منازل الحور العين في قلوب العارفين برب العالمين

عبد الكريم الحميد ت. غير معلوم

منازل الحور العين في قلوب العارفين برب العالمين

الناشر

بدون ناشر فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية

مكان النشر

الرياض

تصانيف

منازل الحور العِين في قلوب العارفين برب العالمين تأليف الفقيِر إلى ربه تعالى عبد الكريم بن صالح الحميد
هذا الكتاب جاء في (روضة المحبين، ص ٤٣٨) للإمام ابن القيم ﵀ أن الله تعالى أوحى إلى داود ﵇: (قل لشُبَّان بني إسرائيل: لِمَ تشغلون نفوسكم بغيري؟!، ماهذا الجفاء؟! .. ولو يعلم المدبْرِون عنِّي كيف انتظاري لهم ورفقي بهم ومحبتي لترك معاصيهم لماتوا شوقًا إليَّ وانقطعت أوصالهم من محبتي! .. هذه إرادتي للمدبرين عني فكيف إرادتي للمقبلين عليَّ!!). وليُعلم أنه ليس المقصودُ بهذا الكتاب هو التزهيد بالجَنَّة، أو أن المسلم لا يسألها الله تعالى، أو يَحتقر مَا عظمَه الله ﷿ من نعيمها كالحُور والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود هو التفريق بين المعبود والمخلوق، وبيان معرفة حقيقة العبودية، وألاّ يحتجب العبدُ عن إرادة رَبِّه لذاته ولو لَمْ يكن هناك جنةً ولا نارًا كما جاء في الأثَر - الذي أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل، ٦/ ٦٨)، والإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة، ٢/ ٨٧،١٢٣) - أن الله تعالى قال: (لوْ لَمْ أخلُق جَنَّةً ولا نارًا ألَمْ أكنْ أهْلًا أنْ أُعْبَد)؟!، فتأمل ذلك، وليكن حبك لله الجليل الجميل وشوقك إليه أعلى وأكبر من حُبِّ كل شيء حتى من حُبِّ النبي (ومن حُبِّ الحُور العِين والشوق إليهنّ، ولا تنسَ قول رسول الله (في رؤية أهل الجنة لربهم ﷾: (فمَا أعطوا شيئًا أحبّ إليهم مِنَ النظرِ إلى ربِّهم)!، رواه مسلم من حديث صهيب ﵁.

1 / 2

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. ... أما بعد: فإنه من الملاحظ في زماننا هذا تغليب الرجاء على الخوف مما أدّى إلى إدلال وانبساط ظاهر من كثرة ذكر الحور العين ونحو ذلك من المخلوقات التي هي في ذاتها مخلوقات، ولم تكن هذه حال الصحابة والسلف بل كانوا يُغلّبون الخوف إلا عند الموت فيُحسنون ظنونهم بالله ﷿. والربُّ سبحانه وإن كان عَظّم الجنة المخلوقة فإن التعلق بها وأن تكون هي مبلغ العلم نقص كبير إذْ إنَّ حقيقة التألّه وهو التعبد إنما المراد منه تعلق القلب محبة وخوفًا ورجاء بذات المألوه المعبود سبحانه ليس بمخلوقات دونه، وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لأن المألوه هو الذي يأْلَهه القلب محبةً وشوقًا وخوفًا ورجاءً. يُوضح ذلك أن الرب سبحانه تعبّد عباده بهذه الكلمة وليس من شرطها أن يسكنهم جنة مخلوقة إذا هم أطاعوه حيث قال ﷾ في الأثر:

1 / 3

(لوْ لَمْ أخلُق جَنَّةً ولا نارًا ألَمْ أكُنْ أهْلًا أنْ أُعْبَد) (١). فهذا يبين حقيقة معنى (لا إله إلا الله) بحيث أنْ تتخيّل أنْ ليس عند معبودك حُوُرٌ وقصورٌ ومآكل ومشارب وما إلى ذلك مما في (الجنة المخلوقة) فكيف تكون محبتك له سبحانه؟!. إن الذي خلق الله له عباده هو أن تُفضي محبة قلوبهم وشوقهم إليه لذاته بالقصد الأول، وإنما يعرف ذلك مَنْ عَرَفَ معنى كلمة التوحيد وما يتصف به الإله الحق سبحانه من صفات الجمال والجلال والكمال، فتأمل الآن ما ورَد في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال عن رؤية أهل الجنة لربهم تعالى: (فَمَا أُعطُوا شَيئًا أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ) (٢). ومعلوم أن المراد هنا هم أهل الجنة، والمعنى ظاهر واضح في أنه سبحانه لم يُعطهم في الجنة المشتملة على الحور العين والنعيم المقيم شيئًا أحب إليهم من النظر إلى وجهه، وحَسْبك أن تتفكر فيما جاء عنه ﷺ أنه قال عن ربه تعالى: (حجابه النور لوْ كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (٣)؛ والسُّبُحَاتُ بضمِّ السين والباء ورفع التاء في آخره

