مطاعنهم كيلا يفضي بالقاصرين إلى سوء اعتقاد فيهم وفق أصحابه لنصب أكرمهم وأتقاهم يعني أبا بكر رضي الله عنه إذ قد نزل فيه وسيجنبها الأتقى
صفحة ١٧
وقد علم أن أكرمهم عند الله أتقاهم وأشار إلى أن انعقاد إمامته كان بالبيعة والإجماع أحقهم بخلافته وأولاهم فإنه عليه السلام جعله خليفة له في إمامة الصلاة حال حياته فأبرم قواعد الدين أحكمها ومهد بسطها ووطأها من ذلك تصلبه في دفع مانعي الزكاة معللين بأن صلاته عليه السلام كانت سكنا لهم دون صلاته ورفع مبانيه وشيد يقال شيد البناء طوله وأقام الأود ورتق الفتق الأود الاعوجاج والرتق ضد الفتق وهو الشق ولم الشعث يقال لم الله شعثه أي أصلح وجمع ما تفرق من أموره وسد الثلمة الخلل وقام قيام الأبد بأمر دينهم ودنياهم الأيد بوزن السيد هو القوي وجلب المصالح جذبها ودرأ المفاسد دفعها لأولاهم وأخراهم وكفاه في دفع المفاسد أن قتل مسيلمة الكذاب في خلافته وتبع من بعده من الخلفاء الراشدين سيرته واقتفى اتبع أثره هو بتحريك الثاء ما بقي من رسم الشيء والتزم وتيرته طريقته فجبروا فقهروا عتاة الجبابرة هما جمع العاتي وهو المتجاوز الحد وجمع الجبار وهو الذي يقتل على الغضب وقسروا أعناق الأكاسرة جمع كسرى بفتح الكاف وكسرها معرب خسرو وهو لقب ملوك الفرس حتى أضاءت بدينه الافاق وأشرقت الآفاق بذلك كل الإشراق وزينوا المغارب والمشارق بالمعارف بالعلوم والاعتقادات الحقة ومحاسن الأفعال المرضية ومكارم الأخلاق الزكية وطهروا من التطهير الظواهر من الفسوق من الخروج عن الطاعة والبطالة بكسر الباء وهي الكسالة المؤدية إلى إهمال المهمات والبواطن من الزيغ وهو الميل إلى العقائد الزائفة الباطلة والجهالة والحيرة وهي التردد بين الحق والباطل والضلالة وهي سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب صلى الله عليه صلاة تكافئ تماثل سابق بلائه سابق مشقته وعنائه في إزهاق الباطل وإفنائه وتضاهي تشابه حسن غنائه نفعه وكفايته في إظهار الحق وإعلائه ما طلع نجم وهوى وعلى آله نجوم الهدى ومصابيح الدجى يهتدى بهم في مسالك الأفكار ومنازل الأعمال وعلى جميع أصحابه ممن هاجر إليه من أوطانه أو نصر وآوى في مكانه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه تسليما كثيرا وبعد شرع يبين الباعث على تأليف الكتاب فإن كمال كل نوع يعني أن كماله بعد تحصله وتكمله نوعا بمنوعه المسمى كمالا أول على الإطلاق إنما هو بحصول صفاته الخاصة به وصدور آثاره المقصودة منه ويسمى هذا الكمال كمالا ثانيا
وأشار إلى أنه قسمان أحدهما صفات تخصه قائمة به غير صادرة عنه كالعلم للإنسان مثلا والثاني آثار صادرة عنه مقصودة منه بخصوصه فتختص به أيضا كالكتابة الصادرة عنه وكالمضاء للسيف وبحسب زيادة ذلك المذكور أعني الكمال الثاني ونقصانه بفضل بعض أفراده أي أفراد ذلك النوع بعضا إلى أن يعد أحدهم بألف
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... إلى المجد حتى عد ألف بواحد
بل يعد أحدهم سماء والآخر أرضا
الناس أرض بكل أرض ... وأنت من فوقهم سماء
وأما تفاضل الأنواع فيما بينها فبحسب تفاضل منوعاتها المستتبعة لخواصها وآثارها المقصودة منها كما أشار إليه بقوله والإنسان مشارك لسائر الأجسام في الحصول في الحيز في المكان والفضاء الخالي عن المتحيز وللنباتات في الإغتداء والنشوء والنماء وللحيوانات العجم في حياته بأنفاسه وحركته بالإدارة وإحساسه
صفحة ١٩
