مقدمة
1 - للرجال عليهن درجة
2 - من الأخلاق
3 - هذه الشجرة
4 - الأخلاق الاجتماعية
5 - مكانة المرأة
6 - الحجاب
7 - حقوق المرأة
8 - الزواج
9 - زواج النبي
صفحة غير معروفة
10 - الطلاق
11 - السراري والإماء
12 - المعاملة
13 - مشكلات البيت
14 - القرآن والزمن
تعقيب
مقدمة
1 - للرجال عليهن درجة
2 - من الأخلاق
3 - هذه الشجرة
صفحة غير معروفة
4 - الأخلاق الاجتماعية
5 - مكانة المرأة
6 - الحجاب
7 - حقوق المرأة
8 - الزواج
9 - زواج النبي
10 - الطلاق
11 - السراري والإماء
12 - المعاملة
13 - مشكلات البيت
صفحة غير معروفة
14 - القرآن والزمن
تعقيب
المرأة في القرآن
المرأة في القرآن
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
تدور مسألة المرأة في جميع العصور على جوانب ثلاثة، تنطوي فيها جميع المسائل الفرعية التي تعرض لها في حياتها الخاصة أو حياتها الاجتماعية. وهذه الجوانب الثلاثة الكبرى هي:
أولا:
صفتها الطبيعية، وتشمل الكلام على قدرتها وكفايتها لخدمة نوعها وقومها.
صفحة غير معروفة
وثانيا:
حقوقها وواجباتها في الأسرة والمجتمع.
وثالثا:
المعاملات التي تفرضها لها الآداب والأخلاق، ومعظمها في شئون العرف والسلوك.
وقد بحثنا هذه المسائل جميعا في رسائل مختلفة، ولكننا نتناولها في هذه الرسالة لبيان موضعها من أحكام القرآن الكريم، وخلاصة ذلك البيان في هذه المقدمة الوجيزة أن آيات الكتاب قد فصلت القول في هذه الجوانب جميعا، وكانت في كل جانب منها فصل الخطاب الذي لا معقب عليه، إلا من قبيل الشرح والاستدلال بالشواهد المتكررة التي تتجدد في كل زمن على حسب أحواله ومدارك أبنائه.
فالصفة التي وصفت بها المرأة في القرآن الكريم هي الصفة التي خلقت عليها، أو هي صفتها على طبيعتها التي تحيا بها مع نفسها، ومع ذويها. •••
والحقوق والواجبات التي قررها كتاب الإسلام للمرأة قد أصلحت أخطاء العصور الغابرة في كل أمة من أمم الحضارات القديمة، وأكسبت المرأة منزلة لم تكسبها قط من حضارة سابقة، ولم تأت بعد ظهور الإسلام حضارة تغني عنها، بل جاءت آداب الحضارات المستحدثة على نقص ملموس في أحكامها ووصاياها؛ لأنها أخرجت من حسابها حالات لا تهمل ولا يذكر لمشكلاتها حل أفضل من حلها في القرآن الكريم؛ إذ انتقل بها البحث من الإهمال إلى الدراسة والتدبير. •••
أما المعاملة التي حمدها القرآن وندب لها المؤمنين والمؤمنات، فهي المعاملة «الإنسانية» التي تقوم على العدل والإحسان؛ لأنها تقوم على تقدير غير تقدير القوة والضعف، أو تقدير الاستطاعة والإكراه.
وفي الصفحات التالية تفصيل لهذا الإيجاز، مداره على جلاء وجوه المطابقة التامة بين أحكام الكتاب الكريم، وأحكام الواقع والمنطق والمصالح الإنسانية.
عباس محمود العقاد
صفحة غير معروفة
الفصل الأول
للرجال عليهن درجة
المرأة في القرآن الكريم، أحد الجنسين الذكر والأنثى من نوع الإنسان؛ وهما جنس الرجال، وجنس النساء. والجنسان سواء، ولكن للرجال على النساء درجة: قال تعالى:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم [البقرة: 228].
وقال عز من قائل:
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما [النساء: 32].
ويلي ذلك من السورة نفسها:
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [النساء: 34].
والقوامة هنا مستحقة بتفضيل الفطرة، ثم بما فرض على الرجال من واجب الإنفاق على المرأة، وهو واجب مرجعه إلى واجب الأفضل لمن هو دونه فضلا، وليس مرجعه إلى مجرد إنفاق المال، وإلا لامتنع الفضل إذا ملكت المرأة مالا يغنيها عن نفقة الرجل أو يمكنها من الإنفاق عليه.
وحكم القرآن الكريم بتفضيل الرجل على المرأة هو الحكم البين من تاريخ بني آدم، منذ كانوا قبل نشوء الحضارات والشرائع العامة وبعد نشوئها.
صفحة غير معروفة
ففي كل أمة، وفي كل عصر، تختلف المرأة والرجل في الكفاية والقدرة على جملة الأعمال الإنسانية، ومنها أعمال قامت بها المرأة طويلا، أو انفردت بالقيام بها دون الرجال.
ومن قصور الفكر عند الداعين إلى قيام المرأة بجميع أعمال الرجل في الحياة العامة والخاصة، أن يقال: إن المرأة إنما تخلفت في الكفاية والقدرة بفعل الرجل ونتيجة لأثرته واستبداده وتسخيره المرأة في خدمة مطالبه وأهوائه.
فإن هذا القول يثبت رجحان الرجل ولا ينفيه، فما كان للرجال جملة أن يسخروا النساء جملة في جميع العصور وجميع الأمم لولا رجحانهم عليهن، وزيادتهم بالمزية التي يستطاع بها التسخير، ولو كانت مزية القوة البدنية دون غيرها. •••
ومما يلاحظ أن أكثر القائلين بدعوة المرأة إلى القيام بعمل الرجل، جماعة الماديين الذين يردون كل قوة في الإنسان إلى قوة البنية المادية، فإذا قيل: إن قوة الجسد هي مزية الرجل على المرأة، فليست هناك قوة أخرى تحسب في باب المفاضلة بين الجنسين.
على أن الواقع أن الكفاية التي تمكن الإنسان من الغلبة على سائر الناس لم تكن قط من قبيل القوة الجسدية دون سائر القوى الإنسانية، وكثيرا ما كان المتغلبون المتسلطون على من دونهم أضعف جسدا من الخاضعين لهم، العاملين في خدمتهم. وكثيرا ما كانت قوة الحكم بمعزلة عن قوة الأعضاء، وصلابة التركيب. وأيا كان القول في هذا فإن الجنس لا يمتاز في جملته بقوة الجسد دون أن يرجع ذلك إلى فضل في التكوين يوجب الامتياز والرجحان.
وإذا نظرنا إلى سوابق التسخير في تاريخ الإنسان، تبين لنا أنه كان نصيبا عاما لجميع الضعفاء الخاضعين للأقوياء المسلطين عليهم، وكان نصيبا عاما على الأقل لطوائف العبيد الذين خضعوا للأقوياء والضعفاء، ممن كانوا يسمون بالأحرار تمييزا لهم عن الأرقاء المستعبدين، وقد نبغ من هؤلاء الأرقاء المستعبدين زمرة من الأدباء وأصحاب الفنون، كما نبغ منهم «سادة» يزاحمون الأحرار على أعمال الرئاسة والقيادة، وينتزعون الحكم وهم غرباء عن البلاد التي يحكمونها. وهم في عددهم قلة ضئيلة، بالقياس إلى عدد النساء من الحرائر والإماء، وهن نصف الجنس الإنساني أو يزدن قليلا على حسب الإحصاء. •••
وفضل الرجال على النساء ظاهر في الأعمال التي انفردت بها المرأة، وكان نصيبها منها أوفى وأقدم من نصيب الرجال. وليس هو بالفضل المقصور على الأعمال التي يمكن أن يقال: إنها قد حجبت عنها، وحيل بينها وبين المرانة عليها، ومنها الطهي والتطريز والزينة وبكاء الموتى وملكة اللهو والفكاهة التي اقترنت فيها السخرية بالتسخير، عند كثير من المضطهدين أفرادا وجماعات.
فالمرأة تشتغل بإعداد الطعام منذ طبخ الناس طعاما قبل فجر التاريخ، وتتعلمه منذ طفولتها في مساكن الأسرة والقبيلة، وتحب الطعام وتشتهيه، وتتطلب مشتهياته وتوابله في أشهر الحمل خاصة، كما تتطلب المزيد منه في أيام الرضاع، ولكنها - بعد توارث هذه الصناعة آلاف السنين - لا تبلغ فيها مبلغ الرجل الذي يتفرغ لها بضع سنوات، ولا تجاريه في إجادة الأصناف المعروفة، ولا في ابتداع الأصناف والافتنان في تنويعها وتحسينها، ولا تقدر على إدارة مطبخ يتعدد العاملون فيه من بنات جنسها أو من الرجال.