(١) أورده شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل ٦/ ٦٨، وأورده ابن القيم في: شفاء العليل ١/ ١٠٩، ومدارج السالكين ٢/ ٧٥، ومفتاح دار السعادة ٢/ ٨٧، ١٢٣. (٢) رواه مسلم برقم (١٨١) من حديث صهيب الرومي ﵁. (٣) رواه مسلم برقم (١٩٧) من حديث أبي موسى الأشعري ﵁.

1 / 4

وهي جمع سُبحة، وقال جميع الشارحين للحديث من اللغويين والمحدثين: سُبُحَاتُ وجهه الكريم هي نوره وجلاله وجماله وبهاؤه (١). ثم اعلم أنه لو اجتمع جمال الحور العين كلهنّ في واحدة فما قَدْره عند جمال المعبود الحق سبحانه، ولذلك يقول الإمام ابن القيم ﵀: وهُوَ الجميلُ علَى الحقيقةِ كيفَ لاَ! مِنْ بعضِ آثارِ الجميلِ فربُّهَا ... فجَمَالهُ بالذاتِ والأوصَافِ والْ ... وَجَمَالُ سَائِرِ هَذِهِ الأكوَانِ ... أولَى وأجدَرُ عِندَ ذِي العِرْفَانِ ـأفعَالِ والأسمَاءِ بالبُرْهَانِ (٢) ... . أما السُّبُحَات فقد قال ابن القيم ﵀ فيها: (فإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق العالم العلوي والسفلي فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وجماله) (٣)، فالرب سبحانه قد احتجب عن مخلوقاته بحجاب من نور مخلوق، جعله سبحانه يحجب نور وجهه الكريم وجلاله وجماله عن وصوله إلى المخلوقات حيث لا تحتمله؛ ولذلك يُعطِي الله المؤمنين في الجنة قوةً شديدة في أبصارهم ليطيقوا

(١) أنظر: شرح النووي على صحيح مسلم ٣/ ١٣ - ١٤، والديباج على مسلم للسيوطي ٥/ ٢٢٥، وانظر: فيض القدير للمناوي ٢/ ٢٧٢، وانظر: مشارق الأنوار للسبتي ٢/ ٢٠٣، ولسان العرب لابن منظور ٢/ ٤٧٣. (٢) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية - القصيدة النونية -، ص (١١٤). (٣) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ١/ ٢٣٤.

1 / 5

رؤيته التي هي أعلى نعيمهم كما قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ؟ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (١) وحُقّ لها أن تُنَضَّر بهذا القُرْب والنَّظَر. قال عثمان بن سعيد الدارمي ﵀ في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (٢) قال: " معناه هو أحسن الأشياء وأجملها "، وقالت الجهمية: " معناه ليس هناك شيء "!! (٣)، والمراد أن انتهاء المعرفة ومبلغ العلم إذا كان يُصيِّر العبادة لمجرد المعاوضة بأشياء مخلوقة مهما بلغتْ فهذا قصور وجهل بالمعبود سبحانه وما يستحقه لذاته، وهذا حاصل لكثير من المسلمين حيث قصُرتْ معرفتهم لمعبودهم. وهو سبحانه فطر قلوب عباده على محبته لذاته والإنابة إليه لذاته لا لشيء آخر، وهذا واللهِ من أعظم ما أُكرم به هذا المخلوق، فلقد رفعه الله مقامًا ينقطع الوصف دونه، ولوْ جعل غايته ومنتهى طلبه وإرادته مجرد مخلوقات مهما كُمُلتْ وحسُنَتْ ودامتْ لَمَا صار له هذا الشأن العظيم، وإنما يحصل هذا لمن تمت عليه النعمة وسبقت له السعادة، قال ابن القيم – ﵀: (الشوق إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين في الجنة ناقص جدًا بالنسبة إلى شوق المحبين لله تعالى، بل لا نسبة له إليه البتة) انتهى (٤).

(١) سورة القيامة، الآيات ٢٢ - ٢٣. (٢) سورة الشورى، من الآية: ١١. (٣) الصواعق المرسلة، ٢/ ٣٤٤. (٤) مدارج السالكين، ٣/ ٥٧.