وهذه الأمور المشتركة بينه وبين غيره ليست كمالا له من حيث أنه إنسان بل إنما هي للجسم مطلقا أو للجسم النامي أو للحيوان وإنما يتميز الإنسان عن هذه الأمور المشاركة فيما ذكر بما أعطي من القوة النطقية التي هي كماله الأول المنوع إياه وما يتبعها من الكمالات الثانية التي بها تتفاضل أفراده بعضها عن بعض من العقل أي استعداده لإدراك المعقولات والعلوم الضرورية الحاصلة له باستعمال الحواس وإدراك المحسوسات والتنبه لما بينها من المشاركات والمباينات وأهليته للنظر والاستدلال وترقيه بذلك في درجات الكمال وعلمه بما أمكن واستحال فإذا كماله الأشرف الأعلى إنما هو بتعقل المعقولات الأولى واكتساب المجهولات منها وإن كانت الأخلاق الحسنة التابعة للأعمال الصالحة كمالا له معتدا به أيضا لكن الكمالات العلمية أرفع وأسنى إذ لا كمال له كمعرفته تعالى
صفحة ٢٠
والعلوم متشعبة متكثرة والإحاطة بجملتها متعسرة أو متعذرة فلذلك أي فلتعسر الإحاطة بل لتعذرها افترق أهل العلم زمرا فرقا وتقطعوا أي تقسموا أمرهم فيما بينهم زبرا هو بفتح الباء جمع زبرة وهي القطعة من الحديد ونحوها وبضمها جمع زبور بمعنى الكتاب أي اتخذوا أمر العلم وطلبهم إياه فيما بينهم قطعا مختلفة أو كتبا متفاوتة دائرا أمرهم فيه بين منقول متخالف الأصناف ومعقول متابين الأطراف وفروع متدانية الجنوب وأصول متشابكة العروق وتفاوت عطف على افترق حالهم في اقتناء العلوم وتفاضل رجالهم في الترقي إلى مراتبها إلى أن قال ابن عباس رضي الله عنهما في درجاتهم إنها خمسمائة درجة ما بين الدرجتين من تلك الدرج مسيرة خمسمائة عام والمراد تصوير الكثرة لا الحصر في هذه العدة
وقال بعض أكابر الأئمة وأحبار الأمة الحبر بالكسر والفتح العالم الذي يحبر الكلام ويزينه في بيان معنى الخبر المشهور والحديث المأثور المروي من أثرت الحديث إذا ذكرته عن غيرك
صفحة ٢١
اختلاف أمتي رحمة عطف بيان للخبر وقوله يعني أي يريد الرسول باختلاف أمته اختلاف هممهم في العلوم مقول ذلك البعض وما بعده تفصيل لذلك الاختلاف أعني قوله فهمة واحد في الفقه لضبط الأحكام المتعلقة بالأفعال وهمة آخر في الكلام لحفظ العقائد فينتظم بهما أمر المعاد وقانون العدل المقيم للنوع كما اختلفت همم أصحاب الحرب والصناعات ليقوم كل واحد منهم بحرفة أو صناعة فيتم النظام في المعاش المعين لذلك الانتظام وهذا الاختلاف أيضا رحمة كما لا يخفى لكنه مذكور ههنا تبعا ونظيرا وإذا كان الأمر على ما ذكر من تعذر الإحاطة بجملة العلوم فإذا الواجب على العاقل الاشتغال بالأهم وما الفائدة فيه أتم هذا كما ذكر وإن أرفع العلوم مرتبة ومنقبة وأعلاها فضيلة ودرجة وأنفعها فائدة وأجداها عائدة وأحراها أي أجدرها بعقد الهمة بها وإلقاء الشراشر عليها يقال ألقى شراشره أي نفسه بالكلية حرصا ومحبة وهي في الأصل بمعنى الأثقال جمع شرشرة وإدآب النفس إتعابها فيها وتعويدها بها وصرف الزمان إليها علم الكلام المتكفل بإثبات الصانع وتوحيده في الألوهية وتنزيهه عن مشابهة الأجسام ترك الأعراض إذ لا يتوهم مشابهته إياها واتصافه بصفات الجلال والإكرام أي بصفات العظمة والإحسان إلى المخلصين من عباده أو بالصفات السلبية والثبوتية أو القهر واللطف وإثبات النبوة التي هي أساس الإسلام بل لا مرتبة أشرف منها بعد الألوهية وعليه مبنى الشرائع والأحكام أي وعلى علم الكلام بناء العلوم الشرعية والأحكام الفقهية إذ لولا ثبوت الصانع بصفاته لم يتصور علم التفسير والحديث ولا علم الفقه وأصوله وبه يترقى في الإيمان باليوم الآخر من درجة التقليد إلى درجة الإيقان وذلك الإيقان هو السبب للهدى والنجاح في الدنيا والفوز والفلاح في العقبى فوجب أن يعتنى بهذا العلم كل الاعتناء وأنه في زماننا هذا قد اتخذ ظهريا أي أمرا منسيا قد ألقي وراء الظهر وصار طلبه عند الأكثرين شيئا فريا بديعا عجيبا وقيل مصنوعا مختلفا لم يبق منه من علم الكلام بين الناس إلا قليل ومطمح نظر من يشتغل به على الندرة
