(الأصل الثانى): أن يعرف أن ملائم كل قوة فعلها الذى هو مقتضى طبعها من غير آفة فان كل قوة خلقت ليصدر منها فعل من الأفعال وذلك الفعل مقتضى طبعها فمقتضى طبع القوة الغضبية الغلبة وطلب الانتقام ولذتها هى إدراك الغلبة ومقتضى طبع الشهوة الذوق ومقتضى الخيال والوهم الرجا وبه يلتذ وهكذا لكل قوة من القوى.
(الأصل الثالث): أن العاقل الكامل تقوى فيه القوى الباطنة على القوى الظاهرة ويستحقر لذات القوى الحسية عند لذات القوى العقلية والوهمية والناقص تقوى فيه القوى الحسية على القوى العقلية والوهمية ولذلك إذا خير المرء بين الحلو الدسم وبين الاستيلاء على الأعداء ونيل أسباب الرياسة والعلا فان كان الخير ساقط الهمة ميت القلب خامد القوى الباطنة اختار الهريسة والحلاوة عليه وإن كان المخير على الهمة رزين العقل استحقر لذة المطعوم بالاضافة إلى ما ينال من لذة الرياسة والغلبة على الأعداء ونعنى بالساقط الهمة الناقص فى نفسه الذى ماتت قواه الباطنة أو لم يتم بعد حياتها كالصبى فان قواه الباطنة بعد لم تخرج من القوة الى الفعل.
(الأصل الرابع): إن كل قوة فانما لها لذة إدراك ما هى قوة عليه إذا كان موافقا لها ولكن تتفاوت اللذات بحسب تفاوت الادراكات والقوى المدركة والمعانى المدركة فهذه ثلاثة مثارات لتفاوت اللذات المثارة.
(الأول): تفاوت القوى المدركة فكلما كانت القوى أقوى فى نفسها وأشرف في جنسها كانت لذتها أتم فان لذة الطعام بحسب قوة شهوة الطعام ولذة الجماع كذلك ولذة العقليات أشرف في جنسها من لذة الحسيات فلذلك غلبتها حتى اختار العاقل اللذات العقلية على المأكولات والمحسوسات.
(والثانى): تفاوت الادراكات فكلما كان الادراك أشد كانت اللذة أتم ولذلك لذة النظر للوجه الجميل على قرب وفى موضع مضى أتم من لذته في إدراكه من بعد لأن إدراكه من القرب أشد.
(والثالث): تفاوت المدرك فانه أيضا يتفاوت فى باب الملائمة والمخالفة فكل ما كان أتم في جهته كانت اللذة أو الألم أتم كما تتفاوت اللذة بتفاوت الوجوه فى الحسن والقبح فاللذة من الأحسن أكثر لا محالة والألم من الأقبح أكثر.
(الأصل الخامس): وهو نتيجة الأصول السابقة أن اللذة العقلية التى لنا لا بد وأن تكون أقوى من اللذات الحسية فانا إن نظرنا إلى القوة وجدنا القوة العقلية أقوى وأشرف من الحسية إذ سنبين فى كتاب النفس أن القوى الحسية لا تكون إلا فى آلات جسمانية وأنها تفسد بادراك مدركاتها إذا قويت إذ لذة العين فى الضوء وألمه فى الظلمة والضوء القوى يفسدها وكذا الصوت القوى يفسد السمع ويمنعه من إدراك الخفى بعده والمدركات العقلية الجلية تقوى العقل وتزيده نورا وكيف لا والقوة العقلية قائمة بنفسها لا تقبل التغير والاستحالة والحسية فى جسم مستحيل وأقرب الموجودات الأرضية إلى الأول وأشدها مناسبة هى القوة العقلية م كما سيأتى* وأما إدراك العقل فيفارق إدراك الحس من وجوه إذ يدرك العقل الشىء على ما هو عليه من غير أن يقرن به ما هو غريب عنه والحس لا يدرك اللون ما لم يدرك معه العرض والطول والقرب والبعد وأمورا أخر غريبة عن ذات اللون والعقل يدرك الأشياء مجردة كما هى ويجردها عن قرائنها الغريبة وأيضا فادراك الحس يتفاوت فيرى الصغير كبيرا والكبير صغيرا وإدراك العقل يطابق المدرك ولا يتفاوت بل إما أن يدركه كما هو عليه أو لا يدركه وأما المدرك فمدركات الحس الأجسام والأعراض الخسيسة المتغيرة ومدركات العقل الماهية الكلية الأزلية التى يستحيل تغيرها ومن مدركاتها ذات الأول الحق الذى يصدر منه كل جمال وبهاء فى العالم فاذا لا قياس للذة الحسية إلى العقلية.