1 / 6

يريد بنقصه قِصَر التعلُّق بذلك لعَدَم تمكُّن محبة المعبود سبحانه في القلب، والعبد لم يُخلق لهذا بل خُلق لتتعلق محبته خالصة لخالقه ﷿. أمَّا الأكل والشرب والحور والقصور في الجنة فهي نُزُلٌ - أي ضيافة لأولياء الله (١) -، ولأن الربَّ سبحانه كريم وذو فضل عظيم، ولأن المخلوق قد رُكِّبتْ فيه الشهوة للنساء والأكل والشرب ولأن قَوَام جسمه بذلك، فهذه شهوات ولذات كما في الدنيا، وغاية ما هناك أنها أرفع وأكمل وأجمل وأدْوم ولكن ليست هي في نفسها وذاتها غاية بحيث يقتصر الطلب والإرادة والهمّة عليها، فهذا ناقص جدًا - كما ذكر ابن القيم -، ولذلك فإنَّ الملائكة ﵈ لا يأكلون ولا يشربون وليست لهم شهوة إلى النساء ومع هذا فهم في نعيم لا يبلغه وصْفنا من قربهم لربهم وحبهم له وشوْقهم إليه. وقال ابن القيم ﵀ في وصف العارف بربه: (أنه لا يقطعه عن طلب مَن نسبة هذا النعيم الدائم - يعني الحور العين ومآكل الجنة ومشاربها ومساكنها - إلى نعيم معرفته ومحبته والأنس به والفرح بقربه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة) انتهى (٢)؛ فتأمل هذا وكيف وصف ﵀ نعيم الجنة المخلوق بالنسبة إلى نعيم معرفة المعبود ومحبته سبحانه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة المخلوق مع أن الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الجنة عظيم

(١) قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ (الكهف: ١٠٧) قال ابن كثير – ﵀ في تفسيره ٣/ ١٠٩: ﴿نُزُلًا﴾ أي ضيافة. (٢) مدارج السالكين، ٣/ ٩٣.

1 / 7

جدًا، فـ (موضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها) كما قال رسول الله ﷺ (١)، وقال ابن القيم ﵀ يصف الأنس بالإله الحق سبحانه: (والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة) (٢). وقال في قوله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ (٣): (فيسيرٌ من رضوانه ولا يقال له " يسير " أكبر من الجنان وما فيها!) انتهى؛ فتأمل قوله: (أكبر من الجنان وما فيها)!. وقال عثمان بن سعيد الدارمي ﵀: (فأما في الآخرة فما أكبر نعيم أهل الجنة إلا النظر إلى وجهه، والخيبة لمن حُرِمه!) (٤). ثم ذكر أن الله تعالى (احتجب من خلقه لِيَبْلُوَ بذلك إيمانهم أيّهم يؤمن به ويعرفه بالغيب ولم يره، وإنما يجزي العباد على إيمانهم بالغيب، لأن الله ﷿ لو تبدّى لخلقه وتجلى لهم في الدنيا لم يكن لإيمان الغيب هناك معنى، كما أنه لم يكفر به عندها كافر، ولا عصاه عاص، ولكن احتجب عنهم في الدنيا ودعاهم إلى الإيمان به بالغيب وإلى معرفته والإقرار بربوبيته، ليؤمن به من سبقت له منه السعادة، ويحق القول على الكافرين، ولوْ قد تجلى لهم لآمن

(١) رواه البخاري برقم (٣٠٧٨) ورقم (٦٠٥٢) عن سهل بن سعد الساعدي – ﵁. (٢) مدارج السالكين، ٣/ ٩٥. (٣) سورة التوبة، من الآية: ٧٢. (٤) الرد على الجهمية، ص (٦٤).

1 / 8

به مَن في الأرض جميعًا بغير رسل ولا كتب ولا دعاة ولم يعصوه طرفة عين، فإذا كان يوم القيامة تجلى لمن آمن به وصدق رسله وكتبه، وآمن برؤيته، وأقرّ بصفاته التي وصف بها نفسه حتى يروْه عيانًا، مثوبة منه لهم وإكرامًا ليزدادوا بالنظر إلى مَن عبدوه بالغيب نعيمًا، وبرؤيته فرحًا واغتباطًا ولم يُحْرَموا رؤيته في الدنيا والآخرة جميعًا، وحُجب عنه الكفار يومئذ إذْ حُرموا رؤيته كما حرموها في الدنيا ليزدادوا حسرة وثبورًا) انتهى (١). وعن عُبَيْدِ بنِ عُمَير أنه قال في قوله تعالى في قصة داود: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ (٢)، قال: (يُدْنيه حتى يَمسَّ بعضه) (٣)؛ وقال شيخ الإسلام ﵀ بعد أن ذكره: (فلا جَرَمَ جاءت الأحاديث بثبوت الْمُمَاسَّة كما دل على ذلك القرآن وقاله أئمة السلف،