صفحة ٢٢
قال وقيل هما فعلان والمعنى أن منتهى ما يرتفع إليه نظر من يشتغل به نادرا هو النقل عن شخص معين أو مجهول من غير التفات إلى دراية واستبصار في رواية فوجب علينا أن نرغب طلبة زماننا في طلب التدقيق ونسلك بهم في ذلك العلم مسالك التحقيق وإني قد طالعت ما وقع إلي من الكتب المصنفة في هذا الفن فلم أر فيها ما فيه شفاء لعليل بأمراض الأهواء في الآراء أو رواء أي ري أو إرواء لغليل لحرارة العطش بفقدان المطالب الاعتقادية والشوق إليها وفي الصحاح أن الرواء بالمد وفتح الراء هو الماء العذب وبكسرها جمع ريان وبضمها المنظر الحسن سيما حذف منه كلمة لا لكثرة الاستعمال والجملة الحالية أعني قوله والهمم قاصرة مؤولة بالظرف نظرا إلى قرب الحال من ظرف الزمان فصح وقوعها صلة لما وهذا من قبيل الميل إلى المعنى والإعراض عما يقتضيه اللفظ بظاهره أي انتفى حصول الشفاء والإرواء عن تلك الكتب في كل زمان لا مثل انتفائه في زمان قصور الهمم فإن هذا الانتفاء أقوى والرغبات في تعلمه فاترة والدواعي إليه قليلة والصوارف عنه متكاثرة ثم أنه بين ما أجمله من حال تلك الكتب بقوله فمختصراتها قاصرة عن إفادة المرام باختصارها المخل ومطولاتها مع الإسام بما فيها من الإسهاب الممل مدهشة للأفهام في الوصول إلى حقائق المسائل ثم زاد في ذلك البيان بذكر أحوال المصنفين في تصانيفهم الكلامية فقال فمنهم من كشف عن مقاصده أي مقاصد علم الكلام القناع بإزالة أستارها عنها ولكنه قنع من دلائله بالإقناع بما يفيد الظن ويقنع ومنهم من سلك المسلك السديد في الدلائل لكن يلحظ المقاصد ينظر إليهاا بمؤخرة عينه من مكان بعيد فلم يكشفها ولم يحررها ومنهم من غرضه نقل المذاهب التي ذهبت إليها طوائف من الناس واستقروا عليها والأقوال التي صدرت عمن قبله والتصرف بالرفع عطفا على نقل في وجوه الاستدلال وتكثير السؤال والجواب ولا يبالي إلام المآل إلى أي شيء مرجع نقله وتصرفه وتكثيره هل يترتب عليها ثمرة أو يزداد بها حيرة ومنهم من يلفق يجمع ويضم مغالط شبها يغلط فيها لترويج رأيه ولا يدري أن النقاد من ورائه فيزيفها ويفضحها ومنهم من ينظر في مقدمة مقدمة ويختار منها من المقدمات التي نظر فيها ما يؤدي إليه بادئ رأيه أي أوله بلا إمعان وتأمل ويبني عليها مطالبه وربما يكر يرجع ويحمل بعضها بعض تلك المقدمات على بعض بالإبطال ويتطرق إلى المقاصد بسبب الاختلال ومنهم من يكبر حجم الكتاب بالبسط في العبارة والتكرار في المعنى ليظن به أنه بحر زخار كثير الماء مواج من زخر البحر امتد وارتفع ومنهم من هو كحاطب ليل كمن يجمع الحطب في الليل فلا يميز بين الرطب واليابس والضار والنافع وجالب رجل وخيل الرجل جمع الراجل وهو خلاف الفارس والخيل الفرسان يعني كجالب العسكر بأسره ضعيفة وقوية ثم أشار إلى وجه الشبه في جانب المشبه في كلا التشبيهين بقوله يجمع ما يجده من كلام القوم ينقله نقلا ولا يستعمل عقلا ليعرف أغث ما أخذه أم ثمين وسخيف أي رقيق ركيك ما ألفاه ما وجده أم متين أي قوي فصار جميع ما ذكره باعثا له على تأليف الكتاب