فإذا لاحظت أن المعصية كانت في حق الله، تجدها - ولو صغرت - أكبر من الجبال الرواسي، حتى أنه بلسان الورع والتقوى دون الفقه والفتوى، ربما لا يفرق بين الصغائر والكبائر. بل ربما نقل عن بعض الأولياء أنه لا فرق بين المكروه والحرام، والمسنونات وفرائض الأحكام، قال: لأن الكل مطلوب للملك العلام.
وإذا بني على هذا استحسن هذا الاطلاق، وحسن إطلاق اسم المعاصي والمحرمات على فعل المكروهات، والفرائض والواجبات على فعل المستحبات والمندوبات، وكبائر الخطيئات على صغائر التبعات ، والكفر والكفار على كل من عمل ما يوجب دخول النار.
ولولا ذلك للزم كفر أكثر من في الأرض، لأنه قلما خلت معصية من هذا الغرض، ولو علمنا بجميع ظواهر الأخبار، لاختلت علينا أحكام ملة النبي المختار، وفقنا الله وإياك، وهدانا الله إلى الحق وهداك (1).
المقصد الثاني في تحقيق معنى العبادة لا ريب أنه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلا لله، ومن أتى بها لغير الله، فقد كفر مطلق الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلا لزم كفر العبيد والأجراء، وجميع الخدام للأمراء، بل كفر الأبناء في خضوعهم لللآباء، وجميع من تواضع للإخوان، أو لأحد من أصحاب الإحسان.
وإنما الباعث على الكفران، الانقياد لبعض العباد مع إعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجه الأمر من الكريم المتعال، وأن لهم تدبيرا واختيارا.
ولفظ (العبد) و (العبادة) قد يطلق على مطلق المطيع والطاعة، فقد ورد: أن العاصي عبد الشيطان، وإنه عبد الهوى. وإن الإنسان عبد الشهوات، وإن من أصغى إلى ناطق فقد عبده.
ثم من اتبع قول قائل لأنه مخبر عن غير، فهو عابد للمخبر عنه، لا للمخبر. ومن خدم شخصا بأمر آمر، فالمعبود هو الآمر، ومن تبرك بشئ لأمره، كان ذلك من عبادة الآمر. فالملائكة في سجودهم لآدم، ويعقوب في سجوده ليوسف، والناس في تقبيلهم
صفحة ٥٤٠