وصناعة التطريز وعمل الملابس - كصناعة الطهي - من صناعات النساء القديمة في البيوت، ولكنها تعول على الرجال في أزيائها، ولا تعول فيها على نفسها، وتفضل معاهد «التفصيل» التي يتولاها الرجال على المعاهد التي يتولاها بنات جنسها، وكذلك تفضل معاهدهم على معاهد النساء في أعمال التجميل والزينة عامة ... ومنها تصفيف الشعر وتسريحه واختيار الأشكال المستحبة لتضفيره وتجميعه. وقد عنيت المرأة بألوان الطلاء منذ عرفت الزينة والتحلية الصناعية، ولكنها لم تحسن من هذه الصناعة ما أحسنه الرجل في سنوات قصار، حين اشتغل بتغيير الملامح لتمثيل الأدوار على المسرح، أو حين اشتغل بتغيير الملامح للتنكر والاستطلاع، وقد كان هذا التفوق في صناعة «التفكر» أولى بالمرأة لطول عهدها بفنون المداراة والحجاب. •••
وتنوح المرأة على موتاها، وتتخذ النواح على الموتى صناعة لها في غير مآتمها، ولم تؤثر عن النساء قط في لغة من اللغات مرثاة تضارع المراثي التي نظمها الرجال، ولا تظهر في «مراثيهن» مسحة شخصية تترجم عن النفس وراء الكلمات والمرددات المتواترة التي تقال في كل مأتم، وفي كل وفاة، وتنقل محفوظة كما تنقل مرتجلة من نظم قائلتها في فجيعتها التي تعنيها ولا تعني غيرها، كأنها الأصوات التي تترجم عن غرائز الأحياء على نحو واحد في الحزن والألم أو في الشوق والحنين.
صفحة غير معروفة
والملاهي - ولا سيما ملاهي الرقص والغناء - من ضروب التسلية التي يتسع لها وقت المرأة في الخدور، وفي البيوت التي لا تحسب من الخدور، وقد شجعها الرجال عليها وجعلوها من فنون التربية النسوية التي تروقهم منها، ولكن الأستاذية في الرقص المفرد وفي رقص الجنسين لم تكن من حظ المرأة في العصر الحديث، ولا في العصور القديمة، ولم يزل عمل المرأة في الرقص أقرب إلى التنفيذ منه إلى الابتكار والابتداء.
ومن اللهو الذي كان خليقا بالمرأة أن تحذقه وتتفوق فيه على الرجال، لهو الفكاهة والنكتة المضحكة؛ لأنها تحب أن تمرح وتلعب، ولأنها تشعر بالضغط وبالحاجة إلى التنفيس عن الشعور المكبوح. وقد عرف من طبائع النفس البشرية أن ضحايا الضغط والاستبداد يلجئون إلى السخر لرد غوائل الظلم التي لا يقدرون على ردها بالقوة، وإن المتعرضين لضرورات الخضوع والإذعان يقضون حق «التمرد» بالمزاح؛ حيث لا يتاح لهم أن يقضوه بالجد والمقاومة، ولكن المعهود في المرأة أنها قليلة الفطنة للنكتة، إلا في الندرة التي تحسب من الفلتات العارضة، وأنها لا تحسن أن تقابل نكات الرجال بمثلها مع كثرة النكات التي تصيبها في أنوثتها، فضلا عن سبقها لهم وامتيازها في هذا الباب عليهم؛ لأنها خليقة أن تحس من ضغط الاستبداد ما لا يحسه جمهرة الرجال. •••
وليس بالمجهول أن النساء قد نبغن من قبل، وينبغن الآن في طائفة من الأعمال التي يضطلع بها الرجال، وقد اشتهر منهن الملكات وقائدات العسكر، واشتهر منهن الباحثات والخطيبات، كما اشتهر منهن الصالحات الممتازات في شئون الدين والدنيا، وشمائل الفضائل والأخلاق، وقد تكون منهن من تفوق جمهرة الرجال في بعض هذه الأعمال. ولكن فضائل الأجناس لا تقاس بالنصيب المشترك، بل تقاس بالغاية التي لا تدرك، ولا تؤخذ بالاستثناء الذي يأتي من حين إلى حين، بل بالقاعدة التي تعمم وتشيع بين جملة الآحاد. وقد يوجد بين الصبيان من هو أقدر على أعمال الرجال، بل قد توجد في أثناء الليل ساعة أضوأ من بعض ساعات النهار، وإنما تجرى الموازنة على الغايات القصوى، وعلى الأغلب الأعم في جميع الأحوال، وما عدا ذلك فهو الاستثناء الذي لا بد منه في كل تعميم.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن «الاستثناء» يحمل في أطوائه دلائل القاعدة التي يخالفها، ولا يخلو من ناحية تعزز القاعدة الغالبة ولا تنفيها.
إن اسم السيدة «ماري كوري» أول الأسماء التي يذكرها القائلون بالمساواة التامة بين الجنسين، ولو صح أن هذه السيدة تضارع علماء الطبقة الأولى من الرجال لما كان في هذا الاستثناء النادر ما ينفي أنه استثناء نادر، وأن القاعدة العامة باقية لم تنقض ولا ينقضها تكرار مثله من حين إلى حين.
إلا أن الواقع أن حالة هذه السيدة خاصة بعيدة من أن تحسب بين حالات الاستثناء في مباحث العلم أو في المباحث العقلية على الإجمال؛ لأنها لم تعمل مستقلة عن زوجها، ولم يكن عملها من قبيل الاختراع والابتداع، وإنما كان كله من قبيل الكشف والتنقيب. قالت بنتها «إيف» في ترجمتها: «إن نصيحة بيير كان لها في هذه المرحلة الدقيقة شأن لا يغضى عنه، فإنما كانت الفتاة تنظر إلى زوجها نظرة التلميذ إلى معلمه؛ إذ كان أقدم منها دراسة للعلوم الطبيعية، وأطول منها خبرة ودراية، وقد كان عدا ذلك رئيسها بل مستخدمها. غير أنها بمزاجها وطبيعتها قد كان لها ولا شك فضلها في هذا الاختيار، فإن البنت البولونية قد انطوت منذ طفولتها على ملكة التطلع والجرأة التي ينطبع عليها المستكشف، وكانت هذه الملكة هي التي حفزتها إلى الشخوص من وارسو إلى باريس والسوربون.» •••
والواضح أن ملكة المستكشف على أرقاها وأتمها لا ترتقي في القدرة العقلية إلى منزلة الاختراع والافتتاح، فإنما هي امتداد لعمل الحس والبحث بالعينين، ينتهي بطول المراقبة إلى رؤية الشيء الذي لا يرى بالعين لأول وهلة، وقصاراه أنه صبر على النظر، ثم إدمان النظر، إلى أن ينكشف الشيء الذي لا بد أن ينظر بعد طول المراقبة في وقت من الأوقات. وقد كان العالم بيكريل
Bequerel
يبحث في إشعاع عنصر «الأورانوم» قبل أن تبحث فيه السيدة كوري مع زوجها وأستاذها، وبنى كلاهما بحثه على تقرير بيكريل، فوصلا إلى الوجهة التي اتجه إليها من قبل فأحسنا الاتجاه، وإن لم يكن لهما فضل التوجيه.
والحق أنه لمما يؤسف له من آفات العصر الحديث زيغ التفكير الاجتماعي في مسائل الإنسان الجلي كهذه المسألة الخالدة: مسألة التفرقة بين الجنسين في الكفاية والوظيفة، وعلاماتها البينة أشد البيان في الحاضر وفي سوابق التاريخ. فإن هذه المسألة الخالدة لتجمع بين الشمول المستفيض وبين العمق المتأصل ؛ بحيث لا تقبل اللبس، ولا تدع للناظر أن يطيل التردد حول مقطع الرأي فيها، لولا فتنة العصر بمخالفة القديم على هدى وعلى غير هدى في كثير من جلائل الأمور. •••
صفحة غير معروفة
فليست شواهد التاريخ وشواهد الحاضر المستفيضة بالظاهرة الوحيدة التي تقيم الفارق الحاسم بين الجنسين؛ إذا لا شك أن طبيعة تكوين الجنس أدل من الشواهد التاريخية، والشواهد الحاضرة على القوامة الطبيعية التي اختص بها الذكور من نوع الإنسان، إن لم تقل من جميع الأنواع التي تحتاج إلى هذه القوامة. فكل ما في طبيعة الجنس «الفزيولوجية» في أصل التركيب يدل على أنه علاقة بين جنس يريد وجنس يتقبل، وبين رغبة داعية ورغبة مستجيبة، تتمثلان على هذا النحو في جميع أنواع الحيوان التي تملك الإرادة وترتبط بالعلاقة الجنسية وقتا من الأوقات.
وعلى وجود الرغبة الجنسية عند الذكور والإناث، لا تبدأ الأنثى بالإرادة والدعوة، ولا بالعراك للغلبة على الجنس الآخر، وليس هذا مما يرجع في أصوله إلى الحياء الذي تفرضه المجتمعات الدينية، ويزكيه واجب الدين والأخلاق، بل يشاهد ذلك بين ذكور الحيوان وإناثها، حيث لا يعرف حياء الأدب والدين، فلا تقدم الإناث على طلب الذكور، بل تتعرض لها لتراها وتتبعها وتسيطر عليها باختيارها، ولا تزال الأنثى بموقف المنتظر لنتيجة العراك عليها بين الذكور، ليظفر بها أقدرهم على انتزاعها.
