فإذا وجبت لنا وقفة عند هذه الضربات التي تلقاها الصبي، فأول ما نقف لديه وأولاه بالوقوف الطويل أنها دلالة على القوة في مكمنها، وعلى الروح العظيم الذي تجلي بعد ذلك في تاريخ بني الإنسان كفؤا لأعظم الأعباء، وأفدح الخطوب.
وتلي ذلك وقفتنا أمام العطف الذي أفادته تلك النفس القوية من ضربات تسحق ما دونها، وتنزف منها كل عطف وأمل.
وقد خرج الصبي من تلك الضربات القاصمة بالعاطفة الزاخرة التي تشمل العالمين: عالم الحياة وما بعد الحياة، مذ كان أحب الناس إليه في عالم آخر لا تبديه له هذه الحياة، وجاءت بعثته إلى الناس كافة باسم الله الرحمن الرحيم.
ولعله أول فتح أطل عليه من فتوح عالم الغيب؛ فاستمد منه بعد ذلك قوته التي دان لها هذا العالم المشهود.
دنياه بعد ذلك أوسع من دنيا الناس، وأعم من دنيا الأحياء، وحاجز الموت عنده برزخ تتصل به الدنيا والآخرة، ويعيش فيه الحي والميت، ولا ينتقل فيه الخلق في دنياهم ليهلكوا آخر الدهر، بل ليعيشوا آخر الدهر خالدين.
وقليل في جنب هذا فائدة العطف الذي عهدناه من صباه إلى ختام حياته يحيط به كل إنسان، وكل حي، وكل شيء، وإنما يترجم عنه عطفه على حاضنته، وعلى مرضعته، وعلى كل باق من بقايا أمه وأبيه، ولم يزل يترجم عنه عطفه الذي لم يحرمه أحد قط من صاحب أو صديق. •••
ولا ندع الكلام على الأسرة النبوية وفي الخاطر سؤال توحي إلينا أن نسأله، وأن نجيب عنه ما استطيع الجواب.
لقد مات عبد الله وآمنة ولما يجاوزا الخامسة والعشرين، ولا يكون الموت في هذه السن إلا علامة على الضعف والهزال إن لم يكن من مرض يستنفد الأجل في عنفوان الشباب.
فهل كان محمد - عليه السلام - سليل أبوين ضعيفين هزيلين؟
إن لم تكن غرابة الالتقاء بين الأبوين على هذا الضعف كافية لدفع هذا الظن، فلا حاجة إلى دافع له غير حياة الوليد بما استوفته من قوة الروح وقوة الجثمان.
صفحة غير معروفة