تقديم
أوبرا ماهاجوني
تقديم
أوبرا ماهاجوني
أوبرا ماهاجوني
أوبرا ماهاجوني
تأليف
برتولد برشت
ترجمة
عبد الغفار مكاوي
تقديم
(1) للمدن، كما للبشر، أقدار ومصائر، تولد المدينة وتنمو وتزدهر، ثم يصيبها ما يصيب الكائن الحي فتضمحل قواها وتتدهور، أو تداهمها كارثة طبيعية أو غزوة همجية فتندحر وتندثر. كان السومريون - الذين استقروا في جنوب أرض النهرين منذ الألف الرابعة قبل الميلاد ووضعوا النماذج الأولية للثقافة والفن والأدب في حضارة وادي الرافدين القديمة - أول من عرف أدب بكاء المدن، وخلدوا دموعهم وحسراتهم عليها في نقوشهم وألواحهم الطينية بالخط المسماري. ومرثية أور - المدينة السومرية الشهيرة التي اكتشفت كنوز مقبرتها الملكية في عام 1926م - تعبر بلسان ملكتها الإلهية «ننجال» عن الأسى والرعب الذي ملأ قلبها عندما شعرت بالنهاية المحتومة لمدينتها، وأحست بأن مجمع الآلهة على وشك إصدار قراره بضربها وتدميرها، والقضاء على شعبها، وتسليط العاصفة والطوفان عليها. ها هي الملكة التي رأت علامات الشؤم في كل مكان تنخرط في النواح والعويل كالحمامة المذعورة التي تتوقع هبوط النسر الذي يحوم وسط السحب السوداء وينذر بالانقضاض على عشها والتهام أفراخها:
عندما كنت - وكلي حزن وأسى - أتوقع يوم العاصفة ذاك، يوم العاصفة المقدر لي، وكلي دمع وبكاء، يوم العاصفة الظالم المكتوب علي أنا المرأة، لم يكن لي مهرب من اليوم المحتوم ذاك.
ارتجفت وارتعدت في تلك الليلة، حط الخوف على كاهلها من تدمير العاصفة الشبيهة بالطوفان، وقضت الليل في فراش الدمع المر، وقد حرمت الأحلام كما حرمت النسيان، وبعد أن تأكدت من عجزها عن استعادة شعبها - «حتى ولو بسطت جناحي كالطير، وكالطير طرت لمدينتي» - ويئست من إنقاذ مدينتها وإبعاد يوم العاصفة عنها، توجهت إلى الآلهة بالضراعة، وأغرقت في الدموع أسئلتها المترحمة ل «آنو» كبير آلهة المجمع السماوي ولإنليل رب العواصف الغضوب: ألا يجوز لمدينتي ألا تدمر؟ ألا يحق لأهلها ألا يذبحوا؟ ولكن «آنو» لاذ بالصمت ولم يتلفت لكلماتها، وإنليل لم يفه ب «يسرني ذلك فليكن ما تريدين.» لتهدئة روعها، لقد أمرا بأن تدمر «أور»، ولم يرجعا عن قرارهما بأن يقتل أهلها كما نص القدر. وهكذا سقطت المدينة صريعة تحت أقدام البرابرة «الجوتيين» ونفذ الآلهة عزمهم على تغيير أيامها وخططها، ورفعوا ألواحهم الملكية عنها وأعادوها للسماء، وانقلبت بعد ذلك طرق سومر الحضارية رأسا على عقب، وتوالى خراب مدنها بسبب عدوانها المستمر على بعضها أو بفعل الغزاة المتوحشين حتى درست رسومها وانقرضت شعوبها، وتحولت بيوتها وأبراجها ومعابدها وعمائرها إلى أطلال مع أواخر الألف الثانية قبل الميلاد.
1 (2) لم تكن «أور» أول مدينة يخبرنا التاريخ المكتوب عن مأساة سقوطها، ويسجل الشعراء والكتاب المجهولون من أبناء سومر أو آكد رثاءهم لها؛ إذ وجد أقدم نموذج لأدب بكاء المدن مدونا على لوح طيني عثر عليه بين أطلال مدينة لجش «أولكش-السومرية»، ونقش عليه وصف دمارها الفظيع على يد عدوتها القاسية مدينة «أوما» التي طالما اشتبك الصراع بينهما على الحدود، كما كان يحدث عادة بين دول المدن في حضارة وادي الرافدين القديمة. ولن تكون مدينة «ماهاجوني» - التي سيأتي الحديث عنها بعد قليل - هي آخر «القرى» التي حق عليها الفساد والدمار والهلاك، ولا آخر المدن التي نزلت بها المحن والنكبات، إما لعجزها عن الاستجابة الملائمة للتحديات التي واجهتها، كما يقول أحد فلاسفة التاريخ وهو توينبي. أو لوقوعها تحت أقدام الغزاة الأجانب وضربات الكوارث الطبيعية والبشرية؛ من براكين وزلازل وأعاصير وسيول وقحط وجفاف، أو طواعين ومجاعات، وأوبئة وحرائق وثورات وكوابيس عسكرية تؤدي جميعها إلى تساقط البشر، وافتراس بعضهم لبعض وتسلط بعضهم على بعض، وسحق كل نبتة أو نبضة توحي بحياة أو حرية أو سعادة، وتنصيب أشباح الإرهاب والطغيان والظلم والرعب والقهر والعقم والملل والاغتراب وسائر أفراد العائلة المشئومة ملوكا على عروش خاوية فوق مقابر جماعية هي مدن الموتى-الأحياء. لقد حفل تاريخ البشر بعشرات القرى والمدن التي ارتفعت إلى ذرى المجد والازدهار، ثم جاءها أمر ربها بغتة وفي غفلة من أهلها فانكفأت على وجهها في حفرة الاندحار، أو هوت إلى الحضيض، كما يهوي الرأس المقطوع في سلة المحكوم عليهم بالإعدام وفوق ركام المزبلة الكبرى للتاريخ. وما دمنا بصدد الحديث عن مصير مدينة «رأسمالية» قضى عليها شيطان المال وقانونه الجهنمي الأسود بالزوال والاندثار بعد التألق والازدهار، وكنا نتنفس اليوم في جو تخيم عليه سحب السقوط والانهيار للمدن الاشتراكية وغير الاشتراكية، وتضيء سماءه المكفهرة بين الحين والحين بروق الأحلام المستحيلة والأشواق اليائسة إلى المدن «اليوتوبية» الفاضلة التي ستنعم بالحرية والعدالة والإخاء، وتخضر فيها أشجار الحب والتضامن والرخاء. ما دام الأمر كذلك فلنحاول أن نقلب معا في كتاب المدن لنعرف وجه الحلم العنيد الذي يطل علينا من وراء العصور برغم التشويه والحروق التي أصابته، ونلتمس جذور الفاكهة المرة والشوك الجارح الذي طالما أدماه وملأه بالندوب والأخاديد، ولنحلق معا على أجنحة التذكر والخيال في رحلة خاطفة نطوف فيها ببعض المدن التي لا يزال صراخ الحلم القديم المتجدد يتردد بين أنقاضها وركام أحجارها كاستغاثة اليتيم المتلهف إلى عين ترعاه وحضن يدفئه. وبعيون لم يجف منها الدمع على ضحايا الزلزال الذي ضرب أمنا القاهرة وما فتئ يهددها هي وغيرها، نتأمل أقدار مدن ارتفعت وازدهرت حتى كادت تصبح جنات على الأرض، ومصائر مدن أخرى سقطت في أزمنة أخرى واندثرت فلم يبق منها حتى الأطلال، في الوقت الذي يدق فيه أسماعنا ويطعن ضمائرنا دوي ارتجاج مدن معاصرة تخرب تحت ضربات المجاعة المخجلة للإنسانية، أو تسحق تحت أقدام الأحقاد العرقية وضغائن العصبيات القومية والدينية، بينما تضج مدن أخرى بضجيج القوى المجنونة والمجد الزائف، والرخاء الخداع، والرقص الهمجي المغرور لسادة المال والعنف والاضطراب العالمي الشامل الذي أسموه ظلما وكذبا باسم النظام العالمي الجديد. (3) ربما خطر الآن ببالك أنني سآخذك معي في سياحة خيالية إلى بعض المدن الشهيرة التي سمعت أو قرأت عنها، أو حالفك الحظ بزيارتها ورؤية معالمها، وربما رست بك سفن الذاكرة على شواطئ مدن ذاع صيت مجدها، أو بقيت فرقعة ارتطامها بصخور الهاوية عالقة بالآذان إلى يومنا الراهن؛ بابل وآشور وبيرسيبوليس وقرطاجة، طيبة وأثينا وأسبرطة وروما، دمشق وبغداد والقاهرة وفاس والقيروان ... إلخ. إن طموح الطائر الذي سنحلق على جناحيه أكثر تواضعا من أن يرفرف فوق تاريخ مدن ومدنيات يحتاج سرده إلى مجلدات، ولهاث أنفاسه المتلاحقة لا يسمح بطول المكوث عند حدائق هذه المدينة أو تلك، ولا عند أطلالها وخرائبها وأسوارها وأكوام التراب المتبقي من أفراحها ومآسيها. وسواء تصورنا أن المدنية والحضارة البشرية قد بدأت في الصين منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، أو على ضفاف النيل وبين شاطئ دجلة والفرات منذ أواخر الألف الرابعة وبداية الألف الثالثة؛ حيث تم في زمن متقارب فوق هذين المهدين الخصبين اختراع الكتابة وسن القوانين، وتقدم فنون البناء والنحت والتصوير، ووضع بذور النماذج والبنى الأصلية للأدب والعلم والدين، والعمل والزرع والحكم، والضمير والقيم وسائر مظاهر التحضر والتنور في الحضارتين المصرية والرافدية (السومرية والبابلية والآشورية) فالذي يعنينا في جولتنا السريعة، ويلفت نظرتنا الطائرة هو قدر هذه المدن الذي لم يمسك الغيب المجهول بخيوطه، وإنما صنعه البشر بكدهم وعرقهم ودمهم، وصراعهم على البقاء والرئاسة والتسلط، وغبائهم الأزلي الذي منعهم إلى اليوم من الوعي بتاريخهم والتعلم منه، كما فرضته طبائعهم المتناقضة المركبة من الخير والشر، والبناء والهدم، وقلقهم الدائم بين قطبي الحياة والموت، والطبيعة والحضارة، والعقل واللاعقل، وسمو الملائكة والشهداء والقديسين والأولياء، وحضيض التوحش والضعة والخسة والغدر الذي تقصر دونه الذئاب والعقارب والأفاعي. (4) هل نبدأ (بدول-المدن) في سومر وأكد وآشور التي ظلت تتصارع - كما سبق القول - مع بعضها وتفني بعضها بأيديها أو بأيدي الغزاة من الشمال (كالجوتيين والحوريين والحيثيين) أو من الشرق (كالعيلاميين) حتى لم يبق من قصورها وأسوارها ومعابدها الفخمة وأبراجها المستديرة سوى أحجار مبعثرة كالأشلاء الملوثة بالدم والطين؟ أخذ السومريون ينقرضون بتأثير عوامل مختلفة، وراح الآشوريون يقضون على البابليين قبل أن يدمرهم هؤلاء - في القرن السابع قبل الميلاد - بعد تحالفهم مع الميديين ثم يفنون البقية الباقية من حضارة الحيثيين في القرن الثامن قبل الميلاد، ويزحفون بإعصار الخراب والسلب والنهب والحرق على معظم جيرانهم، بينما كان الجميع - في النصف الأخير من الألف الثانية وحتى النصف الأول من الألف الأولى - يوسعون حدود إمبراطورياتهم، ويتفننون في تمزيق أعدائهم وتسوية مدنهم بالتراب، في الوقت نفسه الذي انشغلوا فيه بتشييد قصورهم ومعابدهم وبوابات مدنهم البديعة المترفة. ولك أن تتخيل تلك المدن الكبرى كما يصورها الرسامون والأثريون، وتدلف من بواباتها الفخمة المهيبة؛ مثل بوابة عشتار وأبواب طيبة الألف، وتتجول في رياض قصورها وغابات أعمدتها ومعابدها بين صفوف من الثيران والتنانين والأسود المجنحة والكباش والحيوانات ذات الرءوس الآدمية التي تكاد تسمع أصواتها وهي تقول: «كنا نحرس ونزين مدنا جبارة، لكنها لم تكن مدنا فاضلة ولا سعيدة.»
وهل نستطيع أن نتصور طروادة على شواطئ بحر إيجة - أو بالأحرى المدن التسع التي تراكمت فوق بعضها تحت تل حيسار ليك الصغير في تركيا - كيف أحرقت أكثر من مرة، وصمدت سادستها لحصار طويل في الحرب المشهورة بينها وبين اليونانيين بقيادة ملكهم أجاممنون، ثم دمرت بأيدي أعدائها قبل أن تحرق حرقا منظما في حوالي سنة 421ق. م. وهو أحد التاريخين المتواترين في القصص والتاريخ الإغريقي عن حرب طروادة التي روت أحداثها إلياذة هوميروس؟ وأسبرطة بنظامها الوحشي الصارم الذي وضع دستوره مشرعها ليكورجوس «حوالي أواخر القرن التاسع ق.م.» وتحولت إلى معسكر ضخم للتدريب الخشن الفظ على القتل والعدوان، لا يعفى منه حتى الأطفال والصبية والنساء، وقرطاجة التي بنيت فوق نتوء صخري - في الموضع الذي يقوم فيه الآن خليج تونس - على شكل حصن هائل تحوطه ثلاثة أسوار ضخمة سميكة ترتفع فوقها الأبراج الدفاعية؛ ماذا نقول عن تحديها لروما وانتصارها عليها في الحربين البونيتين بينهما (264-241، 218-210ق.م) ثم سقوطها وحرقها وإفناء كل من فيها على أيدي الرومان (149-146ق.م).
وبيزنطة ذات الأبواب السبعة على الضفة الغربية للبوسفور «أو القسطنطينية التي جعلها قسطنطين عاصمة للإمبراطورية الرومانية عام 330 للميلاد بعد دخوله في المسيحية وتعرف اليوم باسم إسطنبول»؛ تلك المدينة التي احتفظت بأبهتها وفخامة قصورها وكنائسها وقبابها الذهبية وتحصيناتها وقلاعها وأبراجها في وقت غدت فيه روما أنقاضا مملوءة بأكواخ الفقراء وعششهم، لقد حمتها أسوارها المنيعة من الغزوات المتكررة ما يقرب من ألف عام، وردت حملات الهون والفرس والآفار والعرب والفايكنج، ثم تدهورت بها الأحوال فلم تستطع أن تتقي جحافل الطامعين من الصليبيين اللاتين الذين اقتحموها في سنة 1204م. ونهبوا نفائس قصورها وتحف كنائسها، إلى أن حلت نهايتها وسقطت معها الإمبراطورية الرومانية الشرقية تحت ضغط الأتراك العثمانيين «بقيادة محمد الفاتح في التاسع والعشرين من شهر مايو سنة 1453م».
وبومبيي، إلى الجنوب من مدينة نابولي الإيطالية، المدينة المنكوبة التي دفنت حية تحت سيول الحمم عندما داهمها بركان فيزوف مع جارتها هيركو لانوم على الجانب الآخر منه؛ هل سمعت في تاريخ سقوط المدن وتحطمها صرخة أفظع من صرختها الخرساء التي انطلقت في اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس سنة 79م؟ لقد وقعت تحت حكم الرومان في بداية القرن الأول قبل الميلاد، ثم ازدهرت مع القرن الأول الميلادي لتصبح مع جارتها التي سبق ذكرها مدينة المتع والملذات للمصطافين من أثرياء الرومان، هذه المدينة التي لم تبدأ الحفائر في الكشف عنها إلا في عام 1784م، إن كنت قد قرأت عنها أو شاهدت أحد الأفلام التي صورت مأساتها أو زرتها وتجولت في شوارعها، هل فكرت في النساء والأطفال والحيوانات والتجار والحرفيين والفقراء والأغنياء الذين طمروا تحت ركامها المحترق؟ في الأجساد المنكفئة على وجوهها، والكلاب التي حاولت التخلص من قيودها، والحراس الذين لزموا مواقعهم وتشبثوا بسلاحهم حتى آخر نفس فيهم، والحانات والقدور وأقداح النبيذ التي لم يفرغ العملاء من شربها، والموائد والأواني والأوعية التي احتفظت بأصناف الطعام والفاكهة والبيض في مواضعها، ورغيف الخبز الذي احترق وتفحم وظل ينتظر آكله الغائب أكثر من سبعة عشر قرنا، وحوانيت الحدادين والنجارين والخزافين والخبازين والطحانين وأدواتهم التي لبثت تترقب أصحابها ليبعثوا فيها الحياة التي أطفأتها الكارثة، والبيوت الرحبة التي أعيد بناؤها، والحمامات والأسواق والملاعب والمسارح والمشارب والمنتديات العامة والخاصة والشوارع والحارات والباحات والساحات، والنقوش والصور والكتابات على الجدران، والكلمات والضحكات والقبلات والهمسات والصرخات والزفرات التي اختنقت فجأة ولم تترك لها الفرصة حتى للبكاء والاسترحام أو اللعن والاحتجاج.
2
سوف تتحسر على الكارثة الفظيعة، وربما استرسلت في تأملات حكيمة - وإن تكن غير مجدية - عن معنى الحياة وقيمتها أو انعدام قيمتها، وعن هول القدر الذي يمكن أن يصيب الإنسان وما زال من الممكن أن يصيبه، ولكنك ستجد نوعا من السلوى والعزاء عن تلك المصائب التي لا حيلة للإنسان فيها ولا سلطان لعلمه عليها (حتى الآن على أقل تقدير)، وسيختلف شعورك أشد الاختلاف عما أحسست به وأنت تشاهد بقايا مدينة زاهرة خربها مستبد طاغية أو قائد عسكري فظ أو قبيلة أو طائفة أو جماعة من الجماعات الهمجية التي كان القتل الوحشي غايتها وتسليتها في تلك العصور الغابرة - ولم يزل كذلك حتى أيامنا هذه التي نشهد فيها ذبح ألوف الأبرياء والأطفال، واغتصاب ألوف البنات والنساء، وإهانة الجسد والروح البشري وإذلالهما في البوسنة - بينما يدير حماة الديمقراطية والحرية رءوسهم وأبصارهم بعيدا، مكتفين بشجب العدوان والمطالبة بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان دون أن يحددوا من هو هذا الإنسان؛ هل هو الذي يسارعون بتحريك جيوشهم الجرارة لمساعدته وضمان أمنه حتى لو كان دولة الإرهاب المسلط على الأطفال العزل إلا من الحجارة، أم هو الذي يكتفون بإلقاء فضلات صدقاتهم إليه باسم المساعدات الإنسانية، أم هو أخيرا ذلك الذي يحتشدون لتأديبه وتعريته من أسلحة «الدمار الشامل» التي يمتلكها طفلهم الإرهابي المدلل المزروع في قلب أمتنا، ولن يتورع عن إلقائها على مدننا متى شاء؟ (5) لن نستطيع بطبيعة الحال أن نستسلم لإغراء الحديث عن مصائر المدن في الزمن القديم والوسيط والحديث والمعاصر، ولا في الأسباب المتناهية التعقيد وراء نشوئها وتطورها ثم انحلالها وتدهورها أو خنقها وحرقها في أيام أو ساعات أو حتى في لحظات. فمن الممكن أن نذكر روما قاهرة العالم القديم وكيف خربها برابرة القوط الغربيين بقيادة الأريك عام 410 ميلادية قبل أن تسقط سقطتها النهائية عام 476م، ومن غير الممكن أن نغفل شأن الإمبراطورية العربية الإسلامية التي طلعت شمسها في الوقت الذي مالت فيه شموس إمبراطوريات أخرى إلى الأفول - الرومانية والبيزنطية والفارسية الساسانية - وكيف توغلت جيوش الفتح رافعة راية الحق والإخاء والمساواة في شمال أفريقيا وآسيا وأوروبا، وانتقلت مراكز الحضارة العالمية الجديدة من مكة والمدينة إلى مدن وعواصم أخرى جرى عليها ما يجري على مدن البشر من نشوء وتطور وذبول وانهيار، وسرى عليها ما يسري على الحياة والأحياء من سنن الصراع والتحول التي تتحكم فيها قوانين موضوعية وأخرى ذاتية معقدة متشابكة يحاول المؤرخ أن يستخلصها من أمواج الأحداث التي تبدو في الظاهر كأنما تحركها المصادفة العمياء. ولن نستطيع في هذا المجال المحدود أن نذكر كم من المدن الإسلامية ازدهر وكم منها اندحر واندثرت معه عمائر ومساجد وقصور ومدارس وقلاع وأسوار وبيمارستانات (دور استشفاء) وحمامات وطرق وجسور وبيوت لم يبق من معظمها إلا آثار وشواهد نادرة أو بقايا كنوز ومخطوطات وقطع فنية محفوظة في متاحف الشرق والغرب، وإن بقيت شعلة الإيمان حية في قلوب ما يزيد على ربع سكان الأرض تقاوم رياح السموم التي تهب عليها اليوم من كل الجهات كما قاومت من قبل أعاصير التخريب والتدمير مع زحف هولاكو على بغداد وحرق جيوشه لها سنة 656ه/1258م وقتلهم آخر الخلفاء العباسيين، واحتلال غازان خان التتار وحفيد هولاكو لدمشق وبلاد الشام في نهاية القرن السابع الهجري والثالث عشر الميلادي على عهد سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون، وغزو تيمورلنك لها في سلطنة الناصر فرج بن الظاهر برقوق، في القرن التاسع الهجري والخامس عشر الميلادي.
إن كل المدن التي مررنا عليها مرور العابرين لا تخرج عن كونها أمثلة على ارتفاع مدن البشر وازدهارها، وتعرضها بالأمس واليوم - ربما أكثر من أي وقت مضى - للسقوط والانهيار، فهل نقول إن هذه المدن كانت تحمل بذور الفساد والهلاك من بداية أمرها، وأنها كانت وما تزال حفيداتها كذلك أبعد ما تكون عن «اليوتوبيات» التي تصورها الأدباء والفلاسفة في مختلف العصور والحضارات، أو عن المدن الفاضلة على حد تعبير الفارابي (255-339ه/870-950م) في كتابه المشهور؟ هل يمكننا القول بأن بعضها قد اقترب من المثال البعيد أو المستحيل في مرحلة من مراحل تطوره التاريخي والحضاري على أقل تقدير، أم نصفها - في بعض مراحل عمرها أيضا - بما وصف به هذا الفيلسوف المتصوف ما سماه بالمدن الجاهلية أو الجاهلة، والمدن الفاسقة والمبدلة والضالة، هذا إن لم نسمها المدن الظالمة أو المظلومة؟ وهل يصلح المثل الأعلى الذي رسمه كتاب المدن الفاضلة أو اليوتوبيات لأن تقاس عليه المدن الواقعية التي تضطرب بأنفاس بشر واقعيين تتضارب مصالحهم وطباعهم ونزعاتهم وأحلامهم، مع العلم بأن صور «اليوتوبيات» نفسها وملامحها وأهدافها قد تنوعت إلى حد التعارض والتناقض بين اليوتوبيا المجردة إلى حد الاستحالة، والمذهبية إلى درجة التصلب وإنكار طبيعة البشر، واللامعقولية المغرقة في التشاؤم من المستقبل المخيف إلى الحد الذي وصفت معه باليوتوبيات المضادة «وإن لم يمنع هذا من تحقق بعض تنبؤاتها المرعبة بصورة جزئية، على الأقل في مجتمع الإرهاب والتجسس والتصفية وغسل المخ كما في رواية 1984 لجورج أورويل، أو مجتمع تصنيع البشر وتفريخهم كما في رواية العالم الشجاع الطريف لألدوس هكسلي». (6) لنصل الآن إلى «ماهاجوني» هذه المدينة «غير الفاضلة» أو اليوتوبيا المضادة التي ترسم نموذجا أسود السخرية للمدينة «الرأسمالية» الواقعية واللامعقولة في آن واحد. والحق أن صاحب هذه الأوبرا المضادة «وهذا هو الذي سنعرض له بعد قليل» وهو الشاعر والكاتب المسرحي الاشتراكي الشهير برتولد برشت (1898-1956م)
3
لم يصرح بأن أوبراه يوتوبية أو مضادة لليوتوبيا. ولكن من الواضح أنها تقدم أبشع نموذج يمكن تصوره للمجتمع الرأسمالي بكل شره وقسوته وموبقاته. وهذا النموذج نفسه ينطوي ضمنا على الإحالة إلى ضده، ألا وهو نموذج المجتمع الاشتراكي الذي يفترض الشاعر خلوه من صور العسف والقمع واستغلال الإنسان واستعباده.
ولا بد من الحديث عن هذه الأوبرا والظروف التي أحاطت بكتابتها والأهداف التي ابتغاها برشت من ورائها، بجانب الحديث عن محتواها وشكلها وشخصياتها ومواقفها التي تجسد في جملتها الجحيم الرأسمالي على الأرض، وذلك قبل أن نناقش مشكلة المدينة اليوتوبية الفاضلة التي تطرحها بديلا عن ذلك الجحيم لكن نتحقق من وجودها أو عدمها. (7) تبدأ هذه الأوبرا بالشروع في تأسيس مدينة الذهب ماهاجوني، فبالذهب يمكن أن تقام مدينة الجنة أو جنة المدن التي يذهب إليها المتعبون الساخطون على المدن القديمة، مدن الفوضى والضجيج التي لم يبق فيها شيء يمكن أن يتمسك به الإنسان؛ لأن الشر قد انتشر في كل مكان، والرحمة والأخوة اختفيا من الأرض. وتطالعنا اللوحة الأولى بثلاثة مغامرين هم فيللي وموسى ومعهما تاجرة نشطة تدعى الأرملة بجبيك. لقد توقفت بهم عربة نقل قديمة في منطقة جرداء إلا من نفر يعملون في استخراج الذهب، وتغادره محملة برجال امتلأت جيوبهم بالذهب! وتقترح الأرملة أن ينصبوا خيمتهم ويرفعوا فوقها علما ينبه السفن الرائحة الغادية إلى مدينة السعادة واللذة والأحلام التي تقترح إقامتها في المكان نفسه، ونفهم من كلام الأرملة أنها لن تكون نسخة من مدن الضجيج والصراع والعمل والشقاء التي «تسيل تحتها المجاري وينتشر فوقها الدخان» بل ستكون الفردوس الذي يباح فيه كل شيء، وتمر أيام الأسبوع بلا عمل، ويتوافر «الجن والويسكي ولحم الخيول والنساء»، ويجلس الرجال كسالى بجانب الجدران وهم يدخنون ويتأملون منظر الغروب.
