الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحة غير معروفة
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
صفحة غير معروفة
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملك في منفى العمر
ملك في منفى العمر
تأليف
أرنو جايجر
ترجمة
صلاح هلال
صفحة غير معروفة
يجب على المرء أن يعرض أكثر الأمور عمومية في صورة شخصية.
هوكوساي
الفصل الأول
عندما كنت في السادسة من عمري لم يعد جدي قادرا على التعرف علي. كان يسكن في بيت بجوار منزلنا يقع على أرض منخفضة عنه، ولأني كنت أختصر الطريق إلى المدرسة بالمرور من خلال حديقة الفاكهة الخاصة به، فقد كان يقذفني في بعض الأحيان بقطع الحطب مستنكرا وجودي داخل أرضه. وفي أحيان أخرى كان يسعد لرؤيتي ويستقبلني مناديا إياي باسم «هلموت»، ولم أكن وقتها قادرا على فهم ذلك الأمر أيضا. مات جدي، ونسيت تلك الأحداث حتى دق المرض باب أبي.
يوجد في روسيا مثل يقول: «لا شيء يتكرر في الحياة سوى أخطائنا.» وفي الكبر تزداد تلك الأخطاء. ولأن أبي كان لديه ميل للعزلة فقد كنا نفسر سلوكياته الغريبة التي بدأت بعد تقاعده بفترة وجيزة بأنه يتهيأ لفقدان أي اهتمام بالعالم المحيط به. وبدت تصرفاته ملائمة لشخصيته؛ لذلك أزعجناه سنوات عدة بالإلحاح عليه كي يتماسك.
أشعر اليوم بشيء من الغضب لذلك الجهد الذي بددناه؛ فقد كنا نعنف الشخص ونقصد المرض. قلنا له مئات المرات: «لا تستسلم هكذا لهذه الحال!» وكان أبي يتلقى تلك الكلمات منا بصبر متبعا مبدأ: إن أسهل ما يمكن للمرء فعله هو أن يستسلم في الوقت المناسب. لم يرغب في تحدي النسيان، ولم يستخدم أي وسيلة تساعده على التذكر؛ كأن يعقد عقدة في منديل يده لتذكره بشيء ما كلما نظر إليه؛ خشية أن ينسى بعد ذلك أنه هو الذي عقد تلك العقدة، ويشك في أن شخصا آخر قد عقد عقدة في منديله ليضايقه. ولم يدخل في حرب خنادق عنيدة ضد انهيار قدراته العقلية، ولم يحاول التحدث عن ذلك الأمر قط، مع أنه - كما نعرف اليوم - كان حتما يعلم بخطورة الأمر منذ منتصف التسعينيات على الأكثر. ولو كان قال لأحد أبنائه: «أنا آسف؛ فعقلي بات يتخلى عني أحيانا»، لاستطعنا جميعا التعامل مع الأمر على نحو أفضل. لكن على أي حال، دارت لعبة القط والفأر في بيتنا لسنوات طويلة؛ إذ كنا وأبي الفئران، وكان المرض هو القط.
وها قد تركنا وراء ظهورنا تلك الفترة الأولى المرهقة للأعصاب التي كانت تتسم بالشك والتردد، ومع أنني حتى يومنا هذا لا أحب استعادة تلك الذكريات، فإنني أدركت الآن أن هناك فرقا بين أن يستسلم المرء لأنه فقد الرغبة في الحياة وأن يستسلم لأنه يعرف أنه مهزوم لا محالة. وكان أبي ينطلق من أنه مهزوم. وعندما وصل إلى مرحلة من حياته بدأت فيها قدراته العقلية في التلاشي أصبح يعول على تماسكه الداخلي، وهو أمر يمكن أن يعتبر وسيلة عملية تساعد الأقارب على التعامل مع بؤس هذا المرض، حيث لا يوجد له علاج مؤثر حتى الآن.
يقول ميلان كونديرا: «الأمر الوحيد الذي يبقى لنا في مواجهة تلك الهزيمة التي لا مناص منها، التي تسمى الحياة، هو محاولة فهمها.»
أتصور مرض الخرف، أو ما يطلق عليه ألزهايمر، في مرحلته الوسطى التي يمر بها أبي الآن تقريبا كالتالي: كأن إنسانا فزع من نومه فقام وهو لا يعرف أين هو، والأشياء تدور من حوله وتدور معها البلدان والأعوام والأشخاص. ويحاول أن يجد وجهته، فلا يستطيع. وتستمر الأشياء في الدوران؛ الأموات والأحياء والذكريات والهلاوس التي تشبه الأحلام، وجمل ناقصة لا تؤدي إلى معنى محدد، ولا تتغير هذه الحال لبقية اليوم. •••
عندما أكون في البيت - وهو الأمر الذي لم يكن يحدث كثيرا؛ حيث كنا نتقاسم عبء رعاية أبينا - كنت أوقظه في التاسعة تقريبا. وكان يبدو مندهشا وهو يرقد تحت غطائه، ولكنه كان معتادا بما يكفي أن يدخل إلى غرفة نومه أشخاص لا يعرفهم؛ لذلك لم يكن يشكو حدوث ذلك.
صفحة غير معروفة
في مرة سألته بلطف: «ألا ترغب في الاستيقاظ؟» ولأضفي على الجو بعض التفاؤل استرسلت قائلا: «كم هي جميلة حياتنا!»
فنهض من سريره وقال لي بارتياب: «ربما حياتك أنت.»
ناولته جوربيه، فنظر إليهما لحظة رافعا حاجبيه ثم سألني: «وأين الثالث؟»
ساعدته في ارتدائهما حتى لا يستغرق الأمر زمنا طويلا، وتركني أفعل ذلك راضيا، وبعدها قدته إلى المطبخ في الدور السفلي، حيث يتناول طعام الإفطار. وبعد ذلك طلبت منه أن يذهب للحمام لحلاقة ذقنه، فقال لي وهو يغمز بعينه: «كان من الأفضل أن أبقى في البيت، لن آتي لزيارتك مجددا قريبا.»
بينما كنت أريه الطريق إلى الحمام كان يغني: «يا إلهي، يا إلهي! ...» محاولا إضاعة الوقت.
فقلت له: «كل ما عليك فعله هو حلاقة ذقنك، حتى يصبح شكلك أفضل.»
تبعني في تردد وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة قائلا: «إذا كنت تعتقد أن ذلك سيحدث حقا.» ونظر في المرآة ودلك شعره بيديه بقوة حتى لانت الشعرات الواقفة وتمددت فعلا كبقية شعره. ونظر لنفسه مرة أخرى في المرآة وقال: «أصبحت مثل الإنسان الجديد تماما.» ثم عبر عن عميق شكره.
أصبح أبي يشكر كثيرا في الفترة الأخيرة؛ فقبل بضعة أيام ودون أي سبب مفهوم وجدته يقول لي: «أشكرك جزيل الشكر مقدما.»
وبمرور الوقت أصبحت أتجاوب مع تلك الجمل التي يبتدئني بها وأقول له: «بكل سرور!» أو «هذا يسعدني!» لأن التجربة علمتني أن مثل هذه الإجابات التي تعطي أبي الشعور بأن كل شيء على ما يرام أفضل بكثير من أن نسأله عن سبب توجيهه الشكر كما كنا نفعل سابقا، وهو ما كان يشعره بالخجل وفقدان الثقة في نفسه. ولا يوجد شخص يحب أن يجيب عن الأسئلة التي تكشف له عن مدى القصور الذي يعتريه، هذا إن فهمها أساسا.
كانت محاولات المواءمة تلك مؤلمة في بادئ الأمر، وكانت تستنفد قوانا. ولأن الإنسان منذ طفولته يرى والديه في صورة الأقوياء القادرين على مواجهة مصاعب الحياة، فإن رؤية الضعف الذي يستنزفهما بالتدريج تكون أصعب من رؤية ذلك يحدث للآخرين. لكني بمرور الوقت بدأت أتأقلم على نحو جيد مع هذا الدور الجديد، وتعلمت أيضا أن التعامل مع إنسان مريض بمرض ألزهايمر يحتاج إلى معايير جديدة. فإذا أراد أبي أن يوجه الشكر فليوجه الشكر، حتى وإن لم يكن هناك داع لذلك، وإذا أراد أن يشكو من أن العالم كله قد تخلى عنه، فليشك؛ سواء أكان تقييمه للأمور يطابق الحقيقة أم ينافيها؛ لأنه لم يعد يرى عالما سوى عالم ألزهايمر. وبوصفي قريبا له فكل ما أستطيعه هو محاولة تخفيف مرارة الأمر برمته؛ وذلك بأن أسمح للواقع الذي اختلطت أوراقه عند المريض بأن يظل قائما كما يراه هو.
صفحة غير معروفة
ولأن أبي لم يعد قادرا على عبور الجسر المؤدي إلى عالمي، قررت أن أعبر أنا الجسر إليه. وهناك في داخل حدود عالمه وعقله، وخارج حدود مجتمعنا القائم على الموضوعية والطموح، لا يزال أبي إنسانا محترما؛ فحتى إذا لم يعد - قياسا على معاييرنا العامة - يتصرف بحكمة على الدوام، فإنه عبقري بصورة أو بأخرى.
