62

المرأة في القرآن

تصانيف

تسأله معونة أهل اللورين. فأصغى إليها الملك، ثم استشاط غضبا، ولطمها على أنفها بجمع يده، فسقطت منه أربع قطرات من الدم، وصاحت تقول: شكرا لك. إن أرضاك هذا فأعطني من يدك لطمة أخرى حين تشاء. ولم تكن هذه الحادثة مفردة لأن الكلمات على هذا النحو كثيرا ما تتكرر، كأنها صيغة محفوظة وكأنما كانت اللطمة بقبضة اليد جزاء كل امرأة جسرت في عهد الفروسية على أن تواجه زوجها بمشورة، ومتى كانت المرأة تزف إلى زوجها عفو الساعة، وكثيرا ما تزف إلى رجل لم تره قبل ذاك، إما لتسهيل المحالفات الحربية والمدد العسكري، أو لتسهيل صفقة من صفقات الضياع، ومتى كانت بعد زفافها إلى فارس مجنون بالحرب، معطل الذكاء، قد يكون في معظم الأحوال من الأميين، عرضة للضرب كلما واجهته بمخالفة - أترى سيدة القصر إذن واجدة لها رحمة أو ملاذا من حياة الشقاء، أو من صحبة قرين ليس لها بأهل؟»

ولقد تقدم الزمن في الغرب من العصور المظلمة، إلى عصور الفروسية، إلى ما بعدها من طلائع العهد الحديث، ولما تبرح المرأة في منزلة مسفة، لا تفضل ما كانت عليه في الجاهلية العربية، وقد تفضلها منزلة المرأة في تلك الجاهلية. «ففي سنة 1790 بيعت امرأة في أسواق إنجلترا بشلنين؛ لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التي كانت تئويها. وبقيت المرأة إلى سنة 1882 محرومة من حقها الكامل في ملك العقار وحرية المقاضاة، وكان تعلم المرأة سبة تشمئز منها النساء قبل الرجال، فلما كانت اليصابات بلا كويل تتعلم في جامعة جنيف سنة 1849 - وهي أول طبيبة في العالم - كانت النسوة المقيمات معها يقاطعنها، ويأبين أن يكلمنها، ويزوين ذيولهن من طريقها احتقارا لها، كأنهن متحرزات من نجاسة يتقين مساسها. ولما اجتهد بعضهم في إقامة معهد يعلم النساء الطب بمدينة فلادلفيا الأمريكية، أعلنت الجماعة الطبية بالمدينة أنها تصادر كل طبيب يقبل التعليم بذلك المعهد وتصادر كل من يستشير أولئك الأطباء». •••

وظلت آداب الفروسية سارية بعد عصر الفارس النبيل إلى عصر الجنتلمان في أوروبا الحديثة، تقضي في معاملة المرأة بين علية القوم بالمراسم والمجاملات التي لا تتجاوز أشكال التحية إلى الثقة والتقدير. فيلام «الجنتلمان» على التقصير في عدد الانحناءات وحركات الحفاوة وكلمات التقريظ، ولا يفهم أحد من ذلك أنه يعظمها ويوليها ثقته وتقديره، ويخولها أصغر الحقوق التي لا يضن بها على الخدم والأتباع وهو يتحرج من إشارة مسيئة يواجه بها السيدة في محفل السادة، ولا يتحرج من القول المسيء إلى خدمه وأتباعه، ولكنه لا يجعل ذلك مقياسا للفارق بين المرأة وبينهم في الحقوق والواجبات ولا عنوانا للقيم الإنسانية في تقديره.

فآداب الفروسية، وخليفتها الجنتلمانية، لم تكن على أحسنها أيام ازدهارها، إلا مظهرا من مظاهر السمت، خالية من كل دلالة على القيم الإنسانية، مثلها - كما أسلفنا - مثل التوقيع بصيغة «الخادم المطيع» في ذيل الخطاب يعتقل به الحاكم سيده المطاع.

ولو كانت تلك التحيات مقصودة بمعناها، معبرة عن القيم الإنسانية في نظر أصحابها لما استكثر القوم أن تنال المرأة كل حقوق الانتخاب، وكل حقوق النيابة دفعة واحدة، ولا احتاج الاعتراف لها بحق منها بعد حق إلى انتظار عشرات السنين، وموالاة الطلب من أواخر القرن التاسع عشر إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، في أسبق البلدان إلى إجابة المطالب النسوية وإعداد المرأة لها بالتعليم ومباشرة الأعمال. •••

وتعتبر الدساتير الديمقراطية آخر المراحل التي شرعت للمرأة معاملة حديثة قائمة على المبادئ الفكرية، ولكنها قامت في الواقع على إجراءات الضرورة، ولم تقم على تقدير عادل للكائن الحي في قيمته الإنسانية، ووظيفته النوعية التي بنيت عليها معاملة القرآن الكريم، قبل عصر الديمقراطية وقبل مطالبة النساء والرجال معا بحقوق الانتخاب أو حقوق النيابة.

فالإقناع القوي الذي تمكنت به المرأة من استجابة مطالبها في الدساتير الحديثة إنما هو احتياج الساسة إليها في المصانع والمعامل عند نشوب الحرب العالمية، وانصراف العاملين من الرجال إلى ميادين القتال، وبمثل هذا الإقناع تمكن العمال الرجال، وتمكن أبناء الأجناس المحرومة، من تحقيق مطالبهم بعد إنكارها تارة والمراوغة فيها تارة أخرى.

وهذا وأشباهه بعض ما عنيناه باختلاف القواعد والمبادئ التي تصدر عنها الشريعة القرآنية، وتصدر عنها سائر الشرائع في معاملة المرأة.

تلك شريعة الحق للحق، وشريعة الحق بمقدار مصلحة المرأة، ومصلحة الأمة، ومصلحة الإنسانية، وهذه شرائع الضرورات والإجراءات التي تزن الأمور بميزانها المتقلب الجزاف. •••

وقد مضت حقوق الإجراءات هذه شوطا آخر بعد شوط الدساتير الديمقراطية، وهو الشوط الذي ذهب إليه أتباع المادية الاقتصادية، ودعاة الهدم المسلطة على كل نظام اجتماعي وأوله نظام الأسرة والبيت.

صفحة غير معروفة