غير أن كل ما كان من أجل شىء آخر فهو دون ذلك الشىء. ولذلك يكون أيضا الله، عز وجل، بحسب رأى أهل هذا المذهب ثانيا فى المرتبة ودون الأشياء التى يعتنى بها. فان الراعى أخص من الأشياء التى يرعاها ويعتنى بها، اذ كان كماله وغايته خصت تلك الأشياء والتوسع عليها وأما الملك فليس يجرى عنايته بالأشياء التى هو ملك عليها هذا المجرى، حتى يكون متفقدا نفسه لسائر الأشياء الكلية والجزئية ولا يخلى ولا شيئا من الأشياء التى يحوزها سلطانه عن النظر فيه، بل يكون متشاغلا فى أمرها سائر عمره و(ذلك أنه لما كان يكون على هذه الجهة أشرف بختا من الملك)، لاكن عناية الملك هى كلية وأكثر عمومية ونظره عاطف الى مثل هذه العناية وله فعل ما أشرف وأجل من الاهتمام والاعتناء اللذان يجريان هذا المجرى.
ومع ذلك فيا ليت شعرى الى الناس يصرف الله مثل هذه العناية فقط، من غير أن يصرفها الى سائر الحيوان والنبات والى سائر الأشياء الموجودة، أم يبلغ تفقده واعتناؤه الى كل واحد من هذه أيضا على انفرادها. فان كانت العناية انما هى مصروفة الى الناس فقط، فلأى سبب لا يعتنى بسلامة الأشياء الباقية ونظامها؟ وذلك أن الأولى والأليق أن توجد هذه أيضا لازمة للنظام والترتيب ومن الواجب أن يكون أمر هذه أيضا لازما للتقسيط وتكون أحوالها بحسب الاستحقاق وما يوجبه العدل.
فان امتناعه من العناية فذلك يكون اما لأنه غير قادر على ذلك ولا محب له، واما أن يكون هو قادرا الا أنه غير مريد لذلك، واما أن يكون مريدا لذلك غير قادر عليه. فان كانت هذه الأقسام شنعة، فمن البين أنه مختار لذلك قادر عليه أيضا، فاذن عنايته بهذه شبيهة بعنايته بالناس، اذ كان القول الذى تقدمنا به قويا ومقنعا.
صفحة ٢٣