ذات يوم مرت هرة من خلال الحديقة، فقال أبي: «كان لدي قديما أكثر من هرة، ولكنها لم تكن لي وحدي، كان لي شركاء فيها.»
وذات مرة سألته عن حاله فقال لي: «لا تحدث معجزات، وإنما فقط إشارات.»
ثم استرسل متحدثا بجمل غير مترابطة وغير متوقعة كالتي تدور بخلد الإنسان أحيانا في أحلامه، مثل: «أيضا الحياة دون مشكلات لن تصبح أسهل.»
كان السيد «أوجوست جايجر» مشتهرا بالمرح والحكمة، ولكن للأسف أصبح الكلام يخرج منه في بطء شديد؛ لذلك بات نادرا أن يصدر عنه قول من أقواله التي تدعو للإعجاب والدهشة. كم يؤلمني أن أرى كل تلك الأشياء الجميلة تتبدد، وكأني أراقب والدي وهو ينزف ببطء، والحياة تفارقه قطرة بعد قطرة، والشخصية تنزف من الشخص قطرة بعد قطرة. لكني لا أزال أشعر أن هذا هو أبي؛ ذلك الرجل الذي ساهم في تربيتي حتى صرت رجلا، غير أن اللحظات التي لم أعد أرى فيه صورة أبي الذي كنت أعرفه من الأيام الخوالي راحت تتزايد؛ لا سيما في المساء.
وكانت الأمسيات بشائر لما سيحدث في الأيام التي تليها أو نذرا لها. فمتى حل المساء، حل معه الخوف وهام أبي على وجهه بلا غاية ولا هوادة، وكأنه ملك عجوز في منفاه، وكان كل ما يراه يخيفه، وكل شيء متقلب وغير مستقر، وكأنه سيتفكك في اللحظة القادمة. فلم يكن هناك ما يعطيه الإحساس بأنه في بيته.
كنت أجلس قبل فترة في المطبخ أدون ملاحظات على الكمبيوتر المحمول الخاص بي، والتليفزيون يعمل في غرفة المعيشة، وكان أبي يأتي متسللا على أطراف أصابعه عبر الردهة كلما سمع تلك الأصوات الصادرة من المطبخ، وكان ينصت ثم يهمهم مرارا قائلا: «أنا لا أفهم ما هذا!»
بعد ذلك، أتى إلي في المطبخ وكأنه يريد مشاهدتي أثناء الكتابة، ولكني كنت قد لاحظت أنه يحتاج إلى بعض المساندة.
فسألته: «ألا ترغب في مشاهدة التليفزيون لبعض الوقت؟» «وفيم سيفيدني هذا؟» «بعض التسلية.» «أفضل أن أذهب إلى البيت.» «أنت في البيت.» «أين نحن؟»
ذكرت له اسم الشارع ورقم البيت.
صفحة غير معروفة
فقال لي: «على أي حال أنا لم آت إلى هنا كثيرا من قبل.» «لقد بنيت هذا البيت في نهاية الخمسينيات، وتسكن فيه منذ ذلك الوقت يا أبي.»
عقد ما بين حاجبيه؛ لأن المعلومات التي تلقاها بدت له غير مرضية، وحك عنقه، ثم قال: «أنا أصدق ما تقول، ولكن مع تحفظي عليه. والآن أريد أن أذهب إلى البيت.»
نظرت إليه وقد بدا عليه الإرهاق الشديد الذي سببته له هذه اللحظة العصيبة، مع أنه كان يحاول إخفاء الاضطراب الذي اعتراه. كان مضطربا تماما، وكان جبينه يتصبب عرقا. وكانت رؤية أي إنسان يوشك أن يصاب بالذعر تؤثر في حتى النخاع.
يعد الإحساس المؤلم بعدم الوجود في البيت من أعراض هذا المرض. وكنت أفسر لنفسي هذا الأمر بأن مريض ألزهايمر يفقد الإحساس بالاحتواء بسبب ما يعانيه من تمزق داخلي؛ ولذلك فإنه يتوق إلى مكان يجد فيه ذلك الاحتواء مجددا. ولكن بسبب الإحساس بالاضطراب والارتباك الذي لا يفارقه، حتى في أكثر الأماكن التي كان يألفها، أصبح سريره أيضا عاجزا عن إعطائه الشعور بالاحتواء، وبأنه في البيت.
ولعل كلمات مارسيل بروست تعبر عن ذلك تعبيرا بليغا عندما يقول: «الجنات الحقيقية هي تلك التي فقدناها.» ولا يحدث تغيير المكان تحسنا في مثل هذه الحالة. ربما يمكن لتشتيت انتباه المريض أن يساعده قليلا، وهو الأمر الذي يمكن فعله، أو ربما يمكن التوصل إلى نتيجة أفضل من خلال الغناء مثلا. والغناء من الأمور الأكثر مرحا، ومرضى ألزهايمر يحبون الغناء؛ فالغناء يخاطب المشاعر وكأنه بيت خارج حدود العالم الذي ندركه بعقولنا.
وعند ذكر الغناء أتذكر أيضا أنه لا يكاد يخلو كتاب عن مرض ألزهايمر من تشبيه المرضى بالأطفال الصغار، وهذا أمر في غاية السخف؛ فالإنسان البالغ لا يمكن أبدا أن يعود طفلا؛ فالطفل ينمو بطبيعته إلى الأمام، الأطفال يكتسبون قدرات جديدة بينما يفقد مرضى ألزهايمر قدراتهم. ومراقبة تصرفات الأطفال يمكن أن تصقل نظرتنا إلى عملية التقدم، في حين أن النظر إلى مرضى ألزهايمر يصقل نظرتنا إلى عملية الفقدان. والحقيقة هي أن التقدم في السن لا يرد إلينا ما يسلب منا، إنه مثل المنحدر، وأكبر هم يمكن للكبر أن يصيبنا به هو أن يطول أمده أكثر مما نحتمل.
شغلت أسطوانة أغان من مجموعة أسطوانات الأغاني التقليدية التي أعدتها أختي هيلجا لمثل هذه الأغراض، واستمعنا إلى أغنية «فوق العربة الصفراء ركبت يوما خمس بجعات برية»، وعادة ما كانت تنجح هذه الحيلة، حيث ندندن معا بالأغاني لمدة نصف ساعة، ويندمج الرجل الكبير في الغناء حتى إنه يضحكني، ثم يضحك لضحكي. بعد أن فعلت ذلك كان وقت خلوده إلى النوم قد حان. انتهزت هذه اللحظة وقدته إلى حجرة نومه في الدور العلوي. كان أبي في حالة مزاجية جيدة مع أن إدراكه للزمان والمكان والأحداث كان لا يزال سيئا، إلا أنه لم يكن يشغل باله بذلك.
ودار بخلدي أن الفوز ليس كل شيء، وإنما البقاء هو الأهم، وكنت منهكا في ذلك اليوم على الأقل مثل أبي ، وقلت له ما عليه فعله حتى ارتدى ملابس النوم، ودخل من تلقاء نفسه تحت الغطاء وهو يقول: «أهم شيء أن لدي مكانا لأنام فيه.»
ثم رفع يده وحيا شخصا كان يعتقد أنه موجود، وقال: «لا بأس بالمكان هنا، يمكن أن أتحمل البقاء فيه؛ فالمكان لطيف.»
كيف حالك يا أبي؟
صفحة غير معروفة
في الحقيقة، يجب أن أقول إني بخير، ولكن أقول ذلك مع التحفظ؛ لأني غير قادر على الحكم على الوضع.
وكيف ترى مرور الوقت؟
مرور الوقت؟ سيان بالنسبة إلي إذا كان يمر بسرعة أو ببطء، فليس لدي متطلبات كبيرة فيما يتعلق بذلك الأمر.
الفصل الثاني
تطاردني حتى اليوم ظلال تلك البدايات، مع أن السنين قد خلقت بيني وبينها شيئا من البعد؛ فعندما أنظر من النافذة إلى حديقة الموالح التي كتب عليها الشتاء السكون وأفكر فيما حدث لنا، يستحوذ علي شعور بأننا قد وقعنا في خطأ كبير وقتها.
كان مرض أبي قد بدأ يدب إليه بخطوات بطيئة ومحيرة، حتى إنه كان من الصعب إدراك أهمية التغيرات التي تعتريه إدراكا سليما؛ فقد كانت الأعراض تتسرب إليه كالموت في أسطورة الفلاح عندما كان الموت يقف ببابه ويجلجل بعظامه دون أن يسمح لأحد برؤيته. كنا كمن يسمع أصواتا ويظنها صفير الريح الذي يمر خلال بيته الذي بدأ يتداعى ببطء وهو لا يدري.
