فكل هذه الآثار لا يصح أن تبقي تاريخ المدينة حديثا، بل هي أدلة على أنها كانت معاصرة لما يجاورها من القرى التي فيها آثار لم تعبث فيها يد التخريب والتشويه إلى يومنا.
وإذا أرسلنا نظرة أخرى إلى جهة ثانية من التاريخ القديم، نجد أن عبادة ديونيس إله الخمر كانت منتشرة في دمشق وضواحي سورية المجوفة، حتى كثرت الهياكل لهذا الإله الخمري، وتغالى السكان بغرس الكرمة
31
احتفاء به، فكان لزحلة وضواحيها نصيب كبير من هذه الحفلات الشائعة بلا ريب. وكان ديونيس الفينيقي قاهر أرنط الجبار الهندي أو الأثيوبي في نهر العاصي المنسوب إلى أرنط، والمعروف أيضا بالمقلوب، فصار ديونيس في آخر عهد الوثنية بمنزلة زفس أو المشتري بطل الأساطير في سورية المجوفة، وتمكنت عبادته في دمشق حتى سمت ملكها أنطيوخوس الثاني عشر ديونيس الجديد، كما كانت تسمى بذلك سابقا ملوكها بني هدد. وانتشرت انتشارا عظيما في سورية المجوفة، وأقيمت له الحفلات الخلاعية ردحا من الزمان، وشيد لديونيس في سورية المجوفة قصر تحدق به جفان الكرم التي كانت شارته الخاصة فعمت زراعة الكرمة في هذه الضواحي. ولن يزال عنبها وخمرها من أفخر ما يوجد منها حتى الآن، ولا سيما في زحلة وضواحيها فلا يبعد أن قصره كان فيها. وإذا حللنا بعض أسماء القرى في هذه البطاح يتجلى لنا أن دورس التي فيها القبة القديمة الشهيرة بجوار بعلبك، ربما كانت محرفة عن ديونيس فقالوا ديوريس ثم دورس. ومما يدل بصراحة على هذا البطل الخرافي أن في أطراف البقاع على تخوم وادي التيم قرية كفردينس، وهي بلا شك نفس كلمة ديونيس خففها العامة على عادتهم. ولعل اسم قرية كفردان قرب حدث بعلبك بقية اسم ديونيس، فحرف إلى دان، والله أعلم.
ففي الصفة أو المشيرفة وعين الدوق وعلين وكرك نوح وعرجموش وترحين وبحوشه وقمل وبلوده وكساره والتويته والرمثانية وبوارش أدلة واضحة على قدم زحلة ومعاصرتها لما يجاورها من الأماكن القديمة، مثل عين الجروماسة ونيحا وقصرنبا والفرزل وجديتا وقب إلياس ومندرة اليونانية الاسم وغيرها.
وحبذا لو تفرغ فريق من العلماء لدرس آثارنا، وكشف القناع عن محيا قدمها. وقد اكتشف في الفرزل أثر يمثل صورة إله غريب الشكل ممتط جوادا، ولابس لبس الأسويين، وهو معبود شمسي اتخذه الشرقيون، كما اتخذ اليونانيون عبادة الشمس باسم هليوس، ومنها اسم هليوبوليس لبعلبك ومعناها مدينة الشمس (مجلة المشرق 8 : 270). واكتشف في تل شيحا من زحلة تمثال لهذه العبادة. وفوق قصرنبا صورة المشتري منقوشة على صخر كبير. وكذلك قرب قب إلياس نقوش معبودات يونانية وغيرها على صخور كبيرة، وفي مشارف صنين والكنيسة فوق زحلة نقوش وكتابات.
وبقي اسم نهر البردوني، فربما كان تصغير بردى
32
على القاعدة السريانية مثل اليموني تصغير اليم بمعنى البحر، ومعنى بردى البارد أو الفردوس. وفي هذا الاسم دليل على قدم المدينة أيضا وشئونها التاريخية. وفي سهل بعلبك مقابل المدينة قريتان؛ إحداهما تسمى حوش الذهب والثانية حوش بردى، وهما من أسماء نهر بردى الدمشقي الذي يسمى مجرى الذهب. ولعل في هذه التسمية سرا يكشفه البحث أو هي من الكلمة الفارسية «بردن» بمعنى الاشتداد في العدو وفيه إشارة إلى سرعة جري النهر لانحدار مجراه ولا سيما قبل وصوله إلى زحلة.
هوامش
صفحة غير معروفة