(الأول): أن يكون للنفس الطالبة للتشبه تصور لذلك الوصف المطلوب ولذات المعشوق وإلا كان بارادته طالبا لما لا يعرفه وهو محال.
(والثانى): أن يكون ذلك الوصف عنده جليلا عظيما وإلا لم يتصور الرغبة فيه.
(والثالث): أن يكون ممكنا حصوله فى حقه فانه إن كان محالا لم يتصور طلبه بارادة عقلية صادقة إلا بطريق الظن والتخيل الذى هو عارض قريب الزوال ولا يدوم أبدا فاذا لا بد وأن يكون لنفس الفلك إدراك لجمال ذلك المعشوق فينبعث بتصوره للجمال عشقه الذى يقتضى نظره والتفاته إلى جهة العلو لينبعث منه الحركة الموصلة إلى المطلوب من التشبه فيكون تصور الجمال سبب العشق* والعشق سبب الطلب والطلب سبب الحركة ويكون ذلك المعشوق هو الأول الحق أو ما يقرب منه من الملائكة المقربين أعنى العقول المجردة الأزلية المنزهة عن قبول التغير التى لا يعوزها شىء من الكمالات الممكنة لها* فان قيل فلا بد من تفصيل هذا العشق والمعشوق والوصف المطلوب تحصيله بالحركة* قيل كل طلب فانه توجه إلى ما هو خاصية واجب الوجود وهو أنه تام بالفعل ليس فيه شى بالقوة فان كون الشىء بالقوة نقصان إذ معناه فقد كمال هو ممكن حصوله له فكل موجود هو بالقوة من وجه فهو ناقص من ذلك الوجه وطلبه أن يزول عنه ما بالقوة إلى الفعل فمطلوب الكل الكمال ونيله وكل ما يكثر فيه ما بالقوة فهو أخس لا محالة وكل ما هو بالفعل من كل وجه فهو كامل والانسان فى جوهره تارة يكون بالقوة وتارة يكون بالفعل وإذا صار فى جوهره بالفعل فلا يزال فى أعراضه بالقوة لا ينال غاية الكمال ما دام فى البدن ولا تفارقه القوة* وأما الجسم السماوى فلا يكون بالقوة في جوهره البتة فانه ليس بحادث ولا يكون بالقوة فى أعراضه الذاتية أيضا ولا فى شكله بل هو بالفعل أى كل ما هو ممكن له فهو حاصل له إذ له من الأشكال أفضلها وهى الكرة ومن الهيئات أفضلها وهى الاضاءة والشفيف وكذا سائر الصفات وإنما يبقى لها أمر واحد لا يمكن أن يكون بالفعل وهو الأوضاع فان كل وضع فرض له أمكن فرضه على وضع آخر إذ لا يمكن أن يكون على وضعين في حالة واحدة ولو لم يمكن فيه هذا القدر بالقوة لكان قريب الشبه بالعقول المجردة وليس بعض الأوضاع أولى من بعض حتى يلزم ذلك ويترك البقية وإذ لم يمكن الجمع بين جميع الأوضاع بالعدد وأمكن الجمع بينها بالنوع على سبيل التعاقب قصد أن يكون كل وضع له بالفعل وأن يستديم جميعها بطريق التعاقب ليكون نوع الأوضاع دائما بالفعل كما أن الانسان لما لم يكن بقاء شخصه بالفعل دبر لبقائه حفظ نوعه بطريق التعاقب * وللحركة الدورية أيضا خاصية فى كونه بالفعل وبعيدا عن التغير والتفاوت فان الحركة المستقيمة إن كانت طبيعية تغيرت إلى السكون فى آخرها وإن كانت قسرية تغيرت إلى الفتور فى آخرها والدورية تستمرعلى وتيرة واحدة فاذا الجسم السماوى مهما تكلف استبقاء نوع الأوضاع لنفسه بالفعل على الدوام فقد تشبه بالجواهر الشريفة بغاية ما يمكن له فى نفسه ويكون طلبه للتشبه عبادة لرب العالمين لأن معنى العبادات التقرب ومعنى التقرب طلب القرب ومعنى طلب القرب أن يتقرب منه فى الصفات لا فى المكان فان ذلك غير ممكن فهذا هو الغرض المحرك للسموات.