ويوافق الجميع على تأسيس مدينة الحب والأحلام الجديدة التي ستكون كالشبكة تصطاد كل طائر يمر، وتعوض اللاجئين إليها عن حياة الضياع التي عاشوها في المدن اللعينة التي عصفت بها رياح الغدر والجريمة «فماتت السكينة، وفقد السلام، والأمان». (8) ستكون ماهاجوني إذن هي النموذج؛ الضد للمدن القديمة التي يعذب فيها الإنسان ويستعبد ويهان، وستقدم البديل عن فساد الرأسمالية بالمزيد من الفساد الرأسمالي، وسرعان ما تنمو المدينة الجديدة وتزدهر. فما هي إلا أسابيع قليلة حتى يهاجر إليها «الحيتان وأسماك القرش»، وتفد إليها «جيني» ومعها ست عاهرات يغنين بالإنجليزية أغنية «ألاباما» التي يسألن فيها عن أقرب بار، ويؤكدن أن «السيدات» لا يستغنين عن الرجال والدولارات، وإلا هلكن كما تهلك الحيوانات. ولا تكاد تمر سنوات قليلة - كما تقول اللوحة الرابعة - حتى تزحف مواكب الساخطين من المدن اللعينة إلى جنة المدن ماهاجوني. ومن هؤلاء الساخطين أربعة رجال قضوا سبع سنوات من عمرهم في قطع الأشجار من غابات ألاسكا وسط البرد والثلوج، ثم جاءوا إليها وفي جيوبهم أوراق بنكنوت، وعلى أفواههم أغنية «هيا إلى ماهاجوني» التي تقول إنها جديرة بأن يعيشوا فيها لأن هواءها رطب منعش، وفيها الويسكي وموائد البوكر، ولا أحد يلقي عليهم بالأوامر والنواهي والتعليمات .
ويهبط الرجال الأربعة - باول أكرمان وياكوب شميت وهينريش ميرج ويوسف ليتنر الذي يسمونه ذئب ألاسكا - ميناء ماهاجوني فتستقبلهم الأرملة النشطة مرحبة، وتعرض عليهم كل المتع الممكنة وفي مقدمتها النساء. ويحتاج الأمر إلى شيء من المساومة والفصال، وتضطر التاجرة إلى تخفيض أسعارها مرتين حتى ترضي الزبائن العائدين من ألاسكا، في جيوبهم ذهب، وفي عظامهم برد الشتاء. ويهم الأربعة بالاتجاه إلى المدينة فيلفت أنظارهم رجال يحملون حقائبهم.
في طريقهم إلى الميناء لانتظار السفينة التي تقلع بهم. ويقول أحد الزبائن إن شيئا لا بد أن يكون فاسدا في المدينة، وإلا ما تركها هؤلاء المسافرون. وتخفض الأرملة أسعارها للمرة الثالثة، وتغني جيني مع العاهرات الست طالبة من باول أكرمان أن يجلس على ركبتها ويشرب من كأسها، فيصمم الرجال الأربعة على الذهاب إلى ماهاجوني!
وتعلن اللوحة السابعة أن للمشروعات الكبرى أزماتها، ومنها بطبيعة الحال هذا المشروع الرأسمالي لمدينة الغرائز والأحلام، كما تعرض اللافتات على المسرح إحصائية بالجرائم التي ترتكب في ماهاجوني وبحالة الأسعار المتقلبة فيها. ويؤكد فيللي وموسى أن تجارة المدينة لم تحقق الأرباح المنتظرة منها، وتشكو الأرملة الجشعة من قسوة الحياة عليها! وتخيب آمال الحطاب الطروب «باول أكرمان» في المدينة بعد أن يرى لوحة كتب عليها «ممنوع»؛ لأنه دخلها وهو يعتقد أن كل شيء فيها مباح. لقد سئم الشراب الرخيص، والتدخين، والنوم والسباحة، كما سئم الهدوء الذي يسودها والحياة البسيطة والطبيعة العظيمة؛ ولهذا قرر أن يتركها إلى مدن أخرى أكثر صخبا وضجيجا، وألا يرجع إليها أبدا مهما حاول أصدقاؤه إقناعه لأن فيها جرعة السلام زائدة، وفي الحياة راحة ليس اسمهما الملال والسأم، وفي الوجود جنة ليس اسمها الفراغ والعدم، وبعد الإقناع والتهديد من جانب أصحابه الذين لا تأخذهم الشفقة به حتى يرتد لوعيه ويصبح إنسانا، يجرونه معهم إلى المدينة وهو يبكي متوسلا: «من قال بأن لدي الرغبة في أن أصبح إنسانا.» (9) وتطالعنا اللوحة العاشرة بكارثة توشك أن تقع على رأس ماهوجوني؛ ففي خلفية المسرح كتابة بحروف ضخمة تقول: «الطيفون.» تعقبها كتابة أخرى تحذر أهالي ماهوجوني بهذه الكلمات: «الإعصار يتحرك نحو ماهاجوني.» وتئن الجوقة باكية: «أواه للحدث الخطير، أواه من هول المصير.» إن مدينة السرور والأفراح يزحف نحوها الخراب، والجوقة حائرة لا تدري ماذا تفعل في الليلة المرعبة: «أي جدار ها هنا يحميني. وأي كهف ها هنا يئويني؟»
ويشتد إعصار الرعب في قلوب سكان المدينة في انتظار الإعصار الحقيقي. وبين اليأس والرجاء تحاول جوقة الرجال أن تهدئهم وتشد أزرهم: «تماسكوا، لا تقلقوا من نذار الدمار، إذا انطفت من أرضنا الأنوار، لا تيأسوا وكونوا أقوياء، هل ينفع البكاء من ينازل الإعصار.» وبينما تتردد نغمة عدمية لا تخطئها الأذن في أغنية العاهرة المسكينة جيني التي لم تجد السعادة ولا الحب في ماهاجوني ولا في أي مكان: «وأينما ذهبت لا أمل هناك، وحيثما وجدت، مصيرك الهلاك، وخير ما تفعله، أن تنزوي في صمت، حتى يجيء الموت.» تفاجأ بصديقها باول أكرمان، الذي سبق الكلام عنه يقتحم حصار الخوف والوجوم بضحكاته المجنونة، وصيحات أغنيته التي يمجد فيها الإنسان بكلمات تذكرنا بالعبارات الشهيرة التي تقولها الجوقة في مسرحية أنتيجونا لسوفوكليس: «شر هو الإعصار والطيفون شر منه، وأسوأ الشرور كلها الإنسان!»
ويواصل الحطاب باول أكرمان غناءه ودعوته للمرح واستباحة كل متعة ممكنة في كل لحظة متاحة قبل أن يداهمهم الموت وينزل الستار، ويسترسل في عدميته المادية المستفزة التي تسري في إنتاج برشت الغنائي والمسرحي منذ مسرحيته المبكرة «بعل» إلى آخر أعماله الناضجة، ويحاول أن يقنع أهالي ماهاجوني بارتشاف اللحظات الباقية في كئوس حياتهم التي توشك أن تتهشم دون أمل في أن تلتئم من جديد: «لا تحلموا أن يرجع الصباح من جديد، فكل راحل مضى على الطريق لا يعود.» ولماذا يقلقون إذا كانوا سينتهون في آخر المطاف وينفقون مثلما ينفق كل حي، يعود للتراب للظلام الأبدي، ولن ترى عيونه، أشعة النهار، فليثبتوا إذن في مواجهة الإعصار، وليكونوا إعصارا أقوى منه! لأن كل ما يجلبه الإعصار من دمار، وكل ما يحدثه الطيفون من جنون، يمكنهم أيضا أن يجلبوه ويحدثوه بصورة أقوى وأشد، وكيف يفعلون هذا؟ بالتخلي عن كل أمل أو عزاء والاستسلام لجنون المرح والسعادة والكبرياء. (10) هكذا يكتشف الحطاب البسيط دستور السعادة البشرية، ويعلن إنجيل الفردية الرأسمالية التي تبيح للإنسان أن يسرق ويغتصب حقوق الآخرين ويقتحم بيوتهم وينتهك أعراضهم ويفعل ما يعجبه ويفكر فيما يحلو له وينفذه على الفور.
ويقف الجميع تحية للحطاب البسيط باول، ويتقدمون نحوه - بعد خلع قبعاتهم - ليقدموا إليه تهانيهم الحارة، وتتراجع الأرملة، وهي العقل المدبر للمدينة والرمز المجسد للعقلية الرأسمالية، عن القوانين والأوامر التي أصدرتها بمنع الضحك والأغاني الخليعة في ليلة الإعصار، وذلك بعد أن «يرش» عليها أوراق البنكنوت التي أخرجها من جيبه كما يخرج الساحر الكتاكيت! بل يصل بها الأمر إلى حد مخاطبة الجميع قائلة: «افعلوا ما تشتهون، كل ما يحلو لكم، طالما الإعصار آت بالخراب كل شيء مستباح يا صحاب.» وهكذا يصبح كل شيء مباحا في المدينة، ويتحول الإنسان إلى إعصار لمواجهة الإعصار، ويغني الحطابون الأربعة لمجرد أن الغناء ممنوع أو مكروه في ليلة الخطر التي يليق بها الصمت والخشوع. ويتقمص الحطاب الذي اكتسب قوانين السعادة البشرية مسوح القسيس، ويلقي موعظة طويلة من إنجيل الفردية العاتية التي بشر بها: «كما يوسد الإنسان نفسه ينام، ولن يغطيك سواك، لن يقيك لفح البرد والظلام، كلما داس أحد، فأنا ذاك الهمام، وإذا ديس أحد، فهو أنت في الرغام.» ويظل يهتف بالناس أن يرتكبوا كل محرم قبل أن يرتكبه الإعصار. ولكن الإعصار يتجنب المدينة في اللحظة الأخيرة. ومن هذه اللحظة أيضا يصبح شعار المدينة هو كلمة «مباح» التي تعبر عن مضمونها الأغنية التي يغنيها الجوقة: «تذكروا تذكروا، في البدء يأتي الأكل والطعام، وثانيا العشق والغرام، تتلوهما الملاكمة، والشرب طبق العقد، والملاكمة، وقبل كل شيء والمهم يا رجال، تأكدوا على الدوام واذكروا في كل حال، هنا يباح كل شيء، كل شيء ها هنا حلال.» (11) ويمر العام على المدينة فتزداد تجارتها ازدهارا، ويقبل الناس على متع الأكل والحب ومباريات الملاكمة، وتتعاقب المشاهد الأربعة التالية لتبين لنا كيف يقبل الرجال والنساء على المتع المتاحة في هذه المدينة الملعونة دون غيرها من المدن الفقيرة المحرومة؛ ففي المشهد الأول يموت ياكوب النهم بعد أن يلتهم عجلا بأكمله! وفي المشهد الثاني نستمع إلى حوار بين جيني وباول نفهم منه أن الحب يشترى ويباع مثل أي سلعة أخرى. وتمر الجماهير المنطلقة كالوحوش لتعلن الحريات الأربع التي سبق أن أكدها الحطاب باول أكرمان في موعظته، ومنها يتضح أن الإنسان يمكنه أن يفعل ما يشاء بشرط واحد هو أن يكون لديه المال الكافي للشراء، ويأتي المشهد الثالث ليعرض علينا مباراة الملاكمة التي تدور بين موسى العتل الضخم - ذي الأقانيم الثلاثة كما تسميه المسرحية - وجو الضعيف الهزيل الذي سمته ذئب ألاسكا، وهي مباراة يراهن فيها المتفرجون على الفائز كما في كل المباريات، ويسأل جو أصدقاءه أن يراهنوا عليه، ولكن الأصدقاء - باستثناء باول - يرفضون تضييع أموالهم في مباراة غير متكافئة على الرغم من استعطافه لهم بحق ذكريات البرد والكد والعذاب المشترك أثناء وجودهم في صقيع ألاسكا. وتنتهي المباراة - كما هو متوقع لها - بموت ذئب ألاسكا بضربة قاضية وخاطفة. ويعرض علينا المشهد الرابع كيف تصيب الحطاب البسيط باول أكرمان نوبة كرم مفاجئة تجعله يدعو الجميع إلى الشراب على حسابه، بعد أن رأى كيف يسقط الإنسان في لحظة واحدة كما حدث لصديقه جو. وتدور الكئوس على رجال ماهاجوني الذين رحبوا بالدعوة وأخذوا يغنون: «في البر والبحر، يسلخ جلد الناس، يعرضه النخاس، بباهظ السعر، لأجل هذا يجلسون طول الليل والنهار، ويعرضون جلدهم للعابرين والتجار، لأن جلدهم بضاعة توزن بالدولار!»
لكن الأرملة المتيقظة لتجارتها لا يعجبها الحال، فتقطع أغنية الجلود قائلة: «والآن ادفعوا الحساب يا سادتي!» غير أن باول لا يملك شيئا، ويستنجد بحبيبته جيني لتسعفه بالمال أو تهرب معه إلى أي مكان. ويحاولان أن يصرفا الأنظار عن ورطتهما، فيصعدان فوق مائدة البليارد مع صديقهما هنيريش ويمثلون أمام الجميع رحلة بحرية تحاصرها الرياح والأمواج المضطربة والسحب السوداء في طريقهم عبر المحيط إلى ألاسكا، ويستمتع الجمهور باللعبة ولكنه ينفض عنها عندما يفاجئ موسى كالوحش قبطان الرحلة ويطالبه بدفع الحساب. ويفتش باول في جيوبه فلا يجد شيئا، وتطلب الأرملة من هينريش وجيني أن يمدا له يديهما، فينصرف الأول صامتا، وتسخر الثانية من الطلب الغريب مؤكدة استحالته بأغنية طويلة عن العبر التي استفادتها من حياتها القاسية التي علمتها أن الإنسان العاقل يختلف عن الحيوان، وأنه كما يوسد الإنسان نفسه ينام، ولن يغطيك سواك، لن يقيك لسع البرد والظلام، وأن الحب شيء رائع ولكنه لا ينفع ولا يدفئ ولا يطعم الجوف عندما يعمر المرء ويشيب شعره.
ويقيد باول تمهيدا لمحاكمته، ويهتف موسى الضخم بمن بقي من الحاضرين: «مرحى يا ناس، رجل لا يملك أن يدفع ثمن الكاس، قحة وغباء ورذيلة، والأسوأ منها الإفلاس.» ثم يقول لهم وهو يصرفهم: «بالطبع جزاء الرجل الشنق، وحكم القانون الموت.» (12) ويقدم باول إلى محكمة ليست أسوأ من غيرها، ويتولى موسى مهمة المدعي، وتجلس الأرملة على منصة القضاء، ويقوم فيللي بالدفاع. وتعرض في البداية قضية رجل ثري متهم بالقتل العمد. ويتحمس موسى في بيان التهم الفظيعة في حق الإنسانية، ولكنه يختم مرافعته بطلب البراءة بعد أن أفهم المتهم القاضية بالإشارة أنه سيدفع للمحكمة رشوة ضخمة. وإذ تسأل المحكمة عن الأضرار التي أصابت المجني عليه فلا يستطيع المقتول أن يجيب على السؤال، تعلن المحكمة براءة المتهم. ثم تنتظر قضية باول وتوجه إليه تهمة الامتناع عن دفع الحساب. وتعلن الأرملة ومعها موسى وفيللي أنهم هم المجني عليهم. وتعرض على هيئة المحكمة تهم أخرى سبقت تهمته الأخيرة، فهو يستحق الحبس يومين بتهمة القتل غير المباشر لصديقه ذئب ألاسكا في حلبة الملاكمة، كما يستحق الحرمان من شرفه لمدة سنتين بسبب الإزعاج الذي سببه في ليلة الإعصار، والسجن أربع سنوات مع وقف التنفيذ لإفساده الفتاة جيني، وعشر سنوات لإنشاده أغاني ممنوعة في ليلة الإعصار الرهيبة، أما العجز عن دفع الحساب فهي تهمته الكبرى التي يستحق عليها الموت كما ينطق بذلك ضمير الرأسمالية على لسان القاضية: «ولأنك ترفض أن تدفع، ثمن ثلاث زجاجات، حكم عليك حضوريا بالإعدام.» ويؤمن أعمدة الرأسمالية الأربعة الذين تولوا المحاكمة على كلامها بقولهم: «بسبب الفقر، أعظم جرم يرتكب على ظهر الأرض، وفي البر أو البحر.» (13) وتأتي اللوحة التاسعة عشرة لتعرض علينا تنفيذ الحكم بالإعدام، ويقرر برشت في عنوان اللوحة أن القراء أو المشاهدين قد يستنكرون إعدام باول أكرمان، ولكن لم يكونوا ليقبلوا دفع الحساب عنه، فإلى هذا الحد بلغ احترام المال في عصرنا، ويبدأ المشهد بوداع مؤثر بين باول وجيني يؤكد فيه كل منهما أنه أمضى مع صاحبه أياما جميلة. ويتجه باول مع صديقه الوحيد هينريش إلى مكان التنفيذ بينما تمر بهم جوقة الرجال التي تعيد أغنيتها عن الحريات الأربع في المدينة: تذكروا، في البدء يأتي الأكل والطعام، وثانيا العشق والغرام ... إلى آخر الأبيات التي سمعناها من قبل. ويسأل باول في دهشة إن كانوا سيعدمونه حقا، فتطفئ التاجرة-القاضية دهشته بكلماتها الباردة: «بالطبع! هذا أمر معتاد.» ويسأل باول: «أفلا تخشون الله؟!»
فيجيبونه على سؤاله بتمثيل مشهد عن إله أسطوري هبط إلى ماهاجوني، وذلك بعد أن يأمروه بالجلوس على الكرسي الكهربائي.
ويبدأ أربعة رجال في تمثيل المشهد الذي يحكي كيف هبط ذلك الإله الأسطوري إلى ماهاجوني ليكتشف بنفسه جرائمهم ويصب لعنته عليهم، ثم يأمرهم بأن يسبقوه إلى الجحيم فيرفضون الذهاب معه لسبب بسيط، وهو أن حياتهم على الأرض كانت جحيما في جحيم: «حذار يا أصحاب، لا تنقلوا قدما، وغلقوا الأبواب، وأعلنوا الإضراب، والثورة العظمى، لا لن تجر أحدا من شعره إلى الجحيم؛ لأننا عشنا الحياة في العذاب والجحيم!» وينتهي تمثيل المشهد باكتشاف باول أكرمان الحقيقة التي غابت عنه. فعندما جاء إلى هذه المدينة ليشتري السعادة بالمال، كان قد أصدر قرار سقوطه بنفسه وختمه بخاتمه. وها هو ذا يجلس على الكرسي الكهربائي وهو فارغ من كل شيء، أو كأنه الفراغ نفسه. كان يقول إن من حق كل إنسان أن يقتطع اللحم الذي يعجبه بالسكين التي تعجبه. لكن اللحم كان فاسدا، والسعادة التي اشتراها كانت أبعد ما تكون عن السعادة، والحرية من أجل الكسب والربح هي العبودية ذاتها، شرب فازداد عطشا، وأحب ولم يزده الحب إلى شعورا بالوحدة. وهو الآن يستجدي شربة ماء فيطوق موسى الضخم رأسه بالخوذة فجأة وهو يقول: «انتهى كل شيء!» (14) وتأتي اللوحة الأخيرة فتقرأ عنوانها: في ظل الاضطراب المتزايد، والغلاء الفاحش، وعدوان الجميع على الجميع، تظاهر الباقون على الحياة في مدينة الشباك دفاعا عن مثلهم العليا، دون أن يتعلموا، وتطالعنا في خلفية المسرح لوحات تمثل المدينة وهي تحترق. ثم تتوالى مواكب المظاهرات التي تتدافع ويختلط بعضها ببعض حتى النهاية، يمر الموكب الأول بقيادة المغامرين الثلاثة المسئولين عن صعود المدينة وسقوطها، حاملا لافتة كتب عليها: من أجل الغلاء. ولأجل صراع الكل مع الكل. لحالة الفوضى في مدننا، لاستمرار العصر الذهبي. وكل شيء في مدينة الجمال ماهاجون، وكل ما صوره الخيال من جنون، يمكنكم شراؤه بالمال؛ لأن كل شيء سلعة تباع. ويعبر المتظاهرون في الموكب التالي حاملين لافتات كتب عليها: لأجل الملكية، ولتجريد الغير من الملكية، للتوزيع العادل للخيرات العلوية، والتوزيع الظالم للخيرات الأرضية، لشراء الحب وبيعه، للفوضى الفطرية للأشياء، لاستمرار العصر الذهبي، ثم يمر الموكب الثالث بلافتات كتب عليها شعارات أخرى معبرة عن عفن النظام الرأسمالي ومبلغ فساده، لحرية الأغنياء، للشجاعة ضد العزل، لشرف القتلة، ومجد القذارة، لخلود الحقارة، واستمرار العصر الذهبي. ويرجع الموكب الأول الذي يؤكد فيه المتظاهرون أن من يملك المال يجد كل شيء في ماهاجوني؛ لأن المال هو الشيء الوحيد الذي يجب أن يتمسك به الإنسان، وكل شيء يشترى بالمال أو يباع، وليس للفقير غير الذل والضياع. ويلحق به الموكب الثالث، فلا يلبث أن يتحول إلى جنازة على الطريقة الأمريكية، ينشد فيها المتظاهرون على روح باول: «والآن لا بد من الدولار.» وغيره من أبيات مقاطع أغنية ألاباما التي رددتها الجوقة قبل ذلك كثيرا؛ ينشدونها على روح باول أكرمان وغيره من ضحايا مجتمع رأس المال الهمجي المستغل، ثم يتبع موكب الجنازة موكب خامس يحمل المتظاهرون فيه جثة باول أكرمان، وفوق رءوسهم لافتة كتب عليها: «من أجل العدالة» بينما يغنون قائلين إنهم لا يستطيعون أن يصنعوا له شيئا .
وأخيرا يأتي الموكبان السادس والسابع وفوق رءوس المتظاهرين لافتتان كتب عليهما: لأجل الغباء، ولاستمرار العصر الذهبي، بينما ينشد المغنون أغنية تؤكد مرة أخرى أنهم لا يستطيعون أن يصنعوا للميت شيئا. وتتلاحق المواكب وتختلط وتتداخل ويتصارع بعضها مع بعض ليرتفع في النهاية صوت ممدود يائس: «لن نستطيع أن نساعد أنفسنا أو نساعد أحدا ...»
4 (15) تلك هي أوبرا «ماهاجوني» التي أتم برشت كتابتها بين عامي 1928م و1929م وعرضت بصورة تجريبية في الاحتفالات الموسيقية المشهورة التي تقام في مدينة بادن-بادن، ثم رفع عنها الستار لأول مرة في شهر مارس عام 1930م في مدينة ليبزيج. ويبدو أن النجاح المثير الذي لقيته أوبرا القروش الثلاثة في سنة 1928م (وقد أعدها عن أوبرا الشحاذين للكاتب الإنجليزي جون جاي (1827م) كما لحنها كذلك صديقه الموسيقي كورت فايل) قد شجعه على مواصلة محاولاته مع «الأوبرا الملحمية» التي تصور تناقضات العادات والأخلاق والقيم السائدة، وتدفع المتفرج إلى الفعل السياسي واتخاذ موقف نقدي وثوري مما يشاهده ويسمعه، وتجمع بين العاطفية المسرفة (التي تشي بحنين رومانسي وتشاؤم عدمي لم يبرأ منهما أبدا!) والسخرية المرة المستفزة، والأغاني العدوانية والبكائية التي تذكرنا بمواويل المغنين الفقراء المتجولين - من نوع البالاد؛ أي الحكايات الشعرية أو القصائد القصصية - وبأغنيات ومرثيات الشاعر المتشرد الضائع فرانسو فيون (ولد حوالي 1431م) الذي طالما تأثر به وبمواطنه رامبو (1845-1891م) هذا العبقري الشريد ورائد التجديد في بنية الشعر الأوروبي الحديث، غير أن حظ ماهاجوني كان أسوأ من حظ القروش الثلاثة؛ فقد أثار عرضها الأول الذي أشرنا إليه فضيحة هائلة بين النقاد والمتفرجين، وقوبلت بمظاهرات الاحتجاج والاستنكار من الجمهور «البرجوازي» ردا على مواكب التظاهرات الاشتراكية والثورية التي ضجت بها اللوحة الأخيرة للأوبرا. وقد حاول برشت أن يبرر الفضيحة بقوله إن منظر ياكوب النهم - الذي مات على المسرح كما رأينا بعد افتراس عجل كامل! - كان أكثر ما أثار أعصاب الجمهور؛ لأنه أوضح بغير تعليق من المؤلف أن هناك من يموتون من التخمة، وترك للمتفرج أن يعرف بنفسه أن هناك أيضا من يموتون من الجوع. ولعل أكثر ما أشعل غضب المتفرجين من الطبقة الوسطى في الثلاثينيات من هذا القرن هي تلك اللوحة التي تبشر بالعصر الذهبي (وقد قصد به العصر الذي ينتهي فيه صراع الطبقات بانتصار الاشتراكية «العلمية» واستيلاء طبقة العمال على الحكم وعلى وسائل الإنتاج)، بالإضافة إلى الشعارات الصارخة التي تحملها مواكب المتظاهرين في نهاية العرض، وتفضح فيها جرائم الرأسمالية: من صراع الجميع ضد الجميع، والتوزيع العادل للخيرات السماوية مع التوزيع الظالم للخيرات الأرضية، والحب الذي يشترى بالمال، والفوضى الطبيعية للأشياء، وحرية الأغنياء، وشجاعة الجبناء، وشرف السفاحين، وعظمة القذارة، وخلود الحقارة، وكلها تعرب عن الأفكار والأشواق والأحلام التي كانت تضطرم في قلوب الاشتراكيين والفوضويين في ذلك العصر المضطرب، فكيف لا تثير ثائرة «البرجوازية» في المجتمع وفي السلطة الحاكمة؟ وكيف لا تغضب الرأسماليين الذين راحت تشهر بفوضى مبادئهم التي تمثلها المواكب الكاسحة على خشبة المسرح، ويرمز لها الرجل الميت الذي لن يستطيع أن يساعد نفسه ولن يستطيع أحد أن يساعده، وهو بطبيعة الحال لا يعبر إلا عن الرأسمالية التي لن تنجو من الهزيمة والفناء الحتمي كما تتنبأ بذلك قوانين المادة والتاريخ «الحتمية»؟ ومن أغرب مصادفات الفن وتقلبات أقداره أن هذه الأوبرا نفسها عرضت بعد ذلك بعام ونصف العام على مسارح برلين فتلقاها الجمهور البرجوازي نفسه بالتصفيق الحماسي! وربما يرجع السبب في رد الفعل غير المنتظر إلى أن التناقضات والأزمات الاجتماعية - وسط أزمة التضخم والإفلاس المعروفة في الثلاثينيات - كانت قد أصبحت موضوعا يشغل الجميع، وتوالت الأعمال الفنية المختلفة التي تتناولها بالوصف والتحليل والتهكم والاحتجاج (ومن أنجحها عروض المسرح السياسي الشعبي أو مسرح الكباريه الذي ازدهر في ذلك الحين ازدهارا كبيرا).