ظهرت أول أعراض المرض في منتصف التسعينيات، إلا أننا لم نتمكن من فهم السبب فهما سليما. أهز اليوم رأسي متحسرا كلما تذكرت تجديد الغرفة العلوية عندما حطم أبي الغطاء الأسمنتي لخزان المياه الذي كان لدينا في ذلك الوقت؛ لأنه لم يستطع رفع الغطاء وحده ووضعه في مكانه مجددا. لم تكن تلك المرة الأولى التي شعرت فيها أن أبي يعكر علي صفو حياتي متعمدا. ويومها صرخت في وجهه وصرخ في وجهي. بعد ذلك وطوال الفترة التي كنت أعمل فيها في البيت كنت أغادر البيت بانتظام وأنا أشعر بالخوف من أن مفاجأة صادمة أخرى ستكون بانتظاري عندما أعود.
كما أذكر أيضا زيارة أحد مذيعي الراديو السويسري لي؛ فقد كان يوما آخر حفر في ذاكرتي. كان ذلك في خريف عام 1997 بعد صدور روايتي الأولى بفترة قصيرة، وكان من المفترض أن أقرأ فصلا منها ليتم تسجيله؛ لذا رجوت أبي ألا يصدر ضجيجا في أثناء ذلك. وما إن بدأ التسجيل حتى بدأ معه صوت طرق متصل في الورشة الملحقة بالبيت، واستمر الطرق ما استمر المحرر في التسجيل. وبينما كنت أقرأ شعرت بغضب شديد من والدي، بل ربما بكره له؛ لما أبداه من لامبالاة. وحاولت تجنبه في الأيام التي تلت ذلك، ولم أتحدث إليه ولو بشق كلمة لمدة أيام؛ فقد كنت أرى فيما فعله محاولة «تخريب متعمد».
متى تزوج بيتر، أخي الأكبر؟ كان ذلك في عام 1993. وفي حفلة العرس أصيب أبي بألم في المعدة وغثيان؛ لأنه لم يستطع تقدير كمية الطعام التي أكلها؛ لذلك تناول بعد الوجبة المتعددة الأطباق عشر قطع أو خمس عشرة قطعة من كعكة الزفاف، وبعدها ذهب إلى البيت بخطوات متثاقلة حيث رقد في سريره لمدة يومين وهو يعاني من آلام شديدة. وكان يخاف من أن يموت على إثر ذلك، إلا أنه لم يستطع استدرار عطف أي منا أو تعاطفنا؛ لأننا كنا نظن أنه يستحق ما حدث له. ولم يلحظ أحد منا أنه يفقد ببطء قدراته العملية اللازمة للحياة اليومية.
كان المرض يتسلل إليه وينصب شباكه حوله ببطء، وقد وقع في براثنه دون أن نلحظ ذلك.
صفحة غير معروفة
وفي الوقت الذي كنا فيه - نحن أولاده - نسيء فهم تلك العلامات، كان هو بالتأكيد يتألم لشعوره بتلك التغيرات التي تعتريه؛ ذلك الشعور بالخوف الرهيب من أن شيئا معاديا يتملكه ولا يستطيع هو إلى مقاومته سبيلا. ولم يتفوه يوما بكلمة عن هذا الأمر، فقد كان تكتمه وعدم قدرته على التعبير عن مشاعره يقفان حاجزا أمام ذلك. لم يكن الحديث عن مشاعره يوما من سمات شخصيته؛ إذ لم يقم بذلك أبدا، وكان الوقت قد تأخر على الشروع في ذلك الآن. ومما جعل الأمور تزداد سوءا أنه قد ورث هذا الطبع لأولاده؛ لذا لم تأت من جانبنا أي مبادرة في هذا الاتجاه. لم يستطع أحد منا التغلب على ذلك، وتركنا الأمور تسير في مسارها. نعم، في الحقيقة كان أبي يبدو غريبا في بعض الأحيان، ولكن ألم يكن ذلك يحدث دائما؟ ومن ثم فقد كان سلوكه يبدو لنا كما ألفناه دائما. •••
في الحقيقة كانت جميع الأمور الغريبة تبدو في بادئ الأمر مجرد نتيجة منطقية لبعض سماته الشخصية في مواجهة موقف جديد؛ فقد كان أبي يكبر في السن، وتركته زوجته بعد زيجة استمرت ثلاثين عاما؛ ولهذا كان افتراض أنه يفتقد للدافعية أقرب للتصديق.
فقد أنهكه الانفصال عنها، وقد كان معارضا بشدة لفكرة الطلاق؛ لأنه كان من ناحية يريد البقاء مع أمي، ومن ناحية أخرى كان يرى أن بعض الأمور تمثل التزاما قويا. ولكنه لم يدرك بما يكفي أن هناك أمورا قد استنفد تحملها رصيد الصبر. فعلى العكس تماما من أنماط الحياة المرنة المعروفة اليوم كان أبي يتمسك بقرار تم اتخاذه قبل عقود ولم يرد فسخ عهد بعد توكيده. وكان في هذا الجانب أيضا ينتمي إلى جيل آخر غير الذي تنتمي إليه زوجته التي تصغره بخمسة عشر عاما؛ إذ لم يكن الأمر بالنسبة إليها يتعلق بوعد قطعته على نفسها، وإنما بحياتها وإمكانية أن تجد السعادة في مكان آخر. وعندما تركت أمي البيت ظل أبي متشبثا في داخله بتلك العلاقة المنتهية، وفيا لأمر قد ذهب أدراج الرياح.
أدى هجر أمي لأبي إلى دخوله في حالة من الاكتئاب والكسل، وكأنه آلة فقدت آخر زنبرك كان يعمل فيها. ترك أبي كل شيء، حتى العمل في الحديقة، مع أنه كان يعلم أن أولاده مشغولون جدا في أعمالهم، ويتأوهون ألما من هذا الحمل الإضافي. كان أبي قد تنصل فعليا من كل واجباته، ولم يبق أثر من همته ونشاطه كما كان في الأيام الخوالي؛ تلك الهمة التي كانت تجعله لعقود طويلة يحقق تقدما في كل ما يريد. أخبرنا أبي بطريقة مقتضبة أن الدور قد حان الآن على الشباب؛ لأنه قد عمل في حياته بما يكفي.
مثل هذه الأعذار كانت تضايقنا، إلا أنها كانت فعلا أعذارا، ولكن لشيء غير الذي ظنناه. كنا نعتقد أن السبب في حالة التراخي التي كانت تعتريه هو كسله، بينما كان العكس صحيحا؛ فقد كان كسله نتيجة للعجز الذي أصابه. ولأن الواجبات، حتى البسيط منها، كانت تتراكم عليه، فقد كان يشعر أنه فقد السيطرة على الأمور؛ لذا قرر التخلي عن أي مسئولية.
وبدلا من أن يسقي نباتات الطماطم يوميا، كان يمضي وقته في لعب الورق منفردا، أو في مشاهدة التليفزيون. أذكر كم كانت رتابة الأمور التي تمتعه تبدو لي مقززة. كانت حياته بالنسبة إلي، وأنا أحاول أن أجد طريقي في الحياة العملية وقتها، تفوح منها رائحة اللامبالاة العطنة. لعب الورق ومشاهدة التليفزيون؟! لا يمكن اعتبار تلك الأمور محتوى للحياة أبدا، هكذا كنت أرى الأمور، لكني لم أحاول أن أجعل من رأيي موضوعا للمناقشة. كنت أرجو أبي، كنت أسخر منه وكنت أستفزه، كنت أتحدث أمامه عن الكسل وفقدان العزيمة، إلا أن كل المحاولات - حتى أكثرها إلحاحا - لم تفلح تماما في إخراجه من الحالة التي كان عليها. وكان أبي يتلقى جميع الهجمات عليه دون أن يحرك ساكنا، وكأنه حصان يقف وسط العاصفة دون حراك، ثم كان يستكمل حياته اليومية كالمعتاد.
لو لم أكن في ذلك الوقت مضطرا إلى قضاء عدة أشهر كل عام في البيت، حيث كنت أعمل منفذ صوت وفيديو في مسرح مدينة بريجينتس لأكسب عيشي بجانب عملي في الكتابة، لكنت تجنبت المرور ببيت والدي تماما. وبعد مكوثي عدة أيام هناك كنت أغرق في حالة من الاكتئاب. وهكذا كان الوضع أيضا مع إخوتي الذين تركوا البيت الواحد بعد الآخر. تفرق الأبناء وأحكمت الوحدة شباكها حول أبي.
هكذا كانت حالتنا المزاجية في عام 2000 عندما لم يكتف المرض بافتراس عقل أبي، بل امتد أيضا إلى الصورة التي رسمتها له وأنا طفل فافترسها. طوال طفولتي كنت فخورا بأني ابنه، واليوم أصبحت وبصورة متزايدة أعتبره أحمق.