(الدعوى الخامسة): أن السموات قد دلت المشاهدة على كثرتها فلا بد وأن تكون طباعها مختلفة وأن لا تكون من نوع واحد بدليلين.
(أحدهما): أنها لو كانت من نوع واحد لكان نسبة بعض أجزاء واحد منها إلى بعض أجزاء الآخر كنسبة بعض أجزائها إلى جزء آخر منها ولو كان كذلك لكان الكل متواصلة لا متفاصلة فالانفصال لا سبب له إلا تباين الطباع وهذا كما أن الماء لا يختلط بالدهن إذا صب عليه بل يحاوره مباينا والماء يختلط بالماء ويتصل به والدهن بالدهن وكما يعلم بمفارقة نسبة أجزاء الماء بعضه إلى بعض لنسبة بعض أجزائه إلى أجزاء الدهن بالانفصال فكذلك ههنا إذ لا مانع للاتصال مع تشابه الكل.
(والثانى): أن بعضها أسفل وبعضها أعلى وبعضها حاوية وبعضها محوية وذلك يدل على تفاوت الطباع واختلاف الأنواع لأن الأسفل لو كان من نوع الأعلى لجاز له أن يتحرك إلى مكان الأعلى كما يجوز فى بعض أجزاء الماء والهواء أن يتحرك إلى أسفل وأعلى من حيز الماء والهواء ولو جاز لكان قابلا للحركة المستقيمة إذ بها يتحرك الأسفل إلى حيز الأعلى كما فى العناصر وقد بان أنه يستحيل أن يكون فيها قبول الحركة المستقيمة.
(الدعوى السادسة): أن هذه الأجسام السماوية لا يجوز أن يكون بعضها علة للبعض بل لا يجوز أن يكون جسم سببا فى وجود جسم وعلة فيه لأن الجسم إنما يؤثر فى الشىء إذا وصل إلى مماسته أو مجاورته أو موازاته* وبالجملة إذا ناسبه مناسبة كما تؤثر الشمس فى إضاءة الجسم إذا حاذاها ولم يكن بينهما حائل وكما تؤثر النار فى إحراق ما تلاقيه وتماسه فاذا لا بد أن يكون ثم موجود يلاقيه الجسم الفاعل حتى يؤثر فيه فيحصل فيه بتأثيره شىء آخر وإذا لم يكن موجود استحال أن يحصل بالجسم اختراع موجود آخر * فان قيل أليس النار سبب لحدوث الهواء مهما أوقد تحت الماء فيكون جسم الهواء حاصلا بسبب النار* قيل الهواء ليس بجسم أول بل هو كائن من جسم آخر لاقاه النار فأثر فيه وإنما كلامنا فى الأجسام السماوية وهى أجسام أول ليست متكونة عن جسم آخر إذ بينا أنها لو كانت متكونة فاسدة لكانت قابلة للحركة المستقيمة وذلك محال فى حقها فاذا ثبت أن الأجسام الأول لا يكون بعضها سببا لوجود البعض* فان قيل فلم قلتم أن الجسم لا يصدر منه فعل إلا بعد الوصول إلى ما فيه الفعل بمماسة أو غيرها* فيقال برهانه أن الجسم لو فعل فاما أن يفعل بمجرد المادة أو بمجرد الصورة أو بالصورة مع توسط المادة وباطل أن يفعل بمجرد المادة لأن حقيقة المادة كونها قابلة للصورة فان كانت فاعلة لم تكن فاعلة من حيث أنها قابلة بل من وجه آخر فيكون فيها شيئان أحدهما ما به القبول وباعتباره هو مادة والآخر ما به الفعل وباعتباره هو صورة إذ لا نعنى بالصورة غيره فتكون المادة فيها صورة ولا تكون مجردة* وباطل أن يفعل بمجرد الصورة لأن مجرد الصورة لا وجود لها بنفسها بل وجودها فى المادة وإن كان بتوسط المادة فاما أن تكون المادة واسطة حقيقية حتى تكون الصورة علة المادة والمادة علة الشىء فتكون الصورة علة العلة وهذا يرجع إلى أن المادة من حيث أنها مادة قد فعلت وقد أبطلنا ذلك وإما أن يكون بتوسط المادة من حيث أنها بتوسطها يصل الجسم إلى الشىء حتى يؤثر فيه كما أن صورة النار بتوسط المادة تكون مرة ههنا وتؤثر فيما تلاقيه ومرة هناك وهذا يستدعى لا محالة شيئا يكون ههنا وهناك حتى يؤثر الجسم فيه.
