ثم ظهر فيثاغورس دي ساموس في أواخر القرن السادس قبل المسيح، وقيل عنه أيضا إنه قصد مصر، واستقى العلوم من منابعها العذبة بفضل الكهنة في المعابد، وقد اشتغل بالرياضيات والفلك، وكان للأعداد في نظره أعظم شأن حتى إنه بنى فلسفته عليها، ولأرسطو كلام طويل في تفنيد نظرية الأعداد، ولكن يلوح لأهل الفكر أن أرسطو لم يدرك تماما نظرية الأعداد أو تظاهر بذلك ليسهل عليه نقدها. أما فيثاغورس فقد قال بدوران الأرض حول الشمس، وأظهر في علم طبقات الأرض حقائق ثابتة لم تنقض إلى هذا الوقت، كقوله إن البحر كان يابسة، وإن اليابسة كانت ماء، وإن الوديان تكونت بفعل الأنهار، وعلل وجود الآثار البحرية كالمحار والأصداف وغيرها في أعالي الجبال، وهذا مفتاح طبقات الأرض (كما أثبت شارل ليل الإنجليزي في القرن التاسع عشر)، وهو أول من عرف الفلسفة، وأطلق عليها اسمها، وأول من سمي فيلسوفا، وكان بفضل علم الأعداد وعلم الفلك أول من شد أوتارا بحسب السلم الطبيعي في الموسيقى، وقد أسس مدرسة وفلسفة باسمه، وكان فيثاغورس يعتقد بالبعث والخلود، ويقول بأن فوق عالم الطبيعة عالما روحانيا نورانيا، لا يدرك العقل حسنه وبهاءه، وأن الأنفس الزكية تشتاق إليه، وأن كل إنسان أحسن تقويم نفسه يصير أهلا لهذا العالم الروحاني النوراني. وكان يعلم تقديس الحواس، ومذهبه أن يعلم الرجل الرجال، وأن تعلم النساء النساء. وكان معتدل المزاج، ولا يفرح بإفراط، ولا يحزن بإفراط، ولا يسمن، ولا يهزل، ولم يره أحد باكيا، ولا ضاحكا، وكان يعالج الأمراض بأنغام الموسيقى (وهذه طريقة أحياها بعض المحدثين في أوروبا لمعالجة الأمراض العصبية والعقلية)، وكان فيثاغورس تلميذ أنكسيماندر الذي سبق ذكره، وتعلم عليه الفلك والرياضة. ولما زار مصر تعلم الهيروغليفية على أساليبها الثلاثة، وبعد أن عاد إلى وطنه وأقام به وبغيره سنين طويلة حن إلى مصر وعلومها فوردها، وقصد كهنة عين شمس (مدرسة كانت بمصر الجديدة المعروفة لعهدنا هذا بهليوبوليس وبها نكتب هذا الكتاب)، فامتحنه كهنتها، ثم بعثوا به إلى منف، ثم إلى ديوسبولس ليمعن الكهنة في امتحانه، وأكرمه الملك أماسيس إلى أن عاد إلى وطنه. وكانت زوجته تعلم سائر النساء، وابنته البتول تعلم سائر العذارى. واضطهده أهل وطنه، وطاردوه، وقتلوا بعض تلاميذه، واضطروه للفرار، وتبعه الاضطهاد حيثما حل إلى أن لجأ إلى هيكل الموسن فتحصن فيه أربعين يوما، فضربوا الهيكل بالنار، فلما أحس أصحابه بذلك عمدوا إليه، فجعلوه في وسطهم، وأحدقوا به ليقوه النار بأجسامهم، فلما امتدت في الهيكل، واشتد لهيبها غشي على الحكيم من ألم حرارتها، ومن الجوع؛ لأنه قضى معظم أيام الحصار جائعا، فسقط ميتا، ثم اخترق جميع أنصاره (راجع [تاريخ الفلسفة اليونانية - سقراط العظيم والفلسفة السقراطية - ما كتبه العرب عن سقراط] وما بعدها من ابن أبي أصيبعة، وراجع كتاب مختار الحكم ومحاسن الكلم لمحمود الدولة أبي الوفاء المبشر بن فاتك ).