(١) المصدر السابق. (٢) سورة ص، من الآية: ٢٥. (٣) رواه عبدالله بن الإمام أحمد في (كتاب السنة، ص ١٦٥)، وقال شيخ الإسلام في (الفتاوى الكبرى، ٥/ ٨٨) عن هذا الأثر بعد أن أورده: (رواه الثوري وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، بعضهم عن ابن أبي نجيح وبعضهم عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير، وهذا متواتر عن هؤلاء، وممن رواه: الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في " كتاب السنة " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير الجواب " وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى " قال: ذكر الدنوّ منه حتى أنه يَمسَّ بعضه) انتهى، وقد جاء ذكر (الدنو) عند البخاري برقم (٤٤٠٨) ومسلم برقم (٢٧٨٦) عن عبدالله بن عمر – ﵄ – أنه قال: (سمعت النبي ﷺ في النجوى يقول: يُدنى المؤمن من ربه، وقال هشام – أحد الرواة -: يدنو المؤمن حتى يضع عليه كَنَفَه تعالى، فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا؟!، يقول: أعرف، يقول: رب أعرف مرتين، فيقول: سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم؛ ثم تطوى صحيفة حسناته. وأما الآخرون أو الكفار فينادى على رؤوس الأشهاد: ﴿هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ " هود، آية: ١٨ ") وقد أورد البخاري في (خلق أفعال العباد، ص ٧٨) عن عبدالله بن المبارك بأن المراد بـ (كَنَفِه) أي (سِتره).

1 / 9

وهو نظير الرؤية، وهو متعلق بمسألة العرش وخلقِ آدم بيده (١)، وغير ذلك من مسائل الصفات) انتهى (٢)؛ أمَّا الجهمية فإنهم لا يطيقون هذا لنفيهم صفات الربِّ - سبحانه - وتعطيله، وأما السُّني ففي ذلك حياة قلبه ونعيم رُوحه. قال ابن مسعود ﵁: (إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه) انتهى (٣)، فإذا علمت أن العرش أكبر من السموات والأرض وأن نوره من نور وجه ربك صارت لك معرفة خاصة به سبحانه. وقد روى الشافعي عن أنس بن مالك – ﵁ – أن النبي ﷺ قال عن تكليم الله لأهل الجنة: (ثم يتبسم الله إليهم، فيقول: سلوا؟!؛ فيقولون: ربنا نسألك رضوانك) (٤). وليُعلم أنه ليس المقصود أن المسلم لا يسأل الله الجنة أو التزهيد بها، وإنما المقصود بيان حقيقة العبودية والتفريق بين المعبود والمخلوق.

(١) وذلك في قوله تعالى في امتناع إبليس عن السجود لآدم بعدما خلَقَه سبحانه: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ (سورة ص، آية: ٧٥). (٢) نقض تأسيس الجهمية، ٢/ ٣٦٢. (٣) تفسير ابن كثير، ٣/ ٢٥٣. (٤) أخرجه الشافعي في مسنده ص (٧٠) وفي كتابه الأم ١/ ٢٠٩، وقال ابن القيم في حاشيته (١٣/ ٢٣): (والحديث له طرق عديدة، ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا صفوان قال قال أنس بن مالك ﵁ قال رسول الله ﷺ أتاني جبريل فذكره، ورواه محمد بن شعيب عن عمر مولى عفرة عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ، ورواه أبو طيبة عن عثمان بن عمير عن أنس عن النبي ﷺ) انتهى.

1 / 10

وأما قوله ﷺ: (حولها ندندن) - يعني الجنة - (١) فهو ﷺ يقصد اسم الجنة الشامل الذي أعلاه وأعظمه محبة الله وقربه، ولك أن تتفكر في كون ربه اتخذه خليلا فهل يُزاحم هذه الخلّة مخلوق من الحور أو غيرها؟!. وقد أخبر النبي ﷺ أنه حُبِّب إليه من الدنيا النساءَ والطيبَ وجُعلت قرةُ عينهِ في الصلاة (٢)، وذلك لأن الصلاة مناجاة لربه ففيها تتغذى روحه الطاهرة بزيادة محبته لمعبوده، وهذا لا يُقارب ما حُبِّبَ إليه في الدنيا من النساء والطيب، كما أن حبه للحور العين لا يقارب حبه لربه لذاته سبحانه، فتأمل هذا يُطْلعك على بعض أسرار العبادة؛ وكما أنه ﷺ في الدنيا يحب زوجاته خاصة عائشة ويحب أصحابه إلا أن هذه المحبة لا تُزاحم ولا تقارب محبته لربه ﷿، وقِسْ على هذا شأنه ﷺ في الجنة مع الفارق بين الدنيا والآخرة. وقد جاء في الصحيحين: (أن الله خلق آدم على صورته) الحديث (٣)، وفي الحديث الصحيح: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) (٤)، وفي السِّفْر الأول من التوراة: (سنخلق بَشَرًا على صُورَتنا يُشْبِهها).