(الدعوى السابعة): أن العقول المجردة ينبغى أن لا تكون أقل من عدد الأجسام السماوية وذلك لأنه ثبث أنها مختلفة الطباع وأنها ممكنة فيحتاج وجودها إلى علة والواحد لا يصدر منه إلا واحد فلا بد من عدد حتى يصدر عن كل واحد واحد وينبغى أن تختلف بالنوع حتى يصدر منها أنواع مختلفة كيف وقد سبق أن الكثرة بالعدد لا يتصور فى نوع واحد إلا بكثرة المادة وما ليس فى المادة لو كثر فلا يكثر إلا باختلاف النوع وهو اختصاص كل بفصل يباين به الآخر ولا يكون بعارض إذ يستحيل أن يلزم الشىء عارض لا يصدر من نوعه فاذا لم تكن مادة لم يكن كثرة إلا بالنوع وهذه العقول ينبغى أن يكون هى المعشوق لنفوس السموات فيكون التفات كل واحدة إلى علتها وإلى طلب التشبه بها إذ يستحيل أن يكون معشوق الكل واحدا وإلا لكان الكل فى حركتها واحدا وليس كذلك فانه بان فى الرياضيات أن حركاتها مختلفة ولو كان المطلب واحدا لكان الطلب واحدا فيكون لكل واحد نفس تخصه تحركه بطريق المباشرة والفعل وعقل مجرد يخصه يحركه بطريق العشق وتكون النفوس هى الملائكة السماوية لاختصاصها بأجسامها وتلك العقول هى الملائكة المقربة لبراءتها عن علائق المواد وقربها فى الصفات من رب الأرباب.
(المقالة الخامسة): فى كيفية وجود الأشياء من المبدأ الأول وكيفية ترتب الأسباب والمسببات وكيفية ارتقاءها إلى واحد هو مسبب الأسباب* وكأن هذه المقالة هى زبدة الالهيات وحاصلها وهى المطلوب الأخير من جملتها بعد معرفة صفات الأول الحق وأول أشكال فيه أنه سبق أن الأول واحد من كل وجه وإن الواحد لا يوجد منه إلا واحد والموجودات كثيرة وليس يمكن أن يقال أنها مرتبة بعضها بعد بعض فان ذلك ليس يطرد فى جميع الأشياء* نعم يمكن أن يقال الأجسام السماوية قبل العناصر بالطبع والعناصر البسيطة قبل المركبات ولكن ليس يطرد هذا فى كل شىء فالطبائع الأربعة لا ترتب فيها ولا ترتب بين الفرس والانسان وبين النخل والكرم وبين السواد والبياض والحرارة والبرودة بل هى متساوية فى الوجود فكيف صدرت عن واحد وإن صدرت عن مركب فيه كثرة من أين حصلت وبالآخرة لا بد وأن تلتقى كثره بواحد وهو محال فالخلص منه أن يقال الأول صدر منه شىء واحد يلزم ذلك الواحد لا من جهة الأول حكم آخر فيحصل بسببه فيه كثرة ويكون ذلك مبدأ حصول كثرة متساوقة ثم مرتبة ثم تجتمع المساوية والمترتبة فى واحد فيوجب ذلك الواحد بما فيه من الكثرة كثرة وبهذا تكثر فى واحد فيوجب ذلك الواحد بما فيه من الكثرة كثرة وبهذا تكثر الأمور ولا يمكن إلا كذلك وأما وجه تلك الكثرة فهو أن الأول هو الواحد الحق إذ وجوده وجود محض وإنيته عين ماهيته وما عداه فهو ممكن وكل ممكن فوجوده غير ماهيته كما سبق لأن كل وجود ليس بواجب فهو عرضى للماهية ولا بد من ماهية حتى يكون الوجود عرضا لها فيكون بحكم الماهية ممكن الوجود وبقياس السبب واجب الوجود إذ بان أن كل ممكن بنفسه فهو واجب بغيره فيكون