وأدل من ذلك على طبيعة السيطرة الجنسية أن الاغتصاب إذا حصل، إنما يحصل من الذكر للأنثى ولا يتأتى أن يكون هناك اغتصاب جسدي من أنثى لذكر، وإن غلبة الشهوة الجنسية تنتهي بالرجل إلى الضراوة والسطوة، وتنتهي بالمرأة إلى الاستسلام والغشية، وأعمق من ذلك في الإبانة عن طبيعة الجنس، أن عوارض الأنوثة تكاد تكون سلبية متلقية في العلامات التي يسمونها بالعلامات الثانوية، فإذا ضعفت هرمونات الذكورة وقلت إفرازاتها بقيت بعدها صفات الأنوثة غالبة على الكائن الحي كائنا ما كان جنسه، ولكن صفات الذكورة لا تأتي وحدها إذا ضعفت هرمونات الأنوثة، وإنما يظهر منها ما كان يعوقه عائق عن الظهور. •••
ومن الاختلافات الجسدية التي لها صلة باختلاف الاستعداد بين الجنسين أن بنية المرأة يعتريها الفصد كل شهر، ويشغلها الحمل تسعة أشهر، وإدرار لبن الرضاع حولين قد تتصل بما بعدها في حمل آخر، ومن الطبيعي أن تشغل هذه الوظائف جانبا من قوى البنية، فلا تساوي الرجل في أعماله التي يوجه إليها بنية غير مشغولة بهذه الوظائف الأنثوية. وينبغي أن تظهر هذه الحقيقة بغير مشقة عند الموازنة بين استعداد البنيتين، وأحرى أن تكون ظاهرة مفهومة عند الذين يدينون بالآراء المادية، ويربطون بين قوى الجسد وكل قوة باطنة أو ظاهرة في الإنسان وسائر الأحياء، وليس من اللازم أن يتعلق الاختلاف بالحالة التي تشتغل فيها بنية المرأة بتلك الوظائف والأعمال فعلا؛ لأن الاستعداد لها مركب في الطباع، معقود بتكوين الخلايا الدقيقة؛ فضلا عن الجوارح والأعضاء، بل من الطبيعي أن يكون للمرأة تكوين عاطفي خاص لا يشبه تكوين الرجل؛ لأن ملازمة الطفل الوليد لا تنتهي بمناولته الثدي وإرضاعه، ولا بد معها من تعهد دائم ومجاوبة شعورية تستدعي شيئا كثيرا من التناسب بين مزاجها ومزاجه، وبين فهمها وفهمه، وبين مدارج حسها وعطفها ومدارج حسه وعطفه، وهذه حالة من حالات الأنوثة شوهدت كثيرا في أطوار حياتها منذ صباها الباكر إلى شيخوختها العالية، فلا تخلو من مشابهة للطفل في الرضى والغضب، وفي التدليل والمجافاة، وفي حب الولاية والحدب ممن يعاملها ولو كان في مثل سنها أو سن أبنائها. وليس هذا الخلق مما تصطنعه المرأة وتتركه باختيارها؛ إذ كانت حضانة الأطفال تتمة للرضاع، تقترن فيها أدواته النفسية بأدواته الجسدية، ولا تنفصل إحداهما عن الأخرى. ولا شك أن الخلائق الضرورية للحضانة وتعهد الأطفال الصغار أصل من أصول اللين الأنثوي، الذي جعل المرأة سريعة الانقياد للحس، والاستجابة للعاطفة، يصعب عليها ما يسهل على الرجل من تحكيم العقل، وتغليب الرأي، وصلابة العزيمة. فهما ولا شك مختلفان في هذا المزاج اختلافا لا سبيل إلى المماراة فيه. •••
وبعض هذه الفروق في استعداد الجنسين كاف لشرح معنى «الدرجة» التي تميز الرجل على المرأة في حكم القرآن الكريم. فهو معنى أقرب إلى الوصف المشاهد منه إلى الرأي الذي تتعدد فيه المذاهب، فلا يعدو تقرير الواقع من يرى أن الجنسين سواء فيما لهما وما عليهما، إلا درجة يمتاز بها الجنس الذي يملك زمام الحياة الجنسية بحكم الطبيعة والتكوين.
الفصل الثاني
من الأخلاق
جاء وصف النساء بالكيد في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، مرتين على لسان يوسف عليه السلام، ومرة على لسان العزيز «في سورة يوسف»:
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين [يوسف: 33].
وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم [يوسف: 50].
صفحة غير معروفة
فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم [يوسف: 28].
والكيد صفة مذكورة في مواضع كثيرة من القرآن، بعضها منسوب إلى الإنسان، وبعضها منسوب إلى الشيطان، ومن الرجال الذين نسبت إليهم صالحون مؤمنون، ومنهم كفرة مفسدون، بل وردت وصفا لله سبحانه وتعالى مع المقابلة بين الكيد الإلهي وكيد المخلوقات، وبغير مقابلة في آيات.
ويدخل في الكيد صفات كثيرة تمدح وتذم، وتطلب وتمنع، تشترك كلها في معاني التدبير والمعالجة والحيلة، وقد يجمع الحميد والذميم منها قولهم: «الحرب مكيدة»؛ لأنها تدبير ومعالجة وحيلة تتطلبها مواقف القتال، وقد تذم أحيانا في هذه المواقف، كما تذم في سواها.
وقد جاء وصف الكيد في سورة يوسف نفسها منسوبا إلى إخوة يوسف إذ جاء فيها على لسان يعقوب عليه السلام:
قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين [يوسف: 5].
وجاء منسوبا إلى الله تعالى بمعنى التدبير:
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله [يوسف: 76].
أما الكيد الذي وصفت به امرأة العزيز وصاحباتها، فهو كيد يعهد في المرأة ولا ينسب إلى غيرها، أو هو كيدهن الذي يتسمن به ويصدر عن خلائقهن وطبائعهن، كما يفهم من الإضافة المتكررة في الآيات الثلاث، ويدل عليه عمل امرأة العزيز فيما غشت به زوجها، واحتالت له من مراودة غلامها عن نفسه، ثم من اتهامه بمراودتها وتنصلها من فعلها.
وكلها أعمال تتلخص في «الرياء» أو في إظهارها غير ما تبطنه واحتيالها للدس والإخفاء. •••
والرياء صفة عامة تشاهد في كثير من المستضعفين من الرجال والنساء، وأسبابه الاجتماعية تحدث لكل ضعيف يقهره غيره، فلا يخص المرأة دون الرجل، ولا ينحصر بين فئة من الناس دون فئة، وقد يحدث للحيوان الضعيف ويلجئه إلى المراوغة والملق، وهو لا يتكلف لذلك كما يتكلف الإنسان الذي يفكر فيما يعمل وفيما يقصد إليه.
صفحة غير معروفة
وينسب رياء المرأة إلى الضرورات التي فرضها عليها الضعف في حياتها الاجتماعية أو حياتها البيتية، وقد يظهر فيها على نحو يناسبها حتى يتلبس بالبواعث الأنثوية المقصورة عليها. فلا تختص به في أصوله إذ كانت أصوله من الضعف الذي يشاركها فيه جميع الضعفاء، وإنما تختص به لأن بواعثها الأنثوية مقصورة على جنسها.
إلا أن «الرياء» الأنثوي الذي يصح أن يقال فيه: إنه رياء المرأة خاصة، إنما يرجع إلى طبيعة في الأنوثة تلزمها في كل مجتمع، ولا تفرضه عليها الآداب والشرائع، ولا يفارقها باختيارها أو بغير اختيارها، بل لعلها هي تأبى أن يفارقها لو وكل إليها الاختيار فيه.
فمن أصول هذا الرياء في تكوين الأنثى أنها مجبولة على التناقض بين شعورها بغريزة حب البقاء، وشعورها بغريزتها النوعية. فهي تتعرض للخطر على الحياة وتفرح بوفاء أنوثتها في وقت واحد، وهي إذ تضع حملها تتألم أشد الألم وتعاني جزع الخشية على حياتها حين تخامرها وتسري في كيانها غبطة الأم التي أتمت وجودها وتوجت حياتها الجنسية بأعز ما تصبو إليه وتتمناه، ويستوي كيانها كله على أن تفرح وهي تتألم، وتتألم وهي تفرح، فلا يستقيم شعورها خالصا من النقيضين في أعمق وظائفها التي خلقت لها، ومثل هذا التناقض يلازم عواطفها جميعا فيما هو دون ذلك من نزعاتها وأهوائها. •••
ومن أصول هذا الرياء في تكوينها، أنها مجبولة كذلك على التناقض بين شعورها بالشخصية الفردية، وشعورها بالحب والعلاقة الزوجية، فهي كجميع المخلوقات الحية ذات «وجود شخصي» مستقل تحرص عليه، وتأبى أن تلغيه أو تتخلى عن ملامحه ومعالم كيانه، وهي في حوزتها «الشخصية» مدفوعة إلى صد كل افتيات ينذرها بالفناء في شخصية أخرى، ولكنها في أشد حالات الوحدة لا تتوق إلى شيء، كما تتوق إلى الظفر بالرجل الذي يغلبها بقوته، ويستحق منها أن تأوي إليه، وتلحق وجودها بوجوده، وأسعد ما تكون في حبها أو في علاقتها الزوجية إذ يملكها الرجل الذي يفوقها بالقدرة المطاعة والعزيمة النافذة، ونتيجة المقاومة عندها أن تجمع بين الانتصار والخذلان في لحظة واحدة. فهي منتصرة حين تظفر بالرجل الذي يغلبها ويستولي عليها.