(١) جاء ذلك في حديث رواه أحمد ٣/ ٤٧٤ و٥/ ٧٤، وأبو داود برقم (٧٩٢ و٧٩٣) عن أبي صالح عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ، ورواه ابن ماجة برقم (٩١٠)، وابن حبان في صحيحه برقم (٨٦٨) وابن خزيمة برقم (٧٢٥) من حديث أبي هريرة ﵁. (٢) رواه أحمد في مسنده برقم (١٤٠٧٠)، والنسائي برقم (٣٩٤٠) من حديث أنس بن مالك مرفوعًا. (٣) رواه البخاري برقم (٦٢٢٧) ومسلم برقم (٢٨٤١) من حديث أبي هريرة مرفوعًا. (٤) رواه الطبراني في معجمه الكبير برقم (١٣٥٨٠) وابن أبي عاصم في سنته ص (٢٢٩) عن ابن عمر مرفوعًا.

1 / 11

قال شيخ الإسلام بعد سياقه هذه الأحاديث والأثر: (وأما المثبتة فعندهم قدْر الله تعالى أعظم، وحَدّه لا يعلمه إلا هو، وكرسيه قد وسِع السماوات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى وقد قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (١). وقد تواترت النصوص عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس أن الله يقبض السموات والأرض بيديه (٢). قال ابن عباس ﵄: " ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما وما فيهما في يد الرحمن إلا كخردلةٍ في يد أحدكم " رواه ابن جرير في تفسيره بإسناد حسن (٣). ثم قال شيخ الإسلام بعد ذكر أحاديث الصورة: (وإذا كان الأمر كذلك كان أكبر وأعظم من أن يقدر بهذا القدْر - يعني بقدر آدم، فإثبات صورة الرحمن وأن الله خلق آدم على صورته سبحانه لا يقتضي ذلك - فإنها تقتضي نوعًا من المشابهة فقط، لا تقتضي تماثلًا لا في حقيقة ولا قدْر).

(١) سورة الزمر، من الآية: ٦٧. (٢) قال رسول الله ﷺ: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك!، أين ملوك الأرض) رواه البخاري برقم (٤٥٣٤، ٦١٥٤، ٦٩٤٧،) عن أبي هريرة – ﵁، وبرقم (٦٩٧٧) عن ابن عمر – ﵄، ورواه أحمد برقم (٨٨٥٠) والترمذي برقم (٧٦٩٢) وابن ماجه برقم (١٩٢) والطبراني في الأوسط برقم (٦٦٧) عن أبي هريرة – ﵁ – مرفوعًا. (٣) أنظر تفسير ابن جرير، ٢٤/ ٢٥.

1 / 12

وقال ﵀: (بل من المعلوم أن الشيئين المخلوقين قد يكون أحدهما على صورة الآخر مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما وقَدْر ذواتهما، وقد تظهر السموات والقمر في صورة ماء أو مرآة في غاية الصِّغَرِ ويُقال: هذه صورتها، مع العلم بأن حقيقة السموات والأرض أعظم من ذلك بِما لا نسبة لأحدهما إلى الآخر) انتهى (١). قال ابن القيم ﵀: (اعلم أن القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العُدّة والتأهب للقدوم على الله ﷿ فذلك أول فُتُوحِه وتباشير فجره. فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه، وهذا عنوان صدق إرادته، فإن كل من أيْقن بلقاء الله وأنه سائله عن كلمتين يُسأل عنهما الأولون والآخرون: " ماذا كُنتُم تعبدُون؟ " و: " ماذا أجبتمُ المرسلين؟ " لابد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصلة إليه. فإذا تمكّن في ذلك فُتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيء أشوق إليه من ذلك فإنها تجمع

(١) قاله في كتابه (نقض تأسيس الجهمية)، وانظر كتاب (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن) للشيخ حمود بن عبدالله التويجري ﵀ ص (٩٢).