له حكمان الوجوب من وجه والامكان من وجه وهو من حيث أنه ممكن بالقوة ومن حيث أنه واجب بالفعل والامكان له من ذاته والوجوب له من غيره ففيه تركب من شىء يشبه المادة وآخر يشبه الصورة فالذى يشبه المادة هو الامكان والذى يشبه الصورة هو الوجوب الذى له من غيره فاذا يصدر من الأول عقل مجرد ليس له من الأول الفرد إلا الوجود الفرد الواجب به فاما الامكان فله من ذاته لا من الأول بل يعرف ذاته ويعرف مبدئه وإن كان يعرف ذاته من مبدئه لأن وجوده منه ولكن يختلف حكمه بذلك فيحصل منه باعتبار هذه الكثرة كثرة ثم لا يزال تكثر قليلا قليلا إلى أن تنتهى إلى آخر الموجودات وإذا لم يكن بد من كثرة ولم يمكن إلا على هذا الوجه وهى كثرة قليلة لم تكن الموجودات الأول فى غاية الكثرة بل على التدريج تتداعى إلى الكثرة حتى توجد العقول والنفوس والأجسام والأعراض وهى أقسام الموجودات كلها* فان قيل فكيف يمكن أن يكون تفصيل ترتيبها وتركيبها قيل هو أن يصدر من الأول عقل مجرد فيه إثنينية كما سبق أحدهما له من الأول والآخر له من ذاته فيحصل منه ملك وفلك وأعنى بالملك العقل المجرد وينبغى أن يحصل الأشرف من الوصف الأشرف والعقل أشرف والوصف الذى له من الأول وهو الوجود أشرف فيحصل منه عقل ثان باعتبار كونه واجبا والفلك الأقصى باعتبار الامكان الذى هو له كالمادة ويلزم من العقل الثانى عقل ثالث وفلك البروج ومن العقل الثالث رابع وفلك زحل ومن الرابع خامس وفلك المشترى ومن الخامس سادس وفلك المريخ ومن السادس سابع وفلك الشمس ومن السابع ثامن وفلك الزهرة ومن الثامن تاسع وفلك عطارد ومن التاسع عاشر وفلك القمر وعند ذلك استوفت السماويات وجودها وحصلت الموجودات الشريفة سوى الأول تسعة عشر عشرة عقول وتسعة أفلاك وهذا صحيح إن لم يكن عدد الأفلاك أكثرمن هذا فان كان أكثر فينبغى أن تزاد العقول إلى استيفاء السمائيات كلها ولكن لم يوقف بالرصد الأعلى هذه التسعة ثم بعد ذلك يبتدئ وجود السفليات وهى العناصر الأربعة أولا فلا شك فى أنها مختلفة لأن أماكنها بالطبع مختلفة فيطلب بعضها الوسط وبعضها المحيط فكيف تتحد طباعها وهى قابلة للكون والفساد كما سيأتى فى الطبيعيات فلا بد وأن يكون لها مادة مشتركة ولأنه لا يتصور أن يكون جسم عن جسم فلا يجوز أن يكون سبب وجودها الأجسام السماوية وحدها ولأجل أن مادة الأربعة مشتركة لا يجوز أن تكون علة وجود مادتها كثرة ولأجل أن صورها مختلفة لا يجوز أن تكون علة صورها إلا كثرة مختلفة محصورة فى أربعة أشياء أوفى أربعة أنواع لأنها أربع صور ولا يجوز أن تكون الصورة وحدها سببا لوجود المادة إذ لو كان كذلك للزم عدم المادة بعدم الصورة وليس كذلك بل تبقى المادة لابسة لصورة أخرى ولا يجوز ان لا يكون للصورة حظ ومدخل فى وجود الهيولى إذ لو لم يكن لها مدخل لبقيت الهيولى وحدها ببقاء علتها مع عدم الصورة وهذا محال فاذن يكون وجود المادة بمشاركة أمور.