ومن أغربها وأعجبها كذلك أن معظم النقاد الواقعيين أو الاشتراكيين لم يرضوا عنها كل الرضا، فاتهموها بأنها رومانسية وغير علمية ولا موضوعية في تفسيرها للظواهر الاجتماعية، وأنكروا منها عدم تصريحها ب «الحل الإيجابي» - أو الحتمي! - الذي سيتم بقيادة «البرولتياريا» المناضلة التي تحمل مسئولية توجيه التاريخ البشري نحو غايته السعيدة (أي الشيوعية). (16) ومع أن هؤلاء النقاد قد اعترفوا بأن الأوبرا تعبر عن الفوضى السائدة في المجتمع الرأسمالي، وهي في أساسها فوضى اقتصادية - ومن ثم سياسية - ترجع إلى اضطراب علاقات الإنتاج، وافتقارها إلى التخطيط العلمي الذي يحسب حساب الطلب والتوزيع فينتهي بالضرورة إلى التنافس المروع، وتحكم الإنتاج في المنتج، واستغلال صاحب العمل للعامل، وظواهر الاغتراب وأزماته في ظل العلاقات السائدة في المجتمع البرجوازي والرأسمالي (وهي الظواهر التي بدأ هيجل الحديث عنها في فلسفة الحق في سنة 1831م، وأفاض ماركس في وصفها وتحليلها في مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لسنة 1844م التي اكتشفت في القرن العشرين، واستغلها اليساريون الجدد بوجه عام وأصحاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت بوجه خاص في تأكيد اغتراب الفرد وقمعه في المجتمعات الصناعية المتقدمة سواء أكانت شمولية اشتراكية أو رأسمالية ليبرالية)، ومع أنهم يسلمون أيضا بأن الأوبرا قد نجحت في التعبير عن الأزمة التي تتعرض لها مجتمعات المال والاستغلال، وفضحت المبدأ الأساسي لكل الكوارث التي تداهم المجتمعات الرأسمالية بصورة تكاد تكون دورية، وتقوم على تحكم المال في العلاقات الإنسانية بحيث لا يبقى معه مجال للقيم والأخلاق، وبحيث يصبح كل شيء مباحا ما دام كل شيء وكل شخص سلعة تشترى وتباع، مع كل هذا فإن أولئك النقاد قد ساءهم أن يكتشف هذا المبدأ حطاب بسيط - وهو باول أكرمان - وأن يرضخ له عمال مطحونون قضوا سبع سنوات من عمرهم في قطع الأشجار في غابات ألاسكا وثلوجها، فهل أراد برشت أن يكونوا رمزا لملايين المستغلين؟ وإذا جاز هذا فكيف يستقيم مع تفكيرهم أن يعيشوا ويمارسوا مبدأ طبقه أعداؤهم من زمن طويل؟ وكيف يسقطون كالخنازير المتوحشة في حمأة الرذائل التي اختص بها هؤلاء الرأسماليون، ويتحمسون للمتع والملذات المادية التي تنفيها الأخلاق الاشتراكية وتترفع عنها؟ أم أراد برشت أن يقول إن العمال تحت جناح الرأسمالية قد ينالون حقوقا محدودة ويتمتعون بمتع محدودة، ولكنها مؤقتة ومرهونة بازدهار رأس المال والتوسع الاستعماري؟ ربما يكون الأمر كذلك. ولكن كيف يستساغ أن يكون الرجل الميت - وهو بلا ريب رمز الرأسمالية - هو العامل البسيط باول أكرمان؟ هل نفهم من ذلك أن الرأسمالية مقضي عليها بالانتحار الحتمي كما زعم منظرو الاشتراكية وزعماؤها طوال العقود الأخيرة وقبل الزلزلة المفاجئة؟ أم أن قيمة الإنسان وكرامته مرتبطة بثروته ورصيد شيكاته، وأنها تتلاشى حين يعجز عن دفع الحساب؟ أليس في هذا تبسيط شديد لواقع الرأسمالية العالمية التي ما فتئت «تجدد نفسها» (كما يقول كتاب قيم لعالم الاقتصاد المرحوم الدكتور فؤاد مرسي)؟
5
ثم كيف ينطبق هذا على رجل لا يستغل أحدا ولا يملك وسيلة من وسائل الإنتاج في مجتمع مدينة الذهب التي لا تنتج أصلا، وإنما هي أشبه ببار أو ماخور كبير يستقبل العمال والمنتجين ويستنزفهم؟ وهل من المقبول أو المعقول أن تأتي ظواهر الضعة والشر والانحطاط - حتى ولو كان المال من ورائها - من عمال مستغلين لا أصحاب أعمال مستغلين، كخيانة الصديق لصديقه وتخليه عنه في وقت الشدة، بل تخليه عن الجزء الأفضل من ذاته وتنكره للتضحية والوفاء بمجرد أن يتدخل المال بينهما؟
6 (17) بيد أن هذه الانتقادات وأمثالها التي انصبت على جوانب «عدم الاتساق» لم تمنع النقاد من الإشادة ب «الجديد» في هذه الأوبرا والأوبرا التي سبقتها (القروش الثلاثة) والتي لحقتها بفترة زمنية طويلة (وهي إدانة أو محاكمة لوكو للوس التي كانت في الأصل تمثيلية إذاعية ثم تحولت إلى أوبرا في سنة 1951م). وحقيقة التجديد هنا أنها أوبرا «ملحمية» مختلفة تمام الاختلاف عن الأوبرا التقليدية، التي يصفها برشت وصفا لاذع السخرية بأنها أوبرا «مطبخية» تهدف إلى إدماج المتفرج أو المستمع في التجربة وإغراقه في وهم الاستمتاع السلبي بدلا من حفزه على اتخاذ موقف نقدي وثوري واع مما يراه ويسمعه بحيث يشارك رواد هذا الفن العريق في تغيير المجتمع من جذوره وتجاوز الواقع السائد إلى واقع أكثر تقدما وعدلا وإنسانية.
ولكن هل معنى هذا أن ماهاجوني ضد المتعة والتجربة الوجدانية والعقلية والمواقف الفلسفية التي يتيحها فن الأوبرا الرفيع، على الأقل في بعض نماذجه الكبرى - مثل الناي السحري ودون جوفاني وفيجارو وفيديليو - التي لم تكن «مطبخية» خالصة؟!
الواقع أن الأوبرا الملحمية ينطبق عليها ما ينطبق على المسرح الملحمي من الناحيتين النظرية والعملية. ولست في حاجة إلى نقل الجدول المشهور الذي يضع فيه «برشت» الشكل الدرامي التقليدي أو الأرسطي للمسرح في مقابل شكله الملحمي أو الجدلي والثوري؛ إذ طالما ورد هذا الجدول في الدراسات التي وضعت بالعربية عن مسرح برشت أو في الترجمات التي تمت عنه إلى حد الملل
7
فقضية التجديد في الأوبرا كما في المسرح تتجاوز التجديدات الشكلية والتقنية وتتعلق أساسا بالنظرة المختلفة إلى الوظيفة الاجتماعية للمسرح من حيث هو مؤسسة فنية وتعليمية وأخلاقية ينبغي أن تشارك مشاركة جادة في التحول التاريخي والاجتماعي نحو واقع متقدم ومتطور وإنساني على الحقيقة (لا من باب التظاهر والنفاق والزهو بالأقنعة «الثقافية» الزائفة كما يحدث حتى الآن في معظم المجتمعات الرأسمالية والصناعية المتقدمة وفي معظم المجتمعات النامية - أو النائمة في غيبوبتها الطويلة - إن لم يكن فيها جميعا!) هذا التغيير في النظرة إلى الأوبرا وغيرها من الفنون يستجيب بغير شك لمطالب الطبقات الشعبية التي أصبح من حقها أن تستمتع بالفنون - وبخاصة فن الأوبرا - الذي ظل مقصورا على الطبقة الأرستقراطية ردحا طويلا من الزمن؛ أي إنه يلبي حاجة أصيلة إلى إضفاء الطابع الديمقراطي عليها، شريطة ألا تكون هذه الديمقراطية من النوع الذي يقر حقوق الشعب ويمنعه في الوقت نفسه من ممارستها! والأهم من إتاحة فرص استمتاع الطبقات الشعبية المحرومة بالأوبرا هو بطبيعة الحال أن تؤدي دورها بجانب الفنون والمؤسسات الثقافية الأخرى في التعجيل بتغيير المجتمع القائم من جذوره - إذا تعلق الأمر بالمجتمعات الرأسمالية - وتدعيم وجهة النظرة الاشتراكية الثورية، ونقد سلبيات التطبيق ومعوقاته إذا تم عرضها في مجتمع يأخذ بالاشتراكية. ومجمل القول إن «ماهاجوني» أوبرا تمتع المتفرج الذي يسعى إلى المتعة والتجربة الوجدانية لذاتها، فالفن الذي لا يمتع المتلقي لا بد أن يكون فنا فاشلا، ولكن الفرق بينها وبين سائر الأوبرات التقليدية هو أن مضمونها وتشكيلها وموسيقاها وبقية أدواتها «التقنية» تنطوي على عناصر عقلانية وثورية تؤدي - بلغة الجدل - إلى «رفع» المتعة الوجدانية والانفعالية البحتة أو إلغائها أو على الأقل «تنويرها» و«توظيفها » لتحقق الهدف الاجتماعي الأساسي من الفن، وهو تغيير المجتمع القائم وتعزيز التفكير الواعي المستقل والنقد العقلي والموضوعي للتناقضات القائمة؛ أي متعة الثورة على الأوضاع غير الإنسانية التي تنتج الاغتراب وتكرسه، ومن ثم تكون - بلغة الجدل مرة أخرى! - هي متعة نفي النفي أو سلب السلب!
8 (راجع ما سبق قوله عن المشهد الثالث عشر الذي يأكل فيه شميت النهم حتى يسقط ميتا) ومعنى هذا في النهاية أن يغدو الاستمتاع موضوعا للنقد، وهذا نفسه موضوع الاستمتاع، ولكن هل يمكن أن يجرب الإنسان وينفصل في الوقت نفسه عن تجربته ليتأملها وينقدها؟! وحتى إذا جاز هذا الانفصال أو الإغراب بالنسبة للمثل والمتفرج في المسرح الملحمي - وهو أمر تشكك فيه أكثر النقاد وتعذر في تقديري تحقيقه في معظم أعمال برشت على الرغم من كل الأسباب النظرية والعملية التي حشدها له! - فهل يتسنى هذا للأوبرا التي يتركز فيها انتباه المتلقي عادة على الغناء والموسيقى أكثر بكثير من التركيز على المضمون؟ إن برشت لا يعدم الإجابة على هذه الأسئلة. فلو وضعت الموسيقى والمناظر والمؤثرات المختلفة في خدمة المضمون ولم تصبح هي الغاية - كما حدث في رأيه مع التجديدات التي أدخلت على أوبرات فاجنر - لخرجت الأوبرا التقليدية من عزلتها الأرستقراطية ولم تبق أوبرا مطبخية وحسب. ولكن هل نجحت ماهاجوني والقروش الثلاثة في تحقيق هذا الطموح؟ هنا تقتضيني الأمانة أن أتوقف عن الكلام. فلم يتح لي أن أشاهد أيا منها في دور الأوبرا، كما أن معلوماتي عن الأوبرا بوجه عام لا تسمح بأن أفتي بغير علم فيما لا أعرف ولا أتذوق؛ إذ اقتصر حبي للموسيقى الغربية حتى الآن على الموسيقى الكلاسيكية، كما أن تجاربي مع الأوبريت والأوبرا لم يزد عددها على عدد أصابع اليد الواحدة، وربما يكون المعنيون بالأوبرا لبرشت أو غيره أقدر مني على الكلام عن إمكان عرضها على مسارحنا بعد تكييفها لظروفنا، أو إمكان الاستفادة من أسلوبها وهدفها في إبداع أوبرات أو أوبريتات عربية تؤدي الوظيفة الاجتماعية المتوخاة منها (بصرف النظر عن أن فن الأوبرا لم يستطع حتى الآن أن يستميل الأذن العربية والمصرية، أو يؤكد حضوره في وجدان الأغلبية الساحقة من شعبنا) ومن يدري؟ فلعل التفكير في أوبرا محلية بنفس المفهوم الذي أراده لها برشت أن يكون خطوة أولى على طريق توطين هذا الفن العظيم في أرضنا. ولا أنسى في نهاية عرضي لهذه المسألة أن أذكر القارئ بالمحاولة التي قام بها في السبعينيات المرحوم نجيب سرور عندما قام باقتباس أوبرا القروش الثلاثة وتقديمها على مسرح البالون تحت اسم «الشحاتين». وإذا كان هذا العرض لم يكتب له التوفيق في حينه، فليس ما يمنع من استلهامه أو تكراره في صورة جديدة، وفاء لذكرى هذا الشاعر الملحمي الأصيل. (18) إذا صح وصفنا لهذه الأوبرا بأنها «يوتوبيا-مضادة» تقدم صورة لاسعة السخرية والقسوة إلى حد التشويه والتشهير بالمجتمع الرأسمالي، وأنها تتضمن في الوقت نفسه ملامح الأصل الذي تحيل إليه بشكل غير مباشر - وهو «اليوتوبيا» الاشتراكية أو الشيوعية التي تعلقت بها أحلام برشت وجيله، وسخروا لتحقيقها كل الوسائل المتاحة والأسلحة الممكنة في كفاحهم الفني والأدبي والثوري، ولقوا في سبيلها ما لقوا من ألوان الاضطهاد والنفي والتشريد والتعذيب - فلا بد من أن نقف قليلا عند مفهوم «اليوتيوبيا» ونضعها كذلك في تراث صاحبه وفي سياق التاريخ الأيديولوجي والثوري الذي توقف قلبه فجأة عن النبض وانطفأ حريقه الكبير أمام أبصارنا وأسماعنا، وكأنما انقضت عليه صاعقة ثلجية مباغتة فجرته وحولته - على الأقل حتى الآن - إلى شظايا ورماد.
ولا بد قبل هذه الوقفة عند «اليوتوبيا» والفكر اليوتوبي من التمهيد لها ببعض الملاحظات الضرورية لإضاءة النص في أبعاده المختلفة بقدر الإمكان. وأول هذه الملاحظات يتصل بالشكل الأدبي الذي اختاره المؤلف. فالمعروف أن اليوتوبيا - أي الصورة الأدبية والفنية المتخيلة للنظام الاجتماعي والسياسي الأفضل والأمثل - قد ظهرت في أثواب مختلفة وقامت بأدوار متنوعة وجربت كل الأشكال الأدبية المعروفة كالمحاورات والرسائل والرحلات واليوميات والروايات والمسرحيات، بجانب المقالات والبحوث الفلسفية والاجتماعية الجادة في بعض الأحيان. وقد كان من الطبيعي أن تتنوع أهدافها كما تنوعت أشكالها ومضامينها الفكرية والسياسية، فتقصد إلى التهكم من «لامعقولية » الوجود الإنساني وامتناع وصوله للكمال والتجانس والسعادة، أو إلى الهروب من الواقع السائد المشوه نفورا منه وعجزا عن تغييره وإصلاحه إلى أرض الأحلام - كما يقول عنوان كتاب جميل لأستاذنا الجليل زكي نجيب محمود
9 - بغية التسلي بألعاب خيالية أو التعبير عن أشواق يائسة أو تقديم رؤى للتأمل الخالص والتفكير الممتع، أو لمجرد كتابة قصة فلسفية أو قصة مما يسمى بأدب الخيال العلمي (الذي يصعب علي التسليم بانتمائه للأدب إلا في القليل النادر من نماذجه!) ولا شك أن تجربة الشكل الأوبرالي بالإضافة إلى الأشكال السابقة سيبقى محل الدهشة والاستغراب. ولكن لو تمعنا الأمر قليلا لوجدنا أنه إضافة حقيقية للأدب اليوتوبي، لا سيما إذا تذكرنا أنها أوبرا ملحمية وليست أوبرا عادية أو «مطبخية».
وثاني هذه الملاحظات أن الأوبرا التي بين أيدينا عمل تشوبه من الناحية الفنية والأدبية أوجه نقص عديدة، لعل أوضحها هو التصنع والمبالغة والاختزال، والبعد عن الواقع التاريخي والموضوعي إلى حد التجني، واللغة الباردة المحشوة بالشتائم والسباب والسخرية «الكلبية» المألوفة في معظم كتابات برشت، والتسييس المتعمد للمادة الأدبية إلى حد تحويلها إلى مظاهرة صاخبة في اللوحة الختامية، وغير ذلك من جوانب الضعف التي عرضنا لها على الصفحات السابقة. وربما يشفع للمؤلف أن الروائع الأدبية الحقيقية بالغة الندرة في تراث الأدب اليوتوبي، وذلك لصعوبة الكتابة عن عالم شديد الكمال أو عالم شديد النقص؛ لأن كليهما سكوني وغير تاريخي ومصطنع، يخلو عادة من الصراعات الحية التي تشكل مادة الأدب، فضلا عن أن الشخصيات اليوتوبية تكون في معظم الأحيان شخصيات مختزلة مجردة أو أنماطا عامة مفتقرة إلى سمات الفردية الحميمة. وإذا كان من الواجب الاحتراز من الوقوع في التعميم الذي يظلم بعض المواقف الإنسانية المؤثرة في هذه الأوبرا - مثل مناجاة «جين» لنفسها ومشاهد الحوار مع حبيبها باول أكرمان ومشاهد إعدام هذا الأخير - فإن الإنصاف يقتضينا القول بأن الذنب في التصنع والتجريد يقع جزئيا على الأقل على رأس النمط اليوتوبي نفسه الذي سيظل انتماؤه للأدب موضع جدل ونقاش إلى أن تفرض الروائع الحقيقية ذاتها، ويبقى أهم عذر لهذه الأوبرا ولمحاولة تقديمها للقارئ العربي، وهو أنها قد أثارت في حينها ولم تزل قادرة على إثارة مناقشات طويلة حول الرأسمالية والاشتراكية ، والتقدمية والرجعية، وطبيعة التفكير الأيديولوجي نفسه والدور الذي قامت به الأيديولوجيات على اختلافها في تخريب الأدب والفن والحياة طوال العقود الأخيرة من القرن العشرين (وهذا رأي خاص ربما أعود إليه بعد قليل) والأهم مما سبق أنه إذا كان التاريخ السياسي الحديث - على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور - قد كذب رؤية برشت التنبئية بانهيار الرأسمالية والانتصار «الحتمي» للاشتراكية، فإن القيمة الأساسية التي لا تزال هذه الأوبرا تحتفظ بها في تقديري المتواضع، أنها توقظ فينا الوعي الشقي بحاضر المدينة البشرية، وتلقي جمرة مستعرة على ضرام قلقنا المتزايد على مصيرها ومستقبلها، والآمال الهشة في إنقاذها من السقوط والاندثار تحت أقدام زبانية القوة والمال والعلم والتعصب والدهاء والإرهاب المقنع بأقنعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في «النظام» العالمي الجديد، بهذا تكون «ماهاجوني» شهادة لها قيمتها على محنة عصرنا ومحنه المحتملة إن لم تسرع البشرية العاقلة المسئولة بالتفكير والعمل الجدي لإقامة المدينة الإنسانية الممكنة - ولا أقول المثالية أو الفاضلة! - على أرضنا البائسة المبلية بالتلوث والاستبداد وتخريب البيئة واتساع ثقب الأوزون ... إلخ مع اتساع الفك الغربي الرأسمالي المفترس بقيادة «الكاو-بوي» المتباهي بجبروته «وإنسانيته». (19) ويضيق المجال بطبيعة الحال عن وضع هذه الأوبرا بصورة مرضية في مكانها من تراث صاحبها أو من التراث اليوتوبي الذي فاضت «أدبياته» حتى أصبحت بحرا لا شاطئ له، ولكن ربما تكفي الإشارة الموجزة إلى أن برشت لم يقدم فيما أعلم عملا يوتوبيا خالصا يضمنه تصوره لمدينة المستقبل الفاضلة وأفكاره السياسية والاجتماعية والثورية في ثوب أدبي وبلغة فنية. ومع ذلك فقد أحال عليها - كما سبق القول - بطريقة غير مباشرة تشبه طريقة «برهان الخلف» عند المناطقة؛ أي بتصوير الضد الرأسمالي والفاشي لتلك «اليوتوبيا» التي ترك لقرائه أن يرسموها بخيالهم ويؤسسوها ويرفعوا بناءها بعرق أيديهم ودماء تضحياتهم وتصميم إرادتهم وجهد عقولهم وقلوبهم المبدعة. ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن هذه المدينة المثالية كانت بالنسبة له ولجيله موجودة بالفعل ومعتكفة أو عاكفة - وراء ما سماه الغرب «البرجوازي» بالستار الحديدي - على نسج الحلم الكبير الذي تعلقت به قلوب ملايين الحالمين الثوريين المضطهدين في بلادهم، الشاخصين بأبصارهم وأفئدتهم إلى الأم الاشتراكية (في الاتحاد السوفيتي السابق)، واللائذين بأحضانها بعد ذلك من طغيان ذئاب الفاشية وأعداء الحياة والسلام والإنسانية. ولا شك أن مآسي التجربة الاشتراكية الكبرى لم تتكشف تماما لهؤلاء الحالمين الثائرين إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يعلموا شيئا عن أهوال التصفيات ومعتقلات التعذيب والمقابر الجماعية وبشاعة الآلة المباحثية ... إلخ إلا بالتدريج وبعد أن عاشوا في ظل النظم الشرقية التي أجبرت على الدوران في فلك «الأم»، والمهم في هذا السياق أن برشت حين مر بهذه التجربة الأليمة في السنوات القليلة التي قضاها قبل وفاته (1956م) فيما كان يسمى بجمهورية ألمانيا الديمقراطية؛ كان قد أتم أهم أعماله الشعرية والمسرحية والقصصية والنظرية. وكلها واضحة الدلالة على انصراف جهده إلى رسم «اليوتوبيا الرأسمالية المضادة» من جميع جوانبها وبأبشع ملامحها؛ ففي المرحلة التعبيرية المبكرة نجد الفردية الفوضوية والعدمية التي أنبتتها مدينة المال والأعمال متمثلة في شخصية «بعل» 1922م، كما نجدها تسحق الفرد المطحون العائد من الحرب بلا مأوى ولا بيت ولا مستقبل في «أحراش المدن» 1924م و«طبول في الليل» 1929م، وفي المرحلة التعليمية - التي تندرج فيها من الناحية التاريخية والفنية أوبرا القروش الثلاثة 1928م، وماهاجوني 1929م - نراه يحرص على تدمير تلك المدينة الظالمة الفاسدة، والثأر من أبطالها المزيفين في الماضي والحاضر، وإنزال أقسى العقاب ب «الدعاة» والمروجين المتخاذلين، وذلك في قائل نعم وقائل لا (1930م) و«الاستثناء» والقاعدة ومحاكمة لوكولوس (1939م) ومسرحية بادن-بادن التعليمية عن التفاهم و«الإجراء». وهو في هذه المرحلة الناضجة المتأخرة يبين استحالة أن يعيش الإنسان الطيب في هذه المدينة، واضطراره أن يضع قناع الشر والدهاء والاستغلال لكي يتمكن من التعامل مع سكانها كما في «الإنسان الطيب في سيتشوان» 1924م، ويثبت كذلك استحالة اكتشاف الحقيقة العلمية وإذاعتها في مدينة إرهابية يحكمها رجال الدين المتزمتون، ويحاكمون علماءها الذين يضطرون لإنكار الحقيقة أو التراجع عنها إنقاذا لعلمهم وحياتهم (جاليليو جاليلي 1934م) وهو يقيم الحجة - بعد عرض الدليل الملحمي الطويل - على أن الطفل لمن يربيه لا لمن ينجبه، وأن الأرض لمن يفلحها لا لمن يملكها (كما في دائرة الطباشير القوقازية 1949م)، وأن الإنسان الغبي لا يتعلم أبدا، حتى لو كلفه ذلك أبناءه؛ لأن هذه المدينة تعتبر البشر سلعة والحرب تجارة (كما في الأمم شجاعة 1941م) وأن المجانين المأفونين يمكنهم - إذا توافرت لهم وسائل البلطجة الكافية! - أن يروعوا مدينة بأكملها ويلفقوا «نظاما» دمويا ينفي كل نظام ويلغي كل حرية وحياة؛ وذلك كما في مسرحيته «الصعود الذي يمكن أن يوقف لارتورو-أوي» (1941م) والخوف والارتعاش في ظل الرايخ الثالث 1945م، إلى آخر أعماله التي يعرفها القارئ أو يعرف معظمها من أصولها أو ترجماتها الميسرة، بل إلى سائر أعماله المسرحية التي أقتبسها وأعدها إعدادا جديدا عن مؤلفين مشهورين، مجندا ذلك كله في حربه العادلة التي أعلنها على الفاشية (مثل أنتيجونا لسوفوكليس، وكوريولانوس لشكسبير، والأم لماكسيم جوركي، وجان دارك التي طالما تناول قصتها أدباء مختلفون). (20) وأما عن وضع هذه الأوبرا في التراث اليوتوبي، واليوتوبي المضاد الذي لا أشك في أنها تأثرت به بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فإن ذلك أمر لا مناص منه لأي عمل أدبي مهما حاول أن يقاطع التراث أو يعلن رفضه له وثورته عليه، على الرغم من أن تحديد ذلك الوضع شيء بالغ الصعوبة والتعقيد. ولا يمكننا أن نتصور غياب التراث اليوتوبي الممتد عن ذهن برشت، لسبب بسيط أنه تراث «أيديولوجي» غني بالرؤى والنظريات والأفكار السياسية والاجتماعية والفلسفية التي دعا معظمها وأهمها إلى المجتمع الشيوعي أو الاشتراكي المثالي، وإذا كان هو وجيله، أو على الأقل دائرة أصدقائه المقربين من الفلاسفة والأدباء اليساريين المجددين قد آمنوا بالاشتراكية «العلمية»، فإن هذه الاشتراكية لم تخل من عناصر يوتوبية وتنبئوية مهما احتج الكثيرون من أنصارها على هذا الزعم، كما أن اليوتوبيا «الواقعية»؛ أي الشيوعية التي ستحقق مجتمع الحرية والأخوة والعدالة والمساواة والسلام وتكون هي «الثمرة» الأخيرة الناضجة على شجرة الكفاح البشري والتاريخ الحضاري الممتد للوعي الإنساني - بل والتاريخ الكوني السحيق للمادة نفسها! - هذه اليوتوبيا «الواقعية»، التي ستكون بمثابة «الوطن» والمأوى و«الأمل» الذي سيتحقق معه «الكل» والوحدة ويتصالح فيه الإنسان مع الطبيعة، ويتلاقى الوجود والماهية (إلى آخر ما أفاض فيه صديق برشت الحميم «أرنست بلوخ» 1858-1977م، في كتابه الأكبر مبدأ الأمل (من 1954 إلى 1959م) وفي سائر مؤلفاته) لا يمكن بالطبع أن نتصور وجودها أو أن نفكر فيها إذا نحن بترنا جذعها وفروعها عن بذورها وجذورها. وهذه البذور والجذور قد نمت وتشربت الماء والغذاء على مدى تاريخ طويل ممتد من حكايات الشعوب وأساطيرها عن «ماض ذهبي» ضاع ويمكن أو لا يمكن أن يستعاد، إلى جمهورية أفلاطون وقوانينه وكتابات أخرى عديدة في العصر اليوناني، وبعض التصورات في العصر الوسيط عن مدينة المستقبل الإلهية - كمدينة الله للقديس أوغسطين - والمدينة «الفاضلة» المندمجة في بناء ميتافيزيقي فيضي وصوفي تحت رئاسة رئيس نبوي حكيم، كما عند الفارابي، إلى «اليوتوبيات» بمعناها الدقيق، كما عبرت في عصر النهضة عن النزعة الإنسانية الجديدة ووعيها بذاتها وثقتها بالعقل والمعرفة والمستقبل بأقلام فلاسفة مشهورين هم توماس مور وتوماسو كامبانيلا وفرنسيس بيكون، إلى صف طويل من الروائيين والمصلحين الاجتماعيين والاشتراكيين المثاليين والمنظرين السياسيين من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، وصولا إلى القرن العشرين الذي ازدهرت فيه اليوتوبيات الجديدة المؤمنة بالاشتراكية المعتدلة - ومن أشهرها اليوتوبيات الحديثة للكاتب الإنجليزي ه. ج. ولز - كما تفتحت أروع زهورها السوداء في العديد من اليوتوبيات المضادة، ومن أشهرها وأجملها الروايتان البديعتان اللتان ترجمتا لحسن الحظ ترجمة ممتازة إلى اللغة العربية، وهما عالم شجاع طريف لألدوس هكسلي، و1984 لجورج أورويل.
