ملك في منفى العمر

أرنو جايجر ت. 1450 هجري
35

ملك في منفى العمر

تصانيف

في نفس هذا الوقت قام أعضاء في «حركة 2 يونيو» باختطاف السيد بالمرز صاحب مصنع الجوارب، وقام رجل منهم - كانت لهجته توضح بسهولة أنه من فورآرلبرج - بعمل الاتصالات الهاتفية اللازمة لطلب الفدية. ونشرت الصحف رقما هاتفيا ليتصل الناس به ويستمعوا إلى تسجيل لصوت الرجل المطلوب عسى أن يتعرف أحد على صوت ذلك المجرم. كنت في التاسعة من عمري، وطلبت سرا ذلك الرقم عدة مرات، وبدت لي الشعارات التي كان يرددها مخيفة وغريبة، ولكني على أي حال لم أفهم شيئا. وبلغت الإثارة ذروتها عندما أثبتوا أن المتصل كان شابا من فولفورت؛ هو السيد بيش، الذي كان تلميذا عند أمي في المدرسة قبل ذلك، وذكرت أمي أنه كان فتى هادئا جدا ولطيفا، وأنها كانت تشعر تجاهه بالود.

ولم نسمع شيئا عن السيد بيش لسنوات طويلة. وشعرنا نحن الأطفال بعد ذلك بسعادة كبيرة؛ لأننا كنا نؤوي إرهابيا مطلوبا للعدالة، وكنا نأكل سكر الشعير الخاص به، واعتقدنا أن فولفورت هي المعقل السري لمنظمة «الجيش الأحمر» الإرهابية. وذات يوم فوجئنا بالسيد بيش واقفا أمام باب بيتنا في زيارة قصيرة ، وأصابنا ذلك بشيء من الذهول. سأله أبي لماذا كانت الشرطة تبحث عنه، فأشاح بيده وقال إنهم وجدوه بسرعة وأخلوا سبيله بسرعة، وأن الأمر كله كان بسبب الهستيريا التي سادت عام 1977.

فظهر على أبي الارتياح، ولكني أصبت بخيبة الأمل.

كانت طفولتي تنتهي بالتدريج، وكان أبي حتى ذلك الوقت أبا جيدا وسعيدا، حتى جاءت اللحظة التي كان عليه أن يأخذ بزمام المبادرة فيها. لم يكن يحب الأطفال وهم في سن المراهقة، وهو ليس الوحيد في ذلك. كان عليه العمل على كسب هؤلاء الشباب وتحميسهم لعمل شيء مفيد، ولكن لم يكن من طبيعته المبادرة بالتواصل مع الآخرين؛ لذا فضل أن ينسحب من المشهد، وأن يتصلب في قالب عادات كيانه الريفي.

سمعت يوما أن كلمة الوطن وكلمة العادات في اللغة اليونانية تنتميان إلى نفس الأصل اللغوي.

عندما كان جرس الهاتف يرن، لم يكن أبي يتحرك من مكانه؛ لأنه لم يكن يتصور أن أحدا يحتاج إليه في شيء.

فكان يقول: «هذا بالتأكيد ليس لي.»

كذلك لم يعد ينتظر ساعي البريد، ولم عساه ينتظره وهو لا ينتظر ولا يتوقع أن يأتيه بخطاب؟

وتحول أبي في عيني بالتدريج إلى إنسان لا يربطني به شيء، ولأنه كان من المستحيل أن أوجه ثورة الشباب ضد السلطة الأبوية (علما بأنه لم يحاول قط فرض سيطرته على أحد) فقد بحثت عن بديل، وثرت في وجه التجاهل الأبوي؛ فعادة نجد أن رعاية والدينا لنا إما أقل أو أكثر مما يجب. واتهمته بعدم الاكتراث بأمورنا، ولكنه لم يكن يرد على مثل تلك الاتهامات؛ مما زاد غضبي عليه، فلم أكن أفهم ذلك الوضع؛ ومن ثم لم يكن بوسعي التصالح معه، حتى إني أسقطته يوما من حساباتي واعتبرته شخصا لا يعنيني. كان لدي ما يكفي من المشاكل، ومع أن هذا كان صحيحا فإنه كان مجرد محاولة فرار؛ لأن اهتماماتي قد تغيرت بما يتواكب مع سني.

ربما وصل تأزم الوضع بيننا إلى درجة لا يمكنني أن أدعي معها رغبتي في رأب الصدع بيني وبينه في ذاك الوقت؛ إذ لم يكن له وقتها أهمية خاصة في حياتي، وفي بعض الأحيان كان وجوده ليس مهما بالنسبة إلي.

صفحة غير معروفة