وشبيه بهذا التناقض مع اختلاف أسبابه، أن الرغبة الجنسية عندها تنفصل عن الغريزة النوعية في معظم أيامها. فليست الرغبة الجنسية - بحكم الطبيعة - عبثا في وقت من الأوقات عند الرجل، ولكنها عبث عند المرأة في أوقات حملها وفي غير أوقات الحمل من أيام دوراتها الشهرية. وقد عوفيت أنثى الحيوان من هذا العبث؛ لأنها إذا حملت صدت عن الذكر وصد الذكر عنها، ولكن المرأة التي تحس أنها عابثة في أحق الوظائف النوعية بالجد والمبالاة، يختلط عندها العبث بالجد والسرور العقيم بالوظيفة الطبيعية، وقد تقضي بعد سن اليأس زمنا يحكمها فيه هذا العبث الذي لا نظير له في حياة الرجولة. •••
وحب الزينة أصل من أصول الرياء يشاركها فيه الرجل في ظاهر الأمر، ولكنه يخصها في جانب غير مشترك بينها وبين زينة الرجولة؛ فإن الرجل يتزين ليعزز إرادته، وإنما تتزين المرأة لتعزز إرادة غيرها في طلبها. وزينة المرأة كافية إذا راقت بمنظرها الظاهر في عين الرجل، ولكن زينة الرجل تجاوز ظاهره إلى الدلالة على قوته ومكانته وكفايته لمؤنة أهله، وليست الزينة التي تراد للإغراء بالقبول كالزينة التي تراد للإغراء بالطلب، فإن الفرق بينهما هو الفرق بين الإرادة والانقياد، وبين من يريد ومن ينتظر أن يراد. •••
وجملة القول أن الرياء على عمومه هو إظهار غير ما في الباطن، وهو حالة تعرض للرجال والنساء في الحياة الجنسية وغير الحياة الجنسية، ولكن الأنوثة تخص بلون منه؛ لأنها إذا لجأت إليه، فإنما تلجأ إليه اضطرارا؛ لأن من خلقها ألا تظهر كل ما في نفسها، وإن كان من الأمور الطبيعية التي لا إثم فيها ولا مخالفة بها لوظيفتها.
الفصل الثالث
هذه الشجرة
قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء، وهي الصورة الإنسانية لوسائل الذكر والأنثى في الصلة الجنسية بين عامة الأحياء.
صفحة غير معروفة
الرجل يريد ويطلب، والمرأة تتصدى وتغري. وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها؛ أي حيث ينبغي أن تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الإنسان.
وقد ذكر القرآن الكريم قصة الأكل من الشجرة في ثلاثة مواضع من سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه.
ففي سورة البقرة:
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه . [البقرة: 35، 36]
وفي سورة الأعراف:
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . [الأعرف: 19، 20]
وفي سورة طه:
فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى . [طه: 120، 121]
وليس في هذه الآيات من السور الثلاث إشارة إلى ابتداء حواء بالإغراء، أو بالكيد على ما جاء في سورة يوسف، ولكن بعض المفسرين ذكر ذلك في شرح الآيات معتمدا على أقوال حفاظ التوراة من بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام، فقال الطبري من المفسرين الأقدمين نقلا بالإسناد عن وهب بن منبه:
لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة، ونهاهما عن الشجرة، أراد إبليس أن يستزلهما فدخل في جوف الحية، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء به إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظر إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب، ثم قال ربه: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي. ملعونة أنت لعنته، ولا يمكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك.
صفحة غير معروفة
وقال الألوسي صاحب «روح المعاني» من المفسرين المحدثين: وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة، فدنت حواء منه، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار. وقيل: توسل بحية تسورت الجنة، والمشهور حكاية الحية. وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب.
ومرجع هذا الشرح كما هو ظاهر، قصة التوراة التي حفظها وهب بن منبه، ورواها لصحبه من المسلمين بعد دخوله في الإسلام، ونصها كما جاءت في الإصحاح الثالث من سفر التكوين:
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية، فقالت للمرأة: أحقا قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، وأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، وانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر، وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان واختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة: فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين، وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه، وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها - ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك، تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود.
وعلى هذا المرجع من التوراة اعتمدت كتب العهد الجديد حيث جاء في الإصحاح الحادي عشر من كتاب كورنثوس الثاني:
ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح.
وجاء في تيموثاوس من الإصحاح الثاني:
إن آدم لم يغو، ولكن المرأة أغويت فحصلت في التعدي.
تلك قصة الشجرة في كتب الأديان، وهي تعبر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في إدراكه للمقابلة بين الجنسين، وعن دور كل منهما في موقفه من الجنس الآخر، على الوجه الوحيد الذي تتم به إرادة النوع، والمحافظة على بقائه، وإنما تتم هذه الإرادة بين جنس يملك الزمام، وجنس تقوم إرادته على أن يحرك إرادة غيره، وقد ترجمت قصة الشجرة سر الجنس الكامن في طبائع الأحياء جمعاء، بين الإرادة والإغراء، وبين المطاردة والانقياد، فانطوت في هذا السر كل خليقة يتميز بها الذكور والإناث، وتنتقل إلى العالم الإنساني، فيتميز بها الرجال والنساء تمييزا يبقى في كيان الخلقة، وفي دقائق الخلايا الجسدية التي يتركب منها ذلك الكيان، بعد كل دعاية مذهبية، وكل طور من أطوار المجتمع السياسي. وبعد كل ترويج أو تهريج يلغط به أولئك الذين ينظرون حولهم ولا يحسون، أو يحسون ما حولهم وما في أنفسهم ولا يفقهون.
ومن نقائض الطبع الأنثوي التي أشرنا إليها فيما تقدم، أن تخالف المرأة أشد المخالفة وتذعن غاية الإذعان، حين يضطرب الحس فيها بين إرادتها الفردية وإرادتها النوعية.
وحب الإغراء على هذا النحو مفهوم بشطريه أو بنقيضيه، مفهوم على الموافقة وعلى المخالفة؛ لأن المرأة محكومة لا تحكم غيرها إلا من طريق إغرائه، أو من طريق تنبيهه إلى ما هو «شهي للنظر بهجة للعيون» كما جاء في العهد القديم.
صفحة غير معروفة
وكل خلق من أخلاق المرأة مرموز إليه في قصة الشجرة، ومنها الولع بالممنوعات كما يولع بها كل محكوم مضطر إلى الاتباع.
قال الشاعر الجاهلي طفيل الغنوي:
إن النساء كأشجار خلقن لنا
منها المرار وبعض المر مأكول
إن النساء متى ينهين عن خلق
فإنه واجب لا بد مفعول «ولا تولع المرأة بالممنوع لأنها محكومة وكفى، أو لأنها محكومة لضعفها واعتمادها على من يمنعها، بل هي تولع بالممنوع لأنها تتدلل، ولأنها تجهل وتستطلع، ولأنها موهونة الإرادة لا تطيق الصبر على حنة الغواية والامتناع، وكل أولئك عنوان خصلة أخرى من ورائها: هي خصلة الضعف الأصيل.»