أعتقد أن جاك دريدا كان محقا عندما قال: «عندما يكتب المرء، فإنه يبحث دائما عن الغفران.» •••
حكت العمة هدفيج أنها جاءت ذات مرة لزيارة أبي بصحبة إميل - الأخ الأكبر من بين ستة إخوة لأبي - وكان إميل قد أحضر معه ماكينة ورداء الحلاقة، ولا تذكر عمتي إذا كان أبي قد وافق على قص شعره ذلك اليوم أم لا. كان اليوم قد انتصف عندما دهشت عمتي لرؤية طبق به بقايا طعام موضوعا على الأريكة في غرفة المعيشة. وبعد ذلك سقط كوب من يد أبي، وظل يحدق في الزجاج المحطم على الأرض عاجزا عن التصرف. عندها عرضت عليه عمتي أن تقوم هي برفع الزجاج من على الأرض، وسألته عن مكان المكنسة والجاروف، ولكنه عجز عن تحديد مكانهما، ورأت فجأة الدموع في عينيه. في هذه اللحظة تحديدا أدركت عمتي الأمر.
صفحة غير معروفة
ولكنهما لم يتحدثا عن ذلك أبدا. وخاض أبي تلك المعركة ضد نفسه دون أن ينطق بكلمة واحدة؛ لم يحاول أن يقدم تفسيرا، كما لم يقدم على أي محاولة للهروب، إلا عندما توجه في رحلة حج إلى مدينة لورد بفرنسا.
كان ذلك في عام 1998 بصحبة ماريا، أخته الكبرى التي يناديها الجميع ميلي، وإيريش، أصغر إخوته الذين هم على قيد الحياة، وفالتراود، زوجة أخيه. أبي - الذي لم يسافر مع زوجته وأولاده في عطلة أبدا؛ لأنه رأى العالم في أثناء الحرب كما يدعي - يخرج الآن في رحلة طويلة نسبيا وبداخله بصيص من الأمل في الحصول على الرحمة.
هناك يقف المرء ويبتسم ابتسامة جوفاء، ويصلي بالنهار كما يصلي بالليل، وكأن صلوات الليل ليست ذات تأثير كاف.
ويحكى أن ميلي التي كانت تعاني وقتها من مشكلات في قدميها قالت له: «يمكنك أن تسير نيابة عني وأنا أفكر نيابة عنك.» •••
أصعب الأمور هي تلك التي لا نفهمها؛ ولذلك فقد تحسن الوضع عندما زادت العلامات التي تشير إلى أن أبي يعاني مما هو أكثر من النسيان وفقدان الدافعية؛ فقد أصبحت الأمور اليومية الاعتيادية تمثل له مشاكل مستعصية على الحل، ولم يعد ممكنا تبرير ذلك بأنه شارد الذهن وحسب؛ لم يعد خداع النفس ممكنا. في الصباح كان يرتدي نصف ملابسه بالمقلوب، أو يرتدي أربعة أردية بعضها فوق بعض، وفي المساء يضع البيتزا المجمدة بعلبتها في الفرن، أما جواربه فكان يضعها في البراد. ومع أننا أدركنا حجم المأساة شيئا فشيئا، فإننا أدركنا في لحظة ما أن أبانا لا يعاني حالة من الكسل، بل يعاني مرض ألزهايمر.
لسنوات عديدة لم يخطر ذلك ببالي؛ فقد كانت صورة أبي التي رسمتها له في مخيلتي تقف في طريق تصديق حدوث شيء كهذا. حتى وإن بدا الأمر غريبا، فأنا لم أظن أبدا أن أبي سيفعل شيئا مثل ذلك! •••
خفف استبصار حقيقة الأمر الوضع علينا جميعا؛ فقد أصبح للفوضى التي عانيناها في الأعوام الماضية مبرر يمكننا تقبله، ولم نعد نشعر بأننا محطمون كما كنا. ولكن الإحساس بأننا قد أضعنا كل هذا الوقت الطويل نصارع شبحا كان إحساسا مريرا؛ فقد كان أحرى بنا ألف مرة أن نستغله بصورة نافعة، ولو كنا أكثر ذكاء وانتباها واهتماما لوفرنا على أبينا، بل وعلينا أيضا، كثيرا من المشقة، ولكنا اعتنينا به بصورة أفضل وطرحنا بعض الأسئلة المهمة في وقت مبكر. •••
مثلت بدايات المرض فترة عصيبة وفشلا ذريعا لنا؛ إذ كانت فترة الخسائر الكبرى.
فكان من ضحاياها ذكريات حياة أبي، وبعض الأشياء الملموسة التي كانت لها أهمية في حياته؛ فقد اختفت دراجة أبي ذات الثلاث سرعات والمقود المعوج والمقعد الجلدي، التي كانت لديه منذ الخمسينيات. على مدار عقود طويلة حتى عند سقوط الثلج أو تجمع الجليد كان أبي يركبها في طريقه إلى عمله في الإدارة المحلية، حيث بدأ عمله هناك في وظيفة كاتب عندما كان في السادسة والعشرين من عمره. كما فقد أيضا الصورة النصفية التي أخذت له بعد الحرب مباشرة ويظهر فيها وهو شاب لا يتجاوز وزنه الأربعين كيلوجراما. كان أبي يحمل معه تلك الصورة مع صورة لأمه في حافظة نقوده، وذلك لأكثر من ستين عاما. وهي أشياء كان قلبه متعلقا بها بشدة.
حكيت ذات مرة لصديقة اسمها أدريان عن صورة أبي وعن مدى حزني لفقدها، ووصفتها لها قائلا: كان أبي قد أتم لتوه عامه التاسع عشر، وقد التقطت بعد أيام قلائل من إطلاق سراحه من أحد المعسكرات الروسية، حيث تعافى هناك من مرض الدوسنتاريا، وجاء تعافيه مصادفة أكثر منه نتيجة للعلاج بعد أن قضى أسابيع على شفير القبر وسط كم هائل من البؤس يصعب تصوره. كان أبي يحب أن يري الناس تلك الصورة، حيث يبدو بشعر قصير جدا، وملامح وجه شديدة البروز، وطريقة خاصة في التعبير، يصعب فهمها؛ فقد كان يبدو على عينيه اللامعتين الغامقتين الصفاء والانزعاج الشديد في آن واحد؛ مما جعلهما جذابتين. لم تكن صورة يقف الرائي عندها ساخرا من أن صاحبها يحملها معه بدلا من أن يحمل في حافظة نقوده صورة لزوجته وأولاده.
صفحة غير معروفة
عندما ذهبت إلى فولفورت نبهتني أدريان لعمل نسخة من تلك الصورة، وتعجبت لعدم قيامي بذلك حتى الآن. كان ذلك في عام 2004 عندما عدت من برلين ووصلت في المساء، حيث كان أبي يوجد في هذا الوقت تقريبا يوميا في بيت بيتر وزوجته أورزولا يراقب حفيدته وهي تلعب في الحديقة. عندما وصلت إلى البيت أخذت أفتش في ستراته وبناطيله، وبحثت في الأدراج والخزانات، تماما كما كنت أفعل قبل سنوات وأنا طفل. ولكن بحثي لم يكن مجديا هذه المرة. واتصلت بهيلجا لأسألها إذا كانت تعرف مكان حافظة نقود أبي، وقالت لي إنها تعتقد أن الحافظة مفقودة منذ سنوات؛ فقد ضيعها أبي. أذكر حتى اليوم كم أصابتني خيبة الأمل، بل والغضب، عندما سمعت ذلك؛ غضب من نفسي، غضب منا جميعا؛ لأننا لم نتصرف في الوقت المناسب.
حادثت أبي في المساء بشأن الصورة، واختلق قصة غريبة؛ حيث قال إنه كان في زيارة لمصر واليونان، وهناك سرقت منه بناطيله.
فسألته بدهشة: «كيف؟ ماذا؟ أين؟» واتضح لي فجأة أن أبي لم يفقد الصورة فحسب، وإنما ضاع منه ما كان يعرفه عن ماضيه. «أبي، أتقول إنك كنت في مصر؟» «طبعا لم أكن هناك باختياري، وإنما في إطار عملية التهجير القسري للأطفال.»
فسألته وأنا ذاهل : «وهل أعجبتك الحال هناك؟»
فهز كتفيه وقال: «كان الأمر مملا. لم أر هناك أي شيء، ولم أعايش أي أحداث. كنت هناك غير قادر على فعل أي شيء، ولا أفعل شيئا ولا أعرف شيئا.»
كيف كانت طفولتك يا أبي؟
في الحقيقة كانت جيدة هادئة. كل ما كان لدينا كان بدائيا؛ سواء من حيث النوع أو الكمية أو التأثير.
هل تفكر كثيرا في الماضي؟
ما زلت أتذكر بعض الأشياء، لكني لم أعد أتذكر كل شيء. أعتقد أني انفصلت عن ذلك كله.
ماذا تذكر عن أبيك؟
صفحة غير معروفة
حاليا، لا شيء.
ولكن كان لديك أب على أي حال.
بطبيعة الحال.
لم تكن له أهمية خاصة في حياتك، أليس كذلك؟
لا أملك إلا أن أجيب ببلى عن هذا السؤال. لم يكن لديه كثير من الأفكار المهمة. لم يكن يعمل عقله كثيرا.
وماذا بشأن أمك؟
أمي! تعلمت منها التواضع؛ فقد كانت إنسانة متواضعة، وودودة، ومتعاونة. كان الجميع يحبها.