(أحدها): جوهر مفارق به يكون أصل وجودها ولكن لا يكون به وحده بل بمشاركة الصورة كما إن القوة المحركة هى سبب وجود الحركة ولكن بشرط قوة قابلة فى المحل وكما أن الشمس سبب نضج الفواكه ولكن بشرط قوة طبيعية في الفاكهة قابلة للأثر فكذلك وجود المادة يكون بالعقل المفارق ولكن كونه بالعقل يكون بمشاركة الصورة وتخصص صورة دون صورة لا يكون من ذلك المفارق بل لا بد من سبب آخر يجعل بعض المادة أولى بقبول صورة دون صورة وإلا فالمادة مشتركة للعناصر وذلك بأن يجعلها مستعدة لقبول صورة مخصوصة دون أخرى وهذا لا يكون فى أول الأمر إلا من الأجسام السماوية إذ تستفيد المواد بسبب القرب والبعد منها استعدادات مختلفة فاذا استعدت قبلت الصورة من المفارق ولأجل أن هذه الأجسام السماوية متفقة فى طبيعة كلية وهى التى تقتضى الحركة الدورية فى الكل فيفيد المادة الاستعداد المطلق لقبول كل صورة ومن حيث أن لكل واحد منها طبع خاص توجب لبعضها استعدادا خاصا لبعض الصور ثم تكون الصورة لكل مادة من المفارق فاذن أصل المادة الجسمية من الجوهر العقلى المفارق وكونها محدودة الجهات من الأجسام السماوية واستعدادها أيضا يكون منها ويجوز أن يكون لبعضها أيضا من بعض استعداد للجزئيات كما أن النار إذا لاقت الهواء أفادته الاستعداد لقبول صورة النارية فتفيض عليه من المفارق وفرق بين كونه مستعدا وبين كونه بالقوة إذ معنى القوة أنها تقبل الصورة ونقيضها ومعنى الاستعداد أن يترجح صلاحه لقبول إحدى الصورتين على الخصوص فتكون القوة على وجود الشىء وعدمه بالسواء والاستعداد للوجود وحده بأن تصير إحدى القوتين أولى من الأخرى كما ان مادة الهواء قابلة للصورة النارية والمائية بالسواء ولكن غلبة البرد يجعلها لقبول صورة المائية أولى فينقلب ماء بقبول صورة المائية من المفارق عند استفادة الاستعداد من السبب المبرد ولمثل هذا كانت المادة المجاورة للجسم المتحرك على الدوام أولى بصورة النار لمناسبة الحركة للحرارة والمادة التى هى أولى بالسكون كانت هى البعيدة منه فعلى هذا الوجه يكون وجود هذه الأجسام القابلة للكون والفساد أعنى العناصر فقد ظهر من هذا سبب الاستعداد الأول الذى للهيولى بالاضافة إلى الصور كلها ثم سبب استعدادها الخاص بالاضافة إلى الطبائع الأربعة ثم يحدث بامتزاج هذه العناصر أجسام أخر أولها حوادث الجو من البخار والدخان والشهب وغيرها وثانيها المعادن وثالثها النبات ورابعها الحيوان وآخر رتبتها الانسان وكل هذا يحصل بامتزاج العناصر فمن امتزاج صورة المائية والهوائيه يحدث البخار ومن امتزاج النارية والترابية يحدث الدخان فيحصل بالاختلاط الأول حوادث الجو ويكون سبب اختلاطها حركات تحصل فيها من الحرارة والبرودة الصادرة من الأجسام السماوية وتستفيد الاستعداد منها ثم تفيض الصور من واهب الصور فاذا حصل امتزاج أقوى من ذلك وأتم وانضاف اليه شروط حصل استعداد لصور الجواهر المعدنية فتفيض تلك الصور أيضا من واهبها وإن كان الامتزاج أتم من ذلك حصل النبات فان كان أتم حصل الحيوان وأتم الامتزاجات مزاج نطفة الانسان الذى له استعداد لقبول صورة الانسانية وسبب