إن جمرات الإصلاح والنقد والتغيير التي توهجت بومضات الاشتراكية والشيوعية في «يوتوبيا» توماس مور (1478-1535م) ومدينة الشمس لكامبانيلا (1568-1639م) على الرغم من ارتدائها مسوح الرهبة! قد توقدت بدرجات مختلفة في سائر اليوتوبيات المثالية منذ عصرهما وعلى امتداد ما يقرب من ثلاثة قرون (راجع من فضلك الملحق التالي )، حتى اشتعلت كالحريق الكبير مع ظهور «البيان الشيوعي» لكارل ماركس وفريدريش إنجلز سنة 1848م، واستيلاء الثورة البلشفية على مقاليد الحكم في روسيا سنة 1917م، وذلك قبل أن تأكل نفسها وتتفجر بدوي هائل كبركان الحمم الذي دفن تحته آمال الملايين من الثوريين والمتحمسين والأيديولوجيين والحالمين والمقهورين والمهانين الذين طالما لجئوا إليه وأسندوا ظهورهم عليه (خصوصا في عالمنا الثالث أو الجنوب الذي بدأ «الشمال» يتحرش به تمهيدا للانقضاض عليه!) وإذا كان من الصعب التنبؤ في أوقات المحن والكوارث بما سيكون عليه مستقبل المدينة البشرية في المستقبل البعيد أو القريب، فإن من الضروري وضع هذه الأوبرا وغيرها من الأعمال والإنجازات في سياقها التاريخي والاجتماعي والفكري الذي نشأت فيه، حتى يتسنى الحكم المنصف عليها وتمييز الصالح منها للبقاء وتحدي تقلبات النظم وشروط التاريخ من الزائل المرهون بالظروف والمناسبات، ولا شك عندي أن في هذه الأوبرا - وفي الكثير من أعمال برشت - ما يشهد على عظمة الشاعر والكاتب المسرحي وانتصاره على الأيديولوجي الماركسي وتجاوزه لحدوده وقيوده الضيقة. (21) ونصل لمحاولة الوفاء بوعدنا للقارئ بتقديم شرح شديد الإيجاز لكلمة «اليوتوبيا» التي رددناها كثيرا حتى الآن. وترجع هذه الكلمة إلى كلمتين يونانيتين هما «أويتوبوس» (أي المكان الطيب أو الصالح) وأو-توبوس (أي اللامكان). وقد انعكست هذه الازدواجية في المعنى على الكتابات اليوتوبية؛ فكانت في بعض الأحيان رؤى عن مجتمعات صالحة يمكن تصورها والاقتداء بها، وفي أحيان أخرى تخيلات حالمة أو وهمية مجردة لنموذج اجتماعي كامل ومستحيل، وإن لم يكف الإنسان عن أن يحلم به في صور وتجارب مختلفة. أضف إلى هذا كله أن البعد اليوتوبي - إذا جاز هذا التعبير - كامن في وجود الإنسان، ملازم لجوهره وحقيقته. فهو الكائن الهش الممزق بين حاضر لم يحقق فيه ذاته الفردية والجماعية، ومستقبل يطمح أن ينجز فيه الكل الذي يعبر عن ماهيته. وما من إنسان يخلو من درجة من الوعي بأنه لم يصبح هو نفسه بعد، وأنه ما يزال على الطريق إلى كينونته. بل إن هنالك من يجعل هذه «الليس بعد» مقولة وجودية أو أنطولوجية كما يقول الفلاسفة مستخدمين اللفظ اليوناني، ويذهب إلى أنها تميز الوعي البشري في كل مظاهره وتجلياته الحضارية عبر التاريخ، كما تصدق على المادة الغنية بإمكانات التفتح والازدهار في أشكال متجددة على الدوام (على نحو ما عرف أرسطو المادة بأنها وجود بالقوة أو استعداد وإمكان، وتصورها بعده فلاسفة عديدون من ابن سينا وابن رشد إلى بعض فلاسفة عصر النهضة والعصر الحديث حتى أصحاب المادية الجدلية التي كان برشت ملتزما بها).
هكذا يمكن القول بأن البعد اليوتوبي من أهم أبعاد الوجود الإنساني؛ لأنه يقوم على حقيقة بسيطة هي أن الإنسان بطبيعته كائن مستقبلي، يشعر في كل لحظة من لحظات حياته المتناهية أنه كائن لم يكتمل بعد، وأن عليه - على حد تعبير نيتشه - أن يصبح ما يكونه أي يحقق هويته وكيانه الأصيل الذي يتحد فيه الوجود والماهية، ويتصالح الواقع والحلم، والنهائي واللانهائي، والطبيعة والعقل، والفعل والإمكان ... ومن هنا يأتي قلقه الدائم أو قل عطشه وجوعه الذي لا يرتوي ولا يشبع أبدا! فهو يشده إلى المستقبل هربا من الحاضر أو سخطا عليه، ويدفعه إلى نقد الواقع السائد ونفيه وتجاوزه إلى واقع أفضل وأعدل وأقل تناقضيا ونقصا وكأن فيه بلغة الفلك الحديث ثقبا عدميا أسود يريد له أن يمتلئ بمستقبل «يوتوبي» يجذبه إليه، ويحاول أن يبدعه بجهده وإرادته ومعرفته، ليعانق الوحدة الكلية والسعادة المطلقة والأمل الذي لا يخيب. وما دامت هذه الوحدة السعيدة قد تعذر حتى الآن تحقيقها على الأرض، وما دام الأمل قد خاب باستمرار فليحلق إليها على أجنحة الخيال الهارب أو الساخر أو الجاد. (22) «لا يسمع فيها نعيب الغراب، ولا صرخة طائر الموت، ولا يفترس الأسد والذئب الحمل الضعيف، ولا تنوح الحمامة، ويختفي الترمل واليتم والمرض والشيخوخة والشكوى والبكاء.» (عن لوح طيني من مدينة نيبور أو نفر السومرية.) «وكانت الأرض الخصبة تقدم للبشر الفواكه الوفيرة بغير حد، وكانوا يعيشون في مزارعهم في راحة وسلام مع أشياء كثيرة طيبة، أغنياء بقطعان الماشية ومحبوبين من الآلهة المباركين.» (عن هزيود، الأعمال والأيام، 109-121.)
يشهد هذان النصان الموغلان في القدم من حضارتين مختلفتين بأن الحلم ب «الحالة اليوتوبية» قد خفق في صدر الإنسان منذ البداية (1)؛ فالنص الأول يرجع للسومريين الذين تصوروا الجنة التي يصفها اللوح المذكور في مكان مطل على الخليج العربي - ربما يكون هو البحرين الحالية - سموه ديلمون أو تيلمون . والثاني يعبر عن حنين شاعر الرعاة والفلاحين البسطاء في بلاد الإغريق في العصر الملحمي والبطولي (عاش في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد) إلى ماض ذهبي فقد إلى الأبد ويصعب أن يستعاد، وكلاهما يوحي بالدلالة المباشرة التي كانت ولا تزال تفهم من كلمة اليوتوبي، وهي الحالة الأولية لنظام أو تجمع بشري يفضل أي نظام سائد وتتمثل فيه الحياة الطيبة المتجانسة، ويرفرف عليه السلام والسعادة والعدل، والخير والبساطة والتناغم مع الطبيعة. وإذا جاز لنا أن نطلق كلمة النظام على مثل هذا التجمع البدائي البسيط فلا بد أنه كان ينطوي على أحد معاني اليوتوبيا، وهو التحرر من أسباب الشر والجشع والتنازع والظلم (كالصراع على الملكية والسلطة والقوة وسائر الصراعات المقترنة بالتطور المدني والتاريخي والاجتماعي والاقتصادي والديني ... إلخ). ولا بد أنه كان في نفس الوقت هو الصورة المضادة للنظام الذي عاش فيه كل من تخيل أو كتب اليوتوبيا بأنواعها وصيغها المختلفة، وعبر عن سخطه على ذلك النظام وتحسره على الحياة السعيدة التي ذهبت ولن تعود، وتعبير الشاعر هزيود لا يقتصر على تقييم العصور الكونية حسب قيمة المعادن إلى عصور ذهبية وفضية وبرونزية وحديدية، إنما يضيف صراحة أنه يعيش في أسوئها طرا وهو عصر الحديد الذي لمس فيه بوادر التحلل والسقوط والانهيار. وتنبأ باستفحال ظواهرها التي يبدو أنه عانى منها أشد المعاناة كالكذب والغرور والعنف والعدوان وخيانة العهود وفقدان الاحترام للحق والقانون وغياب كل إحساس بالخشوع والإجلال، وكأنما كان ينفذ بحدسه الصائب إلى عصرنا وحياتنا ومدننا اليوم! ولذلك لا نعجب إذا سمعناه يقول: «ليتني ما عشت مع هؤلاء الناس!» (الأعمال والأيام، 5-174) بل إن تشاؤمه ليصل إلى حد التنبؤ بإهلاك زيوس لهؤلاء البشر الذين لا يستحقون العيش على أرضه، وذلك قبل أن يبلغ هذا التشاؤم ذروته الفاجعة في القرن الخامس بقول سوفوكليس على لسان الجوقة في أوديب (البيت 1224): «أفضل شيء أن لا تولد أبدا، وإذا أنت ولدت فعد وبأسرع وقت من حيث أتيت!» (2). (23) لا شك أن برشت الذي تفتحت عيناه في إحدى مدن الغابة السوداء في الجنوب الألماني - كان أبوه برجوازيا مدير مصنع للورق في مدينة أوجسبورج - قد عرف المدينة الفاسدة والساقطة وعانى ما عانى من اضطراب علاقاتها وظلم أهلها قبل أن يرسم خطوطها وملامحها على هذه الصورة في ماهاجوني وغيرها من أوبراته ومسرحياته في الثلاثينيات. ولذلك تبرأ من طبقته وعاش حياة التشرد الفوضوي في أحياء الفقراء والمغنين المتجولين، وصادق الأفاقين واللصوص والملاكمين والعاطلين وبؤساء الشعراء والفنانين. ولم تمر هذه المرحلة التعبيرية في حياته وفنه إلا بعد أن استقرت في نفسه تلك الصورة السوداء، وأخذ في المرحلة التعليمية التي تلتها في إعلان الحرب على المدينة الرأسمالية الظالمة؛ على نحو ما رأينا قبل أن يقترب في مرحلته الناضجة والأخيرة من اليوتوبيا التي لم يقدم لها - بقدر علمي - تصورا واضحا متكاملا وإن كان قد أحال إليها بطريقة ضمنية كما ذكرت من قبل. في خضم هذه الحياة المضطربة اضطرته نذر النازية وجحافلها الزاحفة في أوائل الأربعينيات إلى مغادرة بلاده والتشرد في منفاه من مدينة إلى مدينة، حتى رست به سفينة الضياع على شواطئ كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية التي جرب فيها مع بعض أصدقائه المقربين (ومنهم بلوخ الذي سبق ذكره) مرارة البؤس والضنك وعاش شبه مجهول ومتجاهل من الحياة الثقافية والفنية، ومطاردا من زبانية المباحث المكارثية، متهما بتهمة الشيوعية التي جرته من محاكمة إلى محاكمة.
ولما انتهت الحرب واستدعته الجمهورية الاشتراكية الجديدة ووعدته بمسرح خاص بفرقته وهو مسرح البرليزنر أنسيمبل أو فرقة برلين عند الشفباور دام، أسرع إليها من منفاه في الولايات المتحدة، ووضع فنه وجهده في خدمة الأيديولوجية التي طالما دعا إليها وروج لها. ويضيق المقام عن ذكر المضايقات التي تعرض لها بعد ذلك من الحزب وأجهزته - كالتدخل في عمل المسرح، ومنع بعض عروضه التي كانت غالبيتها من تأليفه - ولا يتسع كذلك للكلام عن علاقته بالنظام المتشدد وحكومته. ويكفي أن نقول إن سخطه عليه قد بلغ أقصاه بعد قيام التمرد الشعبي المشهور - الذي سحقته الدبابات الروسية - ضد هذا النظام في شهر يونيو سنة 1953م، إذ يقال إنه كتب رسالة طويلة إلى زعيم الحزب ورأس الدولة آنذاك - وهو ألبرشت - يقول له فيها عبارته المشهورة: «إذا كان هذا الشعب لا يعجبكم، فابحثوا عن شعب آخر تحكمونه.»
10
ولا بد أن نزعته العدمية قد غلبت عليه في سنواته الأخيرة بوجه خاص، وهي السنوات التي قضاها تحت سقف «اليوتوبيا» وجنة العمال والفلاحين التي ظهرت له في صورة مختلفة عن الصورة التي رسمها في خياله أو في أعماله، وإن لم يتخل أبدا عن الحلم بها والدعوة إليها حتى آخر أنفاسه. ولا بد أيضا أن هذه العدمية المتأصلة هي التي جعلته يكتب بكائيته الشهيرة التي رثى فيها نفسه وجيله كما نعى مدن البشر التي لن تسلم من السقوط، وأقصد بها قصيدته عن ب. ب؛ أي برت برشت المسكين:
أقمنا، ونحن جنس طائش،
في بيوت حسبناها بمنجى من الخراب.
وهكذا بنينا صفوف العمائر الشاهقة في جزيرة مانهاتن،
ورفعنا الهوائيات النحيلة التي تداعب المحيط الأطلنطي.
لن يبقى من هذه المدن
إلا الريح التي جاست فيها.
البيت يسعد الآكلين؛ لإنهم يفرغونه مما فيه.
نحن نعلم أننا عابرون مؤقتون
وأن ما سيأتي بعدنا
شيء لا يستحق الذكر (1). (24) ولكن ما جاء بعده يستحق الذكر؛ فقد سقطت مدينته المثالية وأصبحت نهبا للجوع والإفلاس والجريمة والحروب الطائفية والعرقية والذهول من هول الكارثة والرعب من المستقبل المجهول. وبدأت تغير جلدها وتنسلخ عن هويتها وتطمس شعاراتها وتهدم تماثيل أبطالها ورموزها وتقدم فروض الندم للأجيال من سكانها على الحرية التي خنقتها - وما درت أنها دائما تنتصر حيثما أريد لها أن تقهر - والدين الذي حاولت اقتلاعه من جذوره والثورة التي حولتها إلى إرهاب، والتاريخ الذي أرادت أن تتحكم فيه فقضت عليها محكمته، والحياة التي أهدرتها، والعقل الذي حجرت عليه، والسؤال الذي حرمته ، والجماهير التي فرضت عليها الوصاية والصمت؛ فمزقت أكفانها وخرجت للثأر من ثوار الأمس الذين صاروا جلادين.
انقلبت الأحوال وخابت قوانين الجدل. وانتهى تاريخ ولم يبدأ تاريخ جديد. ومدينة الحلم تتخبط في الكابوس وتتعثر في التيه. هل تترك دفة السفينة للربان المخمور الأرعن؟ أتسلم مفاتيح العالم للغول الجبار؟ أليس هنالك أمل في أن تنهض المدينة الاشتراكية من عثرتها وتداوي جراحها وتراجع أخطاءها؟ أم أن الأمل معقود على مدينة أخرى تبدأ بداية أخرى وتقوم على قيم مختلفة؟!
إن الثائر المحبط - ومعه أجيال من الثوار المحبطين - لن يصدق عينيه، ولو كان حيا فلربما سأل مثل هذه الأسئلة التي تلح علينا ونحن نشاهد المقتلة والخراب في كل مكان، ما الفرق بين هذه المدن التي تحرق بيوتها وتمتلئ شوارعها بجثث القتلى وتصب عليها نيران الجحيم ليل نهار وبين المدن القديمة التي كانت تحرقها قبائل الغزاة وتذبح رجالها وتغتصب نساءها وتنهب كنوزها؟ ما الفرق بين سراييفو ولواندا ومقديشيو وكردستان، والقدس وبيروت والكويت أيام المحن التي مرت بها، وبين أور وبابل وآشور وروما وقرطاج ودمشق وبغداد أثناء سقوطها واشتعال الحرائق فيها؟ أليست هي الوحشية نفسها وإن اختلفت الأسباب وأسلحة القتل والتدمير؟ وهل تقل تعاسة الإنسان العادي في المدن التي تخرب أمام أعيننا عن تعاسة زميله ساكن المدن المنقرضة؟ والمدن الأخرى التي تتفجر بالزحام والضجيج والقبح والظلم وتجوس فيها أشباح الفقراء وعصابات الأوغاد ولصوص القوت والشرف والعلم والفن والمال، وعبيد السلطة وجيوش الانتهازيين والشطار والانفتاحيين والأفاقين والمنافقين. هل يمكن أن تتطهر أو تبزغ من مستنقعاتها عروس المدينة؛ الحلم أو المدينة الإنسانية المحتملة؟ وإذا كان الأمل قد تبدد من مدن القوة والهيمنة فهل ينتظر الخلاص من مدن لا تزال تطبق عليها التاءات الثلاثة: التفرق والتخلف والتبعية؟ أفلا يمكن أن تبعث مدينة الحرية والحب والإيمان واحترام الإنسان وتقديس الحياة على أنقاض مدن القوة والعنف والسيطرة والتوسع والتعصب من كل الألوان؟ أم أن الأمل الوحيد معلق بحكومة عالمية تملك الضمير الرادع لكل طغيان بعد أن تصفي كل الجيوش وتطهر الأرض من أسلحة الدمار كما تطهر الإنسان من أنياب الحيوان؟
سيقول القارئ: أحلام أحلام أحلام! وكيف يستعاد الماضي الذهبي الذي تغنى به الرعاة والشعراء في عصر الإلكترونيات والحاسوبات، وثورة المعلومات والاتصالات، وآلهة المخابرات والمؤامرات، وملوك المال والجنس والمخدرات وصناع الطغاة والحروب والانقلابات والإبادة بالجملة للشعوب والجماعات؟ ويرد الحالم وهو يتلفت حوله ويرى المدن الممتلئة بالجثث والحرائق والأنقاض: «لن أيأس فالحلم عنيد! ربما نكون أنا وجيلي قد أصبحنا ترابا فوق تراب، وذرات هائمة في فضاء الأكوان قبل أن تولد مدينة الإنسان. لكن الحلم لا بد أن يعيش ومعه الأمل الجديد، والإرادة والتصميم على البدء من جديد؛ لإنقاذ الأرض، لإنقاذ المدينة، لإنقاذ الإنسان.»
ولو كان صاحب هذا العمل حيا بيننا لما تخلى عن الحلم والأمل؛ فقد أحب هذا العالم عندما عمل وكافح ليهدم المدينة الظالمة الفاسدة، سيتمسك بالأمل في مدينة أخرى جديدة تنهض على أسس وقيم جديدة حتى بعد خيبة الأمل الشديدة. ألم يقل إن كل إنسان يوشك أن يكون قد أحب العالم والإنسان عندما تلقى عليه حفنتان من تراب هذه الأرض:
وكل من تلقى عليه حفنتا تراب ساعة الفراق،
فقد أحب هذا العالم الصغير مثل سائر العشاق. (25) ملحق عن اليوتوبيا وتطورها:
يشهد النصان المذكوران من قبل على أن هذه المجتمعات المثالية قد وجدت في نهاية العصر الجليدي المتأخر، بعد نجاح الإنسان في استئناس بعض الحيوانات وإقامة جماعات صغيرة توافر لها قدر كاف من الاستقرار والطعام. وربما تكون اليوتوبيات الأولى هي الذكريات الشعبية السارة والحزينة أيضا عن هذه الحالة الأولية التي رسمتها مخيلة الناس وأشواقهم في أساطير معظم الحضارات القديمة وحكاياتها عن عصر ذهبي مضى وأصبح من الصعب استعادته، ويمثل الصورة المضادة للحياة المدنية المعقدة التي عرفت الحروب والصراعات ومتاعب العمل والشقاء مع تزايد عدد السكان في العصر الحديدي، ووضعت نظم التحكم الدينية والعقلانية مع تأسيس المدن القديمة، ويمكن القول بأن المدن القديمة كانت تمثل نماذج ثابتة لليوتوبيات التي انطبعت مؤسساتها الراسخة بخاتم النظام الإلهي والغائبة البشرية.
وجمهورية أفلاطون تدين لذلك التنظيم الاجتماعي الذي كان قد تقادم عهده وأخذ الناس يحنون إليه أيام أفلاطون نفسه. وهي تعد أول عمل يوتوبي يقدم نظاما اجتماعيا مثاليا بكل تفاصيل بنائه ومؤسساته، ومع أنه ليس أول نظام تخيله الإغريق؛ إذ يذكر أرسطو في الفصل السابع من الكتاب الثاني من السياسة، أن فالباس الخلقدوني كان أول من أكد ضرورة المساواة في الملكية بين المواطنين في دولة المدينة، وأن هيبوداموس الملطي هو أول شخص شغل بالبحث عن أفضل أشكال الحكم، إلا أنه ظهر وقت ثبت فيه فساد «البوليس» أو دولة المدينة واشتبكت فيه مدن الإغريق في الصراعات الدامية - ومن أخطرها الحرب بين أثينا وأسبرطة - ولذلك حاول أفلاطون أن يقدم نموذجا معقولا لنظام اجتماعي صالح ودائم يؤكد للمواطنين الصالحين أن السعي للحياة الفاضلة والعادلة يكافأ في الدنيا ويثاب عليه في الآخرة (الكتاب العاشر من الجمهورية 106). ولكن جمهورية أفلاطون - شأنها شأن معظم اليوتوبيات قبل القرن الثامن عشر - كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية وعن الطبيعة البشرية. ويبدو هذا في نظام الطبقات المغلق الذي يدير العمل والتربية فيه صفوة الحكام الحكماء ويحميه الحراس الأشداء ويطعمه الشعب المنتج، وفي إلغاء الملكية الخاصة والحط بالتالي من شأن الأسرة والمرأة وفي تحديد الوظائف والأدوار الاجتماعية وتقرير الأوضاع القائمة والإجابة على كل الأسئلة في هذه الدولة التي فاقت كل النظم الاجتماعية اليوتوبية في سكونيتها وعدم تاريخيتها وبعدها. وإذا كانت أسبرطة بنظمها الصارمة التي جعلتها أشبه شيء بمعسكر تدريب ضخم على الشجاعة والبساطة والتضحية والخشونة إلى حد الوحشية قد حاولت أن تشكل الإنسان الكامل كما تصوره مشرعها ليكورجوس الذي وضع نظاما في التربية والتدريب العسكري. يمكن مواطنيه من الدفاع عن حريتهم ونمط حياتهم الذي اعتقدوا أنه إلهي لا يقبل التغيير (على نحو ما وصفه وأشاد به المؤرخ اليوناني بلوتارك في الفصل الذي عقده عنه في تاريخ المشهور) فالواقع أن أفلاطون لم يكن هو الوحيد الذي أعجب بنظام أسبرطة، وإنما جذب الكثير من اليوتوبيين بعد ذلك وقدم لهم نموذجا مثاليا للتحكم العقلاني في حياة الإنسان وإمكان تحقيقه إذا توافر له قائد نموذجي مثل ذلك المشرع الذي رفعه مواطنوه إلى مصاف الآلهة.
