ولكن الشيء الذي أراد بوانكاريه أن يبينه، ليس هو القول بأن «الاستدلال الترديدي» هو أكثر الاستدلالات استعمالا؛ بل هو الاستدلال النموذجي للتفكير الرياضي؛ فهو استدلال صالح كل الصلاحية للكشف عن الخصائص التي يتميز بها الاستدلال الرياضي؛ إذ إن الاستدلال الرياضي هو، في الواقع، «أداة تمكن من الانتقال من المتناهي إلى اللامتناهي» بدقة كاملة «وهذه الأداة نافعة دائما، لأنها متى أتاحت لنا اجتياز ما نشاء من الخطوات بقفزة واحدة، فإنها توفر علينا القيام بالتحقيقات المطولة، المملة، التي تسير على وتيرة واحدة، والتي سرعان ما يصبح من المستحيل تنفيذها عمليا. غير أنها تصبح لازمة عندما يكون هدف المرء هو الوصول إلى النظرية العامة، التي نقترب على الدوام من تحقيقها تحليليا، دون أن نتمكن من الوصول إليها.» والواقع أن عملية التحقيق تصبح مستحيلة في مجال اللامتناهي. فقد نستطيع التحقق من أن الصيغة (أ) صحيحة في عدد متناه من الحالات، ولكن البرهان الدقيق للاستدلال الترديدي يمكننا من تأكيد صحتها بالنسبة إلى القيم اللامتناهية التي يمكن أن تعزى إلى ن. وإذن فقد أراد بوانكاريه أن يثبت أن الرياضيات لا يمكن أن ترجع إلى سلسلة من الأقيسة، وأنها تقوم على التعميم في أساسها، وأنها تسمح لنا بأن نؤكد، بكل دقة، صحة صفة معينة في عدد غير متناه من الحالات. «هذا إلى أنه من الضروري أن يكون في وسع المرء إثبات خواص الجنس دون أن يضطر إلى إثباتها بالنسبة إلى كل من الأنواع على التوالي.» (العلم والفرض ص27)، فبالاستدلال الترديدي، تكتسب قضايانا صفة العموم فورا.
ولكن هل يجب القول، كما قال بوانكاريه بتعجل، بأن الاستدلال الرياضي ليس استنباطا على الإطلاق؟ كلا بالتأكيد. ذلك لأن «بوانكاريه» قد سوى بين الاستدلال الاستنباطي والعملية القياسية التي تنتقل من العام إلى الخاص، وكان في ذلك متبعا منطق عصره. ولكن الحقيقة أن الاستدلال الاستنباطي يلجأ إلى عمليات فكرية معقدة، تختلف كل الاختلاف عن القياس، كما أثبت ذلك المنطق المعاصر. وحسبنا أن نذكر تلك الحقيقة البسيطة، وهي أن في وسع الرياضي أن يستبدل، في الصيغة الرياضية وبشروط معينة، مجموعة من الرموز بمجموعة أخرى من الرموز؛ نقول حسبنا أن نذكر هذا، لنكون قد فهمنا مدى تقدم البرهان، وفضلا عن ذلك فالمنطق يدخل عمليات التعميم، إن لم يكن في مراحله الأولى. ففي نموه التالي على الأقل.
فأهمية القياس قد أصبحت ضئيلة في العمليات الاستنباطية التي يقوم بها المنطق المعاصر. (11) فكرة التركيب
فلنفحص الآن وصف جوبلو للاستدلال الرياضي. إنه يقول: «البرهان هو التركيب»
11
على أن هذا التعبير الواضح جدا يخفي وراءه أكثر التفسيرات تباينا. والواقع أن كلمة «التركيب» تعني في نظر جوبلو التركيب المرسوم. والعملية الجبرية، والعملية الذهنية (التي يميزها جوبلو عن عملية العقل)، وتركيب النتيجة مع الفرض، ولنحتكم إلى النصوص. إنه يقول: «إن أهمية التركيبات المرسومة في الهندسة لم تخف على أحد، ولكن المناطقة يميلون إلى أن يروا فيها مجرد عمليات مساعدة أو ممهدة للاستدلال، في حين أنها هي الاستدلال نفسه.» (ص273)،كما يقول: «ليس ثمة قضية حسابية أو جبرية لا يبرهن عليها عن طريق «عملية» أو سلسلة من العمليات.» (ص269)، كذلك يقول «ليست العمليات التركيبية عمليات عقلية، وإنما هي عمليات تنفذ ذهنيا.» (ص273). وفي فقرة أخرى يقول جوبلو: «لكي نبرهن على أن فرضا ما يستتبع نتيجة ما، نركب النتيجة مع الفرض.» (ص272)، ويريد جوبلو أن يؤكد على وجه التحديد، أن «النشاط التركيبي للعقل هو الذي يظهر النتيجة الجديدة.» (ص264).
غير أن هذه الاستعانة بالنشاط التركيبي للعقل تظل تفسيرا على جانب غير قليل من الغموض، وليس هناك من ينكر نشاط العقل الرياضي وإبداعه، ولكن الواقع أن من العسير وصف الاستدلال الرياضي بصفة واحدة، وكل محاولة لفهم عملية الاستدلال الرياضي عن طريق تفسير واحد فريد، تظل محاولة غير دقيقة، وإنما الواجب تحليل البراهين الرياضية المتعددة، والرجوع إلى أكثر الأمثلة تنوعا. ومن الضروري، بوجه خاص، ألا يقف المرء عند حد الأمثلة الأولية؛ بل الواجب أن يدرس الاستدلالات التي تكون تعريفات موضوعاتها الرياضية نتيجة إعداد وئيد، ونتيجة للتأليف بين أكثر اتجاهات الفكر تباينا. وعندما نفحص دور الحدس والصياغة الشكلية، سنصبح أقدر على إدراك طابع التعميم والتركيب الذي يتميز به نشاط التفكير الرياضي.
ثالثا: الفكر الحدسي والفكر المقالي (12) الحدس الرياضي والحدس الحسي
رأينا من قبل في الجزء الخاص بالمفاهيم (
notions ) أن المفاهيم الرياضية، حتى وإن كانت من أصل تجريبي بالفعل، فسيظل من الصحيح أن الرياضيات قد انفصلت عن ذلك الأصل التجريبي، وأنها قد أصبحت علما بريئا من الصفات المحسوسة. فعندما يفكر الرياضي في الخط المستقيم، فهو لا يفكر في خيط البناء، وعندما يثبت أن المنصفات تتلاقى في المثلث، فإن برهانه يكون مستقلا عن التحقيق المادي لهذا الشكل. ومن المحال أن يحل البيان بالرسم محل برهان بالاستدلال؛ إذ ليس للرسم من عمل سوى أن يكون دعامة للانتباه، دون أن يكون عنصرا مكونا للبرهان «فالتصورات الهندسة تصورات فكرية.» كما أكد الفيلسوف الألماني هوسرل
صفحة غير معروفة