الفصل الثالث
أصبح من النادر أن تجد طفلا يحمل اسم أوجوست، ولكن أبي قدم خدمات جليلة لهذا الاسم على مدار ثمانية عقود ونصف. كان زملاء المدرسة ينادونه اختصارا جوستل، عدا ذلك فقد كان اسمه يستخدم كاملا؛ سواء من جانب والديه أو إخوته أو زوجته أو زملائه في العمل: أوجوست.
ولد أبي في الرابع من يوليو عام 1926، وكان الطفل الثالث من بين عشرة أطفال. كان والداه من صغار المزارعين في فولفورت، وهي إحدى قرى وادي الراين في منطقة جبال فورآرلبرج، وقد أدى قانون المواريث إلى تفتيت الرقعة الزراعية وعدم وجود مزارعين كبار في تلك المنطقة. كان جداي يمتلكان ثلاث بقرات وحديقة فاكهة وحقلا وجزءا من الغابة وحق إنتاج ثلاثمائة لتر من مشروب «العرق» ومنحلا، ولم يكن ذلك كافيا لإعاشة عائلة لها هذا العدد الكبير من الأطفال. فكان جدي أدولف جايجر يكسب عيشه عن طريق عمله في صناعة الكهرباء الناشئة، وكان يمر راكبا دراجته عبر القرى في وادي الراين السفلي؛ ليسجل قراءة عدادات الكهرباء في البيوت.
صفحة غير معروفة
وعندما كان يمر جدي بدراجته دون قصد فوق مسمار انفصل عن حدوة حصان فيحدث ثقبا في إطار الدراجة، كان يترك الدراجة أمام البيت حتى يقوم أحد الأولاد بإصلاحها، وغالبا ما كان أوجوست يقوم بذلك. وكنت أنا في طفولتي أترك الدراجة أمام البيت أيضا ليقوم أبي بإصلاحها. وكما كان مطلوبا من أبي أن يطيع والديه، أصبح مطلوبا منه بعد ذلك أن يطيع أولاده. كان أولاده أبناء عالم مختلف عن عالمه، وكانوا يعتقدون أنهم على دراية بما يجب عمله، وبكيفية عمله بطريقة صحيحة.
يقال إن جدي كانت له قدرة عالية على الحساب، عدا ذلك كانت مواهبه متوسطة، ولم يكن رجلا قوي البنيان. كان يفضل إعطاء الأوامر على القيام بالعمل؛ لأن الجميع في الأسرة كان أكثر مهارة منه، وأصبحوا جميعا أقوى منه بنية، ولم يكن يرغب في إحراج نفسه أمام زوجته وأولاده؛ لذلك لم يكن جدي يقول كيف يجب أن يتم عمل شيء ما، بل كان يكتفي بإصدار أمر بعمله، وكان بذلك يتجنب أن يسأله أحدهم عن كيفية القيام بالأمر بصورة أفضل.
كانت كل حركات جدي تعبر عن محاولة فرض السلطة، وكانت يده تمتد بالضرب بسرعة؛ لذا لم تكن مناورات أولاده لتجنب أوامره تنجح كثيرا. وعندما كان العبث الذي يقوله جدي يتخطى حدود الاحتمال، كانوا يعارضونه (هذا ما قالته لنا ميلي وباول).
كان الأولاد الكبار يعتبرون أباهم عامل إزعاج، وكانوا يحاولون تجنبه، فكانوا مثلا يذهبون إلى الكنيسة يوم الأحد قبله أو بعده بثلاث دقائق، ولكنهم لم يكونوا يذهبون معه أبدا. ولأنه كان على هامش العائلة فقد كان يبذل جهودا كي يجعل علاقته بالإخوة الأصغر أفضل؛ ولذلك كان يعاملهم بطريقة أعقل، وكان يلعب معهم لعبة «الثعلب والدجاج»، كما كان يأخذهم معه في نزهات طويلة. وفي تلك الفترة كان قد كبر، ولكن صدى صوت صفعاته ظل مسموعا في حكاياتهم.
في إحدى المرات جعل جدي ابنه إميل يحمله على ظهره عبر شفارتساخ، مع أنه كان في الرابعة عشرة من عمره. كان ذلك عام 1937، عندما رأى أن خلع الحذاء عملية مرهقة جدا بالنسبة إليه.
وكان أيضا يقرأ كثيرا، وإن كانت عادة القراءة أو عادة توزيع الصفعات لم تكن أي منهما من العادات التي ورثها لأبنائه؛ فقد كانت صفات الأم هي الأكثر تأثيرا وانتشارا بينهم.
كانت جدتي أكثر ذكاء من جدي؛ هذا ما حكاه لنا أبي عندما كانت خيوط الذاكرة ما زالت تربطه بتلك الفترة من عمره. كانت الجدة طيبة وودودة، وكانت نحيفة وقوية البنيان، وكانت عضلات ذراعها الأمامية بارزة ومقسمة بوضوح. كان أبوها يعمل حدادا في فولفورت، وقبل أن تذهب للعمل في ورشة تريكو كانت تساعده في العمل في ورشته؛ لأنه لم يكن لها إخوة ذكور، ولأن أباها لاحظ أنها ماهرة في العمل.
ما زالت ورشة الحدادة قائمة هناك عند حافة الغابة خلف القصر ولها ساقية كبيرة. قبل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها، كانت عربة النقل تحضر الخامات المطلوبة من دورنبيرن وتضعها عند بداية جادة «القصر»، وبعد المدرسة كانت بنات الحداد الخمس يحملن القضبان الحديدية الطويلة ويصعدن بها الشارع المرتفع وصولا إلى الورشة.
كانت الجدة سيدة هادئة وخجولة تتحاشى الظهور، وكانت ترى أن الحياة لا تعدو أن تكون مرحلة استعداد للآخرة. وأولادها لا يتحدثون عنها إلا بكل احترام وتقدير، وربما كان هذا هو السبب في قلة حكاياتهم عنها. كانت تشعر كثيرا أنها أشبه ما تكون بخادمة رخيصة الأجر، وكان الناس في القرية يقولون إن تريزيا جايجر واحدة من أكثر ثلاث نساء عملا في القرية، وأنها كانت قوية وتقدر على المكوث في ورشة الحدادة تطرق الحديد حتى يتوهج. والعمل في الزراعة ووجود أطفال صغار يحتاجون دائما إلى اللفافات القماشية النظيفة، كانا يجعلانها كل مساء متعبة ومبتلة الثياب بسبب نفض اللفافات المغسولة لتجفيفها. وأحيانا كانت تستلقي في أثناء النهار على الأريكة، وكانت تطلب من أحد الأطفال أن يوقظها بعد خمس دقائق، ولكن الأطفال كانوا يتركون أمهم تنام.
وعندما كانوا يذهبون لقطف الفاكهة كانت تقول دائما قبل بدء العمل: «اللهم بارك في عملنا.»
صفحة غير معروفة
ما زالت عمتي إيرينه - الأخت الصغرى لأبي - تردد ذلك أيضا كلما ذهبت إلى الحقل. كان في الحقل بجوار جدتي على مدار ما يناهز العقدين من الزمان بصورة شبه دائمة قفص فاكهة فيه طفل صغير. تعلم الأطفال المشي في داخل أقفاص الفاكهة. وكان الحرفان الأولان من اسم جدي يتم حفرهما على أقفاص الفاكهة «ألف وجيم»، وكان حماه هو من يصنع له الخاتم المعدني الخاص بذلك؛ فقد كان حدادا. كذلك كانت طباعة أول حرفين من اسمه بالحرق على خشب الأقفاص أمرا مميزا لمنتجاته. وكان يبيع تلك الفاكهة وصولا إلى المجر وباريس، ومع ذلك بقي فقيرا، وظل هناك يسكن فوق التل عند القصر، حيث يمكن رؤية ما بداخل منطقة أبينزل، ويمكن رؤية ما وراء بحر الجنوب وصولا إلى لينداو، وإذا كان الجو معتدلا يمكن أن ترى حتى ميناء فريدريش.
دأبت تريزيا جايجر على أن تقول لأبنائها: «لا تتأخروا في العودة إلى البيت، وإذا تأخرتم فادخلوا دون إحداث جلبة؛ حتى لا أستيقظ.»
كان مسار اليوم ثابتا، ونادرا ما كان يخرج عن المألوف. كانت جدتي تحاول إيقاظ أطفالها في الصباح عدة مرات حتى يفيقوا، وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى الذهاب إلى المدرسة عدوا حتى لا يتأخروا. وكانت الأحذية رديئة؛ فقد كان الثلج يظل عالقا بالنعل الخشبي للأحذية في الشتاء؛ لذا كان يجب ضربه في الأرض المرة بعد المرة للتخلص من الثلج العالق. كانت الأحذية الخشبية تعجن الثلج الذي كان يظل متراكما منذ بداية عيد القديس نيكولاوس وصولا إلى الربيع.