ولو صرفنا النظر عن الأوصاف المتتالية للعصر الذهبي والمجتمعات الصالحة (كما في أعمال أويهميروس القوريني وأوفيد ولوقيان السميساطي وغيرهم، أو في قوانين أفلاطون وسياسة أرسطو وتربية قورش لإكزينوفون التي لا تعد كلها يوتوبيات وإن كانت قد ألهمت كتاب اليوتوبيا المتأخرين بنظم وأفكار كثيرة عن السعادة والخير اللذين يمكن أن يوجدا في مجتمع مدني يحكم حكما مستنيرا، بالإضافة إلى زينون الكتيومي مؤسس الرواقية وغيره من الرواقيين المتأخرين وبعض المفكرين التوفيقيين - مثل شيشرون - توسعوا في فكرة النظام الاجتماعي المثالي ليشمل البشرية كلها ولا يقتصر على المواطنين داخل أسوار المدينة) ولو صرفنا النظر كذلك عن الجماعات الدينية الأولى - اليهودية والمسيحية - التي تشاركت في الملكية وطلبت الخلاص عن طريق الإيمان والفضل الإلهي ولم تكن يوتوبيات بالمعنى الخيالي ولا الواقعي المتصور قيامه بجهد الإنسان وتخطيطه - على الرغم من احتوائها على عناصر مثالية ورؤى يوتوبية في وصف نعيم الجنة - وهي اليوتوبيا الوحيدة التي ضاعت ويمكن أن تستعاد، وفي نظام الحكومة الإلهية (الثيوقراطية) ومدينة الله أو مملكته التي ليست من هذا العالم، وفي عقائد الخلاص الألفية - في المسيحية خاصة - حتى القرن السادس عشر عن قيام مملكة الرب المختلفة عن عالمنا التعس الفاسد وبشره الخطائين، لو صرفنا النظر عن ذلك كله، فإن البعث الحقيقي للكتابات اليوتوبية لم يتم إلا في عصر النهضة ومع نشأة المدن البرجوازية وسيطرة النزعات الطبيعية والإنسانية والعلمانية المتفائلة بالمستقبل. فقد تكونت رؤى شبه يوتوبية عند رجال مثل نيقولا الكوزي (1401-1464م) وليوناردو دافنشي (1452-1529م) تصوروا فيها إمكان إعادة تشكيل العالم وإصلاح نظمه على ضوء دولة المدينة المثالية في عصرهم لتحقيق القيم والغايات الأرضية والبشرية التي سادت العصر. وأول عمل يوتوبي بالمعنى الحديث هو يوتوبيا توماس مور (1516م) الذي صك المصطلح بمعنييه السابقين، وقد أثرت عليها الاضطرابات الدينية التي سبقت ثورة الإصلاح، وارتفاع المدن والدول القوية نتيجة النمو الاقتصادي، ورحلات الاستكشاف إلى سواحل نائية وجزر مجهولة. تصور «مور» أفضل مجتمع مثالي يمكن أن يتوصل إليه البشر الناقصون الخطاءون بغير عون من الوحي الإلهي (وربما كان هذا صدى لتأثير قصة حي بن يقظان الفلسفية لابن طفيل (ت 1185م) عليه وعلى كثير من اليوتوبيات وقصص الرحلات إلى الجزر البعيدة مثل روبنسون كروزو وجليفر ...)
ولذلك كانت يوتوبيا مور تعبيرا عن مثالية اجتماعية تحتج على الشرور والمظالم في وطنه من ناحية، كما كانت من ناحية أخرى تأكيدا لحدود العقل والبشرية في مجتمع يفتقر إلى المعرفة بالمسيحية والإيمان بها. وقد امتلأت مدينة مور بأنظمة التحكم والرقابة الشمولية الصارمة التي تقيد من غرور سكانها وتقدم الحلول المثالية لمشكلات الفقر والحكم الفاسد والاضطراب الاقتصادي التي عرفتها المجتمعات الأوروبية في القرن السادس عشر، كما أرست النموذج اليوتوبي الذي بقي بغير تغيير حتى أواخر القرن الثامن عشر. ولكنها قد رسمت في النهاية عالما سكونيا خارج الزمن والتاريخ وقدمت نماذج شمولية للضبط الاجتماعي والتحكم الدقيق في الإنتاج والتوزيع ونمو السكان والحياة المشتركة التي تشبه حياة الأديرة أو مجتمعات الشيوع البدائية التي تدين بالدين الطبيعي وتحتقر الذهب والمال وسائر مظاهر الملكية الفردية.
وتنعكس الاتجاهات العقلية الشائعة في القرن السابع عشر على يوتوبياته، ومن أهمها مدينة الشمس للدومينيكاني توماسو كامبانيلا (1568-1639م) التي كتبها في فترة سجنه الطويل من 1602م إلى 1627م وراح فيها يدافع عن فكرة إقامة حكومة كاثوليكية و«شيوعية» عالمية تخضع جميع الدول القومية تحت رئاسة البابا ويتولى إدارتها كهنة فلاسفة (وقد حاول الجوزيت أن يقيموها على أرض الواقع أثناء فترة حكمهم لباراجواي من عام 1588 إلى عام 1768م) وتكشف مدينة الشمس عن شغف كامبانيلا بالتنجيم وعلوم الأسرار من ناحية، وعن تحمسه لجاليليو والعلم الجديد وكراهيته لأرسطو من ناحية أخرى، كما تدل على نزعة واضحة إلى الخلاص، مقرونة بالإيمان بالتقدم من خلال تطبيق المعرفة العلمية والاختراعات المستحدثة لتحقيق سعادة الإنسان ورفاهيته. والغريب أن يوتوبيا المدينة المسيحية (1619م) للألماني يوهان فالنتين أندريا قد صدرت قبل صدور الصياغة الأخيرة لمدينة الشمس بوقت قصير، وهي تشبهها من نواح كثيرة؛ إذ تعبر عن شغف صاحبها بعلوم الأسرار واهتمامه بالعلم الجديد ومحاولة ربط العقيدة المسيحية بتصور نظام اجتماعي يخفف عبء موتنا وفنائنا. ونأتي إلى أطلنطا الجديدة لرائد العلم التجريبي والمنهج الاستقرائي والمبشر بحضارة العلم الجديد فرانسيس بيكون (1561-1626م) هذه اليوتوبيا القصيرة التي لم يتمها صاحبها وتبلورت فيها أجرأ الخيالات العلمية، وعملت شهرة صاحبها على ذيوع صيتها وقوة تأثيرها حتى اليوم على ما يسمى بروايات الخيال العلمي ، كان هدف بيكون مثل السابقين له واللاحقين، كسمويل هارتليب في يوتوبيا وصف المملكة الشهيرة ماريكا، هو أن يوضح لمعاصريه أن المجتمع المسيحي يمكن إصلاحه بالمزيد من المعرفة العلمية وتطبيقاتها التقنية النافعة؛ ولذلك جعل بيت سليمان - وهو مركز مدينته العلمية والعقل المفكر لها وللبشرية كلها - أول معهد للبحوث العلمية التي تقوم على تضافر جهود العلماء في ابتكار الاختراعات والآلات التي توفر السعادة والرخاء للإنسان. وقد تحققت كل تنبؤاته كالتبريد وتهجين النبات والحيوان وأجهزة الاتصال عن بعد ... إلخ، وقد كانت هذه اليوتوبيا الصغيرة وراء تأسيس الجمعية الملكية في لندن 1662م كما كانت مصدر إلهام لكتاب الموسوعة الفرنسية الشهيرة التي أشرف على تحريرها دنيس ديدرو-لورن دالمبير وكان لها دور كبير في نشر المعرفة العلمية والنقدية في القرن الثامن عشر.
لم يقتصر الاهتمام بآفاق العلم والتقنية على الأسماء السابقة، وإنما امتد إلى بعض الكتاب المسيحيين الأقل منهم شأنا والذين برزوا على سطح الخضم الجياش للثورة الإنجليزية ضد الملكية في منتصف القرن السابع عشر، مثل جيرادر وينستانلي في قانون الحرية (1651م) وروبرت بيرتون في مخططه الموجز «من ديموقريطس الصغير إلى القارئ» الذي تضمنه كتابه تشريح الاكتئاب 1620م وكلاهما ينطوي على تصورات يوتوبية إصلاحية في ثوب مسيحي خلاصي، بالإضافة إلى سوليما الجديدة لصمويل جوت 1614-1671م بجانب مقاله عن السعادة الحقيقية للإنسان والسيفراميين أو سكان أستراليا لدنيس فيراس في أواخر القرن السابع عشر والإقيانوسة 1656م لجيمز هارينجتون الذي تميز بنزعته الواقعية وموقفه النقدي من دعاة الملكية المستندة إلى الحق الإلهي مثل توماس هوبز غيره، وتهتم الإقيانوسة مثل غيرها من يوتوبيات هذا المؤلف بمواجهة المشكلات المحتدمة في عصره كالاستقرار السياسي والإصلاحات الدستورية والأسس الاقتصادية التي يقوم عليها؛ إذ كان هارينجتون من أنصار الحكم الجمهوري واهتم اهتماما كبيرا بالشئون الزراعية والنظام العام والتسامح الديني. ولا نستطيع أن نترك القرن السابع عشر قبل أن نذكر اثنتين من يوتوبياته مهدتا للقصة الفلسفية في عصر التنوير وللكثير من أفكاره النقدية والعقلانية، وهما الحكاية الهزلية أو الرحلة إلى القمر 1650م، للأديب الفرنسي سيرانو دي بيرجيراك الذي عرفنا به المنفلوطي، والأرض الأسترالية المجهولة 1676م لجبريل دي فواني، فضلا عن الاتجاه إلى نقد المسيحية مع أواخر القرن من وجهة نظر التدين الطبيعي، وقد ظهر تأثير هذا الاتجاه العلماني في يوتوبيات عديدة أهمها رحلات ومغامرات جاك ماسيه (1710م) للفرنسي سيمون تيزو دي باتو.
وجاء عصر التنوير في القرن الثامن عشر ليفصح عن هذه الاتجاهات في يوتوبيات خفتت فيها النغمة الأخلاقية المرتفعة لتصبح أماكن للسعادة والمتع الحسية. نجد هذا في تصوير ديدرو - وهو من أهم فلاسفة التنوير وأدبائه والمسئول عن الموسوعة الشهيرة كما سبق القول - لحياة السكان في جزر تاهيتي في يوتوبيا، ملحق لرحلة بوجا نفيل 1762م، وفي يوتوبيات تؤكد المساواة المطلقة في مجتمع شيوعي متكامل وتمجد العمل من جوانبه الإبداعية لا الأخلاقية وحسب، مثل قانون الطبيعة 1755م والجزر العائمة 1753م للفيلسوف الاجتماعي الفرنسي موريللي 1716-1781م ويعدان إضافة هامة إلى فكر الثورة الفرنسية التي اندلعت نيرانها بعد وفاته بثماني سنوات. وبجانب اليوتوبيات الأخيرة التي صورت مجتمعات شيوعية مثالية وإنسانية اختفت منها الملكية الفردية - مصدر الشرور والصراعات جميعا من أفلاطون إلى اليوم - نجد يوتوبيات أخرى تندفع إلى المستقبل في تفاؤل شديد، متأثرة بأفكار فلاسفة العصر ومصلحيه الكبار الذين رسم بعضهم مشروعات نظرية وحضارية تدور حول فكرة التقدم الحتمي في الفنون والعلوم والأخلاق ونظم الاجتماع وإمكان تشكيل الطبيعة البشرية والوصول بها إلى الكمال عن طريق التربية المعرفية والأخلاقية والجمالية، مثل تيرجو وكوندورسيه ودي كاريتا والبارون دولباخ وهلفيتيوس وديتريك. وتبلورت هذه الأفكار المستقبلية خرجت باليوتوبيا لأول مرة من سكونيتها ولا تاريخيتها السابقة، في يوتوبيا بعنوان سنة 2440م أو الحلم الذي لم يسبق له مثيل 1770م لمؤلفها لوي سباستيان ميرسييه. وجمهورية الفلاسفة أو تاريخ الأجويين لبرنار فونتينيل 1657-1757م، وفي القسم الأخير من لوحة التقدم الاجتماعي الشهيرة التي رسم فيها الماركيز كوندروسيه الذي تقدم ذكره معالم مستقبل عام للبشرية التي ستحيا في النهاية حياة حرة تحت سقف نظام اجتماعي عقلاني وطبيعي تشارك فيه الشعوب بدرجات متفاوتة، ويزداد اكتماله بصفة مستمرة، وذلك في مخطط لوحة تاريخية لجوانب تقدم العقل البشري 1794م، ولا جدال في أن هذه الأفكار اليوتوبية قد صبت بصورة غير مباشرة في الثورتين الكبريين في أواخر القرن الثامن عشر، وهما ثورة الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية، كما حملت أصداء كثيرة من أزمات العصر وطموحاته.
هكذا تسلم القرن التاسع عشر فكرة اليوتوبيا بعد أن أفعمت بالحركة والتفاؤل بالمستقبل. وأصبحت مهمة الاشتراكيين المثاليين (مثل سان سيمون 1760-1825م وأتباعه، وروبرت أوين 1771-1859م). تتركز على وسائل بلوغ اليوتوبيا أكثر من التركيز على الشكل المحدد للمجتمع اليوتوبي، ويكفي أن نطلع على عنوان كتابي أوين اللذين يعبران عن وجهة نظره في إمكان تعديل الطبيعة البشرية لدى الأطفال بوجه خاص بصور لا حصر لها عن طريق التوجيه الرشيد إلى حب الغير والتربية العاقلة للفكر والسلوك المستقيم وهما: النظرة الجديدة إلى العالم أو مقالات عن مبدأ تشكيل الطبع الإنساني وتطبيقاته في الواقع العلمي 1816م وكتاب العالم الأخلاقي الجديد 1836م، بيد أن التربية لم تكن غير طريق واحد من الطرق الموصلة إلى الهدف؛ إذ رجع بعض اليوتوبيين الثوريين إلى مثل الثورة الفرنسية وأعمالها عند اليعاقبة وعند بابيف واقتنعوا بأن الفعل السياسي - ولو بلغ حد العنف الثوري - هو الطريق الوحيد لتحقيق اليوتوبيا، ورأى بعضهم الآخر أن تقديم نموذج حي وناجح لمجتمع يوتوبي هو السبيل لإقناع الجنس البشري بتبني مثل هذا النموذج؛ وذلك مثل الفيلسوف الاشتراكي شارل فورييه (1772-1835م) رائد الحركة التعاونية في نظريته عن تكوين اقتصاد جديد مجرد عن الأنانية، من خلال تقسيم الدولة إلى مناطق أو معسكرات تعاونية.
ورفرفت أحلام اليوتوبيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين فبلغ طموح بعضهم إلى حد القول بإمكان الانتصار على المرض والموت، والقضاء على الفقر والجهل والفوضى والجريمة. وازداد تفاؤلهم بقدرات العلم والتقنية في ظل الأنظمة الاجتماعية الجديدة على تحقيق الوفرة والرخاء، وتخليص العمال بفضل الآلة من سخرة العمل وشقائه، والرقي بالبشر إلى الذرى العقلية والروحية بعد إتمام السيطرة على الطبيعة دون أن يتنبئوا بالطبع بكوارث التلوث وتدمير البيئة وأخطار سوء استخدام التقنية التي تزحف اليوم على الأرض وتهدد بإبادة البشر! وأصبحت كلمة اليوتوبي مرادفة لكلمة الاشتراكي، الأمر الذي أدى إلى زيادة تأثير الأفكار اليوتوبية على الحياة السياسية والاقتصادية وذلك على النحو الذي تجلى في يوتوبيا نظرة إلى الخلف من سنة 2000م التي ظهرت سنة 1819م لإدوارد بيلامي 1850-1898م واعتمدت عليها الحركات الاشتراكية في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر، وكذلك مع الأرض الحرة، صورة اجتماعية للمستقبل لمؤلفها تيودور هيرتسكا 1845-1925م التي كانت بمثابة يوتوبيا للمغامرين الرأسماليين على أرض القارة السوداء!
وجاء القرن العشرون فتزايد عدد اليوتوبيات واليوتوبيات المضادة زيادة هائلة تحت تأثير حرية الصحافة، ونمو التواصل بين البشر، واستفحال الأزمات الاقتصادية، وانخراط المثقفين في العمل السياسي والاجتماعي، واحتدام ظواهر الاغتراب وخيبة الأمل بينهم في الأيدولوجيات والثورات السياسية والاجتماعية التي فشلت في تحقيق التغيير إلى الأفضل. وبقيت الكتابة اليوتوبية مطلبا ملحا على كل أديب حساس لأزمات عصره وهمومه، وتعبيرا عن نزعة مثالية واشتراكية كامنة في كيان الإنسان نفسه وأمله العنيد في النظام الأمثل والأعدل، واشمئزازه من النقص والظلم والفوضى والاستبداد والإرهاب والادعاء والكذب والنفاق وسائر الشرور التي خرجت من صندوق القرن العشرين أو تسلطت داخل الجدران والأسوار وحالات الحصار التي طوقت الإنسان المعاصر فخنقت حرياته وحقوقه الأساسية التي لا يستقيم له وجود بغيرها، ولا يهدأ له بال حتى يحاول هدمها بالخيال والفانتازيا والفكر المسرف في التمني، النفس عن واقعها وعالمها التعس الذي لا تستطيع أن تأبق منه أو تهرب كما يقول أبو العلاء، ونكتفي في هذا المجال المحدود بذكر أهم اليوتوبيات التي تصورت أن التقدم العلمي هو نوع من اليوتوبيا، مثل يوتوبيا حديثة 1905م للكاتب الإنجليزي ه. ج. ويلز، ووالدين 1974م لعالم النفس السلوكي الأمريكي بوروس فردريك سكنير. والغريب حقا أن التقدم العلمي نفسه قد تجاوزها بمراحل! وربما كانت اليوتوبيات المضادة - كما سبق القول - أروع وأكثر تأثيرا من الناحيتين الأدبية والإنسانية؛ إذ عبرت عن شكوك نفر من أفضل كتاب العصر في إمكان أي إصلاح حقيقي عن طريق الأنظمة الشمولية الإرهابية كما في رواية 1948 لجورج أورويل. وعن تشاؤمهم من اليوتوبيا العلمية والتقنية التي تتحول إلى كابوس مرعب يكتم أنفاس القلب ويخنق نبضاته الأزلية للحب والرحمة والشعر والجمال والحياة، كما في العالم الطريف الشجاع لالدوس هكسلي، بجانب عدد آخر من هذه الرؤى القاتمة لأدباء مثل إ. م. فورستر، وإيفيلين وو، ويفجيني زامياتين وغيرهم ممن سجلوا فزعهم من كل المدن المسرفة في التنظيم التقني والعقلانية الأداتية كما يسميها فلاسفة مدرسة فرانكفورت.
ولم يخل أدبنا العربي المعاصر من بعض اليوتوبيات التي اقتربت من الأزمات والإشكالات السابقة وتفاوتت في أصالتها أو في تأثرها باليوتوبيات الغربية وفي تعبيرها عن أحلام العربي وهمومه، كبعض قصص توفيق الحكيم ومسرحياته (العالم سنة 2000م ورحلة إلى الغد) وجمهورية فرحات ليوسف إدريس، ورحلة ابن فطومة لنجيب محفوظ، وكهف الأخيار لشكري محمد عياد، والسيد من حقل السبانخ لصبري موسى، وغير ذلك من الأعمال التي لم تبلغ إلى علمي وربما تضمنت عناصر يوتوبية (راجع مادة يوتوبيا في قاموس الأفكار الأساسية تحرير فيليب فينر. نيويورك 1937م والمدينة الفاضلة عبر التاريخ لماريا لوزيري برنيري وترجمة الدكتورة عطيات أبو السعود ومراجعة كاتب السطور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد (225) سبتمبر 1997م، ومبدأ الأمل لإرنست بلوخ 1959م في طبعات مختلفة والإيطوبيا والإيطوبيات الكلمة والأصناف والدلالات لعبد العزيز لبيب، مجلة فصول، القاهرة، المجلد السابع، أبريل، سبتمبر 1978م وأرض الأحلام لزكي نجيب محمود، كتاب الهلال، مايو 1977م، القاهرة في ديسمبر 1991م، عبد الغفار مكاوي).
أوبرا ماهاجوني
الشخصيات
باول.
هينريش.
ياكوب.
يوزيف (حطاب).
ليوكاديا بيجبيك.
موسى ذو الأقانيم الثلاثة.
فيللي ممثل الاتهام.
جيني.
رجال ونساء من ماهاجوني.
1 (منطقة موحشة. تتوقف سيارة تحميل - لوري - ضخمة ومستهلكة.)
فيللي ممثل الاتهام :
هاللو. لا بد أن نسير للأمام.
موسى ذو الأقانيم الثلاثة :
تعطل الموتور.
فيللي :
إذن فلن نسير. (صمت.)
موسى :
تحركوا. لا بد أن نسير.
فيللي :
أمامنا الصحراء.
موسى :
إذن فلن نسير. (صمت.)
فيللي :
الآن لا مفر.
رجوعنا حتمي.
موسى :
وخلفنا «المرور»
كأنهم نسور
قد عرفوا وجوهنا،
وحددوا المصير.
فيللي :
إذن فلن يكون في إمكاننا الرجوع. (يجلسون على الرصيف ويدخنون.)
موسى :
هناك عند الشط يعثرون على الذهب.
فيللي :
أجل! كما تقول.
لكنه طويل.
موسى :
وليس من سبيل،
تعذر الوصول.
فيللي :
لكنهم هناك
في الشط يعثرون ...
موسى :
قد قلت مستحيل؛
لأنه طويل.
السيدة ليوكاديا بيجبيك (تطل من نافذة السيارة) :
توقف المسير؟
أليس من أمل؟
موسى :
لا.
بيجبيك :
إذن نبقى هنا. خطر الآن على بالي إذا كنا لا نستطيع الصعود، فعلينا أن نبقى هنا. كل الذين جاءوا من هناك قالوا الأنهار تضن بالذهب. إنه عمل مرهق، ونحن لا نطيق العمل. لكنني رأيت هؤلاء الناس، ويمكنني أن أقول لكم إنهم ينفقون الذهب! والحصول على الذهب من الرجال، أسهل عليكم من الحصول عليه من الأنهار!
لذا فهيا نقيم
هنا أساس مدينة،
لندعها مدينة الشباك
تصيد كل طائر يمر
ولحمه اللذيذ لا يضر! •••
إن كان حظ الجميع
هو الضنا والكفاح
فعندنا الأفراح،
وكل شيء مباح.
وكل شيء متاح
بالذهب الرنان،
والجن والويسكي،
والحظ والحسان. •••
وعندنا الأسبوع
يمضي بلا عمل،
وتنقضي الأيام
في الحب والأحلام،
ويعبر الطيفون
عنا بلا وجل!
ويجلس الرجال هادئين في صفاء
وهم يدخنون حين يقبل المساء. •••
وكل ثالث يوم
سيلتقي الأبطال
في حلبة الأهوال،
وتطلق الصيحات،
وتسمع الآهات
لكم وضرب عنيف
لكن صراع شريف!
والآن حطوا الرحال
في هذه الأرض،
وثبتوا الأعلام
علياء كالشهب؛
يلمحنا الرجال
من شاطئ الذهب،
ويهتف الأبطال
مرحى ماهاجوني.
ويقبل الزوار
بالشوق والدولار
على ماهاجوني. •••
وضعوا «البار» تحت تلك الشجرة،
وافتحوا «فندق النزيل الغني»،
وليكن ها هنا بقلب المدينة
ساحة الأنس والهوى المجنونة! (يرتفع علم ماهاجوني الأحمر فوق صار طويل.)
لا، لم تقم ماهاجوني.
فيللي وموسى :
على مدى الأيام
إلا لأن الخطايا،
والغدر والإجرام،
هبت على المدينة
رياحها اللعينة
فماتت السكينة،
وفقد الإنسان
الأمن والأمان.
2
في الأسابيع التالية نمت هنا مدينة على وجه السرعة، وأقامت فيها «الحيتان» الأولى. (تظهر جيني ومعها ست فتيات في أيديهن حقائب كبيرة، يجلسن على الحقائب وينشدن أغنية ألاباما):
آه أرشدنا إلى أقرب بار!
آه لا تسأل لماذا!
آه لا تسأل لماذا! •••
لأننا إن لم نجد أقرب بار.
لأننا إن لم نجد أقرب بار.
لا بد أن نموت!
لا بد أن نموت!
يا قمرا يضيء ألاباما.
الآن حان الوقت كي نقول باي باي.
نحن فقدنا أمنا العجوز ماما
فكيف نحيا بعدها وكيف نقرأ السلام
على تراب قبرها
ولا نعاقر المدام؟
آه لا تسأل لماذا،
أنت أدرى بالجواب! •••
آه أرشدنا إلى أقرب بار!
آه لا تسأل لماذا!
آه لا تسأل لماذا؛
لأننا إن لم نجد أقرب دولار صغير
لا بد أن نموت!
لا بد أن نموت! •••
يا قمرا يضيء ألاباما
لا بد أن نقول باي باي.
نحن فقدنا أمنا العجوز ماما،
والآن لا بد من الدولار.
آه لا تسأل لماذا
أنت أدرى بالجواب! (تنصرف الفتيات ومعهن حقائبهن.)
3 (يصل خبر تأسيس مدينة الفردوس إلى المدن الكبرى.) (صور على شاشة العرض في قاع المسرح تبين منظرا لإحدى المدن الكبرى التي يسكنها الملايين من الناس مع صور مختلفة لرجال عديدين.)
الرجال :
في المدن اللعينة
يعذب الإنسان
بالحقد والضغينة،
والموت والهوان. •••
نعيش لم نزل
فيها كما الديدان
من تحتها المجاري،
وفوقها الدخان. •••
نحيا ولم نزل
في وحلها نسير.
في نيرها ندور.
نسعى بلا أمل،
ونعرف المصير،
وسوف ننتهي
وينتهي الزمن
بهذه المدن
للموت والعفن. (يدخل فيللي ممثل الاتهام وموسى ذو الأقانيم الثلاثة ومعهما لافتات.)
فيللي :
بعيدا عن زحام العالم.
موسى :
القطارات الكبيرة لا تمر بنا.
فيللي :
تقع مدينة ماهاجوني.
موسى :
سألوا عنكم أمس لأول مرة.
فيللي :
في عصرنا كثيرون لا تعجبهم الأحوال في المدن الكبرى، وهم يتوجهون إلى مدينة الذهب ماهاجوني.
موسى :
المشروبات فيها رخيصة.
فيللي :
في المدن الكبيرة ،
وضجة الزحام،
والقتل في الظهيرة،
والغدر والخصام
لا أمن لا سلام.
لا شيء يرتجى،
وتركض الأيام.
لا أمل أو حب.
موسى :
لأن فيها الشر،
لأن فيها الغدر،
وكلها آلام!
فيللي وموسى :
مع ذلك تجلس أنت مع الخلان
تسامر أهل ماهاجوني.
تتصاعد سحب دخان
من جلدكم المصفر.
يلوح الأفق هناك كلوح الرق الباهت،
أو كطباق ذهبي!
وغدا تحترق مدينة سان-فرانسيسكو،
فانظر هذا هو كل المجد،
وهذا ما كنت تسميه الخير،
يوضع في كيس أسود،
أو كيس بني؛
كي يحمله الزبال البائس،
أو يحمله السجان
للجبانة أو للحان!
الرجال :
في المدن اللعينة
يعذب الإنسان
بالحقد والضغينة،
والموت والهوان. •••
نعيش لم نزل
فيها كما الديدان،
وتحتها المجاري،
وفوقها الدخان. •••
نحيا ولم نزل
في وحلها نسير،
في نيرها ندور.
نسعى بلا أمل،
ونعرف المصير. •••
وسوف ننتهي،
وينتهي الزمن
بهذه المدن
للموت والعفن.
فيللي :
لهذه الأسباب
هيا لماهاجوني!
موسى :
لأنهم هناك يسألون
عنكمو، ينتظرون.