1 / 13

عليه قُوَى قلبه وإرادته، وتسدّ عليه الأبواب التي تُفرق هَمَّه وتشتّت قلبه، فيأنس بها ويستوحش من الخلق (١). ثم يُفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لايكاد يشبع منها، ويجد فيها اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيْل الشهوات) انتهى. فأين المعرضون عن حبيبهم المخدوعون بلذات تحجبهم عن اللذة والنعيم الذي خلقوا له، لقد وُصِفَتْ هذه اللذات والشهوات بمشناق من عسل، وهذا يبين سوء عاقبتها وإن كانت حلوة المذاق وقت مباشرتها. ثم قال ﵀: (بحيث أنه إذا دخل في الصلاة وَدَّ أن لا يخرج منها، ثم يُفتح له باب حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه وإذا سمعه هدأ قلبه به كما يهدأ الصبي إذا أُعطي ما هو شديد المحبة له. ثم يُفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله وكمال نعوته وصفاته وحكمته ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه ويُحسّ بقلبه وقد دخل في عالَمٍ آخر غير ما الناس فيه.

(١) تُرى هل هذا الصنف يطيقون العيش في زماننا؟!، أين الأماكن الخالية اليوم من المنكرات؟!، أما الأماكن التي تهدأ فيها الأصوات والحركات فلقد كانت منذ حوالي سبعين سنة!، أما اليوم فأصبحت أمنيّة متعذرة، وحسبك أن المساجد أماكن العبادة والخلوة صارت كالورش الصناعية وفيها من الأصوات ما يزعج!، قال تعالى ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ " سورة الإسراء، من الآية: ٨٤ ".

1 / 14

ثم يُفتح له باب الحياء من الله، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يُريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه ﷿ فيستحيي منه في خلواته وجلواته، ويُرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى كأنه يراه ويشاهده فوق سمواته مستويًا على عرشه ناظرًا إلى خلقه سامعًا لأصواتهم مشاهدًا لبواطنهم. فإذا استولى عليه هذا المشهد غطى عليه كثيرًا من الهموم بالدنيا وما فيها، فهو في وجود والناس في وجود آخر .. هو في وجود بين يدي ربه ووليه .. ناظرًا إليه بقلبه والناس في حجابِ عالَم الشهادة في الدنيا). ثم قال – ﵀: (ثم يُفتح له باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه) .. وذكر كلامًا، ثم قال: (فإن استمر على حاله واقفًا بباب مولاه لا يتلفت عنه يمينًا ولا شمالًا ولا يُجيب غير من يدعوه إليه ويعلم أن الأمر وراء ذلك وأنه لَم يصل بَعْدُ، ومتى توهّم أنه قد وصل انقطع عنه المزيد .. - ثم قال ﵀: رُجي أن يُفتح له فتحٌ آخر هو فوق ما كان فيه!). ثم قال: (ويبقى له وجود قلبي روْحاني مَلَكي فيبقى قلبه سابحًا في بحر من أنوار آثار الجلال، فتنبع الأنوار من باطنه كما ينبع الماء من العين، حتى يجد الملكوت الأعلى كأنه في باطنه وقلبه ويجد قلبه عاليًا على ذلك كله، صاعدًا إلى من ليس فوقه شيء) انتهى.

1 / 15

هل تعلم أنه بهذا السِّفْر المبارك لا يُعَرِّج على الحور العين، بل تمرّ رُوحُه مجتازةً قصورَ الجنةِ وما فيها، صاعدةً إلى مَن ليس كمثله شيء سبحانه وبحمده لأنه بذاته هو مراد المؤمن وغاية مطلبه ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ (١)، فما بعده غاية تُطلب لذاتها ولا قبله أيضًا، وهذا يحصل والعارف حيٌّ في الدنيا حيث هو لُباب التعبد، وهو سفر الآخرة الذي يُقطع بالقلوب كما أن سفر الدنيا يُقطع بالأقدام - كما ذكر العلماء -. ثم قال ﵀: (ثم يُرقّيه الله سبحانه فيُشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال، فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال، وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للأرواح والقلوب، فيبقى القلب مأسورًا في يد حبيبه ووليه ممتحنًا بحبه. وإن شئت أن تفهم ذلك تقريبًا فانظر إليك وإلى غيرك وقد امْتُحِنْتَ بصورة بديعة الجمال ظاهرًا وباطنًا فملكَتْ عليك قلبك وفكرك وليلك ونهارك فيحصل لك نار من المحبة، فتضرم في أحشائك يَعِزُّ معها الاصطبار، و﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (٢)؛ فيَالَهُ من قلب ممتحن مغمور مستغرق بما ظهر له من أشعة أنوار الجمال الأحدي، والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى من المال والصور والرياسة، معذبون بذلك قبل حصوله وحال حصوله وبعد حصوله!.