كان الأطفال يتناولون على الإفطار عصيدة الذرة التي يبللونها في اللبن الدافئ الذي يقدم لهم في صحون الحساء. جدي وجدتي وحدهما كانا يتناولان القهوة، وجدي فقط كان يحصل على بعض العسل، عدا أيام الأحد حيث كان الجميع يحصل على قدر من العسل. وبعد الفراغ من الطعام كانوا يصلون من أجل الفقراء والتعساء.
لم يتلق الأطفال تربية قاسية، بل كان يتم ترويضهم بصورة حازمة، حسب ما كانوا يقولون، حتى عندما كانوا يتحدثون عن الأبقار لم يكونوا يقولون إنهم يربونها ولكن يروضونها، وكانت مهمة الأطفال رعاية الأبقار، ومهمة الوالدين رعاية الأطفال.
قياسا على المتعارف عليه اليوم، كان الأطفال يعانون سوء التغذية؛ فقد كانوا لا يحصلون تقريبا على أي خضراوات، ويتناولون قليلا من اللحم وكثيرا من اللبن والخبز وشحم الخنزير. كان الجميع ينتظر بشغف بشائر ثمار الفاكهة كل عام؛ حيث كان أحد الأطفال يستيقظ أحيانا في الخامسة صباحا ويخرج متسللا لينظر إذا كانت أولى ثمار الكمثرى قد سقطت بالفعل أم لا. كان الأطفال يبنون أعشاشا يخبئون فيها ما حصلوا عليه؛ كيلا يضطروا إلى تقاسمه مع بقية الإخوة.
إلا أن الحرمان الذي كان يعانيه هؤلاء الأطفال كان أقل كثيرا مقارنة بالأوضاع السائدة آنذاك. الأمر الأكثر تأثيرا كان معاناة الأطفال من قلة إحساسهم بحب والديهم واهتمامهما؛ فنظرا إلى كثرة عدد الأطفال كان الطلب يفوق المعروض كثيرا. كان كل شيء يتم تقسيمه عدة مرات.
وبمجرد أن يصبح الطفل قادرا على الإمساك بإحدى العدد، كان عليه أن يساعد في العمل. وكان الصغار يعتنون بمن هم أصغر. أما بالنسبة إلى الحصان الذي استعاروه من الجيران، فقد كان من الواجبات الضرورية أيضا ضبط فرامل العربة التي يجرها حتى لا تنزلق. كذلك كان يتم إرسال الأطفال إلى الحقل لجمع الحشائش للخنزير الذي كان لديهم في الحظيرة. وذات مرة وجدوا يوزيف - الأخ الأوسط من بين سبعة إخوة - فاقدا الوعي على إثر سقوطه من فوق شجرة. كذلك كان الأطفال يجمعون من بين الحشائش المحصودة الحشائش التي لا تأكلها الأبقار، وكانوا يدفعون عربة اليد وعليها التفاح إلى السوق في بريجينتس، وكانت الجدة تلحق بهم على الدراجة. وفي طريق الرجوع كان أبي وأخوه باول الذي يصغره بعام يتبادلان دفع العربة والركوب فيها وتوجيه الحصان، وكانت أحذيتهما المصنوعة من خشب مثبت بالمسامير تطقطق فوق بلاط الأرضية. وكانت الشوارع في ذلك الوقت ما زالت ملكا للأطفال.
والتعبير المستخدم بأنه يتم «انتزاع شخص ما رغم إرادته لأداء عمل» كان ينطبق عليهم حرفيا. كان الأولاد يجرون عربة القش ويحصدون سخرية أخواتهن اللاتي كن يقلن: «استخدام الحمير يغني عن استخدام الخيول!»
كان هناك عمل للأولاد وعمل للبنات ؛ فالأولاد كان عليهم العمل في الحظيرة، أما الفتيات فكن يستيقظن في الخامسة فجرا ليذهبن إلى الحقل.
صفحة غير معروفة
ذات مرة ضربت عاصفة حقل الذرة فأتت عليه تماما، واضطر الأطفال للعمل على مدار يوم كامل ليربطوا عيدان الذرة بالحبال في العصي لتقف مستقيمة مرة أخرى. وكانت الأسرة تعتمد بصورة أساسية على الذرة لصنع طعامها اليومي من عصيدة الذرة.
كان هناك اكتفاء ذاتي كامل، باستثناء الخبز والدقيق والسكر والملح. لم تكن العائلة تشتري إلا الضروري جدا، حتى إن ورق الحمام كان يتم صنعه من ورق الجرائد التي كانت تقص إلى شرائح في حجم اليد، وكان هذا أيضا من واجبات الأطفال؛ حيث كان يجلس أحدهم إلى المنضدة في غرفة المعيشة ويقطع الورق.
كذلك كان الورق يستخدم في التدفئة أيضا، ولم تكن هناك قمامة؛ فقد كان لديهم كومة سماد وخنزير وفرن.
كان أبي يتمنى طوال حياته أن يكون مستقلا، وهذا يرجع لطابع الفلاح المترسخ بداخله، وبينما رأى هو في ذلك نفعا له، كان ذلك الطابع يثير استياء زوجته وأولاده الذين نشئوا في عالم من المفاهيم المختلفة مثل الاستهلاك والتخلص من القديم. وتعد القدرة على إصلاح الأشياء واستعمالها مجددا، والقناعة التي ورثها من والديه بتأجيل بعض الاحتياجات أو حتى إلغائها تماما، من الأمور الآخذة في الانقراض في هذا البلد.
كان في قبو البيت الكبير في وادي الراين وعاء إعداد العرق، وكنت في طفولتي كثيرا ما أجلس على دلو مقلوب أو قطعة خشب أراقب العرق أثناء تصنيعه. كنت أحب صوت النار وهي تتأجج في الفرن، وصوت الكحول وهو يسقط في الزجاجات الكبيرة الحجم، ورائحة العرق العطرية في الحجرة المرتفعة الحرارة، ورائحة العمل التي تفوح من الرجال. وفي الخارج كنت أشاهد بقايا الثمار المعصورة وهي تبرد في حفرة في الأرض وينبعث منها بخار يغطي الفروع اليابسة لأشجار الكمثرى التي عراها الشتاء.
أما بالنسبة إلى أبي وإخوته، فقد كان صنع العرق يعني لهم وجود مياه ساخنة، والتي كان يتم نقلها مباشرة إلى حوض في الورشة المجاورة حيث توجد خلف السياج حظيرة الدجاج. كان المشهد يشبه أفلام رعاة البقر: رائحة العرق وصوت الدجاج وأولاد الفلاحين الذين يغتسلون عرايا في الماء الساخن. وكان هذا المشهد يتكرر عشر مرات في العام تقريبا، أما باقي السنة فقد كان الأطفال يغتسلون في المطبخ عند الحوض الوحيد في البيت، وبماء بارد.
وبقي أبي متعلقا بأسلوب حياته البطيء الذي عهده منذ كان طفلا؛ فقد ظل يغتسل في أغلب الأحيان عند حوض الغسيل، منحنيا بشدة على الحوض مصدرا أصوات تأوه عالية وهو يضرب وجهه بالماء، حتى إن الماء كان يندفع لأمتار بعيدة. ثم كان يدخل خرقة التنظيف بالإصبع السبابة في أذنه بعمق ويهزه بقوة، لدرجة أن مجرد مشاهدته يفعل ذلك كانت مؤلمة.
هذه هي الغنيمة الهزيلة التي خلفها لي ما نقل إلي عن طريق المصادفة من حياته، وكأنها قليل من أعواد القش التي خلفتها الريح في حقل بعد حصاده.
وفي عام 1938 بدأ الحكم النازي، وكانت العائلة تعد من المسيحيين الاجتماعيين في القرية. لم يفهم جداي انتماءهما إلى الكاثوليكية على أنه يقتصر على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد وحسب. كذلك لم يكن للعائلة أي مصالح اقتصادية خاصة يمكن للنظام السياسي الجديد أن يستفيد منها. يرجع الفضل في أن العائلة كانت مؤمنة ضد الأزمات بدرجة كبيرة لعملها بالزراعة، ولوظيفة جدي في صناعة الكهرباء التي كانت تشهد ازدهارا متناميا.
كانت جدتي تقول: «إن الشيطان هو من يقوم بحشو الأسلحة بالطلقات.» أما جدي، الذي كان شديد العناد، فقد عاد إلى استخدام صيغة «سيادتك» الرسمية في كلامه مع أخي زوجته الذي كان ينتمي للحزب النازي.
صفحة غير معروفة
لم تكن العائلة تنشغل بالحديث عن السياسة كثيرا؛ فعند تناول الطعام كانت الأفواه تنشغل بالطعام، وبعده لم يكن هناك وقت للجلوس والحديث. كان كل شيء يحدث بسرعة؛ تناول الطعام ثم النزول سريعا للعودة إلى العمل. وبعد ذلك تم استدعاء إميل الأخ الأكبر للالتحاق بمنظمة «شباب هتلر»، ولكنه رفض بحجة أنه عضو في الصليب الأحمر. وعندما تم تهديده بالفصل من المدرسة إذا لم يرجع عن ذلك، قرر جدي الدخول في مواجهة معهم، وكانت النتيجة السماح لإميل بالبقاء في المدرسة الثانوية المنخفضة المصروفات، ولكن ألغيت معونة الأطفال الثمانية التي كانت تتلقاها الأسرة في ذلك الوقت. ولم تواجه الأسرة مزيدا من المشاكل، على خلاف جيراننا المباشرين الذين تم التشهير بهم عن طريق لوحة علقت على بيتهم تقول: هذه العائلة ضد الشعب الألماني.
