أن تكون البديهيات كلها مستقلة بعضها عن بعض. (3)
وهناك صفات تخضع لها نظريات معينة، ولكنها لا تتمثل في كل النظريات الرياضية مثل صفة التشيع
Saturation (وسوف نشرح معنى هذا اللفظ بعد قليل).
فلنستعرض هذه الشروط التي سوف تؤدي بنا، فيما بعد، إلى ملاحظات ذات دلالات فلسفية عميقة حول علاقات التفكير الرياضي بالتفكير المنطقي: (1)
يبدو أن الشرط الأول في غير حاجة إلى دليل. فنحن لا نتصور أن يبدأ الرياضي نظريته من قضيتين متناقضتين، ولكن قد يتفق أن يكون التناقض بين القضيتين مستترا، وعندئذ يجب الكشف عنه، وإقامة البرهان عليه. والحق في إثبات عدم تناقض نسق البديهيات قد يكون أحيانا مهمة عسيرة. غير أن الرياضي يستعين على ذلك بمعيار، فقد ثبت أن نسق البديهيات إذا كان يحتوي على بديهيتين متنافيتين، فمن الممكن إثبات نظرية وضدها. فقبول مجرد تناقض «واحد» يمكننا من البرهنة على كل شيء، ولننتبه جيدا إلى أننا نجعل لهذه الصفة معيارا نظريا لا صلة له بأي انطباع نفسي مباشر. (2)
أما شرط الاستقلال، فقد يفهم على أنه مجرد حرص على التميز الخالص والأناقة، ذلك لأن من البديهي أن المرء لا يفيد شيئا إذا كرر، بصورة تتفاوت غموضا، إحدى البديهيات التي ينبغي أن تصاغ بأكبر قدر ممكن من الوضوح. ولكن وضع بديهيتين تعتمد إحداهما على الأخرى، في مرتبة واحدة، فيه مخالفة لماهية نسق البديهيات ذاته. فإذا افترضنا أن نسقا من البديهيات يتألف من أ، ب، ج، د فإننا نقول إن البديهية «د» تكون مستقلة عن البديهيات أ، ب، ج إذا لم يكن من الممكن استنتاجها منها. وعلى العكس من ذلك، تكون البديهية «د» متوقفة على الباقيات إذا كان من الممكن إثباتها عن طريق البديهيات الأخرى، ولكن «د» تصبح عندئذ نظرية، لا بديهية.
ويستخدم الرياضيون معيارا للاستقلال يفيدنا بحثه أشد الفائدة في فهم فكرة نسق البديهيات؛ وإليك هذا المعيار:
فلنفرض أن نسقا من البديهيات يشكل على أربعة بديهيات: أ، ب، ج، د فلكي نوقن أن البديهية «د» مثلا مستقلة عن الأخريات، نفحص قائمة جديدة من البديهيات تشتمل على البديهيات أ، ب، ج وعلى بديهية مناقضة للبديهة «د» تناقضا تاما ولنسمها (لا - د) فلو كانت «د» متوقفة على البديهيات أ، ب، ج لكان معنى ذلك أننا نستطيع البرهنة على «د» عن طريق أ، ب، ج غير أننا جعلنا (لا - د) بديهية بدورها، وبهذا نكون قد كونا نظرية متناقضة. فإذا كانت النظرية المؤلفة من البديهيات أ، ب، ج، لا - د خالية من التناقض، فمعنى ذلك أن البديهية «د» مستقلة بالفعل عن الأخريات، وبالطريقة ذاتها يبرهن على كل بديهية أخرى. وهكذا نجد أن معيار الاستقلال بدوره أبعد عن أن يكون مجرد شرط يوضع فحسب؛ بل هو يحتاج في تطبيقه إلى قدر غير قليل من البراعة، ويستطيع الرياضي أن يبحث عن «أنموذج» أعني عن نظرية خاصة سبق اختيارها، تحقق فيها كل البديهيات فيما عدا تلك التي يراد إثبات استقلالها. (3)
وأخيرا فالتحليل العقلي للنظريات الرياضية المحكمة البناء قد حاول الإتيان من البديهيات الكاملة، وهذه الصفة تعبر عنها بوضوح كلمة «التشبع
saturation »، فنسق البديهيات يكون متشبعا إذا لم يكن من الممكن أن تضاف إلى بديهياته بديهية تكمله (مستقلة عن الأخريات) دون أن تؤدي إلى تناقض النظرية. غير أن هذه الصفة ملزمة من أجل تركيب نسق البديهيات تركيبا سليما (إذ يلاحظ أن هناك نظريات عديدة لا تنطوي على هذه الصفة)، والحق أن إيضاح مدى ما تنطوي عليه هذه المشكلة من تعقيد، يحتاج إلى تفاصيل فنية مطولة، ولكن لا شك في أن ما قلناه يكفي في بيان أن التفكير في نسق البديهيات هو في الحق شعور واضح بما يتصف به التفكير الرياضي من دقة بالغة.
صفحة غير معروفة