ونسبوا إليه ثمانين كتابا، وقالوا مائتين وثمانين كتابا (هذا إحصاء كتاب العرب)، ولا نخفي على القارئ أن معظم ما رواه العرب عن فيثاغورس هو من قبيل الأساطير الموضوعة كما أنهم لم يدركوا أو لم يشاءوا ذكر الحقيقة؛ فالثابت في التاريخ الصحيح أن فيثاغورس ألف حزبا علميا، واشتغل بالسياسة، وكان أتباعه من الخواص أو الأرستوقراطية، وأنهم لم يأنفوا من هضم حقوق الشعب، فتعقبتهم العامة، واضطهدتهم إلى أن أحرقتهم بوصف كونهم أعداء الشعب لا بصفة كونهم فلاسفة، ولم يدرك العرب حقيقة فيثاغورس، ونسبوا إليه علوم الدنيا والآخرة مع أنه كان رياضيا لا زيادة، وفضله راجع إلى مزجه الحساب بالهندسة كما فعل ديكارت بمزج الجبر بالحساب، وتفوق فيثاغورس في الرياضيات هو الذي جعله يعلق شأنا كبيرا على الأعداد وأسحارها. أما فلسفة فيثاغورس التي كانت دعامتها البعث، وتقمص الأرواح، وحلولها في أجسام غير أجسامها الأولى، فقد محيت من عالم الفكر الإنساني في القرن الرابع، وذهبت تقريبا بذهاب القائل بها إلا من أعمال المشعوذين من العرب الذين تمسكوا بأسرار الأعداد وسحرها إلى وقتنا هذا، ومن العجيب أن العرب ذكروا بالتفصيل مأكل فيثاغورس ومشربه، ولم يذكروا تاريخ مولده، ولا تاريخ وفاته، وقد ذكرناه معتمدين على مؤلفي الإفرنج، وفي هذا كفاية، ولولا ما كتبه أرسطو عن فيثاغورس في عرض نقده آراءه الفلسفية أو فلسفة الأعداد ما اهتدينا إلى شيء حقيقي عن حياة هذا الحكيم، ولا عبرة بما عدده العرب من كتبه؛ فقد نسبوا إليه 280 كتابا، ورووا عنه ألف مثل وحكمة، مع أننا لم يقع لنا سطر واحد من مؤلفات فيثاغورس وأتباعه، ويمكننا تعليل ذلك بأن معظم أبحاثهم كانت رياضية، وكفى أنه وضع كلمة ماطيماطيقي (رياضيات) وآثار الرياضي في الأرقام والأشكال والمعادلات وهي آثار زائلة، وسيأتي الكلام على الرد على نظريته في الأعداد في عرض الكلام على أرسطو، وهو أول من اهتم بها ونقدها.
وكنا نود أن نأتي على نظرية فيثاغورس في الأعداد بشيء من الإسهاب، ولكن ذلك يصعب؛ لأننا نكتب وجيزا لا مطولا، على أن تلك النظرية مهمة جدا؛ لأن لمذهب صاحبها شأنا كبيرا؛ فهو أول من فرق بين إدراك الإنسان والحيوان بعبارة وجيزة؛ إذ قال إن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها، وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها، فكأنه يقول إن الحيوان يعيش بالغريزة، والإنسان يعيش بالعقل؛ لأن الفطرة هي الحالة الفكرية التي تحصل للإنسان من التأمل والتعليل، ثم يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولا يوجد فرق عظيم بين هذا الرأي وبين العلم الحديث. ولكن نظرية فيثاغورس في الأعداد هي التي جعلت له شأنه العلمي الحقيقي، وأهم ما فيها أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة، وقال مبدأ الموجودات هو العدد، وهو أول مبدع. وقسم العدد إلى زوج وفرد، ثم قال إن المتحركات السماوية ذات حركات متناسبة لحنية هي أشرف الحركات وألطف التأليفات، ويدعي فيثاغورس أنه سمع حفيف الفلك، ووصل إلى مقام الملك، وقال ما سمعت شيئا ألذ قط من حركاتها، ولا رأيت شيئا أبهى من صورها وهيأتها، وعندي أن هذا التخيل البعيد المدى الذي جعله يشهد العالم بحسه وحدسه ويسمع حفيف الكواكب، إنما نوع من الانجذاب اللطيف الذي يعلله العلم الحديث بأنه غيبوبة مغنطيسية فيخيل إليه أثناءه أنه صعد إلى السماء وحادث الملائكة ... إلى آخر ما روي عن فيثاغورس وأمثاله. وهذه «الحال الانجذابية» هي التي تجعل لذويها أتباعا وأنصارا يفدونهم بحياتهم، ونحن لا نريد تكذيبها أو دحضها، إنما نحاول تعليلها تعليلا علميا لتفسيرها وإدراك حقيقتها؛ فقد حدث مثلها في عهدنا هذا لسويد نبورج الذي قال إنه رأى شبحا قال له: «أنا الله، الخالق، مخلص العالم، اخترتك لتنشر للناس معنى الكتب المقدسة، سأملي عليك بنفسي كل الذي تكتبه» (ص219، كتاب اعتلال العبقرية، تأليف نيسبت، طبع لندن)، وقد صار سويد نبورج بعد ذلك مصلحا دينيا عظيما، وكان يقول عن نفسه ويقول عنه أتباعه إنه نبي.
