إن المنشد أو المغني هو الذي يصنع حبكة الحكاية ويخلع عليها إطارها؛ فهو يجلس مع أفراد فرقته الموسيقية في مقدمة المسرح ليروي على المتفرجين قصة الخادمة جروشا والقاضي أزداك ويعلق عليها. وهو لا يضم الأحداث التي يراها جديرة بالعرض الدرامي في حدث مركز، بل ينظمها كما تنظم حبات اللؤلؤ في خيط قصته، وهو يسد الفجوات الفاصلة بين أجزاء الرواية في المكان أو الزمان بإشارته إليها وتعليقه عليها، كما يقطع الحدث الأساسي في المواضع التي يختارها فيصف الموقف أو يستخلص العبرة أو يستريح مع أفراد فرقته. وجدير بالملاحظة أن اللوحات المختلفة تحمل عناوين مستقلة تساعد على توضيح الخط الملحمي الذي تسير فيه القصة؛ فهناك لوحة الطفل الرفيع، والهروب إلى الجبال الشمالية، وقصة القاضي ... إلخ. والخط الملحمي الذي أشرت إليه هو الذي يتيح للراوية أن يصف الحرب الأهلية ويعلق عليها ويذكر أسبابها وآثارها. وهو لا ينفرد بهذا الوصف والتعليق، بل يشاركه الممثلون أنفسهم. إن الموقف كله موقف ملحمي شامل يسمح لهم بالانفصال عنه والنظر إليه من أعلى أو من بعيد نظرة الوصف أو التعليق.
ولا يصح أن يفوتنا كذلك أن برشت قد خلق - في عرضه لقصة القاضي - نوعا من المسرح الملحمي داخل المسرح الملحمي. والقارئ يتذكر بغير شك ذلك المشهد الجميل الذي يختبر فيه الشعب أزداك ابن أخي الأمير كاتزبيكي أمام الجنود المسلحين ليرى مدى صلاحيته لتولي أمور القضاء. فأزداك يقوم بدور الأمير الأكبر المتهم ويدينه بحذق ومهارة لا نظير لهما. وهو بهذا يكشف حقيقة الموقف السياسي كله أمام الجنود المسلحين أو الفرسان المصفحين، كما يكشف عن الألاعيب والمؤامرات التي دبرها ذلك الأمير. إنه نوع من التعليم أو التلقين الذي يتخذ صورة العرض والتمثيل، والقاضي يقوم بدور الأمير الكبير، ولكنه يظل مع ذلك محتفظا بشخصية القاضي ويصف تصرفات الأمير أو يعلق عليها عندما «يخرج من دوره» من حين إلى حين.
وحكاية القاضي التي تبدأ بعد انتهاء حكاية جروشا لتتصل بالموقف الذي صورته اللوحة الأولى من لوحات المسرحية لم تصب بعد انتهائها في حكاية جروشا؛ هذه الحكاية التي تتيح للمؤلف أن يضيف عددا كبيرا من الأغنيات التي تبدو كأنها «نمر» منفصلة عن سياق الحدث الأساسي يتجه بها المنشدون إلى الجمهور مباشرة.
إن مقدمة المسرح تتداخل باستمرار في المناظر التي تعرض على خشبته، والمغني وفرقته لا ينفصلون أبدا عن الأحداث أو الشخصيات التي تتحرك في قاع المسرح. ولنضرب مثلا باللوحة الأولى من المسرحية؛ فالراوية يبدأ حكايته بإنشاد هذه الأبيات:
في الزمن القديم، في زمن الدماء،
حكم هذه المدينة التي توصف بالمدينة الملعونة
حاكم يدعى جورجي أبا شفيلي ...
وبينما نسمع هذه الأبيات نرى أمامنا مشهدا صامتا يصور الحدث الأول من أحداث المسرحية؛ فها هو ذا الحاكم يسير مع زوجته وحاشيته إلى الكنيسة لتعميد ابنه ووريثه. ويتدخل الراوية بصورة مستمرة في مجرى الحديث فيقول:
للمرة الأولى رأى الشعب في عيد الفصح الأمير،
كان هناك طبيبان لا يبعدان عن الطفل الرفيع خطوة واحدة،
صفحة غير معروفة