وكان لحسن حظنا أن اللورد كرومر - وهو الواضع الأصلي لهذه الاتفاقية - يكشف لنا في تقريره عن مصر والسودان عام 1900م الغطاء عن الغموض الذي بالاتفاقية المذكورة؛ فقد جاء بالكتاب الأزرق عن مصر عام 1901، ج1، ص4، في هذا التقرير الذي رفعه إلى حكومته بصفته المعتمد السياسي لها، وقنصلها العام في مصر عن المالية والإدارة والحالة العمومية فيها وفي السودان ما يأتي:
لاحظت فيما أبداه مجلس شورى القوانين من الملاحظات أثناء النظر في ميزانية السنة الحالية، أن المجلس المذكور يوافق على المصروفات المقدرة لحكومة السودان؛ لأن الأعضاء يعتبرون تلك البلاد «جزءا من كيان مصر لا يتجزأ»، وهذا الرأي وإن كان صحيحا في الجوهر إلا أن نظام الحكم في السودان مقيد بنصوص الاتفاقية المبرمة بين مصر وبريطانيا العظمى في 19 يناير سنة 1899.
وحيث إنه من الجائز أن يكون بعض أعضاء هذا المجلس غير محيط بمرمى هذه الوثيقة إحاطة تامة، فأنتهز هذه الفرصة لأبين أنها لم تبرم لرغبة في النفس، أو لغرض انتقاص حقوق مصر الشرعية. فأغراض واضعيها الأصلية كانت أولا توطيد أركان حكومة صالحة لشعب السودان. ثانيا؛ وقاية هذه البلاد من الارتباكات الخاصة التي خلقها في مصر نظام دولي - أي الامتيازات - ولا يجهل أعضاء المجلس - على ما أظن - ما تؤدي إليه هذه الارتباكات من شتى العراقيل.
وقد لاحظت أيضا أن المجلس المذكور يطلب تبليغه تفاصيل إيرادات حكومة السودان ومصروفاتها. ومن البين أنه لا يمكن أن نعارض في إجابة مثل هذا الطلب الحق؛ ولذلك عنيت بتلبيته، وأرسلت إلى المجلس المشار إليه ميزانية حكومة السودان عن السنة الحالية. ا.ه.
وجاء أيضا في تقريره الذي رفعه إلى حكومته عن المالية والإدارة، والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1902 (الكتاب الأزرق عام 1903، ج1، ص15) ما يأتي:
ولقد سئلت مرارا لماذا لا تتحمل الخزينة الإنجليزية قسما من النفقات اللازمة لإدارة البلاد ما دامت الراية الإنجليزية تخفق عليها بجانب الراية المصرية، وهو سؤال في محله ولكن الجواب عليه بسيط جدا عند جميع الذين يعرفون تاريخ الاتفاقية المعقودة في 19 يناير سنة 1899. وبموجب موادها منح السودان مركزا سياسيا خاصا. وهو أن تلك الاتفاقية وضعت خاصة لتلخيص السودان ومصر أيضا في إدارة شئون السودان من القيود الدولية المشوشة التي آلت إلى كثير من الاختلاط والارتباك في الإدارة المصرية. ولولا هذا الاعتبار ما كان هناك داع من الوجهة الإنجليزية يدعو إلى رفع الراية الإنجليزية على الخرطوم أكثر مما يدعو إلى رفعها على أسوان أو طنطا. ا.ه.
ويتضح بجلاء تام من الشروح التي ذكرها لورد كرومر فيما تقدم أن حقوق مصر في السودان ظلت معتبرة ومصونة رسميا حتى بعد توقيع الاتفاقية. وهذه التصريحات لها قيمتها الخاصة لأنها صادرة من الواضع الأصلي لهذه الاتفاقية، وهو أدرى وأجدر بتفسيرها بلا نزاع، وبتبديد ما في نصوصها وعباراتها من اللبس والإبهام. ومن غير الجائز أيضا أن نظن لحظة واحدة أن اللورد كرومر أقدم من تلقاء نفسه على هذه التفسيرات بدون موافقة حكومته. وبناء على ذلك تعتبر تفسيراته السابقة لتلك الاتفاقية اعترافا رسميا من جانب الحكومة البريطانية بحقوق مصر في السودان.
فهل كانت إنجلترا يا ترى مخلصة في تصريحاتها أم كانت تبديها لتغري الوزراء المصريين على توقيع الاتفاقية، ولتدع الرأي العام في مصر يتخيل أن حقوقه ظلت باقية في الحفظ والصون.
ولكن يؤخذ من جميع ما حدث بعد ذلك أن الفكرة الأخيرة هي الأقرب إلى الصواب، فشتان بين ما يقوله لورد كرومر وما هو واقع في الحقيقة ونفس الأمر. وليس أدل على ذلك من إخراجنا من السودان قسرا حتى أصبحنا: (1)
غير مسموح لحكومتنا المصرية أن تخاطب حاكم السودان العام رأسا، والحال أنه معين بمرسوم من جلالة ملك مصر. (2)
صفحة غير معروفة