4
وفي السنوات التالية توجه الساخطون من جميع القارات نحو مدينة الذهب ماهاجوني. (يدخل أربعة رجال ومعهم حقائبهم، وهم باول وياكوب وهينريش ويوزيف.)
هيا إلى الأمام
إلى ماهاجوني! •••
رطب هو الهواء
في الصبح والمساء. •••
لحم الخيول وافر.
لحم النساء فائر.
وتشربون الويسكي،
وتلعبون البوكر. •••
يا قمرا يضيء ألاباما.
يا أخضر، يا أيها الجميل،
أنر لنا السبيل! •••
فها هنا في الجيب
وطي هذا الثوب
أوراق بنكنوت
لضحكة كبيرة
من فمك الغبي،
من فمك الكبير.
هيا إلى الأمام
إلى ماهاجوني!
فها هي الرياح
هبت من الشرق
تزف للأرواح
روائح اللحم،
والخمر والعشق. •••
وليس من مدير،
وليس من رقيب
يحكم في القلوب،
ويطلق النفير
بالويل والثبور. •••
يا قمرا يضيء ألاباما،
يا أخضر جميل،
أنر لنا السبيل. •••
فها هنا في الجيب
وطي هذا الثوب
أوراق بنكنوت
لضحكة كبيرة
من فمك الغبي،
من فمك الكبير. •••
هيا إلى الأمام
لجنة الأحلام
إلى ماهاجوني! •••
قد أقلع الشراع،
وانطلق السفين،
والزهري اللعين
يشفى من الغرام،
والحب والمدام،
في جنة الأحلام
هنا في ماهاجون. •••
يا قمرا صغير
يطل كالقنديل
الأخضر الجميل
على ألاباما
أنر لنا السبيل. •••
فتحت هذا الثوب
وطي هذا الجيب،
أوراق بنكنوت
لضحكة كبيرة
من فمك الغبي
من فمك الكبير.
5
وكان باول أكرمان من بين الذين وفدوا على مدينة ماهاجوني، وهذه هي حكايته التي سنرويها لكم. (مرفأ مدينة ماهاجوني الرجال الأربعة واقفون أمام إحدى علامات الطريق التي كتب عليها «ماهاجوني» كما علقت معها لوحة بالأسعار.)
باول :
عندما يصل الإنسان إلى شاطئ غريب، فلا بد أن يشعر بشيء من الارتباك.
ياكوب :
ولا يدري إلى أين يتجه.
هينريش :
ولا يعرف أحدا يمكنه أن يزعق في وجهه!
يوزيف :
ولا من يرفع قبعته أمامه.
باول :
هذا هو عيب الوصول إلى شاطئ غريب. (تدخل السيدة ليوكاديا بيجبيك ومعها قائمة طويلة.)
بيجبيك :
آه يا سادة. مرحبا بكم في بيتكم (تراجع القائمة.)
أليس هذا هو السيد باول أكرمان المشهور بسن السكين؟ في كل مساء قبل النوم، يطلب الجبن مع الفلفل؟
باول :
تشرفنا.
بيجبيك :
الأرملة بيجبيك. (يتبادلان التحية.)
واحتفاء بوصولك يا سيد ياكوب شميت
فقد سوينا الزلط.
ياكوب :
شكرا لك.
بيجبيك :
وأنت يا سيد ميرج؟
باول (وهو يقدمه لها) :
هينريش ميرج.
بيجبيك :
وأنت؟ ألست السيد يوزيف ليتنر؟
باول (وهو يقدمه لها أيضا) :
ذئب ألاسكا-جو.
بيجبيك :
إكراما لكم سنخفض الأسعار. (تغير الألواح التي كتبت عليها الأسعار.)
هينريش ويوزيف :
نشكرك من القلب. (يتبادلون التحايا.)
بيجبيك :
أتحبون أن تنعشوا أنفسكم في البداية بالبنات الطازجات؟
موسى (يعرض عليهم بعض صور البنات ويقدمها كما لو كانت صور مجرمين أو مشبوهين) :
يا حضرات السادة. كل رجل يحمل صورة حبيبته في قلبه؛ فالتي تبدو لرجل سمينة، يراها الآخر نحيفة. مثل هذه الأفخاذ المدملجة شيء يناسبكم يا سيد جو.
ياكوب :
ربما كانت أنسب لي.
جو :
أنا على كل حال فكرت في شيء لونه أغمق.
بيجبيك :
وحضرتك يا سيد ميرج؟
هينريش :
لا تتعبي نفسك.
بيجبيك :
والسيد أكرمان؟
باول :
لا، أنا لا أعتمد على الصور. من عادتي أن أنتظر حتى أعرف إن كان ما أشعر به هو الحب.
ابرزن يا حسان ماهاجون
فعندنا الذهب، وماذا عندكن؟
ياكوب وهينرش وجو :
في غابات ألاسكا
عشنا سبع سنين
نقاسي البرد،
نعد النقد،
ونحصي المال،
فاظهرن يا حسان
بالظرف والحنان،
وسوف ندفع فورا
إن أعجبتنا الحال!
جيني ومعها الفتيات الست :
صباح الخير عليكم
يا زهر شباب ألاسكا!
هل كان البرد شديدا.
ألديكم مال كاف؟
باول :
صباح الخير يا حسان ماهاجون!
جيني والفتيات الست :
نحن الحسان الفاتنات
من بنات ماهاجون
إذا دفعتم يا شباب
نلتمو ما تشتهون!
بيجبيك (مشيرة إلى جيني) :
هذه هي فتاتك، يا سيد ياكوب شميت، وإذا لم يعجبك فخذاها الممتلئان فلا بد أن تكون الخمسون دولارا التي ستدفعها من الصفيح.
ياكوب :
ثلاثين دولارا؟
بيجبيك (لجيني وهي تهز كفيها) :
ثلاثين دولارا!
جيني :
آه!
فكر يا سيد ياكوب شميت،
فكر يا سيد ياكوب شميت،
ماذا تنفعنا اليوم
ثلاثون دولارا؟
هل تكفي لشراء جوارب - عشرة لا غير -
ولا شيء سواها؟
فكر يا سيد ياكوب شميت،
فكر في البنت المسكينة
ولدت وتربت ب «هافانا». •••
كانت أمي
امرأة بيضاء حزينة،
كم نصحتني
وأسرت في أذني!
يا طفلتي حذار
لا تبيعي جسدك
من أجل دولارين،
وصدقيني يا ابنتي
وإن شككت في الكلام
فانظري إلي
كيف صار حالي
فكر يا سيد ياكوب شميت،
فكر يا سيد ياكوب شميت.
ياكوب :
إذن عشرون دولارا!
بيجبيك :
ثلاثون، يا سيد، ثلاثون.
ياكوب :
مستحيل!
باول :
ربما آخذها أنا. (لجيني) ما اسمك إذن؟
جيني :
جيني سميث.
أنا التي يدعونها جيني،
جئت إلى هنا من أوكلاهوما.
من فترة تربو على الشهرين
هناك من المدائن الواسعة الكبيرة،
لقيت ما يلقاه كل حي،
وإنني يا سيدي الغني
أفعل ما يرضيك، كل شيء. •••
أعرفكم، أعرف كل باولي
قد عاد من هناك، من ألاسكا
وحالهم في البرد حال الموتى،
بل إنها لأقسى. •••
قد جمعوا الدولار للدولار،
ورجعوا يقلهم قطار،
جيوبهم تكاد تنفجر،
والنار في القلوب تستعر،
ليسعدوا هنا في ماهاجون. •••
يا باولي الحبيب،
يا باولي الفتي،
أواه يا صغيري القوي!
فدائما يحدق الرجال في رجلي.
تعال خذ يدي،
تعال يا صغيري الحيي،
واجلس هنا لدي ،
وفوق ركبتي.
قد عشت طول العمر لا أحب،
فذق رحيق الكاس من يدي
وضمني، واسمع وجيب القلب!
باول :
طيب. سآخذك.
جيني :
ارفع رأسك يا باولي! (يهم الجميع بالذهاب إلى ماهاجوني، فتقابلهم مجموعة من الناس وفي أيديهم حقائب السفر.)
جو :
من هؤلاء الناس؟ (يلمون الحقائب وهم يمرون مسرعين.)
أقلعت السفينة؟
نحمدك اللهم
فلم تزل هناك. (يتدافع حاملو الحقائب هابطين صوب المرفأ.)
بيجبيك (تلاحقهم بالشتائم) :
أغبياء! جماجم مضلعة! يجرون إلى السفينة وجيوبهم مليئة بالذهب.
سلالة ملعونة! ناس لا تعرف المرح!
ياكوب :
غريب أن يهرب هؤلاء! فالإنسان يبقى حيث يكون الجمال إلا إذا كان هناك خلل ما.
بيجبيك :
أما أنتم يا حضرات، فتأتون معي إلى ماهاجوني، لا يهمني أن أخفض سعر الويسكي مرة أخرى. (تضع لافتة ثالثة عليها أسعار مخفضة فوق اللوحة الثانية.)
يوزيف :
هذه الماهاجوني التي مدحوها لنا، تبدو في غاية الرخص، وهذا شيء لا يعجبني.
هينريش :
وأنا أجد كل شيء فيها شديد الغلاء.
ياكوب :
وأنت يا باولي، هل ترى الحال هناك على ما يرام؟
باول :
حيثما أكون وتكون قطتي،
تكون جنتي،
تحس بالهناء والسرور مهجتي.
جيني :
أواه يا باولي
اجلس على رجلي.
الفتيات الست :
أواه يا باولي
اجلس على رجلي.
جيني والفتيات الست :
قد عشت طول العمر لا أحب
فذق رحيق الكاس من يدي
وضمني واسمع وجيب القلب!
جيني والفتيات الست :
أعرفكم، أعرف كل باولي.
باول وياكوب وهينريش وبيجبيك :
قد عاد من هناك، من ألاسكا.
جيني والفتيات الست :
وحالهم في البرد حال الموتى،
بل إنها لأقسى.
باول وياكوب وهينريش ويوزيف :
كم تعبوا وجربوا الأهوال،
لكنهم قد جمعوا الأموال.
جيني والفتيات الست :
قد جمعوا الدولار للدولار،
ورجعوا يقلهم قطار.
جيوبهم تكاد تنفجر،
والنار في القلوب تستعر،
ليسعدوا هنا في ماهاجون. (ينصرف الجميع في اتجاه ماهاجوني.)
6
إرشادات (خريطة مدينة ماهاجوني. باول وجيني يتحدثان في الطريق.)
جيني :
علمتني الأيام، عندما أتعرف على رجل، أن أسأله عما يرضيه.
قل لي إذن، كيف تحب حضرتك أن أكون؟
باول :
أنت تعجبينني كما أنت، لو قلت «يا عزيزي » فسوف أتصور أنني أعجبك.
جيني :
أرجوك، يا باول، كيف تحب منظر شعري؟ للأمام أو للوراء؟
باول :
الأمر يختلف حسب الأحوال.
جيني :
وما رأيك في الملابس الداخلية يا صديقي؟ هل تحب أن أرتديها أم أبقى بغيرها؟
باول :
بغيرها.
جيني :
كما تحب يا باولي.
باول :
وطلباتك؟
جيني :
ربما لم يأت أوان الكلام عنها.
7
كل المشروعات الكبرى تمر بأزمات (صور على شاشة العرض في عمق المسرح تبين إحصاءات بالجرائم وحوادث الغش والاختلاس في ماهاجوني. تظهر سبع لوحات عليها أسعار مختلفة. داخل «فندق الرجل الغني» يجلس على مائدة البار فيللي ممثل الاتهام وموسى ذو الأقانيم الثلاثة. تدخل السيدة بيجبيك فجأة ووجهها ملطخ بالمساحيق البيضاء.)
بيجبيك :
فيللي وموسى! أنت يا فيللي وأنت يا موسى! هل عرفتما أن الناس بدءوا يرحلون؟
إنهم بالفعل هناك على الشاطئ. رأيتهم بنفسي.
فيللي :
وما الذي يدعوهم للبقاء؟ بضع حانات وأكوام من الصمت والملل.
موسى :
ثم أي رجال هؤلاء؟ إنهم يصطادون سمكة ويتصورون أنهم سعداء. ويدخنون أمام بيوتهم وهم قانعون راضون.
بيجبيك :
فيللي وموسى! آه! هذه الماهاجوني مشروع فاشل.
بيجبيك :
ثمن الويسكي اليوم اثنا عشر دولارا.
فيللي :
وغدا ينزل حتما إلى ثمانية.
موسى :
ولن يرتفع أبدا.
بيجبيك وفيللي وموسى :
آه. هذه الماهاجوني مشروع فاشل.
بيجبيك :
لا أدري ماذا أفعل! الجميع يريدون شيئا مني، وأنا لا أملك شيئا.
ماذا أعطيهم حتى يبقوا ويتركوني أعيش؟
بيجبيك وفيللي وموسى :
آه هذه الماهاجوني مشروع فاشل.
بيجبيك :
أنا أيضا أيام شبابي
جربت الحب،
أويت لظل جدار يمتد عليا،
ووقفت هناك،
وهزتني رعشات القلب،
مع رجل كان بعيني
زينة كل رجال الدنيا.
وتبادلنا الكلمات طويلا،
وتحدثنا بحديث الحب.
لكن المال تبدد.
ومع المال اختفت الرغبة والميل،
وانقشع الظل.
فيللي وموسى :
المال يثير الشهوة.
المال يثير الشهوة.
بيجبيك :
قبل تسعة عشر عاما عصف بي البؤس، وخربني الصراع في سبيل الحياة. كان هذا هو آخر مشروع كبير أفكر فيه.
كان اسمه ماهاجوني،
مدينة الشبكة،
لكنما الشبكة
لم تقتنص سمكة!
بيجبيك وفيللي وموسى :
آه إن ماهاجوني مشروع فاشل.
بيجبيك :
والآن سنرجع من حيث بدأنا،
ونجوب المدن الألف،
ونعود لعد الأعوام التسعة عشر
فلموا الأمتعة،
قفوا في الصف.
سنرجع من حيث بدأنا.
فيللي :
أجل يا أرملة بيجبيك. أجل يا أرملة بيجبيك. فهم ينتظرونك بالفعل هناك. (يقرأ من صحيفة)
وصل إلى بنساكولا ضباط مرور يبحثون عن امرأة اسمها ليوكاديا بيجبيك، وقد فتشوا جميع البيوت ثم واصلوا سيرهم.
بيجبيك :
آه!
الآن لا سبيل للنجاة!
فيللي وموسى :
صدقت يا أرملتي،
والحق ما نطقت؛
فالظلم ليس يجدي،
والشر لو علمت
مآله للشر،
ولن يطيل العمر!
بيجبيك :
أجل! لو كان لدينا المال! لو أمكننا أن نكسب مالا من مدينة الشباك هذه التي خلت من الشباك، إذن لأمكن أن يأتي ضباط المرور! ألم يحضر اليوم بعض الناس؟ لقد بدا من منظرهم أن معهم المال. ربما يعطونه لنا.
8
كل الذين يبحثون بصدق تخيب آمالهم (مرفأ ماهاجوني، يظهر باول قادما من المدينة، مثل الذين ظهروا من قبل ومعهم حقائبهم. أصحاب باول يحاولون منعه من الرحيل.)
ياكوب :
باولي، ما الذي يدعوك للرحيل؟
باول :
وما الذي يحملني على البقاء؟
هينريش :
ولماذا يتجهم وجهك؟
باول :
لأنني رأيت لوحة كتب عليها «ممنوع».
جو :
ألم تشرب الجين والويسكي الرخيص؟
باول :
أرخص من اللازم!
هينريش :
ألم تجد الهدوء والوئام؟
باول :
هدوء مميت.
ياكوب :
إذا أردت سمكة
فاذهب إلى النهر
وألق بالشبكة.
باول :
لن يسعدني هذا.
جو :
يمكنك التدخين.
باول :
يمكنني التدخين.
هينريش :
وتستطيع النوم.
باول :
أستطيع النوم.
ياكوب :
وتستطيع العوم.
باول (يقلده كالقردة) :
وأكل إصبع موز!
جو :
ورؤية الماء. (باول لا يزال يهز كتفيه.)
هينريش :
يمكنك النسيان.
باول :
مع ذلك ينقص شيء.
ياكوب وهينريش وجو :
ما أروع المساء والغروب يهبط.
ثرثرة الرجال حلوة واللغط!
باول :
مع ذلك ينقص شيء.
ياكوب وهينريش وجو :
ما أجمل الهدوء والسلام.
وأسعد الوفاق والوئام.
باول :
مع ذلك ينقص شيء.
ياكوب وهينريش وجو :
وتصبح الحياة
بسيطة وديعة،
وروعة الطبيعة
نادرة بديعة.
باول :
مع ذلك ينقص شيء.
أحيانا تخطر لي الفكرة
لم لا ألتهم قلنسوتي؟
ويخيل لي أني متخم.
وأسائل نفسي أيحرم
أن يبلع رجل قبعته؟
إن ضقت وضاقت بي الدنيا.
وسئمت سئمت فلا ألقى
شيئا أفعله بالمرة!
أحيانا يفجأني الخاطر،
وتلح الأفكار عليا
لا بد من السفر لجورجيا؛
فهناك، ولا شك، مدينة،
لم لا نتجه إلى جورجيا
إن كنا لا نجد لدينا
شيئا نفعله بالمرة؟ •••
أصحابي يا أحباب،
في الحان عرفتم فن الشرب
من الألف إلى الياء،
ورأيتم ضوء القمر طوال الليل.
البار الكائن في «مانديلاي»
أغلق بابه،
لكن لم يحدث شيء،
لم يحدث شيء بعد.
لم يحدث يا أصحاب!
ياكوب وهينريش وجو :
باولي، اضبط أعصابك،
هذا هو بارك في مانديلاي .
جو :
باولي تدفعه الرغبة في أن يأكل قبعته.
هينريش :
لم تدفعك الرغبة أن تأكل قبعتك؟
جو وهينريش وياكوب :
باولي أنت جننت
وأصبحت دجاجة!
ياكوب :
لا، لا يمكن أن تفعل هذا،
لا يا باولي.
ياكوب وجو وهينريش :
لا ترهقنا بسخافاتك.
باولي حكم عقلك،
واخش أذانا.
خذ! هذا حبل يصلح لك! (الثلاثة يزعقون في وجهه.)
حاذر فسننهال عليك،
ولن تأخذنا الشفقة بك
حتى ترتد لوعيك
تصبح إنسانا!
باول (بهدوء) :
أصحابي، يا أصحابي
يا خلان
من قال بأن لدي الرغبة
أن أصبح هذا الإنسان؟
ياكوب وجو وهينريش :
الآن كشفت قناعك وتكلمت،
وسترجع معنا غصبا عنك
إلى ماهاجوني. (يسوقونه معهم عائدين إلى المدينة.)
9 (أمام «فندق الرجل الغني» وتحت سماء رائعة الجمال يجلس رجال ماهاجوني على كراسي هزازة وهم يدخنون ويشربون، وبينهم أصحابنا الأربعة الذين سمعناهم قبل قليل. الرجال مستغرقون في الاستماع للموسيقى والنظر بعيون حالمة إلى سحابة بيضاء تتحرك على صفحة السماء من اليسار إلى اليمين ثم في الاتجاه المضاد ... إلخ، من حولهم وضعت لافتات كتب عليها: «حاسبوا من فضلكم على الكراسي»، «لا تثيروا الإزعاج»، «تجنبوا الأغاني الخليعة».)
باول :
في الغابات المكسوة بياض الثلج،
وفي أعمال ألاسكا
مع أحبابي وصحابي،
خشب الأشجار قطعت
إلى الأنهار حملت.
وأكلت اللحم النيئ وجمعت المال.
أنفقت السنوات السبع؛
لأحضر لماهاجوني.
في الكوخ هناك يطل على شط النهر،
والليل الشتوي القارص عبر السنوات السبع
رحنا نحفر بالسكين اللعنة
تلو اللعنة في المائدة على الدهر،
وتفكرنا أين سنذهب أين سنذهب
حين يكون المال وفيرا، وتدبرنا الأمر.
آه وتحملت شقاء العمر
إلى أن جئت
إلى ماهاجوني. •••
لما أن مر الوقت
جمعنا المال الحر
من العرق المر،
وخبأناه تحت الجلد،
وفي ظلمات الصدر،
واخترنا من بين المدن جميعا
ماهاجوني.
جئنا من كل سبيل،
وقطعنا الدرب الوعر
لم نتردد، لم نتوقف.
جئنا ورأينا رأي العين
وعرفنا
أن ليس هنالك ما هو أسوأ،
ما هو أغبى،
من أن ندفن
في هذا القبر
المدعو ماهاجوني! (يهب واقفا على قدميه.)
ما هذا؟ ما خطبكم؟
ماذا قد خطر ببالك؟
ما هذا الغدر؟
لن يأكل أحد من لحمي المر.
أبرز إن كنت شجاعا يا سبع البر.
فأنا باولي ذئب ألاسكا
لا يعجبني الحال،
ولا أسلم ظهري لسياط القهر.
بيجبيك (تدخل مندفعة) :
ماذا لا يعجبك لدينا؟
باول :
كومة قاذوراتك.
بجيبيك :
أنا أفهم أمثالك دوما
أو لم تقل القاذورات؟
باول :
طبعا. هذا هو ما قلت.
أنا باولي أكرمان. (السحابة ترتعش وتختفي بسرعة.)
باول :
سبع سنين،
سبع سنين،
بغابات ألاسكا
كم قطعت الشجر بسكين!
الفتيات الست وياكوب وهينريش وجو :
قطع الشجر.
ياكوب وهينريش وجو :
وقطع الشجر بسكين.
ياكوب :
اهدأ يا باولي!
باول :
والماء، الماء البارد
تحت الصفر بأربع درجات.
الفتيات الست وياكوب وهينريش وجو :
الماء البارد أربع درجات.
باول :
تعبت، تعبت كثيرا،
وتحملت شقاء العمر؛
لأصل إلى ماهاجوني،
والآن مللت ولا يعجبني الحال،
ولن أخفي السر،
في ماهاجوني لا يحدث شيء،
لا يحدث شيء،
هذا هو كل الأمر!
جيني :
عزيزي وحبيبي باولي،
اسمعنا،
ألق السكين بعيدا.
ألق السكين!
باول :
من يقدر منكم يمنعني.
ياكوب وهينريش وجو :
قلت اسمعنا
وتعقل،
ألق السكين!
جيني :
باولي هيا اذهب معنا،
كن جنتلمان!
باول :
من يقدر منكم يمنعني!
ياكوب وهينريش وجو :
تعال، تعال
وكن جنتلمان!
باول :
تحملت سبع سنين
أقطع فيها الشجر،
وعانيت سبع سنين
من البرد لسع الإبر،
تحملت عانيت كل الألم
لألقى هنا كل هذا العدم!
بيجبيك وفيللي وموسى :
لقيت ها هنا الهدوء والوئام والسلام،
وذقت لذة المدام،
والعناق والغرام.
باول :
يا للهدوء، والوئام والمدام والغرام!
جيني وياكوب وهينريش وجو :
اترك سكينك في جيبك.
الجوقة :
هدوء! هدوء!
بيجبيك وفيللي وموسى :
لك أن تغرق في النوم، تدخن، تسرح
تصطاد السمك إذا شئت وتسبح.
باول :
أغرق في النوم أدخن أسرح،
أصطاد السمك وأسبح.
جيني والفتيات الست وياكوب وهينريش وجو :
باولي. دع سكينك في جيبك.
الجوقة :
هدوء. هدوء.
بيجبيك وفيللي وموسى :
هكذا شأن الذي يرجع من برد ألاسكا.
هكذا شأنك يا باولي وأمثالك
ممن حملوا في عظمهم برد ألاسكا.
باول :
أوقفوني وامنعوني من حدوث الكارثة،
فهنا لا شيء، لا شيء جديد!
وهنا لا شيء، لا شيء جديد! (يقف فوق إحدى الموائد.)
ويلكمو، ويل مدينتكم ماهاجوني
لن يسعد فيها إنسان.
لن يسعد أبدا!
لأن فيها راحة الهدوء سائدة؛
لأن فيها جرعة السلام زائدة.
وفي الحياة راحة ليس اسمها الملال والسأم!
وفي الوجود جنة ليس اسمها الفراغ والعدم!
10 (تظهر على اللوحات في خلفية المسرح كتابة ضخمة: «الطيفون» تعقبها كتابة أخرى «إعصار يتحرك نحو ماهاجوني».)
الجميع :
أواه للحدث الخطير!
أواه من هذا المصاب!
مدينة الأفراح والسرور
تسير للخراب. •••
على الجبال يقف «الطيفون» يعصف الإعصار
والموت في اليم يطل بالفناء والدمار.
أواه للحدث الخطير!
أواه من هول المصير! •••
أي جدار ها هنا يحميني؟
وأي كهف ها هنا يئويني؟
أواه للحدث الخطير!
أواه من هول المصير!
11
في هذه الليلة المرعبة عثر حطاب بسيط يدعى باول أكرمان على قوانين السعادة البشرية. (ليلة الإعصار، جيني، والأرملة بيجبيك، وباول، وياكوب وهنريش وجو يجلسون على الأرض مستندين إلى جدار.
الجميع يائسون باستثناء باول الذي يضحك وحده.
تسمع في الخلفية أصوات المراكب التي تمر وراء الجدار.)
رجال ماهاجوني (من خارج المسرح) :
تماسكوا، تماسكوا.
لا تقلقوا من نذر الدمار.
يا إخوتي، إذا انطفت من أرضنا الأنوار
لا تيأسوا، وكونوا أقوياء.
هل ينفع البكاء
من ينازل الإعصار؟
جيني (في همس حزين) :
يا قمرا يضيء ألاباما
لا بد أن نقول جودباي.
نحن فقدنا أمنا الطيبة العجوز ماما،
والآن حان الوقت كي نعاقر المداما؛
فأنت أدرى بهذا
وأنت تدري لماذا! •••
وأينما ذهبت
لا أمل هناك،
وحيثما وجدت
مصيرك الهلاك
وخير ما تفعله
أن تنزوي في صمت
حتى يجيء الموت.
رجال ماهاجوني (من خارج المسرح) :
تماسكوا. تماسكوا.
لا تقلقوا من نذر الدمار
يا إخوتي، إذا انطفت من أرضنا الأنوار
لا تيأسوا وكونوا أقوياء،
هل ينفع البكاء
من ينازل الإعصار؟ (باول يضحك.)
بيجبيك (لباول) :
لم تضحك؟
باول :
ألا ترين الحال أم دهاك النوم؟
كيف تدور الأرض كل يوم؟
الأمن والسلام،
والحب والوئام
خرافة ووهم.