1 «والولع بالإغراء والإغواء أخو الولع بالمخالفة والعصيان: كلاهما دليل على رجوع الأمر إلى الآخرين، فالمخالفة دليل على أن المخالف محكوم لغيره، والإغواء دليل على أنه يرجع إلى غيره في العمل ويعتمد عليه. فهما ثمرتان من هذه الشجرة، أو هما خصلتان من خصال الأنوثة الخالدة في الصميم». «تتعرض المرأة وتنتظر، والرجل يطلب ويسعى، والتعرض هو الخطوة الأولى في طريق الإغواء، فإن لم يكف فوراءه الإغواء بالتنبيه والحيلة والتوسل بالزينة والإيماء ، وكل أولئك معناه تحريك إرادة الآخرين والانتظار». «فإرادة المرأة تتحقق بأمرين: النجاح في أن تراد، والقدرة على الانتظار، ولهذا كانت إرادة المرأة سلبية في الشئون الجنسية على الأقل، إن لم نقل في جميع الشئون، ولعل كلمة (لا) سابقة لكل نية تمتحن بها المرأة إرادتها وصبرها، فأحوج ما تكون إلى الإرادة والصبر حين تنوي ألا تتقدم ولا تسلم ولا تجيب ولا تطيع. وهنا تتصل هذه الخليقة فيها بخليقة العناد، وقوام العناد كله أن يقاوم المعاند رغبة الآخرين، وعمل الآخرين. فالإرادة التي تتمثل في العناد مؤنثة، والإرادة التي تتمثل في العزيمة مذكرة، وهذا هو شأن الإرادتين في غالب الأحوال». «وليس للمرأة أن تريد غير هذا النوع من الإرادة، لأسباب عميقة في أصول التركيب والتكوين، وموقف الجنسين من الاستجابة لمطالب النوع يهدينا إلى حكمة هذا الفارق من طريق قريب. فالذكور من جميع الحيوانات قد أعطيت القدرة - بتركيبها الجسدي - على إكراه الإناث لاستجابة مطالب النوع، طائعات أو مقسورات، ولا يتأتى ذلك للإناث على حال من الحالات الجسدية، فغاية ما عندهن من وسيلة أن يهجن الرغبة في الذكور، وأن يجعلنهم يريدون، ولا يستطيعون الامتناع عن الإرادة». «فهذا الفارق ملحوظ في أعمق أعماق التركيب الجسدي من كلا الجنسين، منذ نشأ الفارق بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان، وحكمته ظاهرة كل الظهور؛ لأنها هي الحكمة التي توافق بقاء النوع، وارتقاء الأفراد جيلا بعد جيل. فالإغواء كاف للأنثى، ولا حاجة بها إلى الإرادة القاسرة. بل من العبث تزويدها بالإرادة التي تغلب بها الذكر عنوة؛ لأنها متى حملت كانت هذه الإرادة مضيعة طوال مدة الحمل بغير جدوى. على حين أن الذكور قادرون إذا أدوا مطلب النوع مرة، أن يؤدوه مرات بلا عائق من التركيب والتكوين، وليس هذا في حالة الأنثى بميسور على وجه من الوجوه». «وإكراه الأنثى على تلبية إرادة الذكر يفيد النوع، ولا يؤذي النسل الذي ينشأ من ذكر قادر على الإكراه وأنثى مزودة بفتنة الإغواء. فهنا تتم للزوجين أحسن الصفات الصالحة لإنجاب النسل، من قوة الأبوة وجمال الأمومة، ويتم للنوع مقصد الطبيعة، من غلبة الأقوياء الأصحاء القادرين على ضمان نسلهم في ميدان التنافس والبقاء. وعلى نقيض ذلك لو أعطيت الأنثى القدرة على الإرادة والإكراه، لكان من جراء ذلك أن يضمحل النوع ويضار النسل؛ لأنه قد ينشأ في هذه الحالة من أضعف الذكور الذين ينهزمون للإناث، وكيفما نظرنا إلى مصلحة النوع، وجدنا من الخير له أبدا أن يتكفل الذكور بالإرادة والقوة، وأن تتكفل الإناث بالإغواء والتلبية، بل وجدنا أن فوارق البنية قد جعلت السرور في كل من الجنسين قائما على هذا الأساس العميق في الطباع. فلا سرور للرجل في إكراهه على مطلب النوع، بل هو منغص له مضعف من لذة جسمه. أما المرأة فقد يكون استسلامها لغلبة الرجل عليها باعثا من أكبر بواعث سرورها، ولعله أن يكون مطلوبا لذاته كأنه غرض مقصود، بل هو في الواقع غرض مقصود لما فيه من الدلالة على توفق الأنثى إلى إغواء أقوى الذكور. ومن البداهات الفطرية أن تتظاهر المرأة بالألم والانكسار في استجابتها للنوع؛ لأنها تفطن ببداهتها الأنثوية إلى هذا الفارق الأصيل في خصائص الجنسين». ••• «وليس بنا هنا أن ننظر في العدل الطبيعي بين خصائص الذكور وخصائص الإناث، وإنما نسجل هذه الحقائق بالملاحظة الصادقة، والدلالة الواضحة، ولا يعنينا أن ننصب لها ميزان العدل في توزيع الطبائع والملكات. ولكننا مع هذا القول نعود فنقول: إن العدل هنا بين الجنسين غير مفقود، وإن القسمة هنا ليست بالقسمة الضيزى،
2
فإذا قيل: إن الحمل قد جنى على المرأة؛ لأنه خصها بالألم، وجعل الإرادة من نصيب الرجل، فلا ينبغي أن ننسى أن الحمل قد أتاح للمرأة مزية فطرية لا تتاح لزوجها على وجه اليقين، وهي ضمان نسلها بغير دخل ولا ارتياب. فكل من ولدت المرأة فهو وليدها الذي يستحق عطفها وحنانها، وليس ذلك شأن الآباء فيما ينسب إليهم من الأبناء. وما من أم تسأل عن ألم الحمل إلا تبين من شعورها أنها تستعذبه ولا تتبرم به، وأنها قد تشعر بغبطة من الألم لا يعرفها الرجال الذين يثورون على الآلام، ومن امتزاج الألم بطبيعة المرأة أصبحت التفرقة بين ألمها ولذتها في رعاية الأبناء من أصعب الأمور، وعلى هذا يعتز الرجل بأنه يريد المرأة، ولا تعتز المرأة بأن تريده. لأن الإغواء هو محور المحاسن في النساء، والإرادة الغالبة هي محور المحاسن في الرجال، ولهذا زودت الطبيعة المرأة بعدة الإغواء وعوضتها بها عن عدة الغلبة والعزيمة، بل جعلتها حين تغلب هي الغالبة في تحقيق مشيئة الجنسين على السواء». ••• «ولكن التفرقة في عدة الغواية واجبة بين ما هو من صفات الجنس كله، وما هو من صفات هذه المرأة أو تلك من أفراد النساء. فقد تكون امرأة من النساء أذكى وأبرع من هذا الرجل أو ذاك، فتأخذه بالحيلة والدهاء، كما يغلب الأذكياء الجهلاء في كل مجال يتصاولون فيه. إلا أنها صفة فردية لا يقاس عليها عند بيان الصفات الجنسية التي خصت بها المرأة على التعميم، وهذه الصفات الجنسية هي التي تعنينا في هذا المقام؛ لأنها التراث المشترك بين جميع بنات حواء في مواجهة الجنس الآخر: وهو جنس الرجال». «فالذي يساعد المرأة من قبل الطبيعة على إغراء الرجل هو الهوى الجنسي في تركيب الرجل نفسه، فلولا هذا الهوى لكانت حيلتها معه من أضعف الحيل، وسلطانها عليه كأهون سلطان، ومما يرينا أن الطبيعة هي العاملة هنا، وليست المرأة هي التي تعمل بقدرتها واحتيالها، أن هواها في نفس الرجل شبيه بكل هوى ينمو فيه بحكم العادة والفطرة، فهو يعاني من مقاومة التدخين، أو معاقرة الخمر، عناء يجهده ويغلبه على مشيئته في كثير من الأحيان، ولو كان للتبغ أو للخمر لسان يتكلم لجاز أن يتحدث الناس عن لسانهما المعسول الذي يخلب العقول، وعن حيلتهما النافذة التي تسلب الرشاد». «والأداة البالغة من أدوات الإغواء والإغراء، هي قدرة المرأة على الرياء والتظاهر بغير ما تخفيه، فهذه الخصلة قد تسمو فيها حتى تبلغ رتبة الصبر الجميل، والقدرة على ضبط الشعور، ومغالبة الأهواء، وقد تسفل حتى تعافها النفوس كما تعاف أقبح الختل والنفاق. أعانتها عليها روافد شتى من صميم طبائع الأنوثة التي يوشك أن يشترك فيها جميع الأحياء. فمن أسباب هذه القدرة على الرياء - أو هذه القدرة على ضبط الشعور - أن المرأة قد ريضت زمنا على إخفاء حبها وبغضها؛ لأنها تخفي الحب آنفة من المفاتحة به والسبق إليه، وهي التي خلقت لتتمنع وهي راغبة، وتخفي البغض لأنها محتاجة إلى المداراة كاحتياج كل ضعيف إلى مداراة الأقوياء». «ومن أسباب القدرة على الرياء، أو القدرة على ضبط الشعور، أن الأنوثة سلبية في موقف الانتظار، فليس من شأن رغباتها أن تسرع إلى الظهور والتعبير، أو ليس من شأنها أن تفلح بالظهور والتعبير كما تفلح رغبات الذكور». «ومن أسباب القدرة على الرياء، أو القدرة على ضبط الشعور، أن مغالبة الآلام قد عودتها مغالبة الخوالج النفسية ما دامت في غنى عن مطاوعتها والكشف عنها، ومنها أن اصطناع الزينة الذي استقر في خليقتها إنما هو في لبابه اصطناع لكل ظاهر تحسه الأبصار والأسماع، أو تحسه الضمائر والأفهام». «وفي اللغة العربية توفيقات كثيرة في الجمع بين