خاتمة وخلاصة ما تقدم
يتلخص الفصل الذي عقدناه لتاريخ الفلسفة اليونانية ليكون مقدمة لمائدة أفلاطون، وليكون حلقة اتصال بين القارئ الخالي الذهن وبين هذا الكتاب الجليل الجميل، في أن الإغريق أخذوا عن اليونان مبادئ الفلسفة والعلوم الرياضية وعلم الفلك وسواها من العلوم، وأنهم توسعوا فيها، وزادوا عليها، واشتهروا بها، واستنار العالم بهديهم ونبراس حكمتهم إلى وقتنا هذا، وأنهم بدءوا بالاشتغال بالحكمة والعلوم في القرن السابع قبل المسيح؛ أي منذ 2600 سنة تقريبا، ويلاحظ أن مصر التي ترجع آثار مدنيتها إلى خمسة آلاف سنة (تاريخ نحت تمثال أبي الهول) كانت علومها زاهرة، وحكمتها ظاهرة، وأنظمتها سائدة، وعظمتها ثابتة موطدة قبل اشتغال اليونان بالفلسفة بثلاثين قرنا.
وأول من اشتغل بالفلسفة طاليس، وجاء في الأخبار الصادقة أنه قصد مصر، وساح فيها مدة؛ لأنها كانت مصدر العرفان الوحيد في العالم، وكسب منها فوائد جمة، ثم عاد إلى وطنه لينشر العلم بين أبنائه؛ فأسس مدرسة، وكان له الفضل في نقل علم الهيئة عن المصريين، وتوسيع دائرته؛ فقسم السنة إلى فصول، وهو أول من نزع من أفكار أهل وطنه خرافات كثيرة كانت سائدة عليها، كاعتقادهم أن الكواكب آلهة، فأثبت لهم بالبرهان أنها أجرام كأرضنا لا حياة لها، وقال إن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة جوهريته، وإنما يدرك من جهة آثاره (الملل والنحل للشهرستاني، طبع لندن، صحيفة 255).
وجاء في القفطي عن طاليس (صحيفة 75) أن طاليس دي ميلت أو الملطي قال : إن الوجود لا موجد له (تعالى الله العظيم (القفطي))، واعتذر له أصحابه أن الذي حمله على ذلك ما شاهده في هذا العالم من الاختلاف، فتحقق أن الموصوف بالصفات الحسنى لا تصدر عنه هذه الأمور المختلفة، فقال بذلك.
ونقل عنه أن المبدع الأول هو الماء؛ لأنه قابل لكل صورة، ومنه أبدع الجواهر كلها، وهو علة كل مبدع، وأنه من جمود الماء تكونت الأرض، ومن انحلاله تكون الهواء، ومن صفوة الماء تكونت الذار (الذرات أو «أتوم»)، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب، فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه، وميز بين الجسم والجرم، فقال: الجسم ما كان لطيفا ظاهرا، والجرم ما كان كثيفا داثرا. وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار، ولا يقدر العقل على إدراك ذلك الحسن والبهاء. وقال الشهرستاني عن تفسير الماء الذي قال طاليس عنه إنه المبدع الأول «وفي التورية في السفر الأول مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى، ثم نظر إليه نظر الهيبة، فذابت أجزاؤه فصارت ماء، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان فخلق منه السموات، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر، فخلق منه الأرض، ثم أرساها بالجبال.» وأظن أن مؤلف الملل يقصد بقوله السفر الأول سفر التكوين في التوراة المقدسة؛ فقد جاء في الأصحاح الأول «وكانت الأرض خربة، وخالية، وعلى وجه القمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه» (آية 2).
وجاء بعد ذلك «وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد، والمياه التي فوق الجلد (6 و7) وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء (9) ومجتمع المياه دعاه بحارا (10).» أظن هذه الآيات المقدسة هي التي حللها الشهرستاني، وأوجزها، ثم إنه استمر في استنتاجه فقال (ص256 من الطبعة السابقة الذكر): «والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش،
وكان عرشه على الماء .»
وجعلنا من الماء كل شيء . ولا نعلم قصد الشهرستاني في قوله: إن طاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من المشكاة النبوية، وأن الذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية. ويدهشنا هذا القول من الشهرستاني؛ لأن طاليس من أهل القرن السابع قبل المسيح.
وجاء بعد طاليس أنكسيماندر، وسار على درب طاليس في الأبحاث الفلكية، فاخترع الساعة الشمسية، وقسم النهار إلى ساعات، وهو أول من بين سبب تزايد القمر من هلال إلى بدر، ونقصانه من بدر حتى يصير كالعرجون القديم، وله الفضل في التعليل العلمي على كل من عداه.
وجاء بعده أنكسمين، ويسميه العرب أنكسيمانس، وقال في أصل العالم قولا مثل سلفه طاليس أن أول الأوائل ليس الماء كما قال طاليس، وإنما هو الهواء، ومنه يكون جميع ما في العالم من الأجرام العلوية والسفلية، وقال: إن ما كون من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر، ولا يدخل عليه الفساد، ولا يقبل الدنس والخبث، وما كون من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر، ويدخله الفساد، ويقبل الدنس والخبث، ولعله جعل الهواء أول الأوائل لموجودات العالم الجسماني كما جعل العنصر أول الأوائل لموجودات العالم الروحاني، وقلنا إن أنكسمين يرجح أن يكون تلميذ أنكسيماندر.
صفحة غير معروفة