Husserl ، الذي كان عالما رياضيا في الوقت ذاته، وهي تعبر عن شيء لا يمكن «رؤيته»، وعلى ذلك فليس من المستطاع المقارنة بين الحدس الرياضي والحدس الحسي بأية حال. (13) التفكير الحدسي والتفكير المقالي (
Discursive )
لكن هل سنهتدي في الحدس الرياضي إلى تلك الصفات التي اعتاد المفكرون أن يصفوا بها الحدس بمعناه الفلسفي؟
إن الحدس يمكن أن يوصف في هذه الحالة بأنه اتصال مباشر، فوري، عيني، بموضوعه، وهذا الاتصال المباشر يحقق في الوقت ذاته أوثق فهم لهذا الموضوع؛ إذ يصل إليه في جوهره ووجوده الفردي. وبهذا يكون الحدس مضادا لكل تفكير مقالي، أو «سلسلة من الحجج» أو خطوات للبرهان، أو تنظيم شكلي، أو تطبيق دقيق لمنهج ما.
ويبدو أنه من الممكن أن نهتدي إلى مثال للتقابل بين هذين النوعين من التفكير، عندما نقارن بين الهندسة والجبر الأوليين. فقد قال ليبنتس (
Leibniz ) في بحثه «فن الاختراع
Ars inveniendi » إن علماء الهندسة يستطيعون البرهنة بكلمات قليلة على قضايا يصعب إثباتها عن طريق الحساب إلى حد بعيد. فالطريق الجبري يؤدي دائما إلى الهدف، ولكنه ليس على الدوام أفضل الطرق. فمن الممكن أن نقابل بين البراهين السريعة اللماحة للفكر الهندسي، وبين بطء الحساب الجبري وخطواته المتدرجة، وأن نقابل بين رشاقة البرهان الهندسي وثقل الحساب الجبري، وبين عبقرية الحدس الهندسي وآلية المناهج الجبرية.
غير أن هذه المقارنة بين الهندسة والحساب لا تمكننا من تقدير دور الحدس في الرياضة حق تقديره. والواقع أننا نهتدي إلى التمييز بين الحدس والانضباط الدقيق حتى في الجبر ذاته. فعالم الجبر يهتدي أحيانا بالحدس السريع إلى منهج للحل، ويشعر بالنتيجة مقدما، ويكون مجهوده في البرهان موجها بوضوح في هذه الحالة، وهو لا يأخذ على عاتقه مهمة اختبار دقة برهانه إلا في المرحلة الثانية من بحثه.
وفي هذا الاختبار الدقيق يبدو أن الرياضي يدعو كل الآخرين إلى التحقق من فكرته الخاصة، فلا يعود الحدس الرياضي الذي يتحقق منه على هذا النحو، فكرا فرديا بالمعنى الصحيح؛ أي لا تتمثل فيه صفة طالما طالب بها أنصار الفكر الحدسي في الفلسفة. وقد تبدو هذه الملاحظة مرتبطة بعلاقة فرعية وظاهرية، للتفكير الرياضي. ولكن إذا كان الحدس الفردي في حاجة إلى التحقق من صدقه حتى يمكن قبوله؛ ففي هذا ما يكفي لبيان طبيعته الحقيقية. فالحدس الرياضي لا بد من أن يتداول، ومن الضروري أن يقبله مجموع الرياضيين قبولا تاما، ومن الواجب أن يحكم عليه من خلال نقط اتصاله وارتكازه على النظريات الرياضية القائمة بالفعل.
وإذا كان من ضروب الحدس ما هو أساس لظهور بعض المشاكل الرياضية، وإذا كان منها ما يوحي بحلول لمشاكل معينة، فلا يمكن من ذلك تصور تفكير حدسي يستغني عن الصياغة الشكلية الدقيقة. والحق أن بين النظرات الحدسية والمناهج الدقيقة تأثيرا متبادلا. فالتفكير القائم على الحدس في حاجة إلى أن يؤكد ذاته، وإلى أن يشيد بناءه عن طريق التفكير المقالي، وهذا التفكير الأخير في حاجة إلى استعادة صلته بالتأكيدات الحدسية، فإذا اقتصرنا، كما فعل أحد الفلاسفة، على القول بأن «التفكير الشكلي يستمد حياته من التفكير الحدسي.» لما عبرنا بهذا إلا عن نصف الحقيقة. فمن الواجب أن يضاف إلى ذلك، أن التفكير الحدسي يظل في الوقت ذاته مرتبطا بالتفكير الشكلي المقالي الذي يضفي عليه اليقين والدقة.
صفحة غير معروفة