(١) سورة النجم، الآية: ٤٢. (٢) سورة المائدة، من الآية: ٥٤؛ وسورة الحديد، من الآية ٢١؛ وسورة الجمعة، من الآية ٤.

1 / 16

وأعلاهم مرتبة: مَن يكون مفتونًا بالحور العين أو عاملًا على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب واللباس والنكاح) انتهى. تأمل قوله: (وأعلاهم مرتبة مَن يكون مفتونًا بالحور العين) ومتى نصل نحن إلى هذه المرتبة العالية بالنسبة للتعلقات والفتن الدنيوية التي ذكرها وهي المال والصور والرياسة. إن التعلق والافتتان بالحور العين والتمتع بالجنة المخلوقة بالنسبة لِلمُوثَق بالسفليات درجة رفيعة، وإذا كانت الفتنة بالحور العين قاطعة عن المراد في لغة العارفين فكيف تكون حالنا؟!. ثم قال ﵀: (وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات، ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق لِعلوِّ درجته وقرب منزلته من حبيبه ومعيته معه، فإن المرء مع من أحب (١)، ولكل عمل جزاء وجزاء المحبةِ المحبةُ والوصول والاصطناع والقرب، فهذا هو الذي يصلح وكفى بذلك شرفًا وفخرًا في عاجل الدنيا، فما ظنك بمقاماتهم العالية عند مليك مقتدر؟!). لقد جاء في حديث سؤال موسى ﵊ ربه تعالى عن

(١) جاء ذلك في حديث رواه البخاري برقم (٦١٦٩) ومسلم برقم (٢٦٤٠) عن أنس بن مالك ﵁ أن النبي ﷺ قال: (المرء مع من أحب).

1 / 17

أدنى وأعلى أهل الجنة منزلة، فلما بين له ربه تعالى أدنى أهل الجنة منزلة، سأل ربه تعالى قائلًا: (ربِّ فأعلاهم منزلة؟!، قال: أولئك الذين أردتّ، غرستُ كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم ترَ عينٌ ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر!، قال: ومصداقه في كتاب الله ﷿ ﴿فَلاَ تَعْلمُ نَفْسٌ مَا أخْفِيَ لهَمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ (١) (٢). وهل تليق هذه المنزلة العظيمة إلاَّ لمن قدّمَ حُبَّ الله تعالى والشوق إليه على حبِّ ماسواه!، مع العلم أنَّ مَن ينال مِن اللهِ تعالى تلك المنزلة من المحبين والعارفين فقد نال بلا شك أعلى النعيم المخلوق من الحور والقصور وغيرها زيادة على مايحضون به من القرب من ربهم تعالى وعظيم التنعم برؤيته!. ثم قال ابن القيم ﵀ – عن المحبين لله: (فكيف إذا رأيتهم في موقف القيامة وقد أسمعهم المنادي:" لينطلق كلُّ قوم مع ما كانوا يعبدون "، فيبقون في مكانهم ينتظرون معبودهم وحبيبهم الذي هو أحب شيء إليهم حتى يأتيهم فينظرون إليه ويتجلى لهم ضاحكًا (٣) انتهى (٤).

(١) سورة السجدة، من الآية: ١٧. (٢) رواه مسلم برقم (٧٤٩٠) من حديث المغيرة بن شعبة – ﵁ – مرفوعًا. (٣) جاء ذلك بمعناه في حديث الرؤية المشهور، والذي رواه البخاري برقم (٤٣٠٥) ومسلم برقم (١٨٣) عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، ورواه - أيضًا – الإمام أحمد برقم (٨٨٠٣) عن أبي هريرة مرفوعًا. وروى فقرة (ويتجلى لهم ضاحكًا) الدارقطني في كتاب (الصفات) برقم (٣٣) وفي كتابه (رؤية الله) برقم (٥٩) عن جابر بن عبدالله مرفوعًا، وابن إسحاق في (التصديق بالنظر) برقم (٤٠) عن أبي موسى مرفوعًا. (٤) مدارج السالكين، ٣/ ٣٨٢.