كما أشار إليه بقوله فحداني ساقني وبعثني الحدب العطف والشفقة على أهل الطلب لهذا العلم ومن له في تحقيق الحق فيه إرب حاجة إلى أن كتبت هذا إشارة إلى كتابه كتابا مقتصدا متوسطا لا مطولا مملا بتطويله ولا مختصرا مخلا بإيجازه أودعته أوردت فيه لب الألباب خلاصة العقول وميزت فيه القشر من اللباب ولم آل أي لم أترك جهدا سعيا وطاقة في تحرير المطالب الكلامية وتقرير المذاهب الاعتقادية وتركت الحجج تتبختر تتمايل في مشيها كالمتدلل بجماله اتضاحا مفعول له والشبه تتضاءل تتصاغر وتتحاقر افتضاحا كالذي ظهرت قبائحه وانكشفت سوآته ونبهت في النقد والتزييف للدلائل والهدم والترصيف أي الإحكام للمقاصد على نكت هي ينابيع التحقيق وفقر تهدي إلى مظان التدقيق النكتة طائفة من الكلام منقحة مشتملة على لطيفة مؤثرة في القلوب والينبوع عين الماء والفقرة بالسكون فقارة الظهر وتطلق على أجود بيت في القصيدة تشبيها له بها وعلى قرينة الاسجاع أيضا وأنا أنظر من الموارد مواضع الورود جمع مورد من ورد الماء إلى المصادر مواضع الرجوع من صدر إذا رجع وأتأمل في المخارج قبل أن أضع قدمي في المداخل ثم أرجع القهقري أي الرجوع إلى خلف أتأمل فيما قدمت هل فيه من قصور فأزيله وأتمه وأرجع البصر كرة بعد أخرى هل أرى من فطور أي شق فأسده وأصلحه حافظا حال من فاعل كتبت وما في حيزه من أودعته وما عطف عليه أي فعلت كل ذلك حافظا للأوضاع التي ينبغي أن يحافظ عليها رامزا مشيرا بإيجاز العبارة مشبعا موضحا بأطنابها في مقام الرمز والإشباع ولقد بالغ في تحرير كتابه ونصح طالبيه حتى جاء متعلق بتلك الأفعال المذكورة كما أردت ووفق الله وسدد في إتمام ما قصدت ثم بين مجيئه على وفق إرادته بقوله جاء كلاما لا عوج فيه ولا إرتياب ولا لجلجة أي ولا تردد ولا اضطراب متناسبا صدوره أوائله وروادفه أواخره متعانقا سوابقه ولو احقه
صفحة ٢٥
وقوله بكرا بدل من كلاما من أبكار الجنان لم يطمثها لم يمسها من قبل إنس ولا جان وكنت برهة من الزمان مدة طويلة منه أجيل رأيي أديره وأردد قدامي كما يفعله الياسر حال تفكره في الميسر وأؤامر نفسي من المؤامرة وهي المشاورة لأن كلا من المتشاورين يأمر صاحبه بما يراه وأشاور ذوي النهى جمع نهية وهي العقل لأنه ينهى عن الفحشاء من أصدقائي مع تعدد خاطبيها من الخطبة والضمير للبكر ومن جملة خاطبيها سلطان الهند محمد شاه جونه وكثرة الراغبين فيها وقوله في كفء متعلق بأجيل وما عطف عليها أزفها إليه يقال زففت العروس إلى زوجها أزف بالضم زفا وزفافا يعرف قدرها ويغلي مهرها يكثره موفق من عند الله له مواقف جمع موقف من الوقوف بمعنى اللبث يعز الدين فيها بالسيف والسنان وهو متطلع ناظر مستشرف إلى مواقف جمع موقف من الوقوف بمعنى الدراية وفيه إشارة إلى اسم الكتاب ينصره فيها بالحجة والبرهان ولا بد لذلك الإعزاز من النصرة فإن السيف القاضب القاطع إذا لم تمض الحجة حده كما قيل مخراق لاعب وهو منديل يلف ليضرب به عند التلاعب حتى وقع غاية لإجالة الرأي وما عطف عليها الاختيار على من لا يوازن من وازنت بين الشيئين إذا وزنت أحدهما بالآخر لتعرف أيهما الأرجح ولا يوازى لا يحاذى ولا يقابل بأحد وهو غني عن أن يباهي غيره ويفاخره وأجل من أن يباهي يوفاخر والمعنى أنه أجل من متعلق المباهاة أي مما يمكن أن تتعلق به فلا يتصور أن يفاخره أحد أصلا وهو أعظم من ملك البلاد وساس أي حفظ وضبط العباد شأنا تمييز عن النسبة في أعظم وأعلاهم منزلا ومكانا وأنداهم راحة وبنانا