وإنما الإعصار
والموت والطوفان
حقيقة لا حلم. •••
وهكذا الإنسان
من دأبه العدوان،
وأين منه النار
والريح والإعصار
إذا انتشى بالدم؟ (من بعيد تسمع أصوات تردد.)
تماسكوا، تماسكوا.
لا تقلقوا من نذر الدمار.
يا إخوتي، إذا انطفت من أرضنا الأنوار
لا تيأسوا، هل ينفع البكاء
من ينازل الإعصار؟
ياكوب :
اهدأ يا باولي.
جو :
ما الداعي أن تتكلم؟
باول :
لم نبن الأبراج لتصبح كجبال الهملايا.
إن لم نقدر أن نهدمها فتكون شظايا،
وتدوي الضحكات دويا. •••
المستوي لا بد أن يعوج،
وكل برج شاهق لا بد أن يرتج؛
ليلعق الغبار والتراب!
ونحن لا نحتاج للإعصار،
ونحن لا نحتاج للطيفون؛
فكل ما يجلبه الإعصار من دمار،
وكل ما يحدثه الطيفون من جنون
فنحن نجلبه،
نحن نسببه،
ونحن قادرون أن نخرب الخراب! •••
شر هو الإعصار،
والطيفون شر منه،
وأسوأ الشرور كلها الإنسان! (من بعيد تسمع أصوات تردد):
تماسكوا. تماسكوا.
لا تقلقوا من نذر الدمار.
يا إخوتي، إذا انطفت من أرضنا الأنوار
لا تيأسوا.
لا تيأسوا.
هل ينفع البكاء
من ينازل الإعصار؟
باول (للأرملة بيجبيك) :
انظري، لقد علقت لوحات كتبت عليها: ممنوع، وهذا ليس من حقك. لذلك لم يعرف أحد طعم السعادة. هذه يا أصحابي لوحة كتب عليها: الغناء المرح ممنوع الليلة، ولكن قبل أن تدق الساعة الثانية، سوف أرفع عقيرتي، أنا باول أكرمان، بالغناء المرح؛ لكي تروا أن ليس هناك شيء ممنوع!
ياكوب :
ونحن لا نحتاج للإعصار.
ونحن لا نحتاج للطيفون؛
فكل ما يجلبه الإعصار من دمار،
وكل ما يحدثه الطيفون من جنون
فنحن نجلبه،
نحن نسببه،
ورعبه والهول
نحدثه بالفعل.
جيني :
اهدأ يا باولي. لم تتكلم؟
هيا نخرج ونجرب طعم الحب!
باول :
لا، لن أخرج
بل أتكلم، والآن!
لا تسلموا أنفسكم لهذه الغواية؛
فليس من رجوع
وها هو النهار واقف، منتظر بالباب،
والريح في المساء رطبة وترسل العتاب،
أتسمعون صوتها الحنون يا صحاب؟
لا تحلموا أن يرجع الصباح من جديد؟
فكل من مضى على الطريق لا يعود؛
لأنها النهاية.
ويسدل الستار. •••
حذار أن تصدقوا التضليل والخداع،
ونافث السموم في القلوب والأسماع،
لو قال ويحكم حياتكم قليلة المتاع؛
فاغترفوا من نبعها واستنفدوا المتاح؛
لأنكم لن ترتووا، لن تسكت الجراح. •••
وحينما يدعوكم النذير بالبوار
ستعرفون أنها نهاية الطريق،
وأنكم لا زلتم العطاش والجياع،
والنار في قلوبكم تئز كالحريق.
لا تسلموا رقابكم للنير والسخرة
ليد من يسومكم تعذيبه وقهره. •••
حذار أن تغتروا
به وأن تخافوا،
فما الذي يقلقكم
سينتهي المطاف،
وتنفقون مثلما ينفق كل حي
يعود للتراب، للظلام الأبدي،
ولن ترى عيونه
أشعة النهار. (يتقدم لمواجهة الجمهور.)
إذا وجدت شيئا
يؤخذ بالمال
فاغتصب المالا. •••
إن مر بك أحد
والمال في جيوبه
فاضربه فوق الرأس،
ثم اغتصب نقوده
فذاك من حقك! •••
إذا أردت سكنا
فاذهب لأي بيت،
وارقد على السرير. •••
لو دخلت عليك
صاحبة البيت
فضمها إليك،
ولو تداعى السقف
فاتركه وانصرف
فذاك من حقك! •••
إذا وجدت فكرة
جديدة عليك
ففكر الفكرة!
إن كلفتك مالك،
إن كلفتك دارك
ففكر الفكرة!
فذاك من حقك!
لصالح النظام،
وصالح البشر،
وخدمة لنفسك،
فذاك من حقك! (يهب الجميع واقفين، عراة الرءوس بعد خلع قبعاتهم، يستدير باول راجعا إلى الخلف ويتلقى تهانيهم الحارة.)
رجال ماهاجوني (من خارج المسرح) :
تماسكوا. تماسكوا.
حذار أن تخافوا،
لا تقلقوا من نذر الدمار؛
هل ينفع البكاء
من ينازل الإعصار؟
بيجبيك (تشير لباول وتتجه معه إلى أحد أركان المسرح) :
هل تقصد أنني كنت مخطئة عندما منعت بعض الأمور؟
باول :
أجل. لأنني رجل يحب المرح والانبساط والسرور، ولن أتردد عن تحطيم لوحاتك وقوانينك وهدم جميع أسوارك، سأفعل ما يفعله الإعصار، وستحصلين على المال مقابل ذلك. خذي! ها هو ذا!
بيجبيك (مخاطبة الجميع) :
افعلوا ما تشتهون
كل ما يحلو لكم؛
فغدا يأتي «الطيفون»
يتولى أمركم. •••
طالما الإعصار آت بالخراب،
كل شيء مستباح يا صحاب.
كل ما يحلو لنا.
كل ما يحلو لنا.
من حقنا.
باول وياكوب وهينريش وجو :
وهكذا نريد أن نعيش يا صحاب،
نفعل ما نحب.
نحيا كما نحب.
كأنما الإعصار،
والموت والدمار
منتظر بالباب. •••
إن زارنا فإننا نلقاه بالترحاب،
نعانق المصير ثم نشرب الأنخاب،
وعندما نلقاه
نودع الحياة ،
وتنطفي الشموع
لن نحني الجباه.
لن نذرف الدموع،
فلتعصف الرياح،
وتهدر الأمطار،
عشنا كما الإعصار!
عشنا كما الإعصار!
12 (يدخل فيللي ممثل الاتهام وموسى ذو الأقانيم الثلاثة مندفعين في حالة شديدة من الهياج والانفعال.)
فيللي وموسى :
قد دمرت بنساكولا،
وخربت بنساكولا. •••
وها هو الإعصار
يزحف بالدمار،
والنار والخراب للديار
نحو ماهاجوني!
بيجبيك (تصيح منتصرة) :
بنساكولا!
بنساكولا!
ها هم رجال الأمن والمرور
صرعى مجندلون،
والعادلون كلهم والظالمون
قد سقطوا في الطين،
وللمصير نفسه ستنتهون.
نفس المصير.
باول :
ولهذا فأنا أطلب منكم
افعلوا الليلة ما يعجبكم،
كل ممنوع مباح!
كل ممنوع مباح! •••
وعندما يفجأنا الإعصار بالفناء
سيختفي الجميع؛
فبادروا بالعزف يا صحاب والغناء؛
لأنه ممنوع!
رجال ماهاجوني (يسمع صوتهم القريب من وراء الجدار) :
اهدءوا!
اهدءوا!
باول مع جيني وجو :
هيا نغني سويا
أغاني البهجة؛
لأنهم منعوها
وحرموها عليا. •••
هيا نغني سويا
أغاني البهجة؛
حتى تدوي دويا،
وننعش المهجة! (باول يقفز فوق الجدار.)
باول :
كما يوسد الإنسان نفسه ينام.
ولن يغطيك سواك، لن يقيك البرد والظلام. •••
كلما داس أحد
فأنا ذاك الهمام،
وإذا ديس أحد
فهو أنت في الرغام.
الجميع :
كما يوسد الإنسان نفسه ينام،
ولن يغطيك سواك، لن يقيك لفح البرد والظلام. •••
وإذا داس أحد
فأنا ذاك الهمام،
وإذا ديس أحد
فهو أنت في الرغام! (تنطفئ الأنوار، ولا يظهر على ألواح الشاشة في عمق المسرح سوى رسم جغرافي مع سهم يتحرك ببطء نحو مدينة ماهاجوني، ويبين اتجاه الإعصار الزاحف.)
الجوقة (من بعيد) :
تماسكوا! تماسكوا!
حذار أن تخافوا! •••
لا تجبنوا! لا تقلقوا من نذر الدمار؛
هل ينفع البكاء من ينازل الإعصار؟ (في الضوء الخافت ينتظر رجال وفتيات على الطريق الممتد أمام مدينة ماهاجوني. ولوحات العرض في عمق المسرح تبين السهم الزاحف ببطء نحو ماهاجوني، على نحو ما رأينا في ختام الفصل السابق. ومكبر الصوت يعلن الأنباء التالية على فترات متقطعة تتخللها الموسيقى وغناء الجوقة.)
النبأ الأول :
الإعصار يتحرك في اتجاه «أتسينا» بسرعة مائة وعشرين ميلا في الساعة.
النبأ الثاني :
تدمير «أتيسنا» تدميرا شاملا. لا أخبار. والاتصالات مقطوعة.
النبأ الثالث :
تزايد سرعة الإعصار، وتحركه في خط مستقيم نحو ماهاجوني. انقطع الاتصال السلكي مع ماهاجوني. وبلغ عدد ضحايا الإعصار في بنساكولا أحد عشر ألف ضحية. (الجميع يحملقون في السهم وقد تملكهم الهلع. يتوقف السهم لمدة دقيقة عند وصوله إلى مشارف ماهاجوني. صمت مميت. وفجأة يدور السهم في نصف دائرة حول ماهاجوني ثم يواصل سيره. مكبر الصوت يعلن أن الإعصار قد دار في منحنى حول ماهاجوني ثم استأنف مساره.)
أصوات الجوقة والفتيات والرجال :
أي حل رائع!
مدينة الأفراح قد نجت من الدمار،
وعاليا من فوقها قد عبر الإعصار.
والموت للحياة قد تراجع.
فأي حل رائع!
وأي حل رائع! (وأصبح شعار سكان ماهاجوني من الآن فصاعدا هو كلمة «مباح» التي تعلموها في ليلة الرعب والفزع.)
13 «بعد مرور عام على انحراف الإعصار العظيم. حركة كبيرة في ماهاجوني تدل على الازدهار ورواج الأحوال.» (يتقدم الرجال ويخاطبون جمهور النظارة وهم يغنون):
الجوقة :
تذكروا.
تذكروا.
في البدء يأتي الأكل والطعام؛
فانتبهوا للكلمة.
وثانيا العشق والغرام،
تتلوهما الملاكمة!
والشرب - طبق العقد - والمنادمة.
وقبل كل شيء والمهم يا رجال
تذكروا.
تأكدوا على الدوام.
واذكروا في كل حال،
هنا يباح كل شيء
للجميع.
كل شيء،
كل شيء ها هنا حلال! (يدخل الرجال إلى المسرح ويشاركون في الأحداث. على اللوحات الموضوعة في عمق المسرح تظهر كلمة «الأكل» بحروف ضخمة. مجموعة من الرجال يجلس كل منهم إلى إحدى الموائد التي تكدست عليها كميات كبيرة من اللحوم. نرى باول بينهم، أما ياكوب، الذي يطلق عليه الآن اسم «النهم»، فيجلس على مائدة تتوسط بقية الموائد وهو منهمك في التهام الطعام بغير انقطاع. على الجانبين يظهر العازفان الموسيقيان.)
ياكوب النهم :
الآن أكلت العجلين.
والآن إلى العجل الثالث!
مع ذلك لا يكفي هذا
لو أمكن فسآكل نفسي!
باول وياكوب :
يا أخي! إن كان هذا يسعدك
فتفضل يا أخي أكمل جميلك!
بعض الرجال :
يا من سميت النهم شميت
أنت سمين يا سيد جدا،
فتفضل عجلا آخر!
ياكوب :
إخوتي! يا أصدقاء!
انظروا لي ، لو سمحتم
انظروا لي كيف آكل،
فإذا الأكل تلاشى
هدأت نفسي تماما،
وتطلعت إلى شيء جديد.
إخوتي! هاتوا المزيد! (يسقط ميتا.)
الرجال (يصطفون خلفه في نصف دائرة وقد خلعوا قبعاتهم) :
انظروا! مات شميت!
انظروا! يا للسعيد!
لاحظوا تعبير وجهه،
نهم يرجو المزيد!
متخم عبأ كرشه
وله للأكل وحشة،
وشجاع لا يبارى
كيف بالله توارى
وهو صنديد حديد؟! (يضعون القبعات على رءوسهم.)
الرجال (وهم يعبرون على مقدمة المسرح) :
وثانيا العشق والغرام.
14 (على لوحات العرض في عمق المسرح تظهر كلمة «العشق» مكتوبة بحروف ضخمة. حجرة بسيطة مشيدة فوق المنصة. في وسط الحجرة تجلس الأرملة بيجبيك، على يسارها فتاة، وعلى يمينها رجل. رجال ماهاجوني يصطفون تحت المنصة. تسمع موسيقى في الخلفية.)
بيجبيك (ملتفتة للرجل الجالس بجوارها) :
ارم اللبان من فمك.
واغسل يديك أولا،
واترك لها فرصة،
وقل لها كلمتين.
الرجال (بغير أن يرفعوا رءوسهم) :
ارم اللبان من فمك،
واغسل يديك أولا، •••
واترك لها فرصة،
وقل لها كلمتين. (ينتشر الظلام ببطء في الحجرة.)
هلم يا شباب! أسرعوا!
غنوا لنا نشيد مانديلاي؛
فالحب لا يحده الزمان.
هلم يا شباب أسرعوا •••
فالأمر ها هنا أمر ثوان
والبدر لن يطل في سماء مانديلاي
لآخر الزمان! (ينتشر الضوء في الحجرة بالتدريج. الكرسي الذي كان يجلس عليه الرجال خال. تلتفت الأرملة بيجبيك للفتاة الجالسة بجوارها.)
بيجبيك :
المال وحده لا يستثير الحب،
ولا يهز القلب.
الرجال (بغير أن يرفعوا رءوسهم ) :
المال وحده لا يستثير الحب،
ولا يهز القلب. (تظلم الحجرة مرة أخرى.)
هلم يا شباب! أسرعوا!
غنوا لنا نشيد مانديلاي.
الحب لا يحده الزمان.
هلم يا شباب أسرعوا؛
فالأمر ها هنا أمر ثوان
والبدر في سماء مانديلاي
لن يطل فوقنا
لآخر الزمان! (تنتشر الإضاءة في الحجرة من جديد. يدخل رجل آخر، يعلق قبعته على الحائط ويجلس على الكرسي الخالي.) (تخفت الإضاءة في الحجرة بالتدريج.)
الرجال :
والبدر لن يطل في سماء مانديلاي.
لن يطل فوقنا
لآخر الزمان! (عندما يسلط الضوء من جديد، نرى باول وجيني جالسين على كرسيين متباعدين. باول يدخن ، بينما تضع جيني زينتها.)
جيني :
انظر إلى زوج اليمام رف في الأعالي،
1
باول :
والسحب تحدو الموكب الصغير كالظلال.
جيني :
وهو يطير هائما.
باول :
من عالم لعالم جديد.
جيني :
يلتصق الجناح بالجناح
في الهبوط والصعود.
جيني وباول معا :
مجاورين للسحاب لحظة ومبعدين،
يقسمان صفحة السماء بين بين.
جيني :
ويمضيان مسرعين
عاشقين ذاهلين.
باول :
عن الوجود أسلما الزمام للمغامرة.
جيني :
ما شعرا إلا بخفق الريح
في الأجنحة المهاجرة
تهدهد التوءم في المهد وتحنو في حذر،
فما درى بغير صحبة الحبيب في السفر.
باول :
ولو رمته الريح في اللجة
أو في هوة من العدم
ماذا يهم، والأليف صنوه
في فرحه وفي الألم؟
جيني :
وهل يصيبه أذى
مادام يرعى عهده ويفتدي؟
باول :
وهكذا يحلقان فوق كل معتد،
وينجوان من رصاص الغدر أو زخ المطر.
جيني :
يرفرفان تحت قرص الشمس أو قرص القمر
مستسلمين زاهدين في الحياة والبشر.
باول :
أين تقصدان يا ترى؟
جيني :
لا لمكان.
باول :
ترى وعمن تبعدان؟
جيني :
عن الجميع.
باول :
وتسألون
كم مضى عليهما.
منذ تعارفت روحاهما وائتلفا؟
جيني :
منذ قليل.
باول :
وتسألونني عن ساعة الفراق
هل دنت؟
جيني :
بعد قليل.
جيني وباول معا :
وهكذا الحب العظيم
سند للعاشقين
الطيبين واليمام!
الرجال :
تذكروا.
تذكروا.
في البدء يأتي الأكل والطعام؛
فانتبهوا للكلمة!
وثانيا العشق والغرام،
تتلوهما الملاكمة!
والشرب - طبق العقد - والمنادمة.
وقبل كل شيء والمهم يا رجال
تذكروا
تأكدوا على الدوام
واذكروا في كل حال،
هنا يباح كل شيء
للجميع.
كل شيء.
كل شيء ها هنا حلال!
15 (يظهر الرجال مرة أخرى على المسرح، حيث يجري إعداد حلبة الملاكمة أمام خلفية كتبت عليها كلمة «الصراع». على منصة جانبية تعزف موسيقى آلات نحاسية.)
جو (واقفا على كرسي) :
سنقيم الآن يا سادتي حفلة كبرى للملاكمة، ولن ينتهي اللعب إلا بالضربة القاضية. وسيكون الصراع على البطولة بين موسى صاحب الأقانيم الثلاثة وبيني أنا ذئب ألاسكا-جو.
فيللي :
ماذا؟ أنت تصارع موسى صاحب الأقانيم الثلاثة؟ أحسن لك يا بني أن تهرب بجلدك. فليست هذه ملاكمة عادية، بل جريمة قتل مؤكدة.
جو :
على كل حال أنا لم أمت حتى الآن. وكل ما جمعت آخر قرش. لهذا أرجوكم جميعا أن تراهنوا علي، أنتم يا من تعرفونني وتقدرونني منذ الطفولة، أنت يا جيم، لقد حسبت حسابك أنت بالذات. كل إنسان عاقل يغلب الرأس على قبضة اليد، ويضع الدهاء فوق القوة، والذكاء فوق الغلظة، فهو مدعو للمراهنة بماله على ذئب ألاسكا-جو. (جو يتجه إلى هينريش.)
هينريش :
جو، أنت غال عندي. أما أن أرمي نقودي في الهواء، فهذا شيء لم تحتمله أعصابي بعد أن رأيت موسى صاحب الأقانيم الثلاثة. (جو يتجه إلى باول.)
باول :
جو، أنا قدرتك على الدوام، وسوف أقدرك منذ المهد إلى اللحد. ولهذا سأراهن عليك اليوم وبكل ما أملك.
جو :
باول، عندما أسمع هذا منك، تقفز صورة ألاسكا أمام عيني. شتاء السنوات السبع، والبرد القارص، كيف قطعنا الأشجار سويا.
باول :
جو، يا صديقي القديم، أقسم لك أنني على استعداد للتضحية بكل شيء.
بشتاء السنوات السبع، بالبرد القارص، وبقطع الأشجار سويا. حين أسمع سيرة ألاسكا تقفز صورتك أمامي يا جو.
جو :
مالك مضمون، أقسم لك. وأفضل أن أخسر نفسي ولا تخسر. (في هذه الأثناء يتم إعداد حلبة الملاكمة التي يدخلها موسى ذو الأقانيم الثلاثة.)
الرجال :
سلام مثلث لموسى! صباح الخير يا موسى! أره كيف يكون الضرب الموجع!
صوت امرأة :
هذه جريمة قتل!
موسى :
يؤسفني هذا!
الرجال :
تكفيه لكمة واحدة !
الحكم (يقدم اللاعبين) :
موسى مائتا رطل. ذئب ألاسكا-جو مائة وسبعون.
رجل (ينادي) :
نصب وتحايل! (تتم الاستعدادات الأخيرة لبدء الملاكمة.)
باول (من أسفل) :
هاللو، جو!
جو (يحييه من الحلبة) :
هاللو، باول!
باول :
لا تبلع ضرسك.
جو :
ضرسي ينخر فيه السوس. (تبدأ الملاكمة.)
الرجال (بالتناوب) :
انطلقا الآن! أوقعه أرضا!
هراء. ها هو يضرب.
خذ بالك! تقع على وجهك.
لا تتوقف!
لا بأس! شقت شفته!
اهجم يا جو! ضربة بطل ومعلم!
معلوم! يسبح في عرقه! (موسى وجو يتبارزان في إيقاع منتظم.)
موسى :
افرمه!
فتت عظمه!
موسى! اضرب في المليان! الضرب الموجع! (جو يسقط على الأرض.)
الحكم :
الرجل مات! (ضحك متواصل. ينصرف الجمهور.)
الرجال (وهم ينصرفون) :
الضربة القاضية هي الضربة القاضية،
لم يتحمل الضرب في المليان.
الحكم :
الفائز موسى ذو الأقانيم الثلاثة.
موسى :
يؤسفني هذا. (ينصرف.)
هينريش (لباول. وحدهما داخل الحلبة) :
تنبأت بهذا. وهو الآن صريع بالضربة القاضية.
باول (بصوت خافت) :
هاللو جو! (يخرج الرجال من مقدمة المسرح.)
الرجال :
تذكروا. في البدء يأتي الأكل والطعام.
وثانيا العشق والغرام.
تتلوهما الملاكمة،
والشرب - طبق العقد - والمنادمة.
وقبل كل شيء والمهم يا رجال
تذكروا تأكدوا على الدوام،
واذكروا في كل حال
هنا يباح كل شيء.
كل شيء للجميع.
ها هنا حلال.
16 (يرجع الرجال للظهور على خشبة المسرح، على اللوحات في الخلفية كتابة بخط كبير «الشرب». الرجال يجلسون ويمدون أرجلهم على المائدة ويشربون. في المقدمة ينهمك باول وجيني وهينريش في لعب البلياردو.)
باول :
أيها الأصدقاء، تعالوا. أنتم مدعوون على الشرب؛ فقد رأيتم كيف يسقط الإنسان في لحظة مثل جو. يا أرملة بيجبيك. كأس للسادة على حسابي!
الرجال :
برافو يا باول. مقبول منك. ولم لا؟ بكل سرور. كل من بقي في ماهاجوني، احتاج كل يوم إلى خمسة دولارات. وربما احتاج للمزيد لو أنفق على الملذات والمسرات. لكنهم في ذلك الزمان اللعين تجمعوا للشرب واللعب في صالون ماهاجوني:
خسروا في كل الأحوال المال،
لكن كسبوا المتعة وهدوء البال.
في البر والبحر
يسلخ جلد الناس
يعرضه النخاس
بباهظ السعر؛
لأجل هذا يجلسون طول الليل والنهار،
ويعرضون جلدهم لعابري السبيل والتجار؛
لأن جلدهم بضاعة توزن بالدولار!
باول :
يا أرملة بيجبيك. كأس أخرى للسادة!
الرجال :
برافوا باولي! ممنونون!
في البر والبحر
يسلخ جلد الناس؛
لأجل هذا يجلسون طول الليل والنهار
ويعرضون جلدهم لعابري السبيل والتجار؛
لأن جلدهم بضاعة توزن بالدولار! •••
ويزيد الطلب يزيد على جلد الناس،
وتعض الشوكة لحمكمو بالألم القاسي،
لكن من يقدر أن يدفع ثمن الكأس؟
فالخمر بالدولار،
وجلدكم بالعار.
كل من بقي في ماهاجوني احتاج كل يوم إلى خمسة دولارات، وربما احتاج للمزيد لو أنفق على الملذات والمسرات. لكنهم في ذلك الزمان اللعين، تجمعوا للشرب في صالون ماهاجون.
لعبوا خسروا في كل الأحوال المال
مع ذلك خرجوا بالمتعة وهدوء البال.
بيجبيك :
والآن! الحساب يا حضرات!
باول :
جيني تعالي، ساعديني!
نفدت نقودي، أدركيني!
أفضل شيء أن نهرب في طرفة عين.
فلنذهب هيا نذهب، ليس يهم إلى أين! (بصوت عال للجميع، وهو يشير لمائدة البلياردو):
يا سادتي الكرام! •••
تركبوا في قاربي المطاط
في نزهة تجدد النشاط!
نعبر فيها البحر والمحيط! (ثم بصوت هامس لجيني):
ابقي معي، لا تتركيني يا جيني؛
فالأرض تحتي زلزلت زلزالها. (ولصاحبه هينريش):
وأنت يا هنري،
يا رفقة العمر،
ابق معي الآنا. •••
لقد سئمت عيشتي في هذه المدينة؛
لأنها ... لأنها كئيبة حزينة.
كما عزمت أن أعود من جديد
إلى ألاسكا كي أجدد العهود. (بصوت مرتفع):
الليلة أرحل لألاسكا بطريق البحر. (في هذه الأثناء يكون الجميع قد فرغوا من بناء «سفينة» يصعد إليها باول وهينريش وجيني، مستعينين على ذلك بمائدة البليارد وعمود من المخزن وما شابه ذلك من أدوات، جيني وباول وهينريش يتصرفون فوق المائدة تصرف البحارة.)
باول :
دلقنا الخمرة في بيت الراحة،
وسحبنا الشيش الورديا،
ونفثنا أنفاس دخان،
ونعمنا بالعيش سويا،
واليوم سنرجع لألاسكا. (الرجال في أماكنهم يتابعونهم باستمتاع شديد.)
الرجال :
اضربوا لباولي سلاما
يا له من قبطان.
وانظروا كيف يقود المركب النشوان مثل البهلوان! •••
أنت يا جيني، اخلعي ثوبك؛
فالحر شديد عند خط الاستواء.
أنت يا هينريش خذ بالك من ريح الخليج،
واحترس كي لا تطير القبعة.
جيني :
يا إلهي!
هل أرى الطوفان يأتي من هناك؟
أم هو الإعصار آت بالهلاك؟
الرجال (بطريقة استعراضية كأنهم من فرق الإنشاد.) :
انظروا كيف تدلهم السماء
وتغير السحائب السوداء! (يصفر الرجال ويعولون كأنهم يحسون بعاصفة تقترب منهم.)
جيني وباول (يجأران بالشكوى) :
المركب ليست كالكنبة.
فالريح تدمدم غاضبة،
والبحر يدوي مضطربا،
والمركب يتحسس دربه،
والظلمة تهوي مكتئبة،
ودوار البحر يداهمنا
ويقلب في دمنا رعبه.