الحقيقة المادية والحقيقة المجازية بكلمة واحدة، ومنها كلمة «التجمل» التي تفيد معنى التزين لمرأى العيون كما تفيد معنى التزين لمرأى النفوس». «ولرسوخ هذه الطبيعة الأنثوية في تكوين المرأة - شغفت بالرياء لغرض تعنيه، ولغير غرض تعنيه في كثير من الأحوال، كأنها وظيفة حيوية تستمتع بها بالمعالجة والرياضة كما تستمتع الأعضاء بالحركة والنشاط». «وقد يعين المرأة على الرجل - غير الهوى وغير الخداع - خلق آخر هو في الحقيقة خلق يعين الرجل على نفسه، وليس عمل المرأة فيه إلا من قبيل الإذكاء والتنبيه. فالمرأة سكن للرجل كما جاء في القرآن الكريم، ولا يطيب للإنسان أن يحذر من سكنه، أو يتجافى عن الهدوء والطمأنينة فيه، ولا تتم سعادته به إلا أن ينفي عنه الحذر، ويقبل عليه بجمع فؤاده وطوية ضميره. فهو الذي يغمض عينيه بيديه ويستنيم إلى الرقاد هربا من السهاد، ونصف ما يقبله من الخداع إنما هو الخداع الذي نسجه بيمينه وزخرفه بتلفيقه، وكذلك المرأة إذا تعلقت بالرجل كانت أسبق منه إلى التصديق، وكان خداعه إياها أسهل من خداعها إياه». «ومن غوايات المرأة الكبرى أنها قصبة السبق في حلبة التنافس بين الرجال، فالظفر بها يرضي كل شعور يحيك بقلب الرجل، سواء منه ما يتناوله بإدراكه ووعيه، وما ليس يدركه ولا يعيه». «وقد اختلف أصحاب المذاهب الفلسفية في تعليل نوازع الحياة التي تفسر بها أعمال الناس وترد إليها. فقال بعضهم: إنها طلب القوة، وقال غيرهم: إنها طلب البقاء، وزعم هؤلاء وهؤلاء أنها طلب اللذة، وجاء آخرون في العصر الحاضر فتغلغلوا بالنوازع الجنسية وراء كل غريزة، ونفذوا بها إلى كل سرداب من سراديب النفس الخفية، وأيا كان موضوع الصدق من هذه النوازع، فالمرأة معها جميعا تطلق شعور القوة وشعور البقاء وشعور اللذة، وتتقصى وشائج الجنس إلى جذورها الكامنة في أعرق بواطن الحياة». «وما الظن بقصبة السبق التي تستطيع أن تستدني إليها من تشاء وتنأى عمن تشاء؟ إن المتسابقين ليتناحرون على القصبة الخرساء، وهي لا تحكم لهم بشيء ولا تفاضل بين يمين ويمين. والمرأة هي تلك القصبة التي تحابي وتجافي حرية ألا تبقى في عزيمة العادين بقية من نوازع السباق». «تلك هي بعض عناصر الغواية الأنثوية التي تملكها المرأة من حيث تدري ولا تدري، وكذلك تنبت الثمرة الثانية على هذه الشجرة».
الفصل الرابع
صفحة غير معروفة
الأخلاق الاجتماعية
تتجلى حكمة القرآن الكريم في النص على قوامة الرجال من أحوال المجتمع، كما تتجلى من أحوال الأسرة أو أحوال الصلة الزوجية بين الذكر والأنثى؛ أي بين الرجل والمرأة في نوع الإنسان.
فالأخلاق في المجتمعات الإنسانية عامة مصلحة دائمة، وضرورة لا قوام لمجتمع بغيرها على صورة من صورها. وهذه الضرورة لم يكن في مجتمعات الناس ما يكفيها إن لم تكفها قوامة الرجال، فإن الرجال هم مرجع كل عرف مصطلح عليه في الأخلاق، سواء منها أخلاق الذكور وأخلاق الإناث، ولم يؤثر عن المرأة قط أنها كانت مرجعا أصيلا لخلق من الأخلاق لم تتلقه من الرجال، ولم تتجه به إليهم، ولا استثناء في ذلك للصفات التي نعدها من أخص الصفات الأنثوية، ومن أقربها إلى طبيعة المرأة ، وأبرزها في هذه الخاصة صفات الحياء والحنان والنظافة.
وكان من السائغ عقلا أن تنشئ المرأة خلائق العرف كله؛ لأنها تتسلم النوع منذ نشأته في الأرحام، إلى أيام نموه بين الحجور والمهود، وتتولى حضانته البيتية إلى أيام المراهقة، ثم تتسلمه قرينا بعد أن تسلمته ابنا متدرجا في تكوينه إلى تمام هذا التكوين، كما يتم في دور المراهقة فدور الشباب.
كان هذا هو السائغ عقلا، لو كان في المرأة استعداد مستقل لتكوين القيم الأخلاقية، وإنشاء العرف والاصطلاح، ولو في بواكيره الأولى؛ إذ هي قادرة في دور الحضانة على بث البذور الخلقية في العادات والمبادئ مهما يكن من ضغط الرجل عليها.
غير أن الواقع المتكرر في المجتمعات الإنسانية كافة، أن المرأة تتلقى عرفها من الرجال، حتى فيما يخصها من خلائق الحياء والحنان والنظافة كما تقدم.
فهي إنما تستحي لأنها تتلقى خليقة الحياء من الطبيعة، أو من إملاء الرجال عليها. •••
وحياء المرأة الذي تتلقاه من الطبيعة أنها تخجل من مفاتحة الرجل بدوافعها الجنسية، وتنتظر المفاتحة من جانبه، وإن سبقته إلى الحب والرغبة. وشأنها في ذلك كشأن جميع الإناث في جميع أنواع الحيوان، فإنها تنتظر ولا تتقدم، أو تتعرض ولا تهجم، ويمنعها أن تفعل ذلك مانع من تركيب الوظيفة لا يصدر عن وازع أخلاقي، ولا عن أدب من آداب السلوك. إذ كان مانعا يتساوى فيه الحيوان العاقل وغير العاقل، كما يتساوى فيه النوع الذي ينقاد للغريزة وحدها، والنوع الذي يراض على سنة من سنن الحياة الاجتماعية، فإنما خلق تركيب الأنثى للاستجابة ولم يخلق للابتداء والإرغام، وسر هذا الخلق أن تزويد الأنثى بوظيفة الابتداء والإرغام عبث مضيع لغاية النوع، متى شغلت بالحمل والرضاع، كما تشغل بهما حسب استعدادها في معظم الأوقات.
وهذا الحياء الطبيعي لا يحسب من القيم الخلقية التي تريدها المرأة، وتمليها على نفسها وعلى غيرها، ولكنه عمل من أعمال التكوين يصطبغ بالصبغة الخلقية، كلما وافقت آداب الاجتماع.
وإنما يحسب من القيم الخلقية ذلك الحياء الذي تمليه الآداب، ويتصل بالإرادة والاختيار، لا فرق في ذلك بين الإرادة الجامعة وإرادة الأفراد المتفرقين.
صفحة غير معروفة
وهذا الحياء الذي تمليه الآداب تدين به المرأة على قدر اتصاله بشعور الرجل نحوها ونظرته إليها، فإذا اجتمع النساء معا بعيدا عن أعين الرجال، نسينه ولم يكترثن له، ولم يبالين شيئا مما يبالينه، وهن بأعين الرجل في المحضر والمغيب.
فالمرأة لا تتوارى عن المرأة في الحمام، ولا يعنيها أن تستر عضوا من أعضائها، إلا أن تستره مداراة لعيب وخوفا من منافسة النظائر والأتراب، ولم يعهد في الحرائر الخفرات أنهن في الأمم التي استخدمت الخصيان كن يحجمن عن مس الرجل لهن واطلاعه على أعضائهن وهن عاريات، ويسوغ للنساء أن يذهبن معا إلى ضروراتهن، ولا يسوغ ذلك في عرف الرجال، إلا من تكرههم عليه الطوارئ في غير المعيشة المعتادة. •••
وألصق من الحياء بالمرأة حنانها المشهور، ولا سيما الحنان للأطفال من أبنائها وغير أبنائها. وهذه صفة من صفات الغرائز، توجد في إناث الأحياء، ولا تمتاز فيها أنثى الإنسان إلا على قدر امتياز العاقل على غير العاقل في كل ما يشتركان فيه، فليس الحنان الطبيعي بصالح لتقدير خلق الرحمة في المرأة حين يتصل بإملاء الوجدان الأدبي وسلطان الضمير، وإنما يصلح لتقدير هذا الخلق فيها أن نقارن بين عطف الرجال وعطف النساء على الأطفال من أبناء الآخرين، فربما شوهد الرجل وهو يعطف على أبناء زوجته من غيره كما يعطف على أبنائه ويسوي بينهم في البر والمعاملة، ولو من قبيل التجمل ورعاية الشعور، وتسلك المرأة غير هذا السلوك في معاملة أبناء الزوج من غيرها، فلا ينجو هؤلاء الأبناء أحيانا من التعذيب والتشفي وتعمد الإذلال والإيذاء، ولا يطمع الكثيرون منهم في السلامة أو في التظاهر بالمساواة بينهم وبين إخوانهم في البيت، بل يحدث كثيرا أن يقع التفضيل والإيثار عمدا وجهرة للإمعان في الإساءة والانتقام من الأم المجهولة الغائبة، وقد تكون في عداد الأموات. وهذا كله كان حريا أن ينعكس بين الرجال والنساء؛ حيث يتصل على الخصوص بتكاليف الإنفاق والحماية؛ لأن الرجل هو الذي ينفق من ماله ويتكلف من وقته وجهده، ولعله حيث يرجع الأمر إلى خلة الأنانية، أولى أن يطمع في الاستئثار بالمرأة لنفسه، غير مشارك فيها ولا مستريح إلى ما يذكره بتلك المشاركة من قبل. وهو في الحق لا يبرأ من الأنانية ولا يقل في هذه الخلة عن المرأة، ولكن الفارق بينهما فيها أنها في الرجل خلة يروضها وازع الأخلاق، وهي في المرأة خلة تتحكم فيها الغريزة، ولا يقوى عليها وازع الفكر والضمير.
