وكأني ببيكر ينصت دائما إلى صوتين، يدعوه أحدهما إلى وجوب استعمال العقل مهما تضاءل أثره في توجيه أعمال الإنسان، ولكن بشرط ألا يسرف فيما يرجو من وراء استعماله، ويدعوه ألا يقنط، وألا ينبذ الحلم الرائع الذي تصوره كوندرسيه للعصر العاشر من عصور تقدم العقل الإنساني،
11
ولكن بشرط أن «يعدل» ما تصوره كوندرسيه في القرن الثامن عشر ليفي بمطالب القرن العشرين، وأما الصوت الآخر، فكان يدعوه للتأمل في مستقبل الآلة، وإلى أن مصير الإنسانية سائر حتما إلى أيدي «الصفوة» من الفنيين، وأن هؤلاء لا يفهمون إلا التنظيم والقيادة، ولا يعنون بالحرية والهداية.
وتساءل بيكر: هل من سبيل كي يأتلف الصوتان؟ أما هو فكان على استعداد لأن يقبل الائتلاف، وأن يدلي بنصيبه المتواضع لتحقيقه، فمبادئ الحياة الديمقراطية الحقة أقدم من الأنظمة الديمقراطية، ولا تتوقف عليها، بل هي تعتمد على قيم كانت قوام الثقافات والحضارات، ومهما تنوعت الأساليب وتجددت الوسائل طبقا لمقتضيات التغيير والتطور، فإن المحافظة على تلك القيم الكبرى هو الأمر الأساسي، وكان هذا شرط بيكر للأمل في حصول الإنسانية على ثقافة أعمق وديمقراطية اجتماعية حقة في عالم أفضل.
12 (2) عرض الكتاب
المحاضرة الأولى: الجو الفكري في مختلف العصور
لدراسة الفكرة السياسية أو الاجتماعية لعصر من العصور، يجب أن نتذكر دائما أنها لا تفهم على وجهها الحق إلا بفهم الجو الفكري الذي عاشت فيه، وقد تصور الأوروبيون في العصور الوسطى الحياة الإنسانية «دراما» كاملة التأليف، تامة السبك، صدرت عن عقل مهيمن محيط، وتدور حول فكرة رئيسية واحدة، ولا يملك الإنسان أن يتفادى واقعة من وقائعها، ولذا كان واجبه أن يسلم بأحكام القضاء، وأن يقوم بما قسم له أن يقوم به في هذه «الدراما»، ومهمة السلطتين الشرعيتين «الكنيسة والدولة» أن تلقناه ما يلزمه، وأن تلينا قلبه لأداء نصيبه، وقد منح الله الناس العقل، وأوجب عليهم أن يستعملوه، ومهمة العقل أن يبين للناس العلم الذي شاء الله أن يطلعهم عليه بما أوحاه، وأن يوفق بالقدر الذي يستطيع بين الأحداث المعلومة بالخبرة العملية، والنسق العقلي للعالم المصدق بالإيمان.
والتفكير في العصور الوسطى منطبع بطابع عقلي تام، فهي عصور إيمان، كما كانت أيضا عصور عقل، والقرن الثامن عشر كان عصر عقل كما كان أيضا عصر إيمان.
وكان «الجدل» منهج البحث في العصور الوسطى، وشرح تاريخ الإنسان تولاه رجال اللاهوت، والتوفيق بين الطبيعة والتاريخ في نسق عقلي من شأن الفلسفة، وما يلزم اللاهوت والفلسفة من أساليب وطرائق يقدمه المنطق.
هذا بالنسبة للعصور الوسطى، وأما بالنسبة للزمن الحاضر، فالعلم يعتبر الحياة عملية تغير مستديم يحدث لطاقة في انحلال مطرد، ولعل أهم ما ترتب على ذلك النظر الجديد أننا نبتغي فيما حولنا مبدأ مطلقا نثبت به أقدامنا، ولا نجده، وقصارى جهدنا اليوم أن نلاحظ، وأن نقيس، وأن نختبر، وهذا كله لكي نسيطر على الطبيعة لا لكي نفهمها، وبناء على هذا فالشأن الآن للتاريخ والعلم الطبيعي ومناهج الملاحظة والاختبار والحساب، وما تولاه اللاهوت في العصور الوسطى يتولاه الآن التاريخ، لا الفلسفة.
صفحة غير معروفة