يقا الفلان ندي الكف إذا كان سخيا وأشجعهم جأشا هو بالهمزة رواع القلب إذا اضطرب وفلان رابط الجأش أي يربط نفسه عن الفرار بشجاعته وجنانا وأقواهم دينا وإيمانا وأروعهم سيفا وسنانا يقال رعته فارتاع أي أفزعته ففزع وأبسطهم ملكا وسلطانا وأشملهم عدلا وإحسانا وأعزهم أنصارا وأعوانا وأجمعهم للفضائل النفسية التي أصولها ثلاثة الحكمة والعفة والشجاعة وأولاهم بالرياسة الأنسية من شيد رفع وأحكم قواعد الدين بعد أن كادت تنهدم واستبقى حشاشة الكرم بقية روحه حين أرادت أن تنعدم ورفع رايات المعالي أوان زمان ناهزت قاربت الانتكاس الانقلاب على رؤوسها وجدد مكارم الشريعة الفضائل التي دعي إليها في الشرع ولو أبدل لفظ المكارم بالمعالم لكان أقعد وقد آذنت أعلمت بالاندراس بالانمحاء محرز ممالك الأكاسرة والاستحقاق جمال الدنيا والدين أبو إسحاق لا زالت الأفلاك متابعة لهواه والأقدار متحرية لرضاه هذا دعاء قد في عباراتهم لكن الاحتراز عن أمثاله أولى إذ فيه مبالغة غير مرضية وإلى الله أبتهل أتضرع بأطلق لسان وأرق جنان أي برغبة وافرة توجب طلاقة اللسان ورقة قلب تامة يلزمها الإخلاص المستدعي للإجابة أن يديم أيام دولته ويمتعه بما خوله أعطاه وملكه دهرا طويلا ويوفقه لأن يكتسب به بما خوله ذكرا جميلا في هذه الدار وأجرا جزيلا في دار القرار إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير والكتاب مرتب على ستة مواقف وذلك لأن ما يذكر فيه إما أن يجب تقديمه في علم الكلام وهو الموقف الأول في المقدمات أو لا يجب وحينئذ إما أن يبحث فيه عما لا يختص بواحد من الأقسام الثلاثة للموجود وهو الموقف الثاني في الأمور العامة أو عما يختص فإما بالممكن الذي لا يقوم بنفسه بل بغيره وهو الموقف الثالث في الأعراض أو بالممكن الذي يقوم بنفسه وهو الموقف الرابع في الجواهر وإما بالواجب تعالى فإما باعتبار إرساله الرسل وبعثه الأنبياء وهو الموقف السادس في السمعيات أو لا باعتباره وهو الموقف الخامس في الإلهيات والوجه في التقديم والتأخير أن المقدمات يجب تقديمها على الكل والأمور العامة كالمبادئ لما عداها والسمعيات متوقفة على الإلهيات المتوقفة على مباحث الممكنات وأما تقديم العرض على الجوهر فلأنه قد يستدل بأحوال الأعراض على أحوال الجواهر كما يستدل بأحوال الحركة والسكون على حدوث الأجسام وبقطع المسافة المتناهية في زمان متناه على عدم تركبها من الجواهر الأفراد التي لا تتناهى ومنهم من قدم مباحث الجوهر نظرا إلى أن وجود العرض متوقف على وجوده
صفحة ٢٨
الموقف الأول في المقدمات وفيه مراصد
1 - المرصد الأول فيما يجب تقديمه في كل علم
3 - المرصد الثاني في تريف مطلق العلم
3 - المرصد الثالث في أقسام العلم
4 - المرصد الرابع في إثبات العلوم الضرورية
5 - المرصد الخامس في النظر إذ به يحصل المطلوب
صفحة ٢٩
6 - المرصد السادس في الطريق وهو الموصل إلى المقصود المرصد الأول فيما يجب تقديمه في كل علم وفيه مقاصد
المقصد الأول تعريفه
صفحة ٣٠
المتن
ليكون طالبه على بصيرة فإنه من ركب متن عمياء أوشك أن يخبط خبط عشواء والكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبهة والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام
الشرح
وأما المراصد الباقية ففيما يجب تقديمه في هذا العلم كما ستعرفه ولم يرد بوجوب التقديم أنه لا بد منه عقلا بل أريد الوجوب العرفي الذي مرجعه اعتبار الأولى والأحق في طرق التعليم وفيه مقاصد ستة أيضا
صفحة ٣١