أما النظافة فليست هي من خصائص الأنوثة إلا لاتصالها بالزينة، وحب الحظوة في أعين الجنس الآخر. ولكن عمل الغريزة فيها أنها أصعب على المرأة وأيسر على الرجل؛ لأن المرأة تتكلف في سبيل النظافة ما ليس من الضرورات المتكلفة عند الرجال، لما يعرض لها في وظائف الحمل، وعادات الجسم المتكررة، وأخلاط الولادة، ولوازم الحضانة وما إليها، فلو لم تكن النظافة «قيمة خلقية» مفروضة عليها بإشراف الرجل على حياتها العامة وحياتها الخاصة، لكان استقلالها بنفسها وشيكا أن يضعها موضع الإهمال والاستثقال. ويرجع إلى هذه الحالة في المرأة أنها أصبر من الرجل على التمريض؛ لأنها أصبر على الحضانة، وأصبر على أخلاط الجسد، كما يرجع إليها أن إحساسها بالعطف على المصابين مخالف في طبيعته لإحساس الرجال. •••
وليس في أخلاق المرأة المحمودة خلق أخص بها وألصق بأنوثتها من هذه الخلائق الثلاث: وهي الحياء والحنان والنظافة، ومعولها فيها - كما رأينا - على وحي الطبع أو وحي الرجل. وأحرى أن يكون ذلك ديدنها في جملة الصفات التي يشترك فيها الجنسان مع اختلاف حظهما منها، ولو كانت من الصفات التي تولاها الرجال منذ القدم، ويتولونها إلى اليوم، كشجاعة القتال في ميادين الحروب، فقد يوجد من النساء من هن مثل في الشجاعة، ويوجد في الرجال من هم مثل في الجبن، ولا ينفي ذلك أصل القوامة في نشأة الأخلاق وتعميمها، فإذا نشأ الخلق وعم في العرف، لم يمتنع أن يتخلق به آحاد الجنسين على تفاوت في نصيب الرجال والنساء.
ومما له مغزاه في تقسيم الأخلاق بين الجنسين أن أساطير الخيال ووقائع التاريخ تتفقان بالبداهة والمشاهدة على هذا التقسيم . فقد جاء في أساطير اليونان الأقدمين خبر جيل من الأمم ينعزل فيه النساء، ويتدربن على القتال من طفولتهن، ولا يقبلن بينهن أزواجا يعيشون معهن، بل يأسرن الأزواج ثم ينفصلن عنهم، ويستحيين البنات من الذرية، ويقتلن البنين أو يرددنهم إلى آبائهم المعروفين، واسم هذا الجيل (الخرافي) جيل الأمزونات ومعناها «بغير أثداء»؛ لأن الأمزونات مشتقة من أصل إغريقي هو الكلمة اليونانية
Amazones
والخرافة تقول: إن هذا الجيل من النساء يحرق ثدييه أو يحرق الثدي الأيمن للتمكن من تثبيت القوس في موضعه. وفحوى ذلك - بمغزاه من بداهة الخيال - أن المرأة لا تتصف بهذه الصفة وهي باقية على طبيعتها، ولكنها تخرج من هذه الطبيعة لكي تتشبه بالرجال وتخالف أطوار النساء.
وبغير حاجة إلى متابعة النتائج التي تئول إليها الآراء في المستقبل، نجزم بالصواب فيما نعلمه من دلالة الطبع ودلالة العقل، فنفهم صواب الحكمة القرآنية التي أثبتت للرجل حق القوامة على المرأة في الأسرة، وفي الحياة الاجتماعية، فما كان للمجتمع أن يصطلح على عرف متبع فيه بغير هذه القوامة، وهي دستور الأخلاق والآداب التي لا غنى عنها ولا طاقة للمرأة بولايتها، وإن تسلمت مقاليد الحضانة منذ تكوين الجنين. •••
وقد عالجنا مسألة الأخلاق الأنثوية في فصول متعددة من كتبنا السابقة، ألحقها بهذا الفصل لما فيها من إيضاحات وشواهد متممة أو موافقة لشرح الكلام عن قضية المرأة في القرآن الكريم، ومنها فصل بعنوان أخلاق المرأة من كتاب «هذه الشجرة» نقتبس منه ما يلي:
صفحة غير معروفة
هذا المقياس بعينه هو المقياس الذي يرجع إليه في التفرقة بين أخلاق النساء: كل ما هو فردي روحي، أو اختياري إرادي، فهو أقرب إلى خلق الرجل، وكل ما هو نوعي جسدي أو آلي إجباري، فهو أقرب إلى خلق المرأة، فمداره على وحي الغريزة أولا ثم على وحي الفهم والضمير.
والأخلاق التي يسمو بها الإنسان إلى مرتبة التبعة والحساب أو مسئولية الأدب والشريعة والدين، هي كما لا يخفى أخلاق تكليف وإرادة، وليست أخلاق إجبار وتسخير.
ومن هنا صح أن يقال: إن المرأة كائن طبيعي وليست بالكائن الأخلاقي، على ذلك المعنى الذي يمتاز به خلق الإنسان ولا يشترك فيه مع سائر الأحياء.
مساك الأخلاق الأول عند المرأة هو الاحتجاز الجنسي الذي ألمعنا إليه فيما تقدم، وهو من الغريزة التي يتساوى فيها إناث الحيوان، وليس من الإرادة التي يتميز بها نوع الإنسان بجنسيه.
فالمرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسي؛ لأن الطبيعة قد جعلتها جائزة للسابق المفضل من الذكور، فهي تنتظر حتى يسبقهم إليها من يستحقها فتلبيه تلبية يتساوى فيها الإكراه والاختيار.
كذلك تصنع إناث الدجاج وهي تنتظر ختام المعركة بين الديكة أو تنتظر مشيئتها بغير صراع.
وكذلك تصنع الهرة وهي تتعرض للهر وتعدو أمامه ليلحق بها، وتصنع العصفورة وهي تفر من فرع إلى فرع ليدركها العصفور السريع، وتصنع الكلبة والفرس والأتان، وهي مضطرة إلى الاحتجاز؛ لأنه الحكم القاهر الذي فرضته عليها وظائف الأعضاء.
والبون بعيد جدا بين هذا الاحتجاز الجنسي، وبين فضيلة الحياء التي تعد من فضائل الأخلاق الإنسانية.
فالحياء مفاضلة بين ما يحسن وما لا يحسن، وبين ما يليق وما لا يليق، وما هو أعلى وما هو أدنى.
والاحتجاز الجنسي غريزة عامة بين الإناث ترجع إلى القهر والإجبار، كائنا ما كان التفاوت بينها في درجة القهر والإجبار.
صفحة غير معروفة
ومتى بلغ هذا الاحتجاز الجنسي مبلغه الذي قصدت إليه الطبيعة، فقد بلغت الأخلاق الأنثوية غايتها، ولم يبق منها ما يلتبس بالحياء في صورته ولا في معناه.
ومن ضلال الفهم أن يخطر على البال أن الحياء صفة أنثوية، وأن النساء أشد استحياء من الرجال. فالواقع - كما لاحظ شوبنهور - أن المرأة لا تعرف الحياء بمعزل عن تلك الغريزة العامة، وأن الرجال يستحون حيث لا يستحي النساء، فيستترون في الحمامات العامة، ولا تستتر المرأة مع المرأة إلا لعيب جسدي تواريه.
ولم يكن عمر بن أبي ربيعة مبالغا حين قال: إن الوجوه يزهوها الحسن أن تتقنع. بل هو لو شاء لقال عن الأجسام ما قال عن الوجوه
1
فلا تستر الأنثى الفطرية شيئا يمكنها أن تبديه، إذا كان عرضه مجلبة للنظر والاستحسان، ومن شهد الحمامات العامة على شواطئ البحر رأى كيف تهمل الأكسية ذات الرفارف المسبلة، ليبدو للأنظار ما استتر من محاسن الأجسام.
فالخلق الذي تتحلى به المرأة بداهة هو خلق الغريزة الذي يوشك أن يشمل إناث الحيوان.