الرجال :
انظروا كيف تدلهم السماء،
وتغير السحائب السوداء!
جيني (وهي تتشبث بالشراع في خوف) :
أفضل شيء ننشد أغنية «الليل العاصف».
هينريش :
أفضل شيء للقلب الخائف
أغنية الليل العاصف!
باول :
فلنشد سويا ونغني.
جيني وباول وهينريش :
الليل داج عاصف،
والبحر عال كالجبال،
والموج مصطخب ومركبنا،
يناضل لا يزال. •••
اسمعوا الأجراس دوت كالنذير،
واحذروا أن تقربوا هذي الصخور.
جيني :
أسرعوا في السير كونوا حذرين.
سيركم عكس اتجاه الريح طيش وجنون!
الرجال :
اسمعوا!
اسمعوا الريح تدوي في الصواري!
وانظروا!
يدلهم الأفق في عز النهار!
هينريش :
نتشبث بعمود الصاري.
لو جن جنون الإعصار.
باول :
أبدا لا داعي يا صحبي؛
فاللون الأسود عن بعد
غابات ألاسكا في القطب.
والآن يا صحاب،
هيا اتركوا السفينة،
واستشعروا السكينة، (ينزل من السفينة وينادي):
هاللو!
أهذه ألاسكا؟
موسى (يظهر فجأة إلى جواره) :
ادفع حساب الشرب!
باول (بخيبة أمل شديدة) :
أواه ثم آه! قد وصلنا ماهاجون! (يتقدم الرجال للأمام ومعهم كئوسهم.)
الرجال :
باولي،
لقد سقيتنا.
أطعمتنا.
رويتنا.
ندعوك يا إلهنا
بارك له في عمره،
ولتبقه لنا.
بيجبيك :
والآن ادفع حسابك؟
باول :
طبعا طبعا.
أرملتي بيجبيك
هذا حقك.
والحق معك.
لكني اللحظة أدرك
وا أسفا لن أقدر أن أدفع لك؛
إذ يظهر أني أنفقت نقودي.
بيجبيك :
ماذا؟ ترفض أن تدفع؟
جيني :
باولي، فتش جيبك؛
لا شك ستجد نقودا.
فتش ثوبك.
باول :
وأنا أتحدث معكم
قبل قليل.
موسى :
ماذا؟
السيد ليس لديه نقود؟
ماذا؟
السيد يرفض أن يدفع؟
هل تعرف ما معنى هذا؟
فيللي :
معناه ضعت،
ويرحمك المولى. (يبتعد الجميع ، باستثناء هينريش وجيني.)
بيجبيك (لهينريش وجيني) :
هل يتكرم أحدكما
فيمد يديه
ويقرضه شيئا؟ (هينريش ينصرف صامتا.)
جيني؟ ما رأيك أنت؟
جيني :
أنا؟!
بيجبيك :
لم لا؟
جيني :
شيء مضحك!
كم نتحمل نحن الفتيات!
بيجبيك :
لا أمل إذن؟
جيني :
لا، لا،
ما دمت مصممة
قطعا لا!
موسى :
اربطوه. (تقطع جيني مقدمة المسرح ذهابا وإيابا وهي تغني، بينما يتم ربط باول وتقييده.)
1
جيني :
حسنا يا سادة،
أمي نصحتني يوما،
قالت كلمة،
والكلمة قد صارت لعنة
سيكون مصيرك للمبغى،
أو ما هو أسوأ منه وأدهى.
ما أسهل الكلام عندما يقال،
لكنني أقول مستحيل،
لن يكون مما تقصدون شيء! •••
لن تفعلوا هذا معي،
وفي غد سوف نرى!
إن الإنسان العاقل يختلف عن الحيوان؛
لأنه كما يوسد الإنسان نفسه ينام
ولن يغطيك سواك،
لن يقيك لسع البرد والظلام. •••
وإذا داس أحد،
فأنا هذا الهمام
وإذا ديس أحد،
فهو أنت في الرغام.
2 :
موسى :
مرحى يا ناس!
رجل لا يملك أن يدفع ثمن الكاس!
قحة وغباء ورذيلة
والأسوأ منها الإفلاس! (يساق باول إلى خارج المسرح.)
بالطبع جزاء الرجل الشنق،
وحكم القانون الموت،
مع ذلك عفوا يا سادة،
لا تقفوا، وامضوا في صمت. (يرجع الجميع إلى أماكنهم ويواصلون الشرب ولعب البلياردو.)
الرجال :
عذرا يا سادة،
في العادة،
من يلزم مأواه البائس
لا ينفق في اليوم الواحد
دولارا أو دولارين،
لو أسرف دولارا خامس.
أما إن كان له زوجة
فالخمسة تكفي وزيادة. •••
في أرخص ناد قد جلسوا،
والحظ موات والأنس،
والمكسب شيء مضمون. (يخبطون بأقدامهم على الإيقاع.)
مع ذلك هل كسبوا شيئا؟ (يتوقفون عن الخبط بأقدامهم ويمدون أرجلهم على الموائد. يعبر بعض الرجال مقدمة المسرح متجهين إلى خلفيته وهم ينشدون):
تذكروا،
تذكروا الكلام.
في البدء يأتي الأكل والطعام،
وثانيا العشق والغرام،
تتلوهما الملاكمة!
والشرب - طبق العقد - والمنادمة.
لكنما المهم والأهم يا رجال
تذكروا على الدوام
واذكروا في كل حال
هنا يباح كل شيء للجميع،
كل شيء عندنا حلال.
17 (باول أكرمان في الأغلال. الوقت ليلا.)
باول :
عندما تصفو السماء
يبتدي يوم لعين،
والسماء الآن ما زالت
ظلاما في ظلام. •••
يا ليت ليلي يدوم،
والصبح لا يطلع؛
أخشى أن يصلوا الآن؛
الحارس والسجان،
ويحيط بي الأوغاد،
وأسلم للجلاد. •••
يا ليت ليلي يدوم، •••
يا أيها المسكين،
يا كهلي الحزين،
قد ضاعت السنين
والعمر في ثوان. •••
فاحش به الغليون
وانفثه كالدخان؛
فكل ما قد فات
قد انقضى ومات،
وما تبقى الآن
سيختم الأحزان؛
فاحش به الغليون
وانفخه كالدخان. •••
يا ليت ليلي يدوم،
والصبح لا يطلع. •••
والسماء الآن مازالت ظلاما في ظلام. (ينتشر الضوء.)
ليته لا ينجلي كي لا أرى اليوم اللعين.
18
لم تكن المحاكم في ماهاجوني بأسوأ منها في غيرها. (خيمة المحاكمة. مائدة وثلاثة كراسي، وهيكل حديدي صغير على شكل مسرح دائري - يشبه قاعات العيادات الجراحية - يجلس فيه جمهور النظارة الذين يقرءون الصحف، ويمضغون اللبان ويدخنون. الأرملة بيجبيك تقوم بدور القاضي، بينما يتولى فيللي مهمة الدفاع. رجل يدعى توبي هيجنز يجلس في جانب على الأريكة المخصصة للمتهمين.)
موسى (الذي يتولى الادعاء، في مدخل الخيمة) :
هل حصل كل المتفرجين على التذاكر؟ بقيت ثلاثة أماكن خالية، الواحدة بخمسة دولارات. ثلاث قضايا مهمة، والتذكرة بخمسة دولارات. خمسة فقط يا حضرات، لنسمع كلمة العدالة. (لا يأتي أحد، فيرجع لمكانه أمام منصة الادعاء.) : (وأثناء الخطبة السابقة لممثل الادعاء يدور صراع صامت ويائس بين المتهم والأرملة بيجبيك. وقد أفهم المتهم هيئة المحكمة عن طريق رفع أصابعه إلى أعلى بمقدار المبلغ الذي يعلن عن استعداده لدفعه؛ بينما تحاول الأرملة بنفس الطريقة أن ترفع المبلغ الذي يعرضه، وقد عبر التردد الذي أبداه ممثل الادعاء مع نهاية خطبته السابقة عن أقصى حد وصل إليه عرض المتهم بعد المفاوضات الصامتة مع المحكمة.)
بيجبيك :
طلب الدفاع؟
فيللي :
من هو المتضرر؟ (صمت.)
الرجال (وهم المتفرجون في المكان الذي وصفناه) :
الموتى لا يتكلمون.
بيجبيك :
طالما أن المتضرر لم يعلن عن نفسه، فنحن مضطرون للحكم ببراءته. (ينتقل المتهم إلى مكان المتفرجين.)
موسى (يستأنف القراءة من ملف الاتهام) :
ونصل إلى قضية باول أكرمان المتهم بالسرقة والابتزاز. (يظهر باول مقيدا بالأغلال ويقوده هينريش.)
باول (قبل الجلوس على أريكة المتهمين) :
هيني، أرجوك!
هبني، من فضلك
مائة دولار؛
كي ينظر في أمري الآن
كإنسان.
هينريش :
باولي
أنت قريب مني،
لكن نقودي شيء آخر
مختلف عني.
باول :
هيني، أولا تتذكر
صحبتنا
في غابات ألاسكا؟
وشتاء السنوات السبع
ونوبات البرد؟
كيف قطعنا الأشجار سويا؟
هيني،
اذكر تلك الأيام
وهبني مائة دولار.
هينريش :
باولي،
أيام ألاسكا
في ذاكرتي
وشتاء السنوات السبع
ونوبات البرد.
قطع الأشجار سويا،
والكد لجمع الأموال.
ولهذي الأسباب جميعا
لن أعطيك المال.
موسى (لباول) :
أنت متهم بالامتناع عن دفع ثمن الويسكي والعمود الذي استوليت عليه من المخزن.
لم يسبق أن ارتكب إنسان مثل هذا الفعل البشع الفظ لقد جرحت كل الأحاسيس البشرية بغير حياء، فارتفعت من العدالة المهانة صرخة القصاص. لهذا أطالب، أنا مرافع الاتهام، بأن تأخذ العدالة مجراها. (لم ينتبه باول - أثناء خطبة الاتهام - إلى الإشارات التي ترسلها الأرملة بيجبيك بإصبعها.) (بيجبيك وفيللي وموسى يتبادلون نظرات لها مغزاها.)
بيجبيك :
حسن. فلنبدأ فورا،
أفتتح التحقيق العام
ضدك يا باولي أكرمان؟
التهمة أنك أغويت فتاة
باسم جيني سميث
بعد وصولك لماهاجوني،
أنك أجبرت المسكينة كرها
أن تستسلم لك
من أجل المال.
فيللي :
من المتضرر؟
جيني (تتقدم لهيئة المحكمة) :
أنا جيني سميث (همس بين صفوف النظارة.)
بيجبيك :
وقت الشدة في ماهاجون
ليلة زحف الطيفون،
وعد الناس الأنفاس
غنيت أغاني فاحشة
وانعدم لديك الإحساس.
فيللي :
من المتضرر؟
الرجال :
لم يعلن أحد عن نفسه
لم يشك إليكم إنسان.
معناه بصيص من أمل
في العدل يا باولي أكرمان.
موسى (مقاطعا كلامهم) :
مع ذلك في نفس الليلة
يتعمد هذا المأفون
أن يلعب دور الإعصار
ويروع أمن ماهاجون.
الرجال :
برافو، يحيا باولي
هينريش (يهب واقفا على المنصة) :
هذا الحطاب الطيب
من غابات ألاسكا
سن قوانين اللذة والحرية،
كشف الدستور الخالد
لسعادة جنس البشرية،
وسعادتكم أنتم
أهل ماهاجوني.
الرجال :
ولذلك نرفع صوت الحق
نطالب ببراءة باولي أكرمان،
هذا الحطاب الطيب من غابات ألاسكا
من غابات ألاسكا
رمز النخوة والصدق.
هينريش :
باولي،
من أجلك أفعل هذا
ولأني أذكر أيام صبانا
في غابات ألاسكا،
وشتاء السنوات السبع،
ولذع البرد القارص
إذ نقتطع الأشجار سويا.
باول :
هيني، هيني،
صاحبي وقرة عيني
ما قد قدمت لأجلي
قد ذكرني بألاسكا
بشتاء السنوات السبع،
وبالبرد القارص
وبقطع الأشجار سويا.
موسى (يضرب المنضدة بيده) :
من غابات ألاسكا
وحضيض البؤس
سلم للموت صديقا
في لعب البوكس؛
كي يكسب مالا جما.
هينريش (ينتفض واقفا) :
أنا أسألكم يا محكمة العدل
من قتل صديقه؟
الأرملة بيجبيك :
من قتل المدعو
ذئب ألاسكا-جو؟
موسى (بعد فترة صمت) :
شيء مجهول
لا تعرفه محكمة العدل.
هينريش :
لم يتطوع أحد
ممن وقفوا حوله
كي يفديه بماله،
لما رهن حياته
في وسط الحلبة
إلا الواقف في القفص الآن
باولي أكرمان.
الرجال (بالتبادل) :
ولذلك نطلب أن يشنق باولي أكرمان. - بل يتحتم تبرئته. - هذا الحطاب الطيب
من غابات ألاسكا. (الرجال يصفقون ويصفرون.)
موسى :
والآن إلى صلب التهمة:
طلبت ثلاث زجاجات «ويسكي»
وأخذت عمودا من خشب البار
وكأنك في غمرة سكرك
تعبث بعمود كالصاري.
أسألك فأخبرني حالا
أنت المتهم أكرمان:
كيف سمحت لنفسك
ألا تدفع كشف حسابك؟
باول :
لا مال لدي.
الرجال (بالتبادل) :
لا مال لديه. - يرفض أن يدفع كشف حسابه.
يسقط باولي أكرمان! - يسقط باولي!
الأرملة بيجبيك :
لكن من وقع عليه الضرر
من المجني عليه؟ (الأرملة بيجبيك وفيللي وموسى ينهضون واقفين.)
الرجال :
ها هم يقفون هناك
من وقع الضرر عليهم.
فيللي :
محكمة العدل!
ننتظر الحكم!
الأرملة بيجبيك :
بالنظر لحالتك الضنك
لا مانع عند المحكمة
من الشفقة بك.
ثبتت تهمتك،
ونصدر هذا الحكم عليك
يا باولي أكرمان.
موسى :
فبسبب القتل بلا إصرار أو عمد
لصديقك ذئب ألاسكا-جو.
الأرملة بيجبيك :
صدر الحكم بحبسك يومين.
موسى :
ولأنك أزعجت الأمن
وعكرت الصفو.
الأرملة بيجبيك :
صدر الحكم بتجريدك من شرفك
ولمدة عامين.
موسى :
ولأنك أغويت فتاة تدعى جيني سميث.
الأرملة بيجبيك :
قضت المحكمة بحبسك أربع سنوات
مع وقف نفاذ الحكم.
موسى :
وبسبب صياحك ليلة زحف الإعصار
بأغاني الفحش الممنوعة.
الأرملة بيجبيك :
قضت المحكمة بسجنك عشر سنين
لكن يا باولي أكرمان
ولأنك ترفض أن تدفع
ثمن ثلاث زجاجات
وعمود الصاري
من خشب البار
حكم عليك حضوريا بالإعدام.
الأرملة بيجبيك وفيللي وموسى :
بسبب الفقر!
أعظم جرم يرتكب
على ظهر الأرض
وفي البر أو البحر. (عاصفة من التصفيق.)
19
إعدام باول أكرمان وموته. قد يستنكر القراء أو المشاهدون إعدام باول أكرمان في المنظر التالي. ولكنهم في رأينا لم يكونوا ليتبرعوا بدفع الحساب عنه. هكذا بلغ احترام المال في عصرنا. (في الخلفية تظهر على شاشة العرض صورة لمدينة ماهاجوني التي تغمرها الإضاءة الناعمة. يتجمع حشد كبير من الناس في مجموعات. يرفع الرجال قبعاتهم عندما يمر باول عليهم ومعه موسى وجيني وهينريش. إلى اليمين ينشغل العمال بإعداد الكرسي الكهربائي.)
موسى (لباول) :
رد السلام!
ألست ترى أنهم أقرءوك السلام؟ (باول يحيى الناس.)
أنه مشاغل دنياك الآن
وعلى الفور
فالسادة ممن قد حضروا
لوداعك ومشاهدة سقوطك
لم يبدوا الرغبة في معرفة خصوصياتك.
باول :
جيني
وحبيبة قلبي
الآن سأمضي،
كانت أيامي معك جميلة،
والخاتمة جميلة.
جيني :
باولي حبيبي،
أنا أيضا عشت بقربك
أجمل أيام حياتي،
لا أعرف كيف يكون
مصيري بعدك.
باول :
صدقيني
إن أمثالي في الدنيا كثير.
جيني :
ليس هذا بصحيح.
ضاع عمري وانطوت تلك السنين
ذاك ما أعلمه علم اليقين.
باول :
أو لم تضعي الثوب الأبيض
مثل الأرملة الثكلى؟
جيني :
حقا. أنا أرملتك.
أبدا لن أنسى حبك
حين أعود لفتياتي.
باول :
جيني
أعطيني قبلة.
جيني :
باولي، قبلني.
باول :
لا تنسيني بالمرة!
جيني :
بالتأكيد.
باول :
أرجوك الصفح.
جيني :
عن ماذا؟
باول :
جيني، أعطيني قبلة.
جيني :
باولي، قبلني.
باول :
والآن سأعهد بك
لصديقي هيني
آخر وأعز صحابي
من غابات ألاسكا.
هينريش :
وداعا باولي.
باول :
وداعا هينريش. (يتجهون إلى مكان الإعدام.)
بعض الرجال (يمرون بهم وهم يقولون بعضهم لبعض) :
تذكروا،
تذكروا الكلام.
فأولا يجيء الأكل والطعام،
وثانيا العشق والغرام،
تتلوهما الملاكمة.
ورابعا - وطبق العقد -
يأتي الشرب والمنادمة! (باول يتوقف في مكانه ويتابعهم بنظراته.)
موسى :
في نفسك شيء آخر؟
باول :
أنويتم حقا إعدامي ؟
الأرملة بيجبيك :
طبعا شيء عادي.
باول :
أولا تخشون الله؟!
الأرملة بيجبيك :
ماذا قلت؟
باول :
قلت إله!
بيجبيك :
آه! لم آخذ بالي!
ولدينا رد لسؤالك
سنعيد أمامك
عرض إله أسطوري
هبط مدينة ماهاجوني،
أما أنت فتجلس فوق الكرسي! (يتقدم أربعة رجال مع جيني ويعرضون أمام باول أكرمان قصة الإله الأسطوري في ماهاجوني.)
الرجال الأربعة :
في صبح يوم كئيب
ونحن نشرب «جين»
أتى إله عجيب
يزور ماهاجون. •••
ونحن نشرب «جين»
شفناه في ماهاجون.
موسى (الذي يمثل دور الإله الخرافي، ينفصل عن الباقين ويتقدمهم إلى الأمام وقد غطى وجهه بالقبعة) :
أتطفحون جميعا
من غلتي وشعيري،
وما حسبتم حسابي
ولا انتظرتم حضوري،
فهل ترى للقائي
أنتم على استعداد؟
جيني :
رجال ماهاجون
تبادلوا النظرات
قالوا له آمين
رجال ماهاجون.
الرجال الأربعة :
في صبح يوم كئيب
ونحن نشرب «جين»
أتى إله عجيب
يزور ماهاجون •••
ونحن نشرب «جين»
شفناه في ماهاجون.
موسى :
ويوم عطلتكم
لعبتمو وضحكتم
رأيت «ماري ويمان»
هناك كالعادة
تعوم في البركة
كأنها سمكة
خرساء مرتبكة
ولن تجف بتاتا
يا أيها السادة.
جيني :
تبادلوا النظرات
رجال ماهاجون
قالوا له آمين
رجال ماهاجون.
الرجال الأربعة (كأنهم لم يسمعوا شيئا) :
في صبح يوم كئيب
ونحن نشرب «جين»
أتى إله عجيب
يزور ماهاجون. •••
ونحن نشرب «جين»
شفناه في ماهاجون.
موسى :
أتنكرون الصادقين
من دعاتي المخلصين؟
أتقتلون بالرصاص أفضل المبشرين؟
وتطلبون أن أراكم
تشربون، تسكرون
وتحلمون بالدخول
في جنان الصالحين؟
جيني :
تبادلوا النظرات
رجال ماهاجون
قالوا له آمين
رجال ماهاجون.
الرجال الأربعة :
في صبح يوم كئيب
ونحن نشرب «جين»
أتى إله عجيب
يزور ماهاجون
ونحن نشرب «جين»
شفناه في ماهاجون.
موسى :
هيا إلى الجحيم
للنار أجمعين،
وأطفئوا السيجار،
وظهركم للبار،
وامشوا إلى الجحيم،
يا أيها الأولاد
للنار والغسلين
يا أيها الأوغاد.
جيني :
تبادلوا النظرات
رجال ماهاجون
قالوا له: لا، لا.
رجال ماهاجون.
الرجال الأربعة :
في صبح يوم كئيب
ونحن نشرب «جين»
تأتي إلى ماهاجون
ونحن نشرب «جين»
حذار يا أصحاب
لا تنقلوا قدما
وغلقوا الأبواب،
وأعلنوا الإضراب،
والثورة العظمى ،
لا لن تجر واحدا من شعره إلى الجحيم؛
لأننا عشنا الحياة في العذاب والجحيم.
جيني (تنادي من مكبر للصوت) :
تبادلوا النظرات
رجال ماهاجون
قالوا له لا، لا.
رجال ماهاجون.
باول أكرمان :
ها أنا ذا أكتشف الحقيقة عندما وطئت قدماي أرض هذه المدينة لأشتري السعادة بالمال، كنت قد أصدرت قرار سقوطي وختمته بخاتمي. وها أنا أجلس هنا ولم أجن شيئا. أنا الذي كنت أقول على كل إنسان أن يقتطع لنفسه شريحة من اللحم بأي سكين يتوصل إليها. لكن اللحم كان فاسدا، والسعادة التي اشترتيها أبعد ما تكون عن السعادة، والحرية من أجل الربح والمال لم تكن من الحرية في شيء. أكلت ولم أشبع، شربت وازددت عطشا. أتوسل إليكم. أعطوني كوبا من الماء.
موسى (وهو يطرق رأسه بالخوذة فجأة) :
انتهى كل شيء.
20
ووسط الاضطراب المتزايد والغلاء وعدوان الجميع على الجميع، تظاهر الباقون على الحياة في مدينة الشباك في الأسابيع الأخيرة دفاعا عن مثلهم العليا - كأنهم لم يتعلموا شيئا. (تشاهد على شاشة العرض في عمق المسرح صورة ماهاجوني التي تشتعل فيها النيران. ثم تبدأ مواكب المظاهرات التي تتدافع وتختلط بعضها ببعض حتى النهاية.)
الموكب الأول
الأرملة بيجبيك، فيللي ممثل الاتهام وموسى ذو الأقانيم الثلاثة وتابعوهم. المتظاهرون.
يحملون لافتات كتبت عليها هذه الشعارات والعناوين:
لأجل الغلاء
لصراع الكل مع الكل،
لحالة الفوضى في مدننا،
لاستمرار العصر الذهبي
فهذه مدينة الجمال
ماهاجون.
وكل ما صوره الخيال
من جنون
من زينة الحياة والمتاع،
ما دام في جيوبكم أموال
فكل شيء كل شيء يشترى بالمال
وكل شيء سلعة تباع.
الموكب الثاني
المتظاهرون يحملون لافتات كتبت عليها هذه العناوين:
لأجل الملكية،
ولتجريد الغير من الملكية،
للتوزيع العادل للخيرات العلوية،
والتوزيع الظالم للخيرات الأرضية
للحب
لأجل شراء الحب وبيعه،
للفوضى الفطرية للأشياء
لاستمرار العصر الذهبي. •••
ونحن لا نحتاج للإعصار،
ونحن لا نحتاج للطيفون؛
فكل ما يجلبه الإعصار من دمار،
وكل ما يحدثه الطيفون من جنون،
ورعبه والهول
نحدثه بالفعل!
الموكب الثالث
المتظاهرون يحملون لافتات كتب عليها:
لأجل حرية الأغنياء ،
للشجاعة ضد العزل،
لشرف القتلة،
لمجد القذارة،
لخلود الحقارة،
لاستمرار العصر الذهبي؛ •••
لأنه كما يوسد الإنسان نفسه ينام،
ولن يغطيك سواك أو يقيك لفح البرد والظلام.
وإذا داس أحد
فأنا هذا الهمام،
وإذا ديس أحد
فهو أنت في الرغام.
الموكب الأول
يرجع بلافتاته السابقة:
وهذه المدينة اللعوب
مقفرة تكون أو خراب
إن أقفرت من مالها الجيوب. •••
فكل شيء يشترى بالمال أو يباع،
وليس للفقير غير الذل والضياع،
ولذاك كان المال وحده
للمرء عدته وسنده.
الموكب الرابع (فتيات يحملن مخدات صغيرة عليها ساعة يد ومسدس ودفتر شيكات باول أكرمان، وعمودا خشبيا ربط فيه قميصه.)
يا قمرا يضيء ألاباما
لا بد أن نقول جود باي. •••
نحن فقدنا أمنا العجوز ماما،
والآن لا بد من الدولار. •••
آه لا تسأل لماذا
أنت أدرى بالجواب!
الموكب الخامس (المتظاهرون يحملون جثة باول أكرمان. ترتفع وراءهم لافتة كتب عليها: «لأجل العدالة».)
يمكننا أن نحضر خلا؛
كي نمسح وجهه،
أو نحضر أيضا كماشة؛
كي ننزع منه لسانه،
لن يمكننا أن نصنع للميت شيئا.
الموكب السادس (المتظاهرون يحملون لافتة صغيرة كتب عليها: «لأجل الغباء».)
قد يمكن أن نتحدث معه
أو نزعق فيه،
يمكن أن نتركه فوق فراش الموت،
أو نأخذه معنا للبيت،
لن يمكننا أن نصدر للميت أمرا. •••
يمكن أن نضع المال بكفه،
أو يمكننا أن نحفر حفرة
نحشره فيها ونهيل ترابا،
أو بالجاروف نحطم رأسه.
لن نقدر أن نصنع للميت شيئا
أو نقف بصف الموتى.
الموكب السابع (لافتة هائلة الحجم كتب عليها: «لاستمرار العصر الذهبي».)
يمكننا الحديث عن عصوره العظيمة.
يمكننا نسيانه وعصره العظيم.
لن نقدر أن نصنع للميت شيئا،
أو نصبح في عون الموتى. (مواكب لا آخر لها في حركة مستمرة.)
جميع المواكب
لكن
لن يمكننا أبدا
أن ننقذ أنفسنا
أو ننقذكم
أو ننقذ أحدا!
صفحة غير معروفة