فما هو هذا البناء يا ترى؟ وأي متى شيد؟ ومن رفع دعائمه؟ وكيف أصبح أطلالا دارسة؟ إن من راجع التاريخ بتبصر وترو علم أن الفاتحين من فراعنة مصر، والغزاة من الفرس والرومان والأمم القديمة التي اجتاحت سورية من جهات مختلفة، كانوا لا يستغنون عن الدخول في المضايق المحصنة المحدقة بلبنان وسهوله أو الخروج منها. وأهم هذه المضايق المطروقة هي مضيق جبل المنيطرة، قرب بحيرة اليمونة مقابل بعلبك، حيث هناك آثار طرق رومانية مرصفة بالحجارة، تؤدي من نهر الكلب إلى بعلبك على طريق العاقورة قرب مغارة أفقا، حيث يخرج نهر إبراهيم أو أدونيس (تموز) المشهور في التأريخ، وسمي ذلك الجبل بالمنيطرة لكونه كان محرسا ومرتقبا. والمدخل الثاني هو بين جبلي صنين والكنيسة. والثالث هو قرب المريجات عن طريق بيروت إلى دمشق. وهناك معابر أخرى من جهة وادي التيم إلى البقاع، ومن جهة حمص إلى سهل بعلبك وغيرها، مثل مضيق وادي القرن إلى دمشق، ومدخل وادي يحفوفه إليها أيضا. ولما كان كلامنا منحصرا الآن في تأريخ زحلة، نخص بالذكر من هذه المضايق ما بين صنين والكنيسة، وهو الذي اجتازه بومبي القائد الروماني الشهير، لما اجتاح سورية في القرن الأول للميلاد، كما ذكر اسطرابون الجغرافي الشهير، وقوض في غزوته بعض المعاقل منها قلعة «سنان»، ومن رأي الأب هنري لامنس اليسوعي في «تسريح الأبصار 1 : 34»، أن هذه القلعة لم تكن في مشارف صنين العليا لكثرة الثلوج وقرس البرد، وإنما كانت على منعطف رباه، وإذا بحثنا في جوار صنين الذي سمي باسم هذه القلعة «سنان»، لا نجد أفضل من هذا الموقع المتوسط بين السهل والجبل، لهذا المعقل فنرجح إذن أن قلعة «سنان» كانت في محلة المشيرفة ، فهدمها بومبي ودكها برمتها إلى الأرض، لما غزا الأيطوريين (الجبليين) الذين مدوا سلطتهم من حوران إلى بطاح سورية المجوفة، وأعالي لبنان الغربي، وسفوحه حتى شاطئ البحر المتوسط، ولا سيما في مدينتي طرابلس وجبيل. ثم أخنت الأيام عليها، فضعضعت أركانها ونسفت أبنيتها ومحت آثار عظمتها، فنقل سكان زحلة القدماء ومجاوروهم حجارتها الضخمة، وصغروها ليستعينوا بها في أبنيتهم لقلة الحجر في المشارف السفلى. ولا خفاء أن هذا المعقل كان في الأصل معبدا وثنيا حول إلى حصن.
والمروي على ألسنة الشيوخ إلى عهدنا، أن تحت معقل المشيرفة نفقا (سردابا) على مسافة ميل، يصل إلى مياه البردوني كان المحاصرون يستقون منه في أيام الحروب. ويسمون هذه الأطلال «سور المشيرفة»؛ لأن زحلة لما جدد بناؤها كانت آثار السور باقية فنسبوها إليه. وإلى غربي هذه الأكمة الشمالي على مقربة منها مغارة الراهب. وهي فتحة في صخر ناتئ، لها باب مربع يتجه إلى أعلى التلة، وفي داخلها ثلاثة نواويس محفورة في الأرض الصخرية وناووس رابع في أقصاها، منقورة جميعها في صخر صلد، ولها كوة نافذة من سطحها، وهي تمثل غرفة بديعة الوضع.