وكل خلق «إرادي» تتخلق به بعد ذلك فهو فريضة عليها من الرجال، تجاريهم فيه على ديدن المحاكاة والمطاوعة، سواء فهمته أو جهلت كنهه ومرماه؛ ولهذا يكثر في النساء من يتقيدن بالعرف القديم؛ لأن قوام العرف القديم عادات ومصطلحات هي أقرب إلى الغريزة الآلية من فضائل الفهم والإرادة، ويندر بينهن جدا من تتحدى العرف بفضيلة واحدة من فضائل الاختيار.
جرى حديث متنقل في مجلس يضم رهطا من الرجال والنساء على قسط شائع من التعليم والعرف والآداب الخلقية، فانساق الحديث إلى سيرة رجل يتجاوز الخمسين ذاع عنه أنه يستدرج الفتيات الغريرات إلى داره فيلهو بهن ويظهر معهن في المحافل العامة، ويدفعهن إلى سهرات العبث والمجون، فكان النساء أقل من حضر المجلس اشمئزازا من سيرة ذلك الخليع. كأنهن لا يرين نقصا في رجل من الرجال بعد أن تكمل له تلك الفحولة الحيوانية، أو كأنهن لا يصدقن أن الفتيات الغريرات يسقطن في شراكه مخدوعات مغلوبات على مشيئتهن، ولكنهن راضيات مسرورات بما أتيح لهن من فرص المتعة والابتهاج.
وكل ما بدا عليهن بعد ذلك من الاشمئزاز فقد سرى إليهن مستعارا ممن كان بالمجلس من الرجال، فقد كانوا في هذا المجتمع الخاص، كما كانوا في المجتمع العام كله «مصدر السلطات على حد قولهم» في لغة الدساتير.
ومتى سقط سلطان الرجال في الأمة سقط معه سلطان الأخلاق سواء منها أخلاق العرف وأخلاق الإرادة.
صفحة غير معروفة
فالأمم المهزومة يشاهد فيها طوائف من النساء يجهرن بمخادنة الجنود الفاتحين، ولا يكربهن أنهم قاتلو الإخوة والأزواج والآباء؛ لأن الخضوع للغلبة ألصق بطبيعة الأنوثة الفطرية أو الحيوانية من جميع هذه الأواصر والآداب.
والعبرة التي تستفاد من هذه الحقيقة أن النساء يوكلن إلى الفطرة في أخلاق الغرائز والعادات، ولكن لا يصح أن يتركن في الأخلاق الأخرى - أخلاق الإرادة والضمير - بغير إيحاء شديد، بل إكراه يتجاوز حدود الإيحاء. •••
والغريزة القاهرة تعلل محاسن المرأة كما تعلل نقائصها، فتمهد لها العذر بين يدي الطبيعة، وإن لم تمهده لها بين يدي القانون والأخلاق.
فالتضحية هي أسمى فضائل الإنسان، وهي فضيلة لا يقدم عليها المرء كل يوم، ولا يقدم عليها بغير دافع شديد من وحي الفطرة أو من وحي الضمير.
ولكنها من وحي الفطرة أعم وأنفذ من وحي الضمير؛ لأن سلطان اللحم والدم عميق القرار في بواعث النفوس.
ومن ثم كانت المرأة أقرب من الرجل إلى التضحية في وظائفها النوعية؛ لأنها تستمد تضحيتها من غرائز الأمومة، وتموت في سبيل الذرية، كما تموت بعض إناث الحيوان. ولا تسهل التضحية على الرجل هذه السهولة إلا إذا ارتقى فيه وحي الضمير إلى مرتبة الدوافع الفطرية المودعة منذ الأزل في غرائز الأحياء، وتلك مرتبة يعز بلوغها على أبناء آدم فلا تزال معدودة فيهم من فضائل الأنبياء وأشباه الأنبياء، أو كما قال ابن الرومي:
وعزيز بلوغ هاتيك جدا
تلك عليا مراتب الأنبياء
وإنما يقدم الرجل على التضحية في جملة أحوالها العامة بغريزة أخرى مغروسة في طبيعة النوع، ولكنها أحدث وأقرب إلى الإرادة: وهي غريزة القطيع التي نشأت مع الخلائق الاجتماعية، ولم تنشأ بداءة مع الولادة، كما نشأت الغرائز الأنثوية في جميع إناث الأحياء. فإذا تصدى الرجل للقتال في الجيش أو الكتيبة، تحرك بإرادة القطيع كله وتغلب بها على الخوف وحب السلامة، ولكنه قد ينفرد بالتضحية التي يدفعه إليها وحي الضمير، فيعلو على فضائل الأنواع والجماعات، ويعرج بروحه صعدا في طراز رفيع من الفضائل: هو فضائل الأفراد الأفذاذ. •••
والغرائز المختلفة التي تعلل لنا محاسن المرأة تعلل لنا نقائصها التي تعاب عليها من بعض جهاتها. وقد لخصها المتنبي، ولخص كل ما قيل في معناها حيث قال:
صفحة غير معروفة
فمن عهدها ألا يدوم لها عهد
فهي تتقلب وتراوغ وترائي وتكذب وتحزن وتميل مع الهوى وتنسى في لحظة واحدة عشرة السنين الطوال.
وهي مسوقة إلى ذلك بالفطرة الجنسية التي خلقت فيها قبل نشأة الآداب الاجتماعية والآداب الدينية بألوف السنين. فقد أغرتها الفطرة الجنسية بالميل إلى الأقدر والأكمل من الرجال لتنجب للعالم أحسن الأبناء من أحسن الآباء.
فلم يكن مما يوافق هذه الفطرة في العصور السحيقة أن تحفظ العهد لرجل واحد ومن حولها رجال كثيرون يتقاتلون عليها، وقد يغلب أحدهم رجلها الذي تحفظ له العهد أو يطالبها بحفظه.
وكانت الحرب في بداءة الحياة الإنسانية هي مقياس القدرة والرجحان بين الرجال، في قبيلتهم أو في جميع القبائل المحيطة بها، فكان من شان المرأة أن تسلم لظافر بعد ظافر، وشجاع بعد شجاع، كلما دارت رحى الحرب بين غالب ومغلوب، وبين الشجاع القوي ومن هو أشجع منه وأقوى.
ثم أصبح المال مقياس القدرة والرجحان بين الرجال، وكان مقياسا صحيحا في العصور الغابرة، وظل كذلك ألوفا من السنين؛ لأنهم كانوا يكسبون المال غنيمة في حومة الحرب، أو ربحا من أرباح التجارة التي تقحم أصحابها في مجاهل الأرض، وتهدفهم لأخطار القتل والاستلاب، وتلجئهم إلى الحيلة تارة وإلى الحول تارات، وتشهد لهم بمقياس القدرة والرجحان عن جدارة واضحة تغني المرأة عن التفكير، وهي لا تعمد كثيرا إلى التفكير قبل الاختيار. •••
قلنا في الفصل الذي عقدناه على رأي المعري في المرأة من كتابنا المطالعات: «والذي نقوله في جملة واحدة أن المرأة وفية صادقة: وفيه للحياة لا لهذا الرجل أو لذاك، وصادقة في الحب لا في إرضاء أهواء من تحب، ولو أنعمنا النظر لعرفنا أن المرأة تخون نفسها كما تخون الرجال في سبيل الأمانة للحياة، وتكذب على نفسها كما تكذب على محبيها في صيانة عهد الحب، فهي وفية بالفطرة رضيت أم لم ترض، وهي صادقة بالإلهام حيث أرادت وحيث لا تريد.»
إلى أن قلنا: «تحب المرأة الشباب، ومن ذا الذي لا يحب الشباب؟ إن الشباب نفحة الخلود وروح من روح الله. تصور الأقدمون الآلهة فلم يفرقوا بينهم وبين الشباب، وأسبغوا عليهم كساء سرمديا من نسجه، وبهاء متجددا من صنعه، شعورا منهم بأن الشباب سمة الحياة الخالدة وروح المعاني الإلهية، وترجيحا لخير الشباب على شره ولمحاسنه على عيوبه.» •••
ثم تحب المرأة المال، ومن ذا الذي يكره المال؟ غير أننا قد نرى للمرأة سببا غير سائر الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه. نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختيار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار واجتلاب الإعجاب والإكبار، فقد كان أغنى الرجال في القرون الأولى أقدرهم على الاستلاب، وأجرأهم على الغارات، وأحماهم أنفا، وأعزهم جارا، وكان الغنى قرين الشجاعة والقوة والحمية، وعنوانا على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء، أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فكان أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق وتجشم الأخطار والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب، وأقدرهم على ضبط النفس وحسن التدبير. فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضا وقوة الإرادة وعلو الهمة وصعوبة المراس، ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظرا وأوسعهم حيلة، وأكيسهم خلقا، وأصلبهم على المثابرة وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور.
كان هذا كله في العصور الأولى قبل تشعب الحياة الاجتماعية، وتعدد الملكات والصفات التي تكفل الرجحان والتقدم للرجال.
صفحة غير معروفة