1 / 18

تأمل قوله (ينتظرون معبودهم وحبيبهم الذي هو أحب شيء إليهم) وهذا في القيامة، فالقوم متعلقة قلوبهم بمعبودهم الحق سبحانه بالقصد الأول ليس ليكون واسطة ووسيلة لمحبوبهم من الحور العين وغير ذلك من النُّزُل والضيافة بل مرادهم ربهم لذاته إذْ محبته في قلوبهم لا تُدانيها ولا تُقاربها محبة. أما محبة الله سبحانه ليكون وسيلة للأغراض فهذا عندهم مدخول مشُوب، ولذلك فهم يُجَرّدون المحبة وإن كانوا يريدون من ربهم خير الدنيا والآخرة، فليس مرادنا هنا الشَّطَح، وتأمل قوله تعالى عن أوليائه: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ (١)، فهذه إرادة خالصة لا لغرض آخر؛ وهذا هو الإخلاص وهو التوحيد. قال شيخ الإسلام ﵀: (فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة) (٢). وقال – أيضًا -: (إن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى) (٣). ثم قال ابن القيم ﵀: (والمقصود أن هذا العبد لا يزال الله يُرقيه طبقًا بعد طبق ومنزلًا بعد منزل إلى أن يُوصله إليه ويُمكِّن له بين يديه أوْ يموت في الطريق فيقع أجره على الله؛ فالسعيد كل السعيد والموفَّق

(١) سورة الأنعام، من الآية: ٥٢؛ وسورة الكهف، من الآية: ٢٨. (٢)، (٣) أنظر كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) للشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، ص (٥٠).

1 / 19

كُلّ الموَفَّق مَن لَمْ يَلْتَفِت عَن ربِّه ﵎ يمينًا ولا شمالًا ولا اتخذ سواه ربًّا ولا وكيلًا ولا حبيبًا ولا مدبِّرًا ولا حَكَمًا ولا ناصِرًا ولا رازقًا) انتهى (١). لتعْلَم أنّ كلام ابن القيم وشيخه وعلماء السلف الربّانيين بيانٌ وتفسير لنصوص الكتاب والسنة، وقد أثمر لهم صدقهم وإخلاصهم هذه الثمار الطيبة، وليست محبة الله ﷿ مجرد مقام في طريق السالك بل هذا أصل الأصول وهو حقيقة العبودية وهو معنى كلمة التوحيد، وتأمل قوله ﷺ: ... (فَمَا أُعطُوا شَيئًا أحَبّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ) (٢) فهذا بعد دخولهم الجنة ومباشرة نعيمها. وفي الحديث الآخر قال رسول الله ﷺ: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله تعالى: ﴿سَلاَمٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ (٣)، قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم) (٤).

(١) مدارج السالكين، ٣/ ٣٨١ وما بعدها. (٢) رواه مسلم برقم (١٨١) من حديث صهيب الرومي ﵁ –. (٣) سورة يس، آية: ٥٧. (٤) رواه ابن ماجه برقم (١٨٤) عن جابر بن عبدالله ﵄.

1 / 20

وإذا كان الأنس به سبحانه في الدنيا - كما يقول ابن القيم (١) - أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة فالأمر إذًا عظيم، والاقتصار على التعلق بالحور العين قصورٌ ونقص!. ثم قال ابن القيم ﵀: (وإرادة السِّوَى (٢) توقف السالك وتنكس الطالب وتحجب الواصل، فإياك وإرادة السوى وإن علا!، " تأمل قوله: وإن علا " فإنك تُحجب عن الله بقدْر إرادتك لغيره، قال تعالى عن عباده المقربين: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ (٣) انتهى (٤). وليس المراد أن المؤمن لا يريد من الله، أو يَحتقر مَا عظَّمَه الله من نعيم الجنة كالْحُور والمآكل والمساكن وغيرها، وإنما المقصود معرفة حقيقة العبودية وألاّ يحتجب العبدُ عن إرادة رَبِّه لذاته ولو لم يكن هناك جنةً ولا نارًا (٥). ولو لم يوجب محبة الله ﷿ إلا أنه خالق العبد ومالكه وسيّده، كيف ما يتصف به سبحانه من صفات الجمال والكمال والقلوب مفطورة على حب الصُّوَر الجميلة لكن المؤمن مُتعَبَّد بغَضِّ بَصَره لئلاّ تَنْتَقِش

(١) في: مدارج السالكين، ٣/ ٩٤. (٢) ... السِّوَى هنا: أي ما سِوى الله سبحانه. (٢) سورة الإنسان، الآية: ٩. (٣) مدارج السالكين، ٣/ ٩٥. (٤) كما جاء ذلك في أثرٍ إلَهيٍّ عظيم تقدم ذِكْره وذكر مَن أورده من أهل العلم في ص (٤).

1 / 21