إنني لم أكن أريد بك أيها الشيخ المأفون ولا بابنتك شرا ولا ضيرا، بل كنت أعد لها عيشا هنيئا رغدا في مستقبل حياتها؛ فأنا خير لها منك؛ لأنك ما أردت بها فيما صنعت اليوم إلا عذابا دائما وشقاء طويلا.
وأعجب من ذلك كله أنك تذكر في كتابك الصداقة والإخاء والإخلاص، كأنك تظن أن البله قد بلغ مني مبلغه منك، وأني أجهل أنك شيخ مداج مصانع، تكتب الحكم بالإعدام وكأنك تكتب بطاقة دعوة إلى وليمة، وتقدم قطعة الحلوى وقد دسست في باطنها ناقع السم، وترفع قبعتك احتراما لمن يقطر خنجرك من قلبه دما.
وهنا بلغ منه التعب مبلغه، فسقط مكبا على وجهه، يبكي بكاء الطفل الصغير، وينشج نشيجا محزنا، ثم جثا على ركبتيه ورفع وجهه إلى السماء وأنشأ يقول: رحمتك اللهم وإحسانك، فأنت تعلم أني رجل ضعيف لا ناصر لي ولا معين، فكن أنت ناصري ومعيني، اللهم إني أعترف بأني أذنبت إليك في اغتراري بنفسي، واعتدادي بحولي وقوتي، وأني أغفلت قضاءك وقدرك، وما تجريه على عبادك من أحكام السعادة والشقاء، والسلب والعطاء، فقدرت لنفسي من سعادة المستقبل وهنائه ما لا أملكه ولا سبيل لي إليه إلا بمعونتك وقوتك، فاغفر لي ذنبي، وخذ بيدي في نكبتي، فقد أصبحت أعجز الناس عن الصبر والاحتمال.
ثم سكن بعد ذلك سكونا عميقا، ولم يزل باسطا يديه رافعا رأسه إلى السماء، كأنما كان ينتظر أن يسمع هاتفا يهتف به من الملأ الأعلى، فلم يلبث أن رأى من خلال دموعه الحائرة في عينيه شبحا من نور يتلألأ أمامه، وكان المصباح قد انطفأ وأضاءت الغرفة بأشعة القمر، فمسح دموعه بيمينه ونظر، فإذا هي ماجدولين. (23) الوداع
لبثت ماجدولين في غرفتها بعد أن فارقها أبوها ساعة تقلب النظر في أمرها، فلا ترى في ذلك الظلام الحالك نجما يتلألأ ولا ذبالة تضيء، فبكت ما شاء الله أن تفعل حتى مضى الليل إلا أقله، فحدثتها نفسها بأمر ما كانت تحدثها به لولا لوعة الحب، وفجعة البين، وقامت تختلس خطواتها اختلاسا وما على وجه الأرض قلب أضعف من قلبها، ولا لوعة أشد من لوعتها، حتى وصلت إلى السلم، فصعدت تسترق درجاته حتى انتهت إلى أعلاه، فوقفت قليلا تستغفر الله من ذنبها، وتسأله إحسانه ورحمته، ثم مشت إلى غرفة «استيفن» ودفعت الباب قليلا، فرأته جاثيا على ركبتيه يهتف بدعائه، فأثر منظره في نفسها، وأخذت تبكي لبكائه، وتدعو بدعائه، حتى التفت فرآها، فخفق قلبه خفقا متداركا، وتعلقت أنفاسه، وجمد نظره، وتزايلت أوصاله، حتى ما يكاد يتحرك من مكانه، فمد إليها يده كالمستغيث المتلهف، فدنت منه وقالت: إني جئتك لأودعك يا «استيفن» ولا أستطيع أن أبقى عندك طويلا، فهل تستطيع أن تعدني وعدا صادقا ألا تترك نفسك في يد الهموم تعبث بها كيف تشاء، وألا تجعل لليأس سبيلا إلى قلبك حتى يجمع الله بيني وبينك؟ قال: ذلك أمره إليك، فأنت التي تستطيعين أن تجعليني شجاعا صبورا محتملا، وأنت التي تملكين أن أحيا بالأمل، أو أموت باليأس، قالت: إني أقول لك اليوم يا «استيفن» كلمة كان يمنعني الحياء أن أقولها لك قبل اليوم، وهي أني أحببتك حبا ملأ فراغ قلبي، فما يسع غيره، ونزل منه منزلة الروح من الجسد، فما ينتقل عنه، وقد عاهدتك على الزواج بين يدي الله ويدي ضميري، وما أنا بخائنة ضميري، ولا بكاذبة ربي، فسافر يا «استيفن»، وفتش عن سعادتنا في كل مكان، وبكل سبيل، حتى تجدها، وعد إلي بعد ذلك، فإني سأكون لك ما حييت، سافر حيث شئت، وتقلب في البلاد كما أردت، وعد إلي بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام أو أكثر من ذلك، فإنك ستجدني كما تركتني نقية طاهرة، ووفية مخلصة، واعلم أن الله ما ألهمني الصبر عنك وألهمك مثل ذلك في مثل هذا الموقف الذي تطيش فيه العقول وتطير رواجع الأحلام، إلا وقد أراد بنا خيرا في جميع شئوننا، وقدر لنا السعادة والهناء في مستقبل أيامنا، سافر يا «استيفن» غدا، واكتب إلي بكل ما تلاقي من خير أو شر لأقاسمك سراءك وضراءك، وسأكتب إليك كما تكتب إلي .