يقال إن أحد الرهبان تنسك فيها فنسبت إليه. ولها حنية فوق النواويس الثلاثة، وأما فوق الرابع فالسمك (السقف) مسطح وارتفاعها متوسط، بحيث لا يمكن للداخل إليها أن ينتصب، وقربها بعض المغاور نظيرها. وقد وجدت هناك قطع نقود قديمة رأيت بعضها، وعليها النسر الروماني الذي هو شارتهم، وعلى وجه آخر صورة واسم أدريانوس أوغسطوس الذي ولد سنة 76م، وتبوأ العرش الروماني من سنة 117-138م، ويقال: إنه هو الذي ابتنى قلعة نيحا وبعض هياكل في بعلبك وغيرهما، فلعله جدد قلعة المشيرفة أيضا. وكذلك في بدء السنة الحالية (1911م)، كان بعض الفعلة يحفرون في حضيض هذه التلة الشرقي، وراء دير النبي إلياس (الطوق)، فوجدوا آثار معاصر زيت ومعصارا «مكبسا» حجريا أبيض كبيرا. وبينما أحدهم يقلب حجرا من الأرض التي كان ينقبها، وجد تحته أكثر من ستمائة قطعة من النقود الشبهية (البرونزية) توازعها الفعلة، فرأيت بعضها وعليها اسم قسطنطين ، أول ملك مسيحي من الرومانيين، تبوأ العرش من سنة 306-337م، ومن سنة 313م نادى في مملكته شرقا وغربا بحرية الديانة المسيحية، وشيد كثيرا من الكنائس والمعابد، معظمها حوله من الهياكل الوثنية ولن يزال إلى يومنا، ولعله بنى في زحلة معبدا باسم النبي إلياس المشهور في هذه الجهة، ومما يدل عليه بر إلياس وقب إلياس والنبي إيلا (إيليا أي إلياس)، وفي نواحي المعلقة قرب بساتينها قطعة أرض باسم كروم (دير لباس)، ويروي الشيوخ أنها محرف دير النبي إلياس، وروى الأب جوليان اليسوعي أن كساره تحريف قيصرية، ولعلها كانت مستعمرة لأحد القياصرة الرومانيين، وقيل: إن اسم كساره آرامي بمعنى الخصب والريع. أما الكتابة على هذه النقود فهي باللغة اللاتينية
Imprator Constantin ، ومعناها الإمبراطور قسطنطين، مما يدل على أنه هو الذي صكها وصورته واضحة على كل منها، ومع أن حجمها لا يتجاوز حجم المتليك من نقودنا الحاضرة، فهي أسمك منه، تجد على وجهها الثاني صورة قائد قد رفع على ذراعيه ولدا بيده زهرة، هي علامة الانتصار وتحته طير. وليست هذه الصورة متماثلة في ما رأيناه منها؛ لأن العادة المعروفة في التاريخ إذ ذاك أن كل قائد ينتصر تنقش صورته على النقود تخليدا لذكره، فلذلك اختلفت الصور باختلاف المنتصرين من قواد الجحفل أو الفيلق الذي كان عدده في ذلك العهد ستة آلاف وستمائة جندي. وظهرت فيها نقود عربية فضية من صدر الإسلام، وقد رأيت مصكوكات قديمة وجدت في عنجر (عين الجر أو خلقيس أو كلشيس)، عليها رسم واسم هذا الملك أيضا، وكل ذلك يدل صريحا على قدم المدينة، وأنها كانت مأهولة في الأزمنة القديمة.
ومن الآثار التي ظهرت في الوادي والبساتين وتل شيحا وعلين نواويس رصاصية على أغطيتها صور أشخاص بديعة ونواويس حجرية مفردة مسنمة الأغطية، على بعضها نقوش بسيطة، وفوق قصر (سراي) الحكومة في محلة البيادر على مشارف التلة الجنوبية، وجد كثير منها قريب بعضه من بعض يدل على أنه كان مقبرة، ولن يزال أحدها على طريق العربات تحت ميزاب «عين السراي» النافذة مياهه هناك أمام قصر الحكومة. ووجد في بعض هذه النواويس رمم هياكل بشرية، وعلى بعضها رق ذهبي يغطي الوجه، وشنف أي حلقة من حجر بديعة الصنع رماها أحد الفعلة فانكسرت، ومما يؤسف له أن الذي ظهرت له هذه النواويس لم يحافظ عليها، بل كسرها وباعها حجارة والرصاصية أذابها، فهكذا تلفت آثار المدينة القديمة، حتى كاد تأريخها يطمس ذكرا.
وإذا راجعنا أقوال الأثريين في مثل هذه المدافن، نجدهم قد قسموها إلى أربعة أشكال: أولها القبور الغائرة، وهي المنقورة في الصخور كالأضرحة الحديثة والمسدودة بالحجارة، وثانيها القبور النفقية (الدهليزية) وهي ذوات فتحات من خمس إلى ست أقدام طولا، ونحو قدم ونصف عرضا، تكون في الغالب محفورة في الصخر أفقيا، وفيها ضريح لطمر الجثة. وثالثها القبور الرفية وهي ذوات رفوف أو مقاعد لاستقبال الجثة تعلو نحو قدمين عن الأرض، وتكون في الغالب مقببة، ورابعها القبور ذوات الكوة الغير النافذة وهي منحوتة غالبا في وجه الصخر.