(الأصل السادس): إنه لا يبعد أن يحضر المدرك الموجب للذة ولا يشعر الانسان بلذته لكونه غافلا أو مشغولا بآفة غيرت مزاجه عن طبعه كالمتفكر الغافل عن الألحان الطيبة أو لكونه ممنوا بآفة غيرت مزاجه عن طبعه كالذى يستلذ أكل الطين أو شيئا حامضا لطول إلفه فان طول الممارسة ربما يحدث ملائمة بين طبعه وبينه فيستلذ ما هو مكروه بالاضافة إلى الطبع الأصلى وكالذى به مرض (يوليموس) فان جميع أجزائه محتاج إلى الغذاء وفى معدته آفة تمنعه من الاحساس بشهوة الطعام وتوجب كراهية له وذلك لا يدل على أن الطعام ليس لذيذا فى نفسه بالاضافة إلى الطبع الأصلى وقد يكون عدم إدرك اللذة لضعف القوة المدركة فالبصر الضعيف قد يتأذى بازاء ضوء وإن كان ذلك موافقا ولذيذا بالاضافة إلى الطبع السليم فاذن بهذا يندفع سؤال من يقول لو كانت العقليات ألذ لكانت لذتنا بالعلوم وألمنا بفقدها يزيد على لذاتنا بالحسيات وألمنا بفقدها فيقال سبب ذلك خروج النفس عن مقتضى الطبع بالعادات الرديئة والآفات العارضة ووقوع الالف مع المحسوسات واشتغال النفس بمقتضى الشهوات فان ذلك نازل في القلب والنفس بمنرلة المرض والخدر في العضو وقد يصيب العضو الخدر نار تحرقه وهو لا يحس بها فاذا زال الخدر أحس والنائم قد يعانقه معشوقه وكذا المريض المغشى عليه فاذا أفاق أحس وعوارض البدن أوجبت مثل هذا الخدر فاذا فارق النفس البدن بالموت أدرك ما هو حاصل لنفس من ألم الجهل إن كان جاهلا ردىء الخلق ولذة العلم إن كان عالما ذكى الطبع* فنرجع إلى المقصود ونقول إن الأول مدرك لذاته على ما هو عليه من الجمال والبهاء الذى هو مبدأ كل جمال وبهاء ومنبع كل خير ونظام فان نظرنا إلى المدرك فهو أجل الأشياء وأعلاها وإن نظرنا إلى الادراك فهو أشرفها وأتمها وإن نظرنا إلى المدرك فهو كذلك فهو إذا أقوى مدرك الأجل مدرك بأتم إدراك لما هو عليه من العظمة والجلال فلينظر الانسان إلى سروره بنفسه إذا استشعر كماله في الاستعلاء بالعلم على الكل والاستيلاء بالغلبة والملك على جميع الأرض إذا انضاف اليه صحة البدن وجمال الصورة وانقياد كافة الخلق فان ذلك لو تصور اجتماعه لشخص لكان في غاية للذة مع إن كل ذلك مستعار من الغير ومعرض للزوال ولا يرجع إلا الى معرفة بعض المعلومات والاستيلاء على جزء من الكائنات وهو الأرض التى لا نسبة لوجودها الى أجسام العالم فضلا عن الجواهر العقلية والنفسية* فقياس لذة الأول الى لذاتنا كقياس كماله الى كمالنا اذا فرضت لنا مثل هذه الحالة* وقد قال (ارسطاطاليس) لو لم يكن له من اللذة بادراك جمال ذاته إلا ما لنا من اللذة بادراكه مهما التفتنا الى جماله وقطعنا نظرنا عما دونه واستشعرنا عظمته وجماله وجلاله وحصول الكل على أحسن النظام منه