والملح، كما حفل بالضوابط اللغوية ومسائل علم الكلام والأصول. كما كان مصدرًا أدبيًّا لكثير من الكتب التي عالجت شؤون الحب.
وكان أيضًا مرجعًا أصيلًا في جمع أشعار الشعراء. على أن أهميته الكبرى بعد كل ذلك ترجع إلى أنه حفظ لنا كثيرًا من النصوص التي ضاعت أصولها. كتاريخ نيسابور، للحاكم النيسابوري محمد بن عبد الله، المعروف بابن البَيَّع، المتوفى سنة ٤٠٥ هـ، وتاريخ مصر لابن يونس، عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة ٣٤٧ هـ، وغير هذين الكتابين كثير من هذه الأمهات التي عبث بها الزمان.
وقد عالج ابن السبكي في كتابه هذا ذلك المنهج العلمي، الذي عرف فيما بعد، ونسب إلى ابن خلدون، ذلك المنهج القائم على تمحيص الأخبار، والتنبه لما تفعله المعاصرة والعصبية في المذهب.
استمع إليه بقول في ترجمة أحمد بن صالح المصري، في الطبقة الثانية: «ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد، واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة، فجرحه لذلك». ولم تقف تلمذته للإمام الذهبي حائلًا دون نقده مُرَّ النقد لمخالفته هذا المنهج القائم على الحيدة والتجرد، فيقول عنه: «وهو شيخنا ومعلمنا، غير أن الحق أحق أن يتبع، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يسخر منه».
ولكن هذه الحياة العلمية المخلصة لم تشغل صاحبنا عن أن يلمس مظاهر الضعف والعسف التي استعلنت في الحكم المملوكي الجائر، فظهرت دعواته الإصلاحية النقدية في كتابه القيم: «معيد النعم ومبيد النقم».
لقد كان هذا الكتاب ثورة عاتية على نظم الحكم وأخلاق الناس، فقد أتيح لابن السبكي من خلال مشاركته في الحياة العامة - مدرسًا وخطيبًا وقاضيًا - أن يرى ويحس مدى التمزق الذي شمل الأمة نتيجة للحكم المملوكي البغيض، الذي نبتت فيه فكرة «تركي وفلاح». والذي استأثر فيه المماليك بالمناصب الكبرى، وتركوا أصحاب الأرض الحقيقيين يشربون العرق ويقتاتون السهد.
1 / 49