هذه الاستعدادات الحركات السماوية والأرضية واشتباكها وسبب الصور الجوهر المفارق فلا تزال السماويات مفيدة للاستعدادات والمفارق مفيد للصور حتى يتم بهما دوام الوجود وليست هذه الامتزاجات بالاتفاق بل أسبابها متسقة على نظام وهو الحركات السماوية فلذلك يرى بعض الأشياء باقية بأعيانها وهى الكواكب وبعضها لا يمكن بقاء عينها كالنبات والحيوان فدبر لبقائها بقاء نوعها وذلك تارة بالتولد من التراب عند حصول الاستعداد بسبب سماوى مخصوص وتارة يكون بالولادة وهو الأغلب إذ خلق فى كل نوع قوة تنتزع منه جزءا يشبهه بالقوة فيكون سببا لوجود مثله منه فهذا سبب حدوث هذه الحوادث ولا حادث إلا فى مقعر فلك القمر فاما الأجسام السماوية فانها ثابتة على حالة واحدة فى ذواتها وأعراضها إلا فما هو أخس أعراضها وهو الوضع والاضافة إذ بحركاتها المتقابلة يحصل الثليث بين الكوا كب والتسديس والمقارنة والمقابلة والتربيع واختلاف مطارح الشعاع وأنواع من الامتزاجات تذكر فى علم النجوم وليس فى قوة البشر استيفاء جميعها فيكون تلك سببا لاختلاف هذه الامتزاجات والاستعدادات لاستفادة الصور من واهب الصور الذى لا يبخل بالافاضة والافادة وإنما لا تحصل الصور منه فما لا يحصل لقصور فى القابل لا لمنع من جهته فاذا اختلفت تلك المناسبات السماوية بالنوع حصلت استعدادات مختلفة بالنوع وفاضت صور مختلفة كصورة الفرس والانسان والنبات فان المادة القابلة لصورة الفرس لا تقبل صورة الانسان البتة ولذلك لم يلد فرس إنسانا قط وإذا تفاوتت فى القوة مع اتحاد النوع أوجبت تفاوتا فى صفة الاستعداد فتتفاوت صورة النوع الواحد فى الكمال والنقصان فما من حيوان ناقص بعضو أو صفة إلا ونقصانه لسبب فى رحم أمه أو فى وقت التربية أو فى أمر من الأمور المتعلقة به ويكون ذلك السبب بسبب آخر وكذلك سببه ولا يتسلسل إلى غير نهاية فترتقى بالآخرة إلى الحركات السماوية فحصل من هذا أن الخير فائض على الكل من المبدأ الأول بواسطة الملائكة حتى وجد كل ما كان فى الامكان وجوده على أحسن الوجوه وأكملها فكل ما هو موجود فوجوده كما ينبغى ولا يمكن أن يكون أتم منه والمادة التى منها الذباب لو قبلت صورة أكمل من صورة الذباب لفاضت من واهبها إذ لا بخل ثمة ولا منع وإنما هو فياض بالطبع كما يفيض النور من الشمس على الهواء والأرض والمرآة والماء فيختلف أثره حتى لا يظهر فى الهواء ويظهر على الأرض ولا ينعكس منه الشعاع ويظهر فى المرآة والماء وينعكس الاشراق لا لتفاوت جاء من ناحية الشمس بل لاختلاف استعداد المواد وينبغى أن يعلم أن الذباب خير من مادة الذباب لو تركت كذلك ولولا أنه كذلك لما وجد* فان قيل نرى الدنيا طافحة بالشرور والآفات والفواحش كالصواعق والزلازل والطوفانات وكالسباع وغيرها وكذا فى نفوس الآدمين من الشهوة والغضب وغيرهما فكيف صدر الشر من الأول أبقدر أم بغير قدر فان لم يكن بقدر فقد خرج عن قدرة الأول ومشيئته شىء فهو مما ذا وإن كان بقدر فكيف قدر الشر وهو خير محض لا يفيض منه إلا الخير فيقال لا ينكشف سر القدر إلا بذكر معنى الخير والشر* أما الخير فيطلق على وجهين.
صفحة غير معروفة