فسكت ثائره قليلا، وقال: إن سفري سيكون طويلا يا ماجدولين، فهل لك أن تزوديني بقليل من الزاد أستعين به على بعد الشقة وعناء المسير؟ فمدت يدها إلى شعرها وقصت منه خصلة، فأعطاها من شعره مثلها، ثم تراجعت قليلا قليلا وهي تنظر إليه بعين ملؤها الحب والجزع، والصبابة والدموع، فقام إليها ليدركها فاختفت. (24) السفر
استيقظ «استيفن» صباح يوم الرحيل وأطل من نافذة غرفته المشرفة على الحديقة فرأى الأفق يتفتح عن نفسه شيئا فشيئا، ورأى الشمس قد هبت من مرقدها، ولا تزال في جفنها سنة الغمض، ثم رآها وقد لبست ثوبها الأول وخطت بعض الخطوات إلى مطلعها، فمشت أمامها حاشية من الأضواء تتقدمها كما تتقدم الملك حاشيته في مطلعه من باب قصره، ثم نظر إلى السماء من ناحية المشرق وقد انتشرت في أنحائها تفاريق السحب، ومشت في جلدتها حمرة النور، فخيل إليه أنه يرى هنالك برجا عظيما تضطرم فيه النار اضطراما، وأن دخان تلك النار يتراكم فوقها مرة، ويفرج عنها أخرى، ثم رأى أشعة الشمس البيضاء تخالط حبات الطل في أوراق الزهر، والطل لم يجر ذائبه، فكان كأنه يرى أحجارا من الماس تضيء فتنعكس عنها ألوان مختلفة بديعة تملك القلوب والأبصار، ولم يكن يسمع في تلك الساعة من الأصوات غير طنين النحل وهو مكب على أزهاره يرشف كئوسها، ويتطاير من حولها كما تتطاير الأحلام اللذيذة حول أفواه الأطفال الصغار.
فألقى على تلك المناظر كلها نظرة عامة لم يسترجعها إلا مبللة بالدمع حينما ذكر أنه سيفارق عما قليل هذه الدار، ويفارق بفراقها سعادته وهناءه، ويفارق ظلال الزيزفون التي كان يجلس إليها مع ماجدولين، والجدول الذي كانا يمشيان بجانبه، والزورق الذي كانا يتنزهان فيه، والمقعد الذي كان يقتعده من الحديقة لينظر مجيئها، أو ليرى خيالها من نافذة غرفتها، والغرفة التي كان يشرف من نافذتها ليسمع نغمات صوتها العذب، وطاقات الزهر التي كانت تهديها إليه فيستروح منها نسيمها، فلم يزل يبكي بكاء الشيخ على عهود صباه حتى كادت تتلف نفسه، ولولا أنه ذكر حديثها معه ليلة أمس فعزى نفسه عن فراقها بإخلاصها ووفائها وما عقدت بينها وبينه من العهود لقضى في مكانه أسفا، ثم قام إلى حقيبته فوضع فيها ملابسه ومرافقه، ونزل إلى الحديقة فودع أزهارها وأشجارها، ومجالسها ومقاعدها، ولم يترك جذعا لم يقبله، ولا غصنا لم يلثمه، ولا مقعدا لم يمرغ خده فوقه ويبلله بدموعه، ونقش اسمه واسم ماجدولين على كثير من المقاعد والجذوع، واقتطف من كل شجرة زهرة، وجمع تلك الأزهار في طاقة واحدة، وتركها على بعض المقاعد لماجدولين، ثم ذهب إلى البستاني واتفق معه على أن يحمله على فرسه إلى «كوبلانس»، ثم فارق «ولفاخ» بين وجد يقتله، وأمل يحييه. (25) من ماجدولين إلى استيفن
سافرت يا «استيفن» وأصبحت بعيدا عني، وما أحسب أني أراك في عهد قريب، فما أعظم بؤسي وشقائي! وما أشد ظلمة الوحشة المحيطة بي!
لقد خدعت نفسي يوم أشرت عليك بالسفر، فقد ظننت أن بين جنبي ذخيرة من الصبر والاحتمال أقوى بها على تجرع كأس فراقك المريرة، فلما فقدت وجهك علمت أني فتاة ضعيفة بائسة، لا تقوى على احتمال أكثر مما تطيق من الآلام والأحزان، وأنني فيما أدليت به إليك من تلك النصيحة إنما كنت أحدث عن خواطر عقلي لا عن شعور نفسي.
صفحة غير معروفة