ويتذكر باول حتى اليوم أن كلمة عائلة (بالألمانية
Familie ) التي تبدأ بحرف
F
كبير كانت مكتوبة بحرف
f
صغير. كان عمره وقتها أحد عشر أو اثني عشر عاما، وكان يقف أمام تلك اللوحة متعجبا من هذا الخطأ في كتابة أول حروفها، غير مدرك أنه مقصود. كان يسكن البيت المجاور زوجان حديثا الزواج، حصل أبي في خريف عام 2009 على نفس الغرفة في دار المسنين التي كانت تقيم فيها الزوجة قبل وفاتها عن عمر يناهز الرابعة والتسعين. وهكذا تترابط قصص حياة سكان قريتنا.
كان أبي وإخوته الذين كانوا في سن المدرسة قبل بداية الحرب تلاميذ في المدارس الإلزامية والثانوية العليا. وما أتاح لهم إمكانية الذهاب إلى المدرسة كان احترام والديهم للتعليم واعتباره بديلا لعملية الزراعة البسيطة التي كان على الأكثر واحد فقط من الأولاد يعيش عليها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فرحتهم بمواهب أبنائهم. فضلا عن ذلك كان من المعروف أن تلاميذ المدارس يعملون في البيت أفضل ممن يتعلمون الحرف. لم يكن هناك ما يتعارض مع فكرة المدرسة، اللهم إلا في حالة روبيرت، ثالث أصغر الإخوة؛ فقد ترك دراسته الثانوية لأنه كان يخشى من أن والديه يخططان لجعله راهبا. •••
في فبراير 1944، استدعي أبي للخدمة العسكرية، وكان ابن تسعة عشر عاما وتلميذا في مرحلة الثانوية العليا، ومن ذوي أصول ريفية، وليست لديه معرفة كبيرة بالعالم ولا خبرة واسعة في الحياة. كان قد غادر مرحلة الطفولة ولم يصل إلى مرحلة النضج بعد، ليس بالعسكري ولا بالمدني، أو كما كان أندري بيلي يسمي من هم على حاله: التلاميذ الجنود.
تم نقله من «خدمة العمل الإلزامي» إلى «خدمة السلاح» في منتصف عام 1944؛ تقريبا مثل ما حدث مع إميل الذي يكبره بثلاثة أعوام وباول الذي يصغره بعام. أما من بقي في البيت فأصبح الآن يتابع التطورات السياسية باهتمام؛ خوفا على الإخوة والأبناء الذين يشاركون في الحرب، وعندما كانت تمر الأسابيع دون سماع أخبار من الأولاد، كان القلق والتساؤلات يتزايدان.
صفحة غير معروفة
كان حظ إميل جيدا؛ فقد أسره الأمريكيون في أفريقيا سريعا، حيث أمضى بقية الحرب في الأسر الأمريكي، وعمل حتى نهاية الحرب مترجما في مونتانا، وبعد فترة أرسل رسالة إلى أسرته فعرفوا أنه في مكان آمن. أما باول فقد أسره النيوزيلنديون عام 1945 في إيطاليا، وكان يكسب نقودا إضافية من خلال أعمال يدوية يقوم بها عن طريق إبر حياكة صنعها من قطع من الأسلاك الشائكة. كذلك كان يصنع من أكمام البلوفرات المخلوعة قبعات لزملاء المعتقل الذين كانوا يعانون من حرارة الشمس أو الذين يريدون تحسين مظهرهم. وظل يرتدي قبعته حتى بعد انتهاء الحرب بفترة طويلة.
ولأن باول كان قد بلغ بالكاد عامه السابع عشر، فقد عاد في صيف 1945 إلى البيت. لم يبلغ بعودته إلى البيت أحدا قبلها، بل عاد دون أن يعلم بذلك أحد. دخل أولا إلى الحظيرة حيث البقرات الثلاث، ثم إلى مكان صنع العرق حيث يقوم بذلك ابن عمه رودولف، الذي سبقه على السلم الخلفي إلى المطبخ، وهناك كانت تعمل الجدة التي كانت وقتها قد أنجبت طفلها العاشر قبل أيام، والذي كان غلاما، ولكنه مات بعد ولادته بساعات قليلة؛ لأن الحبل السري كان ملتفا حول عنقه.
دخل رودولف وقال: «يا تيريزا، يوجد هنا جندي يبحث عن مأوى.»
ترددت الأم لحظات بالرغم من أن البيت كانت به أماكن خالية لغياب ثلاثة من الأبناء. ثم دخل باول من ظل الباب إلى المطبخ والدموع تنهمر على خديه.
كما بدا الأمر جيدا بالنسبة إلى أبي في البداية أيضا؛ فقد أصيب بإصابة قوية في ساعده الأيمن في أثناء فترة التدريب؛ لذلك حصل على إجازتين لتلقي العلاج. وفي كل مرة عندما كان الجرح يبدأ في الالتئام كان يعرض أن يذهب إلى البيت لإحضار مشروب العرق لأعضاء السرية استعدادا لاحتفالات عيد الميلاد، طمعا في أن يقضي أسبوعي العيد في فولفورت، إلا أنه أرسل إلى الجبهة الشرقية في شهر فبراير 1945. كان عمره حينئذ ثمانية عشر عاما، وأصبح يعمل سائقا دون حصوله على رخصة قيادة، حتى تسبب في حادث جسيم في منطقة شليزين العليا عندما فشل سائق عربة تجرها أحصنة في تفاديه وهما يمران على جسر متجمد فوق أحد السدود، وكانت آلة التنبيه متعطلة، والفرامل غير مجدية بسبب الجليد، فاضطر إلى توجيه السيارة نحو منحدر السد؛ مما أدى إلى انقلابها عدة مرات. وعندما هدده رؤساؤه بأن ما حدث سيكون له تبعات، وأنه سيعرض على محكمة عسكرية بتهمة التخريب المتعمد، رد على ذلك بالإشارة إلى عدم حصوله على رخصة قيادة وأنه كان من المفروض ألا يقوم بالقيادة أساسا.
وعندما اتضح أن كل شيء قد بدأ في الانهيار انفصل عن وحدته، وحاول مع زملاء آخرين من النمسا الوصول إلى الأمريكيين. وربما دفعتهم العجلة بسبب الحنين إلى الوطن إلى سلوك الطريق الأقصر؛ فبدلا من أن يسيروا في اتجاه الغرب اتخذوا طريق الجنوب عبر بومين الذي كان أقصر طريق إلى البيت، وإلى الروس أيضا. وبالفعل عندما وصلوا إلى كامبتال في الأراضي النمساوية تبدد حلم العودة السريعة إلى البيت.
عندما كان أبي يدعي بعد ذلك أنه رأى العالم في أثناء الحرب، فإنه لم يكن يعني الحرب، ولكن يعني ما بعدها. تم تكليفه في الأسر بالقيام بإنزال غنائم الحرب ونقلها، حتى وجد ذات يوم عظمة فاسدة في الحساء وأكلها من شدة الجوع، فأصيب في اليوم التالي بالحمى، وفقد وزنه بسرعة حتى وصل إلى أربعين كيلوجراما. وأمضى الأسابيع الأربعة التالية في مستشفى ميداني مؤقت على حدود مدينة براتيسلافا في ظروف لم أعرف عنها شيئا إلا قبل عدة أشهر. لم يكن والدي يحكي عن تلك الأسابيع الأربعة؛ حيث كانت حكاياته تبدأ دائما من اليوم الذي أطلق الروس فيه سراحه «لأنه لم يعد لي أي قيمة.»
وبعد ذلك قام رجال الصليب الأحمر بنقله مع آخرين إلى مارش على الحدود السلوفاكية النمساوية بالقرب من هاينبورج.
وبعدها ودعهم رجال الصليب الأحمر قائلين: «وداعا أيها النمساويون!» وحتى يومنا هذا يردد أبي تلك الكلمات عندما يكون مستغرقا في التفكير.
أما العودة إلى فورآرلبرج، فقد استغرقت ثلاثة أسابيع أخرى، وكان الأمر يشبه قطع سباق حواجز شاق، ولم يكن بحوزة أبي لا المال ولا الأوراق اللازمة للعبور من المنطقة السوفييتية إلى المنطقة الأمريكية. كما لم يرغب في عمل صورة للحصول على تحقيق شخصية؛ لأن استخراج الصور كان سيحتاج إلى أربعة عشر يوما أخرى. ولكن الحنين إلى الوطن استبد به، حتى إنه كان ينتظر فرصة العبور بصورة غير شرعية.
