ونحن الذين قدمنا كذلك في أوائل عهد استعادة السودان جميع الموظفين لتنظيم الإدارة في البلاد. (6)
وقد كانت جنودنا تمشي على الأقدام الطريق بأكمله إلى الخرطوم، بينما كانت الجنود البريطانية تنتقل كل مرة بلا استثناء من ميدان إلى ميدان إما بالسكة الحديدية أو بالبواخر النيلية. وحاشا أن نذكر ذلك بقصد التنديد بمقدرة الجندي البريطاني أو الاستخفاف بصفاته الحربية؛ إذ إن الجندي البريطاني - فيما نرى - من أحسن الجنود في العالم من حيث القوة على الثبات والبسالة في ساحة الحرب. وكل ما نقصد هو أن نبين أن جنودنا قاست من المكاره أكثر مما تحملته الجنود البريطانية، وأن بلادنا من أجل ذلك كانت تستحق نصيبا أوفر في البلاد التي اكتسبت بحق الفتح المشهور. (7)
ولم تكن غلطاتنا هي التي أوقعتنا في جميع هذه المحن، وإنما هي إنجلترا التي كانت سببا فيها؛ لأنها اضطرتنا أن نقبل ضباطها وأن نسير على الخطط التي رسموها، ثم بعد ذلك كله أخرجتنا بقضنا وقضيضنا من البلاد كأنه ليس لنا أي حق فيها مطلقا أو أي امتياز بالكلية. وحين تم لها ما أرادت حولت السودان إلى مستعمرة بريطانية. وإذن فلماذا كنا نبذل هذا المال كله وهذه المجهودات جميعها وتلك الأرواح لاستعادة البلاد إذا كانت هذه هي النتيجة التي كنا ننتظرها من وراء ذلك كله. أكان هذا منا لكي نوفر على إنجلترا جميع هذه الأمور؛ ولكي تنتفع بها على حسابنا؟
على أنها لو كانت استعادت السودان لحسابها هي وحدها، وبوسائل من عندها لما كانت الحالة لدينا غير ما هي عليه اليوم، ولما كانت شرا من هذه الحالة؛ إذ إنها ما دامت محتلة لمصر فلا يمكن أن تحاول على الإطلاق قطع موارد مياهنا عنا. والتفسير الوحيد لهذه الحالة والترضية المزعومة التي تقدمها لنا هي أن كل هذا تم في سبيل تأمين حدودنا الجنوبية وموارد مياهنا!
ولكن المصريين لا يمكنهم أن يقبلوا أي ضمان لسلامة حدودهم الجنوبية من أية دولة أجنبية أيا كانت هذه الدولة. وفي الحق أن هذه السلامة كانت أضمن في أيدي الدراويش؛ لأنهم لم يكن في استطاعتهم تشييد الأعمال التي تؤذينا في موارد مياهنا. وإذا كان المقصود هو إقصاء أية دولة أخرى فسيان عندنا أكانت هذه الدولة إنجلترا أم فرنسا أم غيرهما من الدول؛ لأن الدولة التي تكون لها السيادة في السودان تتحكم في حياة مصر؛ ولهذا فإن في تشبث إنجلترا بالسودان ورغبتها في امتلاكه دليلا على أنها تريد أن تسيطر على حياة مصر، وأن تبقي مصر في قبضة يدها وتحت سلطانها، وهو مسلك لا يمكن أن يعتبره أهل هذه البلاد إلا أنه عمل عدائي.
وكذلك تمسك إنجلترا بقناة السويس بحجة وقوعها في سلسلة مواصلاتها، مع أن لها طريقا آخر حول رأس الرجاء الصالح، وإذن فليست القناة أمرا حيويا صرفا بالنسبة لإنجلترا. أما نحن فأنى لنا الخيار، وليس لنا في هذا العالم كله سوى السودان والنيل، ومن ثم كانت حاجتنا إليهما من أعز الأمور الحيوية لنا أكثر من حاجة إنجلترا إلى قناة السويس. وهذا إذا تغاضينا عن الأمر الواقع وهو أن السودان كان جزءا متمما لبلادنا ومحتجا به كذلك من إنجلترا على الدول الأخرى، وأن واجب إنجلترا كان يقضي عليها بتطبيق المبدأ الذي ينطوي عليه هذا الاحتجاج على نفسها أيضا.
صحيح أن القيادة في الحملة التي استعادت السودان كانت لضباط من البريطانيين، وأن جنودا بريطانية كذلك بمقدار ثلث المجموع كانت في عديد القوة المقاتلة، ولكن لم يكن هذا كله إلا لأسباب سياسية، وقد فرض علينا قبوله حتى تستفيد الحكومة البريطانية بحقوق الفتح، كما لجأت إلى ذلك فيما بعد. ومع هذا فإن كنا نعجز عن تدريب وتنظيم حملة كهذه، فلقد كان من الميسور لنا أن نستخدم ضباطا من الإفرنج من أية دولة أخرى، وهم كانوا يقومون بهذا العمل لمصلحتنا بالثمن الذي دفعناه إلى الضباط البريطانيين، على أنه ما كان يكون هناك مسألة فتح لو تركنا وشأننا من أول الأمر؛ لأن السودان ما كان ليضيع لو ظلت الأمور بأيدينا.
وننشر فيما يلي الفقرة الآتية عن ص120 و121 من كتاب «السودان الإنجليزي المصري» لمؤلفه سير هرلد مك ميكل المطبوع بلندن عام 1934
The Anglo-Egyptian Sudan, P. 120-121, London, 1934, by Sir Harold Mac Michael
وهي شاهد في المنزلة الأولى من صدق البينة على ما قام به الجيش المصري من الأعمال في السودان إبان الحرب العظمى:
صفحة غير معروفة