وانقيادها له على سبيل التسخير ودوام ذلك أزلا وأبدا من غير إمكان تغير لكانت تلك اللذة لا يقاس بها لذة كيف وإدراكه لذاته لا يناسب إدراكنا له فانا لا ندرك من ذاته وصفاته إلا أمورا مجملة يسيرة وأما الملائكة فانها تعرف أيضا أنفسها بالأول وهم على الدوام فى مطالعة ذلك الجمال على ما سيأتى بيانه فلذتهم أيضا دائمة ولكنها دون لذة الأول بل لذتهم بادراك الأول فوق لذتهم بادراك أنفسهم بل كانت لذتهم بأنفسهم من حيث رأوا أنفسهم عبيدا له مسخرين ومثاله الذى يعشق ملكا من الملوك فأقبل عليه وقبله لخدمته كان تبجحه وابتهاجه وتفاخره بمشاهدة جمال الملك وكونه عبدا مقبولا عنده أكثر من تبجحه بجسمه وقوته وأبيه ونسبه وكما أن سرورنا أكمل من سرور البهائم لما بيننا وبينها من التفاوت فى الكمال بالقدرة والعقل واعتدال الخلقة فسرور الملائكة أيضا أكثر من سرورنا وإن لم يكن لهم شهوة البطن والفرج وذلك لقربهم من رب العالمين وأمنهم من زوال ما هم فيه أبد الدهر والانسان له سبيل الى أن يكتسب سعادة أبدية بأن يخرج القوة العقلية من القوة الى الفعل بأن ينتقش فيها الوجود كله على ترتيبه فيدرك الأول والملائكة وما بعدها من الموجودات وربما يحس بأدنى لذة من الاطلاع عليها فى هذه الحياة مع اشتغاله بالبدن فاذا فارق البدن بالموت وارتفع المانع تكاملت اللذة وانكشف الغطاء ودامت السعادة أبد الآبدين ويلتحق بالملأ الأعلى ويكون رفيق الملائكة فى القرب من الأول الحق قربا بالصفة لا بالمكان فهذا معنى السعادة فقط.
(خاتمة القول في الصفات) قد ظهر لك من هذه الجملة أنك لا تعرف الغائب إلا بالشاهد ومعناه أن كل ما سألت عن كيفيته فلا سبيل إلى تفهيمك إلا أن يضرب لك مثال من مشاهداتك الظاهرة بالحس أو الباطنة فى نفسك بالعقل فاذا قلت كيف يكون الأول عالما بنفسه فجوابك الشافى أن يقال كما تعلم أنت نفسك فتفهم الجواب وإذا قلت كيف يعلم الأول غيره فيقال كما تعلم أنت غيرك فتفهم فاذا قلت فكيف يعلم بعلم واحد بسيط سائر المعلومات فيقال كما تعرف جواب مسألة دفعة واحدة من غير تفصيل ثم تشتغل بالتفصيل فاذا قلت فكيف يكون علمه بالشىء مبدأ وجود ذلك الشىء فيقال كما يكون توهمك السقوط على الجذع عند المشى عليه مبدأ السقوط فاذا قلت فكيف يعلم الممكنات كلها فيقال يعلمها بالعلم بأسبابها كما تعلم حرارة الهواء فى الصيف القابل لمعرفتك تحقيقا بأسباب الحرارة فاذا قلت كيف يكون ابتهاجه بكماله وبهائه فيقال كما يكون ابتهاجك به إذا كان لك كمال تتميز به عن الخلق واستشعرت ذلك الكمال والمقصود أنك لا تقدر على أن تفهم شيئا من الله إلا بالمقايسة إلى شىء فى نفسك نعم تدرك من نفسك أشياء تتفاوت فى الكمال والنقصان فتعلم مع هذا أن