نعود إلى فيثاغورس فنقول إن أتباعه تغالوا في أهمية العدد؛ فأوقعوا الألف في مقابلة الواحد، والباء في مقابلة الاثنين إلى غير ذلك، وقالوا إن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة، ومن أحكم أقوال فيثاغورس أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله، وهو عالم صغير، والعالم إنسان كبير (انظر بعد ذلك فلسفة سبنسر الاجتماعية (سوسيولوجيا) فإنه أخذ فيها في شرح هذه النظرية، وتطبيق أحوال الكائن الحي على المجتمع)؛ ولذلك صار حظ الإنسان من النفس والعقل أوفر، فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم، وكيفية تأليفه، ومن ضيع نفسه، ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود، وانحل عن رباط القدر والمقدور، وصار ضياعا هملا. وقال فيثاغورس في سياق نظرية الأعداد: النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية، ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان والتذت بسماعها.
وجاء بعد فيثاغورس فلاسفة مدرسة إيليه، وهم بارمنيد وزينون دي كولفون، وتلاهم الفلاسفة الطبيعيون المحدثون وأولهم هيراقليط، وهو في طليعة الحركة الفلسفية التي اهتمت بتحول الأشياء، وتغيرها أكثر من اهتمامها بمادتها.
واشتغل بالسياسة وحرب الديموقراطية، وكان يقول بوجود الانسجام في وسط الفوضى، وكان هيراقليط يخالف بارمنيد.
ثم تلاهما أناكساجور، وهو من نوابغ القرن الخامس قبل المسيح، واشتغل بالفلك، ورصد الكواكب، وهو أول من علل الخسوف، وفضله على فيثاغورس ظاهر؛ فقد تنبأ هذا الأخير بكسوف حصل في عهده، ولكنه لم يستطع تفسيره، ولكن أناكساجور علل الخسوف والكسوف معا، وأنكر ألوهية الشمس، واضطهده أهل عصره لأجل هذا، وقد سمي أناكساجور حكيم الذرات (الذار)؛ لأنه قال بأن المادة وجدت منذ الأزل على صورة ذرات غير مرتبطة، ثم تناولها العقل الأزلي، فنظمها ورتبها حتى أخذت أشكالها المرئية، وأشرنا إلى أن آراء أناكساجور بقيت صادقة إلى أن قال بها باسكال وليبنتز، ونقول إنه من عهدهما إلى الآن لم ينقض رأي أناكساجور؛ فقد ثبت للعالم الحديث أن المادة مكونة من ذرات، وأن جزئيات المادة لا تدركها العين المجردة لشدة صغرها، وأنها من نوع واحد لا فرق بينها. وقال علماء هذا العصر بنظرية الإلكترونات، وهي قريبة جدا من نظرية أناكساجور، ففضل أناكساجور على العلم عظيم، وكلامه في أصل الوجود ينطبق على العلم الحديث، وهو راجع إلى رغبته في تعليل مبدأ الموجودات، فقال إن مبدأها متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس، ولا ينالها العقل، منها: كون الكون كله العلوي منه والسفلي؛ لأن المركبات مسبوقة بالبسائط، والمختلفات أيضا مسبوقة بالمتشابهات، هذه النظرية التي انتحلها دروين، وأطلق عليها اسم
Differenciation .
وهو أول من قال بالكمون والظهور حيث قدر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول، وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعا وصنفا ومقدارا وشكلا وتكاثفا وتخلخلا كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة، والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة، والإنسان الكامل الصورة من النطفة، والطير من البيض، وكل ذلك ظهور عن كمون، وفعل عن قوة، وصورة عن استعداد مادة، وإنما الإبداع واحد، ولم يكن لشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول. ولأهمية هذه النظرية القديمة ألفت نظر القارئ إلى كيفية تجديدها، ونشرها كأنها مستحدثة في الفصول الخمسة الأول من كتاب «لغز الكون»، تأليف أرنست هيكل.
وقال أنكساجور إن الأشياء كانت ساكنة، ثم إن العقل رتبها، وقال إن المرتب هو الطبيعة. وظهر بعد أنكساجور الفلاسفة السفسطائيون (المغالطون)، وأشهرهم بروتاجوراس وجورجياس، ولهم آثار عظيمة في تكوين الفلسفة، وهم أول من قال بوجوب الشك، وعدم إمكان وصول الإنسان إلى معرفة الحقيقة، وقالوا بنسبية الأشياء، وعدم وجود المطلق في الحق والجمال والعدل وغيرها، وفضل هؤلاء الفلاسفة كائن في أن فلسفتهم كانت حدا فاصلا بين الفلسفة القديمة والحديثة، ولولاهم ما تمكن سقراط وأفلاطون وأرسطو من الظهور؛ لأن هؤلاء الثلاثة لم يقوموا إلا على أنقاض الفلاسفة المغالطين.
صفحة غير معروفة