صفحة غير معروفة
ورفض كل الأسرة التي عرضت عليه لينام عليها؛ لأنه كان يعلم أن بها قملا؛ لذا كان يفضل أن ينام في الحظيرة التابعة لأحد الأنزال أو في وسط كومة قش لدى بعض الفلاحين.
وبعد ستة أيام من الانتظار في أورفار ساعده بعض سكان فورآرلبرج في الاختباء تحت سرير سيارة من سيارات الصليب الأحمر، واستطاع بذلك أن يعبر نهر الدانوب إلى لينتس، وهناك خلصه الأمريكيون من القمل.
وهناك أيضا رضي بالتصوير؛ لأن لينتس توافرت بها إمكانية الحصول على صور سريعة، وظل يحمل تلك الصورة في حافظة نقوده قرابة ستة عقود حتى فقدها قبل أعوام.
وبعد إينسبروك طلب في القطار من أول شخص رآه من سكان فولفورت قطعة خبز، وعندما وصل إلى لاوتراخ حيث نزل من القطار، قابل أحد أبناء عمومته الذي لم يتعرف عليه في البداية لتغير شكله بسبب فقدان الوزن الشديد وقصة الشعر القصير، واصطحبه ابن العم إلى البيت.
يمكنني أن أتصور شعور أبي عندما عاد بعد غياب طويل، حتى أنا يتملكني شعور بالسعادة عندما أعود من فيينا وأبدأ بعد نفق آرلبرج في قراءة أسماء المحطات وكأنها جزء من قصيدة: لانجين، فالد، دالاس، براتس، بينجس، بلودنتس.
عاد أبي إلى البيت في الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر، وتحديدا في التاسع منه. كان الضوء قد عاد للاصفرار، وأحضرت كومة القش الثالثة من الحقل قبل البدء في جمع الكمثرى والتفاح. وفي شهر أكتوبر عاد إلى مكانه في المدرسة من جديد في إحدى الدورات التدريبية التي تقدمها الأكاديمية التجارية لتلاميذ المدرسة الثانوية، وكأن شيئا لم يكن.
أم أن شيئا قد حدث بالفعل؟!
لم يدرك أحد في ذلك الوقت أن هذا الشاب ابن التسعة عشر ربيعا لن ينفتح على العالم مرة أخرى؛ لقد انتهى هذا الأمر بالنسبة إليه تماما. لعله أقسم وهو في المعتقل أنه إن قدر له العودة إلى البيت مجددا فسيمضي ما بقي له من عمر فيه. كم كان طريق العودة طويلا وبطيئا! وتغيرت تماما خطته لدراسة تقنيات الكهرباء؛ فالحقائق تغير المشاعر.
ما زلت أذكر وأنا طفل كيف كان موضوع العطلة يتسبب - كلما ذكر - في مشاكل كثيرة، عندما كان أبي يقول للمرة المائة إن جمال فولفورت يكفيه. كان مثل هذه الجمل يبدو مجرد حجج واضحة يداري بها كسله، وربما كانت أحيانا فعلا مجرد مبررات ... ولكن في بعض الأحيان فقط، بعد فترة طويلة بدأت أتفهم أن السبب في رفض أبي السفر كان خوفا مرضيا، وأن المخاوف التي تسكن قلبه لم تنته، وأنها كانت السبب في جعل تصرفاته تبدو للعائلة على ما كانت عليه؛ فقد كانت كل تلك الاحتياطات الغريبة التي كان يتخذها مجرد وسائل تساعده على ألا يتعرض لخطر ثانية. فلم يرد المخاطرة بأن يقع فريسة للغربة مرة أخرى.
وكانت سخرية القدر أن يشعر بعد أعوام قليلة بالغربة الدائمة، حتى إنه كان يتمنى كل يوم أن يعود إلى البيت، فقط لأنه نسي أنه في البيت.
صفحة غير معروفة
انظر يا أبي، هذا سور الحديقة الذي بنيته بيديك.
صحيح، سآخذه معي.
لا يمكنك أخذ السور معك!
هذا أمر في منتهى السهولة.
هذا مستحيل يا أبي!
سترى.
أبي، أبي، بالله عليك! هذا مستحيل! ربما من الأفضل أن تخبرني كيف ستذهب إلى البيت، وأنت فيه بالفعل.
لا أفهم قصدك.
أنت في البيت وتريد الذهاب إليه، ولا يمكن أن نكون في البيت ونذهب إليه!
هذا أمر واضح.
صفحة غير معروفة
إذن ماذا تقصد؟
لا يعنيني ما تقوله كثيرا بالقدر الذي يعنيك.
الفصل الرابع
تركنا الفشل الجماعي وراء ظهورنا، وفقدت الذكريات المؤلمة حدتها سريعا؛ لأننا أصبحنا نتعامل الآن مع أبينا برعاية وعناية أكبر، كذلك فإن المفاجآت التي تطرأ كل يوم أصبحت تشغلنا، حتى إننا لم نعد ننظر كثيرا إلى الوراء؛ فالمرض كان يضعنا كل يوم أمام تحديات جديدة. كنا حديثي عهد بهذا المرض، وحاولنا الحفاظ على سيطرتنا على حياتنا، مع أن أيدينا كانت مرتعشة لقلة خبرتنا ودرايتنا ومهارتنا في التعامل معه.
كان أبي يخرج كثيرا ليتجول، وغالبا ما كان يذهب إلى بيت أخي الأكبر بيتر المقابل لبيتنا، حيث يسكن وبناته الثلاث. ولكن كانت جولاته تخرج كثيرا عن مسارها المعهود؛ حيث كان يخرج أحيانا في جنح الليل ودون ملابس كافية وبنظرة ملؤها الخوف. ومؤخرا لم نجد أبي لفترة طويلة بعد أن دخل بالخطأ إحدى غرف الأطفال ونام على أحد الأسرة. كذلك كان يفتش أحيانا في الخزانات ويعجب لأن بناطيل أخي فيرنر لا تناسبه؛ مما دعانا بعد ذلك إلى كتابة اسمه على باب غرفته وإغلاق الغرف المجاورة لها.
كان يجرح كثيرا في رأسه، أو يعود إلى البيت وركبتاه تنزفان؛ لأنه تعثر في التبة العالية التي اعترضت طريقه وهو ذاهب إلى بيت والديه. دخل ذات مرة دون استئذان إلى بيت والديه، وتفاجأت زوجة أخي به واقفا في الطابق الأول يسألها عن أخي إيريش. منذ كنت طفلا كان قفل الباب يدخل في ثقب في الخشب، وكان من الممكن فتحه بسهولة بالإصبع السبابة، وبالتأكيد حاول أبي عدة مرات فتحه بهذه الطريقة غير مدرك أنها لم تعد تعمل، ولعل عدم جدوى محاولاته هي التي جعلته يضطرب، ودفعته في آخر الأمر إلى كسر الباب.
وتذكر أختي أنه كان يرد دائما على الهاتف وينسى بعد دقيقة واحدة من كان المتصل وماذا يريد. وبالطبع كان يدعي أيضا أن الآخرين هم من يأخذون الأشياء ويسرقونها، وعندما كنا نسأله عن اختفاء أي شيء وعن علاقته بذلك، كان يرد غاضبا بأنه لا يعرف عم نتكلم. وعندما بحثنا طويلا عن ماكينة الحلاقة الخاصة به وجدناها في النهاية بداخل جهاز الميكروويف، أما سلسلة مفاتيحه التي كان يفقدها بصورة منتظمة فقد اضطرت أمي في آخر الأمر ليس فقط إلى ربطها في بنطاله، بل إلى حياكتها وتثبيتها فيه، إلا أن هذا لم يمنعه من نزعها وإضاعتها مجددا.
وكانت تعتريه أفكار ثابتة، وكان أكثرها إلحاحا شجرة البتول التي توجد أمام بيتنا بعد أن تسبب إعصار لوثر في إمالتها بوضوح؛ لذا فإن أبي كان يسأل كل يوم عشرات المرات إذا كانت الشجرة ستصمد في وجه الإعصار القادم أم ستقع على البيت، وفي كل مرة كان يشير إلى أن الشجرة نمت وأصبحت عملاقة، أو يشير إلى السحب القادمة. كذلك ألح على تفكيره وشغله كثيرا عداد الكهرباء الذي كان يراقبه بشغف شديد. ما زال صوت الباب المغناطيسي لعلبة العداد يتردد في أذني عندما كان أبي يفتحه ويغلقه بصورة متصلة. وعندما كان بيتنا يرتجف في الصباح من شدة البرودة كنا نعلم أن أبي قد عبث بأحد الأزرار. والمسئول؟! طبعا الآخرون!
جدي أيضا، الذي كان يعمل محصلا في شركة الكهرباء، كان شغوفا كذلك بتوفير استهلاك الكهرباء. عندما كان ينضم إلى الجالسين حول مائدة الإفطار ويلاحظ أن ضوء النهار أصبح كافيا كان يطفئ المصباح ويقول: «ستجدون الطريق إلى أفواهكم على أي حال.»
حكايات وحكايات بسيطة.
صفحة غير معروفة