ما فهمته فى حق الأول أشرف وأعلى مما فهمته فى حق نفسك فيكون ذلك إيمانا بالغيب محملا وإلا فتلك الزيادة التى توهمتها لا تعرف حقيقتها لأن مثل تلك الزيادة لا يوجد فى حقك فاذا إن كان فى الأول أمر ليس له نظير فيك فلا سبيل لك إلى فهمه البتة وذلك هو ذاته فانه وجود بلا ماهية زائدة على الوجود وهو منبع كل وجود فاذا قلت كيف يكون وجود بلا ماهية فلا يمكننا أن نضرب لك مثلا من نفسك ولا يمكنك إذا فهم حقيقة الوجود بلا ماهية وحقيقة ذات الأول وخاصيته هو أنه وجود بلا ماهية زائدة على الوجود وإن إنيته وماهيته واحد وهذا لا نظير له فيما سواه فان ما سواه جوهر أو عرض وهو ليس بجوهر ولا عرض وهذا أيضا لا تحققه الملائكة فانهم أيضا جواهر وجودها غير ماهيتها وإنما الوجود بلا ماهية ليس إلا الله تعالى فاذا لا يعرف الله إلا الله * فان قلت فعلمنا أنه وجود بلا ماهية زائدة وإن حقيقته الوجود المحض هو علم بماذا إن لم يكن علما به* قلنا هو علم بأنه موجود وهذا أمر عام وقولك أنه ليس غير الماهية بيان أنه ليس مثلك فهو علم بنفى المماثلة لا بالحقيقة المنزهة عن المماثلة كعلمك بأن زيدا ليس بصائغ ولا نجار فانه ليس علما بصنعته بل هو علم بنفى شىء عنه وعلمك بارادته وقدرته وحكمته يرجع كله إلى علمه بنفسه وبغيره وعلمك بأنه عالم بنفسه كانه علم بلازم يحمل من لوازم ذاته لا بحقيقة ذاته فان حقيقة ذاته هو الوجود المحض بلا ماهية زائدة * فان قلت فكيف السبيل إلى معرفة الله تعالى فيقال أن تعرف بالبرهان أن معرفته محال وأنه لا يعرفه غيره وأن الذى يتصور أن يعلم منه افعاله وصفاته ووجوده المرسل ونفى المثل عنه وأن تفهم وجود بلا ماهية لمن ليس فى نفسه وجودا بلا ماهية حتى يقيسه به محال ووجود بلا ماهية زائدة ليس الا له فلا يعرفه سواه ولهذا قال سيد الانس والجن (أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصى ثناء عليك) ولذلك قال الصديق الأكبر (العجز عن درك الادراك إدراك) نعم الناس كلهم عاجزون عن إدراكه ولكن الذى يعلم بالبرهان المحقق استحالة إدراكه فهوعارف مدرك أى مدرك لغاية ما يتصور للبشر أن يدركه ومن عجز ولم يدر أن العجز ضرورى بالبرهان الذى ذكرنا فهو جاهل به وهو كافة الخلق إلا الأولياء والأنبياء والعلماء الراسخون فى العلم.
(المقالة الرابعة): إذ فرغنا من ذكر صفات الأول فلا بد من ذكر أفعاله أعنى أقسام جميع الموجودات فان كل ما سواه هو فعله حتى إذا عرفنا أقسام الموجودات ذكرنا فى المقالة الخامسة كيفية صدورها منه وكيفية ترتب سلسلة الأسباب والمسببات منه مع كثرتها ثم رجوعها بالآخرة إلى سبب واحد هو سبب الأسباب والكلام فى هذه المقالة نحصره فى مقدمة وثلاثة أركان.
صفحة غير معروفة