أما غرف القبور فهي ثلاثة أنواع: أولها القبور المفتوحة ولها أضرحة غائرة في أرضها. وثانيها القبور ذوات الرفوف أو المقاعد الحجرية الممتدة حول الجدران المتخذة كرفوف للقبور. أو القبور ذوات الضرائح التي كالجسور المحفورة في الجدران فوقها. ومدخلها مغلق بصفيح حجري أو باب حجري صغير. وثالثها مجموع غرف ذوات باب له أسكفة (العتبة العليا) تؤدي إلى مدخل فيه أبواب صغيرة مفتوحة لغرف مختلفة. ونقوشها تكون في الغالب أضاميم من ورق أو زهر. على أن القبور الحجرية المفردة لم يكن يستعملها إلا الأغنياء، وقد اقتبسها الفينيقيون والعبرانيون عن المصريين، وربما كانت هذه القبور الحوضية زوجا ولها غطاء واحد. وكثير منها ينظر الآن في سورية أجرانا للينابيع تستقي منها المواشي.
أما عادة النقش على النواويس، فكانت أقل شيوعا بين العبرانيين والفينيقيين القدماء، تابعة لذوقهم وحبهم للتاريخ منها بين الأشوريين والمصريين الذين نقل الأولون عنهم. ثم أخذ عنهم الرومان واليونان والمسيحيون في أول عهدهم.
فمن كل ما ذكر نستنتج أن هذه المدافن التي وجدت في مدينة زحلة ومشارفها وأرباضها، هي من عهد العبرانيين أو الرومانيين إن لم تكن أقدم، لما في وضعها من المناسبة لمدافنهم. وقد وجدت مدافن محفورة في الأرض مبنية بالحجارة في أنحاء المدينة، منها ضريح عليه قبرية (بلاطة يكتب عليها اسم الميت وتاريخ وفاته) بتاريخ سنة 200ه/815م، وفي الضيعة؛ أي حارة دير النبي إلياس للرهبنة المخلصية في وسط المدينة قرب قصر الحكومة، توجد مقابر تحت البيوت الحالية، وقد ظهر على أحدها قبرية كتب عليها: «توفي في شهر ذي الحجة من شهور سنة 732ه/1331م رحمه الله.» وقد وجد قرب دير النبي إلياس للرهبنة الحناوية في غربي المدينة حجارة منحوتة اتخذت لبناء الدير منذ القديم. وظهرت في أنحاء المدينة آثار حرائق ومخازن في بعضها آثار صياغة، وأبنية نقشت بالفسيفساء. وقنوات للمياه ذات أنابيب (قساطل) خزفية متينة ضخمة، تدل على توزيع المياه في المدينة القديمة. وحنايا تحت الأرض أو أقبية، منها سرب في بيت يوسف حجي متجه إلى الغرب، يستطيع الإنسان أن يدخله منتصبا ولا آخر له ولا منفذ. ووجد في القديم تمثال حجري لأحد الأصنام، وربما كان لزحل. وظهر في تل شيحا تمثال خروف من خزف وآنية خزفية بديعة. وفي حضيض وادي البردوني الجنوبي قرب عين البخاش، ومقابل محلة الطوق سرب يسمى مغارة الرصد، يتجه إلى الشرق حتى يقابل دير النبي إلياس الطوق ولا منفذ له. وكذلك في علين وتل شيحا آثار خزف قديمة وآبار وأساسات متينة الحجارة وخزف بديع، وفي المشيرفة آثار خزف منقوش بديع الألوان متقن الصقل. وظهرت آثار آبار قديمة بعضها مربع والآخر مستدير، وهي من القصرمل؛ أي الرمل والحصى والكلس. وكذلك خواتم من حجر المرمر عليها نقوش أشخاص بديعة.
وكان فيها جسر عظيم الحجارة متين البناء، ربما كان رومانيا أو من زمن الصليبيين محل الجسر الكبير الآن قرب الحارة السفلى (التحتا)، فهدمته السيول سنة 1815م، وجدد بناؤه بقنطرة واطئة فهدم ثانية وتجدد سنة 1822م، وكان هذا الجسر أشبه بجسر المعلقة القديم، كأنهما أخوان شق الأبلمة. وعند محلة (الصفة) في منقطع الوادي، كان جسر قديم مثله يعبر عليه إلى قرية عين الدوق، فهدمته سيول عظيمة وجدد بناؤه بزمن نعوم باشا سنة 1897م. ولعله كان من بناء الصليبيين أو أقدم منهم.
صفحة غير معروفة