لقد كنت أرجو أن يكون آخر عهدي بك يوم رحيلك وقفة أقفها في نافذة غرفتي أحييك فيها تحية الوداع، وألقي عليك فيها آخر نظرة من نظرات الحب، لولا أنني خفت عليك الجزع أن تراني باكية، وعلى نفسي التلف أن أراك جازعا، فافتديتك نفسي بهذه اللوعة التي تتأجج اليوم في صدري، فما أصعب الوداع! وما أصعب الفراق بلا وداع!
نزلت بعد سفرك إلى الحديقة فلم أجدك، ووجدت على بعض مقاعدها طاقة الزهر التي تركتها لي قبل سفرك، فلثمتها ولثمت شخصك فيها، ثم مشيت إلى ذلك المقعد الذي كنا نجلس عليه معا تحت شجرة الزيزفون فجلست فيه وحدي، ونشرت بين يدي رسائلك الماضية، وأنشأت أقرؤها وأصغي إلى حديثك فيها، فخيل إلي أنك جالس بجانبي تحدثني فما لفم، وأن ما يقع عليه نظري في صفحات رسائلك إنما هي نبرات تسمعها أذني، لا خطوط تبصرها عيني، فسكنت لذلك الخيال ساعة سكون الطفل الباكي لنشيد المهد، حتى سمعتك تدعوني في بعض أحاديثك: «يا خطيبتي»، وهي تلك الكلمة الحلوة العذبة التي تهبط حلاوتها إلى أعماق قلبي كلما سمعتها، فانتفضت وألقيت نظري على مكانك الذي تخيلته بجانبي فوجدته خاليا، فعلمت أن تلك الساعات الجميلة التي مرت بنا تحت هذه السماء الصافية، وفوق تلك المقاعد الجميلة، وبين مشتبك هذه الغصون والأوراق، قد ذهبت ولم يبق لي منها غير ذكراها، فبكيت ساعة طويلة لا علم لي بمداها، ثم استفقت فصعدت إلى غرفتي، وجلست إلى منضدتي أكتب إليك هذا الكتاب.
فمتى تعود يا «استيفن» ومتى تعود بعودتك تلك الأيام الحسان؟! (26) من ماجدولين إلى استيفن
لقد كابدت بالأمس ليلة ليلاء، فلم ينحدر كوكب الشمس إلى مغربه حتى سمعت صوت العاصفة يهدر في كل مكان، ورأيت آفاق السماء قد اربدت واقشعرت ثم ارفضت عن غيوثها المنهلة، فذكرت أنك لا تزال على الطريق، وأنك تقاسي في تلك الساعة من عثرات الطريق وعقباته وقفقفة البرد ورعشته عناء عظيما، فالتحفت ردائي وأويت إلى بعض زوايا غرفتي، وظللت أبكي على فراقك مرة وعلى شقائك أخرى، وأذود النوم عن عيني ذيادا؛ لأنني لا أستطيع أن أكون راضية عن نفسي ولا هانئة في مضجعي إن نمت في ساعة لا تجد فيها أنت إلى الراحة سبيلا، حتى مضى الليل إلا أقله، فشعرت أن النعاس الذي كان يغالب جفني قد غلبني عليهما، فنمت في مكاني نوما مشردا مذعورا، حتى استيقظت مع الصباح، فإذا الريح ساكنة، والشمس ساطعة، والجو باسم طلق، فحمدت الله على ذلك.
إني أعد الساعات واللحظات يا «استيفن» وأنتظر بشوق عظيم وصول أول كتاب منك يبشرني ببلوغك مستقرك سالما، فمتى يأتي كتابك إلي؟ (27) من ماجدولين إلى استيفن
لم تكف الأربعون ساعة التي مرت بي لتخفيف شيء من همومي وأحزاني، فلقد قضيتها حائرة الذهن، مشردة اللب، أقلب عيني في كل مكان فلا أجد في بارقة من بوارق الحقيقة ولا سانحة من سوانح الخيال عزاء ولا سلوى، فصعدت إلى غرفتك المهجورة علني أجد في مقامي بها ساعة علاج ما أكابده من هموم وأحزان، فلما بلغتها ووضعت يدي على مفتاحها شعرت برعشة شديدة ملأت ما بين قمة رأسي إلى أخمص قدمي، فلقد خيل إلي أنني إن فتحت هذا الباب وجدتك وراءه واقفا تبتسم إلي، وتفتح ذراعيك لاستقبالي، فلما فعلت لم أجد غير الوحشة السائدة، والسكون المخيم، وغير سريرك المشعث، وأوراقك المبعثرة في كل مكان، والغبار المنتشر في أرضها وسمائها، فمهدت ما تشعث، وجمعت ما تبعثر، ومسحت الغبار عن المقاعد والنوافذ، وأعدت الغرفة إلى عهدها الأول أيام كنت تسكنها وتزينها، كأنما أبيت إلا أن تكون هي غرفتك المعدة لك، المسماة باسمك، حاضرا كنت أم غائبا.
ووجدت على بعض المقاعد بضعة دراهم في كيس صغير، فعلمت أنها أجرة الغرفة التي يتقاضاها أبي قد تركتها له ليأخذها من حيث لا تراه، فأخذتها لأحملها إليه ثم أستوهبه إياها لأبتاع بها حلية أو ذخيرة أتقلدها كأنها هدية مرسلة منك إلي.
سأحمل نفسي يا «استيفن» على الصبر عنك، حتى يطوي القدر مسافة البعد بيني وبينك، وستكون تعلتي التي أتعلل بها منذ الساعة كلما هاج بي هائج الشوق إليك أنك ما بعدت عني إلا لتقترب مني، ولا فارقتني إلا لأنك آثرت اجتماعا آمنا طويلا على اجتماع مشرد غير مأمون، فامض في سبيلك أيها الصديق المحبوب، وذلل بهمتك جميع العقبات التي تعترض سبيل سعادتنا وهنائنا، حتى نلتقي بعد ذلك لقاء تنسينا حلاوته مرارة ذلك الماضي المحزن الوبيل. (28) من استيفن إلى ماجدولين
بالأمس كنا، وكان يجمعنا بيت واحد، لا يكدر صفاءنا فيه مكدر، واليوم نحن وبيني وبينك خمسون فرسخا، لا تمس يدي يدك، ولا تعبث أناملي بشعرك، ولا أستنشق عبير أنفاسك، ولا يرن صوتك العذب في جوانب قلبي، ولا تضيء ابتساماتك الجميلة ظلمات نفسي، ولا تلتقي أنظارنا في مكان واحد، ولا تمتزج أنفاسنا في جو واحد، فلا السماء صافية كعهدي بها، ولا الجو باسم طلق كما أعرفه ، ولا الماء صاف عذب، ولا الهواء رقراق عليه، ولا الروض متفتح عن أزهاره، ولا الزهر متنفس عن عبيره، كأنما كنت سر الجمال الكامن في الأشياء، فلما خلت منك أقفرت واقشعرت، ونبت عنها العيون والأنظار.
ولقد لقيت في «كوبلانس» أبي وأهلي وكثيرا من أبناء وطني فلم يغن لقاؤهم عن لقائك، ولم أجد في وجودهم ذلك الأنس الذي كنت أجده فيها قبل أن أعرفك، فأصبحت أشعر في مقامي بينهم بما يشعر به الغريب المنبت الذي يعيش في وطن غير وطنه ودار وأهل غير داره وأهله، فمتى تنقضي أيام غربتي؟ ومتى أعود إلى أهلي ووطني؟
صفحة غير معروفة