اعتقد بعض الفلاسفة أن في وسعهم تأكيد وجود الصدفة وجودا فعليا، ومن هؤلاء كورنو
15
فالصدفة عنده تنحصر في «اجتماع أو تقابل ظواهر تنتمي إلى سلاسل مستقلة في نظام العلية» فسقوط الحجر مثلا يكون هو وسوابقه وشروطه (تماسكه الواهي بالسقف، هبوب الريح في اتجاه معين، وفي لحظة معينة، وانخفاض الضغط الجوي) سلسلة حتمية تماما. ومن جهة أخرى، فإن مرور السائر عاثر الحظ يكون هو وسوابقه وشروطه (رغبته في النزهة أو الذهاب إلى عمله) سلسلة أخرى حتمية كالسابقة، وتقابل السلسلتين هو الذي لا يخضع للحتمية ما دامت السلسلتان مستقلتين، ولا تخضعان لنفس الحتمية؛ فالحتمية الأولى خاصة بالظواهر الجوية، والثانية نفسية. وبالمثل فحركة قاذف العجلة تبدأ سلسلة حتمية تؤدي إلى ظهور رقم معين. ولكن هذه الحتمية وهي آلية تماما، تنتمي إلى نوع من الوجود مخالف لذلك الذي تنتمي إليه تلك الأفكار والرغبات والتقديرات التي دفعت اللاعب إلى المراهنة بنقوده على رقم معين. ولنذكر هنا أيضا كلمة «باسكال» المشهورة: لو كان أنف كليوباترا أقصر قليلا لتغير وجه الأرض.
16
فأنف كليوباترا ناتج عن حتمية تشريحية وراثية، والصدفة تتمثل في لقاء كليوباترا مع أنطوان. فقد كان أنطوان بمعنى ما، ممثلا لحتمية أخرى، هي حتمية تاريخية وسياسية، وأدى تقابل هاتين الحتميتين إلى وقوع أنطوان في الحب، وتخلفه عن أكتيوم، وخسارته للمعركة، وأخيرا الإمبراطورية الرومانية التي دامت قرونا متعددة.
وتمتاز نظرية «كورنو» بأنها ترجع مختلف تعريفات الصدفة إلى تعريف واحد. فليس ثمة إلا اتفاق واحد، هو تقابل سلاسل مستقلة والنظرية لا تنكر الحتمية بالمعنى الصحيح؛ بل تجزئها، وتفصلها إلى سلاسل، وخيوط متميزة. لكن لنا أن نتساءل هنا: هل هذا الفصل مشروع؟ الحق أنه يبدو كذلك للوهلة الأولى، لأن البحث العلمي لا ينصب في الواقع إلا على سلاسل تسير في خطوط مستقيمة؛ فالعلم يمضي عن طريق فصل الظواهر الواقعية بعضها عن بعض، وهذا الفصل ينتهي إلى تكوين «حتميات» تكفيه مؤقتا، ولا يشعر تجاهها بالحاجة إلى بحثها وإلى تأكيد وحدتها تبعا لذلك. والحق أن الفلسفة أكثر طموحا في هذا الصدد، إذ إنها تسعى إلى الوحدة، ولا تستطيع أن تتصور سوى حتمية واحدة، تسميها بالكون، وهي لا تعرف سلاسل مستقلة، ما دام الكون واحدا. قد يقال إن تلك نظرة ميتافيزيقية، ولكن كثيرا ما يحدث أن يصبح ما كان ميتافيزيقيا بالأمس علما في الغد، بل اليوم.
17
وهذه هي الحال هنا. ففكرة الكون قد أصبحت فكرة علمية، كما سنرى فيما بعد. على أن هذه الفكرة تقتضي أن يرتبط كل شيء، وأن يكون استقلال السلاسل مجرد وهم، يطابق حالة مؤقتة من حالات البحث العلمي.
إذن نستطيع القول، مع اسبينوزا، بأن «الشيء لا يسمى احتماليا» (أعني ناتجا عن الصدفة والاتفاق) إلا لعدم كفاية معرفتنا.
18
صفحة غير معروفة